من السهل أن تحقق أقصى استفادة من تجربة زيارتك للمعرض إذا فكرت في «الحب من النظرة الأولى»
كم هو محزن أن أكثرَ الناس لن تفكر حتى بزيارة المتاحفِ والمعارض الفنية، ويعود سبب عزوفهم عن زيارتها إلى أن هذه الأماكن قد تكون مُهابةً، كما قد يحيط الفنَ المعاصر جوٌ متعالٍ وكأنه مقصور على فئة قليلة؛ مما يجعله يبدو باردًا وغيرَ جذاب.
لكن الفنَ مهم؛ لأنه جزءٌ من القصةِ التي نرويها عن أنفسنا؛ وتلك القصة هي ما تسمى بـ«الثقافة». إن الفنَ ممتعٌ على امتداد طيف واسع من التأثيرات فينا؛ من ملاطفته الحسيّة لنا حتى تثقيفه لعقولنا. لكنَّ «دخولَ عالمه» ليس سهلاً؛ وذلك -على الأرجح- بسببِ الجوّ المتعالي الذي يلفه، بالإضافةِ إلى أن الفن دقيقٌ معقد؛ وعليهِ، ففهمه يتطلّب وقتًا وجهدًا.
ومع ذلك فالبداية لا تتطلب مجهودًا كبيرًا. وآمل بأن يؤدي وضعَ دليلٍ أساسيّ للنظرِ إلى الفن من تمكين الناس من دخولِ المتاحف والمعارض الفنية، دون أن يَنْتابهم خوفٌ أو شعورٌ بـ«متلازمة المحتال»، أي ذاك الذي يتظاهر بمعرفة الفن. هذا مع أنه لا توجد طريقةٌ واحدة في النظر إلى الفن، لكن النصيحة التي سأسديها لكم قد تمنيت لو أني أسديتها لنفسي عندما كنت يافعًا، إذْ كنتُ أهابُ الفنَ مثلكم.
البداية
أولًا قم بزيارة معرضٍ أو متحف وشاهد الفن على طبيعتهِ الخام؛ واختر بضعة أعمالٍ وركّز عليها؛ فبعضُ المتاحف تملك مجموعات لآلاف الأعمال الفنية، فلو حاولتَ اختيار عشرات أو مئات الأعمال فإنك ستشعر بالإرهاقِ فورًا، لذا، فاعلم بأنك -دائمًا- ستحظى بالفرصة لزيارة المعرض مرة أخرى. وأقول ذلك خصوصًا في حالة وجود عدة معارض فنيّة في المتحف الفني؛ ففي هذه الحالة أقترح عليك اختيار عددًا منها حتى يتسنى لك التركيز عليها، وأن «تلقي نظرة» فقط على البقية. والأفضل من ذلك، أن تخطط مسبقًا، وذلك بزيارة الموقع الإلكتروني للمتحف لكي تكون وجهتك محددة في يوم الزيارة وتذهب إلى مقصدك مباشرة. ومن مبدإِ «الحب من النظرة الأولى» فكر في: ما الذي أسر عينيك؟
من السهل إلى المعقد
يجد الناسُ الفن مُهابًا صعبًا؛ وذلك لأنهم يعتصرون أنفسهم بحثًا عن التعقيد فيه، أما نصيحتي فهي البدء بالبسيط ثم الانتقال تدريجيًا إلى المعقد. ومجددًا فكّر في الحب من النظرة الأولى: عندما تنجذب لشيءٍ ما لا تعرف عنه أي شيء سوى الشعور الذي يمنحك إياه النظر إليه. وبعد ذلك انتقل إلى التحليل المعقد إن أردت ذلك.
المناحي البسيطة :
- الحجم الكليّ للعمل الفنيّ وشكله.
- هل العمل تجريديّ أم واقعيّ؟
- الأشكال التي يحتويها.
- الألوان.
- تدرّج الألوان.
المناحي المعقدة :
- أسلوب العمل الفنيّ.
- موضوع العمل الفنيّ.
- ما يمثّله العمل الفنيّ.
- إيحاءات العمل الفنيّ وما يشير إليه.
- السياق الثقافي للعمل الفني
لو راقبت الناسَ في معرضٍ فنيّ فستجدهم غالبًا ما يلقون نظرةً سريعة على العمل الفنيّ، ثم يقرأون الوصفَ، وبعد ذلك يلقون نظرةً أطول على العملِ ثم يمشون بعيدًا. وما يعنيه ذلك هو أنهم يميلون إلى الانتقال مباشرةً إلى الأشياء المعقدة؛ إذ إنهم يحاولون الوصول لمعنى العمل، وما يمثّله قبل استيعاب كيفية تكوّنه. ونصيحتي هي أن تُطيل النظر في اللوحة قبل أن تقرأ وصفها. اِسأل نفسك: ما الذي يحاول الفنان إيصاله إلي؟ إلى أين يقود الفنان عينيّ؟ بماذا يريدني الفنان أن أشعر أو أفكر، وكيف يمكنه تحقيق ذلك؟
مثال: باخوس وأريادني
باستخدام المخطط السابق، سأشرح كيفية قراءة لوحة مستخدمًا لوحة «باخوس وأريادني» -التي رسمها الفنان تيتان- أنموذجًا، وهي لوحةٌ جميلة ضمن مجموعة المعرض الوطني في المملكة المتحدة. سأعرض عليكم كيف أنصح بقراءة لوحة في ثماني خطوات تتدرج من البساطة إلى التعقيد.
1. الحجم الكليّ والشكل.
أولًا فاللوحةُ من ذوات «الحجم المتوسط» وتقريبًا فهي تأخذ الشكل المربع، وهذا يعني بأنها لا تتطلب من المشاهد حركة كثيرة لرؤيتها كاملة. بحيث يمكنك الوقوف في مكان واحد ورؤيتها كاملة. فالشكل المربع يكثّف العناصر، مما يمنح اللوحة طابعا دراميًا، قبل أن تدرك حتى ما الذي تنظر إليه.
تميل اللوحات الضخمة أو المنحوتات ذات الحجم الطبيعي إلى إشراكنا في العمل (أو أنها صممت في الأصل لتكون بعيدةً عن المشاهد) في حين أن اللوحات الصغيرة تتطلب قربًا أكثر، وأما اللوحات متوسطة الحجم مثل «باخوس وأريادني» تمنحنا قدرًا من الانفصال، فتسمح لنا بالنظر إلى العمل دون تدخّلٍ كبير.
2. الأشكال التي يحتويها.
ستجد بعضَ الأشكال الواسعة في اللوحة إذا نظرتَ إلى كيفية تجمع العناصر، فمن الواضح وجودُ شكلٍ مثلثٍ حاد يُقسِّم اللوحةَ إلى نصفين قطريًا، وهذا شائع جدًا في اللوحات. فمعظم شخوص اللوحة ضغطت على هيئة «إسفين»، وإن لاحظت هذا الإسفين، ستجد بأنه يوجه انتباهنا إلى شخصيتين رئيسيتين: الأولى نصفها داخل الإسفين ونصفها الآخر خارجه، أما الأخرى فنرى أقدامها عند الزاوية السفلى في اليسار.
3. تدرج الألوان
كما أن التكوين المثلثي في اللوحة يفصل بين الألوان الباردة في السماء الزرقاء والأشجار الخضراء وبين ألوان الأجساد والأرض الدافئة. وإذا نظرنا إلى الصورة المنقطة (pixeled) للوحة أدناه -التي تساعدنا في غض النظر عن التفصيل- سنجد بأن ألوان الشخصيتين الرئيسيتين أفتح من البقية. إذن، يلعب التدرّج اللونيّ دورًا هنا في توجيه انتباهنا.
- أين تتجه عينك؟
يميل الرسّامون والنحاتون وبقية الفناين إلى جَعْلِ عينيك تلتفّ حول عملهم الفني، إذ إنهم يفعلون ذلك باستخدام التكوين (composition) والطريقة التي تتفاعل بها أجزاء العمل الفني مع بعضها. وفيما يلي، أوضّح كيف كانت تميل عيني للالتفاف حول «باخوس وأريادني».
دائما تستقرّ عيني على الرجلِ المعلّق في الهواء للحظة؛ لكنّ نظرته القوية تدفع بنظرتي إلى المرأة، ثم تنساب إلى الجرة، ثم إلى الكلبِ في المقدمة، ونظرة الكلب تدفع بنظرتي إلى الساتير الصغير (مخلوق أسطوري نصف إنسان ونصف حيوان)، ثم الصخب خلفه، ومنها إلى الأشجار في أعلى اليمين. قبل أن ترتكز عيني على عباءة الرجل المعلّق، ثم أعود إلى عينيه مجددًا.
فلدي الآن دائرة تتحرّك داخل العمق وخارجه، من كومة الملابس الموجودة في مقدمة اللوحة إلى الشخصية النائمة في الخلف، فإن عيني تُقاد حول اللوحة وتتغلغل في أعماقها.
لعلنا الآن نبدأ في تعقيد الأمور، وذلك بدمج حركة العينين هذه مع ملاحظاتنا السابقة عن الألوان والأشكال. استخدمت لوحة «تيتان» الألوان الباردة والدافئة أيضًا تحريكًا لعيني المشاهد؛ فالألوان الدافئة مضغوطة في مساحتها في الجانب السفلي الأيمن، في حين أن الباردة تتمدد في مساحتها في الجانب الأعلى الأيسر (نجد هذا الفرق في حياتنا اليومية كذلك : فكر مثلًا في الفرق بين غرفة طُليت كلها بالأحمر حيث تشعر بانغلاقها وضيقها، وبين وغرفة طُليت بالأزرق الفاتح حيث تشعر بانشراحها واتساعها).
وباستخدام فلترٍ لِلِّون، ستُدرك التضاد بين اللونين إدراكًا أوضح، وسترى كيفية توزّع هذا التضاد في أرجاء تكوين اللوحة؛ فهذا المد والجزر بين برودة الألوان ودفئها يضمن ألا تركز عينيك على مكان واحد فترةً طويلة.
- أسلوب العمل الفنيّ.
هذه اللوحة -مثل معظم لوحات القرن السادس عشر- لوحة واقعية، إذْ تصوّر البشرَ والحيوانات بطريقةٍ تحاكي لنا مظهرهم الخارجيّ، والذي يبدو دقيقًا من الناحية التشريحية، ولكن مع هذا، يوجد جانب واضح في اللوحة يجعلها تبدو كنافذةٍ تُطلّ على عالم أسطوري. ومع هذه الملاحظة الأخيرة، يجدر بنا الآن قراءة وصف اللوحة : رُسمت اللوحة في زمان (بداية القرن السادس عشر) ومكان (إيطاليا) عصر النهضة العليا، وهي ملاحظة ستقودنا إلى جوانب عميقة في اللوحة سنعود لها أدناه.
- موضوع العمل الفنيّ.
موضوعٌ اللوحة أسطورة يونانية قديمة، واللوحة وحدها لن تروي لك قصتها كاملةً، ولكي تقدّر لوحة مثلها ستحتاج لأنْ تقرأ قليلاً عنها، أو ربما تستمع لأحدِ مرشدي المعرض وهو يتحدث عنها. ثم ضع في اعتبارك بأن الأشخاص الذين رُسمت لهم اللوحة كانوا يعرفون القصة جيدًا.
اللوحة تجسيدٌ للحظة واحد من قصة الأسطورة، وملخصها هو أن «أريادني» أميرة أُغرمت بـ«ثيسيوس» عندما تطوّع للذهاب إلى «مينوس» لقتل «مينوتور». وهي التي أعطت البطل بكرة الخيط؛ حتى يتمكن من إيجاد طريقه للخروج من متاهة «مينوتور». وبعد أن قتل «ثيسيوس» «مينوتور»، هرب «ثيسيوس» و«أريادني» معًا إلى جزيرة تُدعى «ناكسوس»، وهناك اَيقظتْ الآلهة آثينا «ثيسوس» في منتصف الليل وأوحت إليه أن غادر؛ لأن «ناكسوس» هي مقر إقامة الإله «باخوس» (ديونيسوس باليونانية). وفي اللوحة في أقصى اليسار يمكنك أن ترى سفينة «ثيسيوس» وهي تبحر بعيدًا في الأفق.
تضطرب «أريادني» بعدما استيقظت – وهذه هي اللحظة التي جسّدتها اللوحة – ومع وصول «باخوس» مع حاشيته التي تضم الساتير والمينادات (maends كائنات أسطورية أنثوية نصف بشرية). في البداية ترتعب «أريادني»، ثم تلتفت برهبة. يقفز «باخوس» من عربته التي تجرها الفهود منجذبًا للأميرة الجميلة، فتتلاقى أعينهم ويغرمان ببعضهم بعضا من النظرة الأولى. ولأن «أريادني» بشرية فانية، يمنحها «باخوس» الخلود، فتصبح كوكبةً من النجوم على شكل هالة مشعة (halo) كما يظهر ذلك في أعلى يسار اللوحة.
إن الآسر في هذه اللوحة هو تكثيفها القصة إلى لحظة خاطفة -لكن مفصلية- في القصة، اللحظة التي التقت فيها أعينهما والافتتان ببعضهم بعضا على الفور. وهذا ما تؤكده الحركة بل و«الصوت» أيضًا: فالمينادة (المرأة) في المنتصف قد ضربت الصنجين ببعضهما بعضا.
- إيحاءات العمل الفني وما يُشير إليه.
تنطوي اللوحة – نسجًا على منوال موضوعها اليوناني- على إشارات إلى الفن الكلاسيكي. بدايةً، فإن حاشية «باخوس» تشبه ما ينقش على الإفريز (زخرفة رومانية شائعة تظهر الشخصيات وقد نُحتوا على نحو معين وجانب واحد كما في الصورة أدناه).
إن «التسطيح» النسبيّ للحاشية يسمح للشخصيات المهمة بالبروز؛ فـ«باخوس» و«أريادني» قد اِلتف كل واحد منهما على نفسه باتجاهٍ معاكس، وذلك تضخيمًا وتنبيهًا على الدهشة التي اِعترتهما عندما رأى أحدهما الآخر. ولاحظوا كذلك الساتير في المقدمة متواشج مع الأفاعي، وهذه استعارةٌ من القصائد الرومانية التي تستند اللوحة عليها، ولكنها أيضًا تشبه تمثال الكاهن الطروادي «لاوكون» وأبناءه، والتي يُعتقد بأنها تعود للقرن الثاني قبل الميلاد.
اكتُشِف التمثال وعُرِض في روما عام 1506، ومن المرجح بأن «تيتان» قد رآه، على الرغم من عدم وجود دليل يثبت اقتباس «تيتان» لفكرة الساتير من التمثال، إلا أن التأثير العام للفن اليوناني والروماني القديم على عصر النهضة الأوروبي لا جدال فيه.
- السياق الثقافي للعمل الفني
مثل ما ذكرت سابقًا، هذه لوحةٌ من عصر النهضة (Renaissance)، والنهضة تعني «ولادة جديدة» إذ ظهرت إبان إعادة اكتشاف الثقافة الرومانية واليونانية عبر هجرة البشر ]والكتب[. ومن المتعارف عليه بأن الثقافة الغربية قبل عصر النهضة -ما بين القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر- كانت تدور تقريبًا حول خدمة المسيحية حصرًا.
ولكن بسبب سلسة من الأحداث التاريخية والابتكارات والاكتشافات، مثل: الطاعون الأسود وفتح العثمانيين للقسطنطينية (وهي آخر حصن للثقافة الرومانية الحية) والاكتشافات الأثرية، بدأت الثقافة الغربية بإعطاء المركزية للإنسانية.
ومن دون تعقيد زائد، فقد عُرفت أساليب عصر النهضة في الرسم بدقتها التشريحية -تأثرًا بفن النحت اليوناني والروماني- والألوان الزاهية -بفضل اختراع الألوان الزيتية- والأهم من ذلك كله، عرفت بأسلوب المنظور الخطيّ. وكل هذه الأساليب جلية في لوحة «باخوس وأريادني».
النهضة «العليا» (حوالي 1495 إلى 1527) هي ذروة الفن في ذلك العصر، حيث برزت فيه أعمال فنانين مثل: «ليوناردو دا فينشي» و«مايكل أنجلو» و«رافائيل» و«جورجوني» و«بيلني» وبالطبع «تيتان».
أما المنظور الخطي فقد كان ابتكار العصر الذي غيّر الفن الغربي إلى الأبد؛ وباستخدامه، أصبحت اللوحة «نافذة» تطل على المشهد وذلك بفضل العمق المكاني الذي يخلقه. أما اللوحات قبل ابتكاره فكانت مزخرفةً أكثر وسطحية.
أصبحتَ تعرف الآن الكثير عن «باخوس وأريادني» و«تيتان»، لكني آمل في أن تتعلم أكثر عن كيفية التعامل مع الفن. ابدأ بالعمل نفسه، وتجاهل المعلومات الضخمة والرهيبة التي تأتي معه، وفكر في كيفية تأثير العمل الفني عليك، نفسيًا وجسديًا : هل يهزّ شيئًا فيك حقًا، أين تتجه عينيك؟ كيف يجعلك تشعر؟ وبعد ذلك تشرّب المعلومات الأكثر تعقيدًا. آمل بأن يساعدك هذا على إثراء فهمك للفن.
نحن الآن نعيش في عصرٍ باتت فيه الأعمال الفنية في متناول الجماهير، وليست حصرًا على الأقلية القليلة من طبقة الأغنياء كما كانت كذلك لآلاف السنين. وهذه نعمة لا تقدر بثمن. انظر إلى الفن، وتعلم منه، واستمتع به، وقدّر كم نحن محظوظين!