
تيسرت حياة البشر بوجود جهاز التحكم عن بعد، ودخل هذا الجهاز صلب أحد الأفلام السينمائية عندما خرج Chance المحب لمشاهدة التلفاز في فيلم Being There من قصر سيده إلى العالم لأول مرة، لا يمتلك سوى ملابسه وجهاز تحكم عن بعد، كان ذلك عام 1979م في فيلم سينمائي يعبّر عن قدرة هذا الجهاز داخل المنزل، وزوال سحره خارجه.

بداية الطريق
سكنت شبكة Netflix منازل كثير من الخلق ، بل وصلت إلى أكفهم كأجهزة التحكم داخل المنزل وخارجه من خلال الأجهزة الذكية، وأطلقت قبل نهاية عام 2018م بأربعة أيام فيلم Black Mirror: Bandersnatch ، في مفارقة تقنية بإضافة مزية جديدة في عالم الأفلام ، وهي مشاركة المُشاهد بطولة الفيلم من خلال اتخاذ قرارات بطل الفيلم نيابة عنه، حيث استفاد المخرج David Slade من تقنية مألوفة في عالم الألعاب لتجريبها في عالم الأفلام ، فشبكة Netflix منذ بدايتها، وهي تراهن على سينما جديدة، ابتداء بمساكنتها بيوت مشاهديها، موفِّرة لهم خدمة منزلية تضمن عدم تكبيدهم عناء الخروج إلى صالات السينما، كُلُّ ذلك يبدو في نظر عشاق السينما الأصيلة، ومحبي المشاهدة الجماعية، محاولة يائسة لمزاحمة دور السينما، واقتسام البساط معها.
فهل يبدو بتلك التقنية الحديثة التي تمتلكها Netflix بجهاز التحكم، وصلت إلى ما لا تستطيعه دور السينما في مشاهدة جماعية، حين لا يكون للمشاهد قرار في تلك الدور، بينما مع هذه الشبكة له أن يختار نيابة عن البطل، وعندها يشعر المشاهد بمكانته في منزله كـ Chance في قصر سيده بدلاً من الذهاب إلى دور السينما، والخروج من داره؟! والمثل الخليجي يقول (من خرج من داره؛ قلَّ مقداره).
إن مثل هذه الإمكانيات والمزايا التي تملكها Netflix منذ ظهورها -بينما تفقدها دور السينما- أصبحت منطقة تفوق Netflix وموطن تميز، فلا تزال دور السينما تفقد شيئا من وهجها، وتتنازل قسرا دون مزيد خيارات أمامها، خاضعة لمنافسيها شيئاً فشيئاً، وهي ترى أمام عينها تزايد الأرقام في صالح تلك الشبكات.
هذا التنازل لم يكن وليد اليوم، فالتقنية أجبرت دور السينما إلى التحول من شريط السليوليد إلى السينما الرقمية منذ بداية 2004م ، وهذا ما جعل حسن الحجيلي يُبّشر بالسينما الجديدة في كتابه المعنون بذلك، ويتأمل في موت السينما بعد سيطرة الثورة الرقمية، فهذا التناول ابتداء جعل من الأفلام الرقمية تنافس على الجوائز وتفوز، ابتداء بفيلم Slumdog millionaire الذي تم تمثيله في الهند، والاستعاضة بالتقنية الرقمية عن الأدوات التقليدية، ليفوز بالأوسكار عام 2009م، مُدخِلاً التقنية من بابها الواسع، وصولا إلى فوز فيلم Roma المنتج من قبل Netflix بالأوسكار عام 2019 عن فئة الفيلم الأجنبي، ولن يكون الأخير بالطبع، فالتقنية تزاحم بشراسة، وتُحرج إن لم تقتل الخيارات التي لا تواكبها بالتأكيد.
طريق العودة
ينحاز مسلسل Black Mirror إلى المستقبل في أحداث حلقاته، انطلاقاً من مساحة الخيال العلمي التي يلعب عليها، باستثماره للتكنولوجيا، وما يمكنها أن تفعله بمخترعها الإنسان؟!
وفي عودة لا بد من الوقوف عليها؛ يتفاجأ المشاهد بأن هذا المسلسل ينفرد بحلقة طويلة لا يمكن تسميتها حلقة من الأساس، فحين تستغرق كل حلقة من حلقات المسلسل الأربعين دقيقة تقريباً؛ تبلغ هذه الحلقة في حالتها الاعتيادية الساعة والنصف؛ لتصبح فيلماً مختلفاً على صعيد الوقت، والعودة للخلف بزمن الأحداث، إذ اعتاد مشاهدو مسلسل Black Mirror القفز للمستقبل بخطوات متسارعة، أما هذا الفيلم فيرتد لعام 1984م، فيظهر عكس ما يجري من خيال علمي في حلقات المسلسل، بخيال مضاد لمن لم يدرك تلك الحقبة من الأجيال الجديدة، فالميكروويف في الفيلم يُعَدُّ اخترع عجيب على لسان الأب في الفيلم.
ماذا يريد الكاتبCharlie Brooker بعودته ثانية للطول بعد القصر في عصر السرعة؟! أليس هو من تجول في مستقبل التقنيات وولج شوارعها الخلفية؟! فما باله يعود ثانية أكثر من ثلاثين عاماً ليدهشنا بالميكروويف؟!
لن نعجب كثيراً حين نعلم أن كاتب سيناريو الفيلمCharlie Brooker لم يبلغ الخمسين بعد، فيبدو أن عودته تلك عودة لصباه، إذ هو كاتب أيضاً في مجلة ألعاب الكمبيوتر PC Zone من قبل، وعالم الألعاب متسارع ومتقدم أيضاً، عالم لا ينسى تاريخه، فيعود كثيراً لألعاب قديمة، في عودة أشبه ما تكون إلى عودة عالم السينما لأفلام قديمة يتم تحديثها من جديد، كاستعادة الرجل الأخضر من الثمانينيات في حلة جديدة.
إذن لا غرابة حين تعود هذه الحلقة من خلال مبرمج الألعابStefan Butler الذي يلعب دوره الممثل Fionn Whitehead بتجسيد شخصية شاب يعيش مع والده ، وتبدأ الدهشة بإضافة خيار يومي ربما يمر بنا جميعا كل وجبة إفطار نتناولها، وهي قصية ماذا سنتناول اليوم على وجبة الفطور؟!
هذه المرة يشارك المشاهد بطل الفيلم اختيار نوع رقائق الذرة ما بين صنفين لا ثالث لهما في خلال 10 ثواني، فإن لم يختر المشاهد؛ تم إقرار إحدى الخيارين، فالتردد له وقت محدد لا يقبل المزيد، كما الحياة في بعض قراراتها، وهكذا الفيلم يسير في سلم الخيارات نحو شريطين كاسيت، يختار المشاهد ما يريد إسماعه لبطل الفيلم، وما يريد هو أيضاً سماعه في مشاركة بطولة ربما لأول مرة، وصولاً إلى خيارات مصيرية تدريجياً، وفي تصاعد واضح، يظهر التدرج في إيصال مفهوم التخيير، وما نحسبه لعبة ابتداء.
الطريق المسدود
يمارس فيلم Black Mirror: Bandersnatch تجسيد العودة من جديد بشريط سريع لتكرار الأحداث ذاتها ما بين نقلة من بضعة مشاهد وخط من الخيارات، والعودة ثانية بصور متغيرة لاستذكار ما حدث، متنقلة من موطن إلى موطن تخيير جديد.
يتبادل الأبطال الأدوار أحيانا، كانتقال ذات الحديث من شخصية إلى أخرى، فعند الدورة الأولى تأتي المعرفة، وهكذا تفترض الحياة ألاّ يُلدغ المرء من جحر مرتين، أليس كذلك؟!
غير أن الفيلم يزيد قليلاً، فلا يمكن لـ Stefan Butler الرفض إن كان قبل أو العكس، فيوجب الفيلم على البطل وعليك ضمناً أن تختار الخيار الآخر قسراً، وإلا لن تُكمل الطريق! بل لا يداهن أحياناً، فيضع خياراً واحداً لا ثاني له! كما حدث في رفض البطل للذهاب مع أمه صغيراً دون دميته؛ لتموت أمه في حادثة القطار بسبب هذا الحدث، فيبدو في هذه الحالة أن الطريق مسدود لا وراء بعده.
إنَّ الطرق المسدودة خلفها ما خلفها، ولكن لا سبيل لمعرفة ما وراءها، ولا يجب عليك الوقوف على رأي متى ما كان المتحكم يجبرك على غيره، فاختياره أحيانا السبيل الوحيد أمامك لمواصلة الرحلة.
هكذا يبدو لأول وهلة ما يحدث في الفيلم في رسمه للطرق، وإجبارك على الرحلة بعيداً عن أي توقيت تريد، فالقطارات تمر في مواعيدها، ولك أن تركب هذا، أو الانتظار لقطار ثان يقودك إلى محطة أخرى، نعم لك أن تقف باختيارك، ولكن حين تعزم على إكمال رحلتك، لن تقفز من قطار لتسلك طريقاً آخر مشياً على الأقدام، فلا نوافذ أو أبواب على الإطلاق، لذا لا تفكر إلا في المشي وفق ما رُسم لك.
مفترق الطرق
لا تزال هذه تجربة أولى، وعادة التجارب الأولى تقع ما بين متقبل للتجربة بوصفها جديداً في عالم الأفلام، وما بين مبتهج بداية الأمر، وناقد لها بعد المتعة! شأن كل جديد، وما بين فريق يسعد بهذا اللون، ويترقب ما يأتي، وما زلنا بانتظار ما يمكن فعله في المستقبل، فعصفور واحد لا يصنع الصيف كما يقول أرسطو، وهكذا لا يمكن الحكم على فريدٍ لا ثاني له، ولا أظن أن الفيلم سيظل وحيداً، هذا إن لم تقفزه Netflix إلى ما فوقه.
إنَّ من مرَّ بصراعات وتحديات وفاز في أغلبها؛ لن يملَّ التحديث، فشبكة Netflix في صراع مع السينما التقليدية، ولن تكون هذه جولتها الأخيرة، فما دامت صناعة السينما مستمرة، والاختلاف يكمن في قنوات المشاهدة؛ لن تكون هذه سوى محطة زمنية للمنافسة، وترقب الجديد من منافس آخر، فليست المنافسة بين اثنين فحسب؟! وإنما يعود الأمر للمباراة الختامية! لأن هذه المنافسة أشبه ما تكون بدوري يحرص متابعوه على آخره، وهذا ما حدث، فجعل المنافسة بين دور السينما وشبكات المشاهدة المنزلية عامة، و Netflixخاصة.
إنَّ شبكة Netflix في هذه المنافسة تلعب لعبة الخيارين الذي لا ثالث لهما، إذ تترك للمشاهد خيار المشاهدة على شاشتها أو في صالة السينما، وله أن يختار الخيار الثاني دون إجبار! تاركة له السير قليلاً ؛ ليعود ثانية إلى منزله بعد انقضاء سهرة ماتعة، ولأن في الوقت متسعاً، فلا بد أنه عائد للعبة الخيارين ثانية ولو بعد حين طال الزمن أو قصر؛ لتلعب Netflix لعبتها بعد تمكينه من الخيار الثاني، فتظل حينها الخيار المتبقي الذي لا بد من تجربته، والسير بعيداً في رحلة طويلة من محطة لأخرى، تبتعد عن الساعة والنصف المتروكة للفيلم، فالخيار سهل ، وله حينها أن يلعب دور Chance المحب لمشاهدة التلفاز حين تفاجأ أن هذا جهاز التحكم عن بعد الذي في يمينه غير قادر على تغيير ما يراه، فلم يستطع أن يثني المراهقين -حين أشهر أحدهم سكينه في وجهه- بجهاز التحكم، فضغطه على أزرار الجهاز لم يسعفه في تغيير المحطة، أو خفض الصوت على الأقل، غير أن اللعبة منذ ذاك الفيلم عام 1979م تغيرت، فهل يمكنه اليوم أن يغيِّر العالم؟!
بدأت Netflix تمارس لعبتها بوضع مشاهدها أو Chance على سواء ما بين قرنين، إن فر من اليمين عاد لليسار مختاراً أو مجبراً، سعيداً بأن وهبته فرصة الاختيار، مدركاً أو غير مدرك أن كل ما يحدث ليس سوى وهم التخيير الذي يدفعه للمربع الثاني حيث لا ثالث في اللوحة.
إنَّ هذا الفعل أشبه ما يكون بتطبيق القانون 31 من قوانين Robert Greene حين تمسك بورقتي اللعب، وتستدرج مشاهدها راغباً، وتمنحه حق الاختيار بين الورقتين، بل المبالغة في ذلك وإعطائه الورقتين، عندها يشعر أنه من يتحكم في قوانين اللعبة، ولا يدري أنه إنما يمسك بورقتين وُضعت في كفيه.
حسبها حينها أنها تمنحه شعور الاختيار، فوهم التخيير، خير من أن يعيش المرء دون هذا الشعور على الأقل، فـ Chance الذي خرج عام 1979م بجهاز تحكمه؛ عليه أن يعود اليوم ثانية، ويشعر بالنصر الذي أراده، ولو وهماً.
الطريق الإجباري
يبدو هذا الفعل نوع من الاستدراج الذي تمارسه Netflix حتى يصل المستهدفون ساحتها، من خلال ما تقدمه من حصريات، وتسهيلات، فحسبها إعادة Martin Scorsese بفيلم The Irishman بعد اقتناص حقوقه بدلاً من Paramount التي سوَّفت تاركة مثل هذه الفرصة!
هذا الفيلم يشترك في بطولته كل من : Anna Paquin ، وَ Robert De Niro، وَ Al Pacino ، ولا يبدو ذلك وحده الفريد في الأمر باجتماع هؤلاء الكبار معاً فحسب، بل بإعادة Robert De Niro السبعيني لشبابه ثانية، فالتقنية الحديثة لا تتوقف، وهذا الأمر سيكون من خلال عودته ثانية في هذا الفيلم الذي يجمعه بالمخرج Martin Scorsese ، فمنذ عام 1995م في فيلم Casino وحصده للنجاحات الكبيرة لم يجتمع الاثنان ثانية، وها هما يعودان بهذه الشبكة الساحرة من جديد.
يبدو أن Netflix وصلت إلى مرحلة من إقناع الآخرين بما تريد، فبعد اقتناصها للأوسكار أثارت حفيظة المتحفظين ، فعادت دعوتهم لإبعادها عن المنافسة على الأوسكار، وطردها خارجاً، فلا يؤذن لها بالدخول إطلاقاً، فالمخرج الكبير Steven Spielberg يرى ويسعى بشدة لإبعادها من المنافسات خشية على صناعة السينما ابتداء، ولن يكون وحده، فكل المؤمنين بصالات السينما؛ لن يروق لهم على الإطلاق بوار تلك الصالات التي صنعت الدهشة، بدخول منافس يغزو البيوت، ويوصل الطلبات حتى غرفة النوم، بل إلى أكفهم متى ما أرادوا ذلك، فهذه الشبكات تهدد تلك القصور، وتحاول هدّها واقتلاعها من جذورها.
لا شك أن هذه الخشية هي موطن ثقة من جانب آخر، فبعد تمنّع طويل منذ إصدار رواية (مئة عام من العزلة) عام 1967م للكاتب المكسيكي الكبير Gabriel García Márquez ثقة بأن هذه الرواية عصية على أن يتم تقديمها على شاشات السينما، فهو السيناريست الذي يميّز المرحلة، ويعرف أن هذه الرواية للمقروء أقرب منها في ذلك العصر من أن تكون للمرئي، أمّا وقد اختلف العصر، ورحل ماركيز ، ودخلت Netflix المعادلة، فقد تمكنت من إقناع أسرة الكاتب كما أقنعت غيره من قبل ثقة بالتجربة، وبما أحدثته من تواصل مع العالم بالمرئي بعد المكتوب من خلال فوز Roma، وثقة المشاهدين في كل أنحاء العالم بالمسلسلات الحصرية المنتجة على شاشتها، وخاصة بعد تجربة Narcos على صعيد مسلسلات القارة الأمريكية الجنوبية ، وفي نمو للاشتراكات في شبكات المشاهدة عالمياً، وتصاعد العوائد المالية لهذه الشبكات.
مصادرة الطريق
يقدم فيلم Black Mirror: Bandersnatch مناقشة وهم التخيير بوضوح، فليس هناك ما يخفى تحت الشمس، فاللعبة مكشوفة من لحظة عرضها أمام المستثمر، والتحدي يكمن في تسليمها قبل عيد الميلاد، وهذا ما فعلته Netflix عندما بثت الفيلم في الموعد المحدد دون تأخير.
إن معضلة الخيارين استشعرها البطل ابتداء، وتمت مناقشتها في الفيلم بوضوح في حوارات البطل بالمبرمج، والمعالجة النفسية، مما يُعدُّ الركيزة الرئيسة في الفيلم، حيث ينتقل في الكتاب الذي يقتنيه مع الموسيقى المختارة من قبل صديقه المبرمج إلى فصل (مؤامرات التحكم بالعقل.
إنَّ العقل يختار ما بين أمرين: الخير والشر، أو خير الخيرين، وشر الشرين، فالعقل ما هو إلا آلة متغيرة في تحديد ما هو خير أو شر انطلاقاً من مرجعيّة ثقافية على حَدِّ وصف سعد كموني، فالخير خير بمنظور اجتماعي، وكذلك الشر.
يبدو الإرباك حين نحاكم الخيارين في خروج عن درامية الفيلم بوصفنا مشاركين بطولة الفيلم لا مشاهدين فحسب، فنحدد خياراً بين اثنين كانتحار أحدهما في الفيلم، والتخيير ما بين البطل أو صاحبه المبرمج، واللعب في حياة شخصين، أو فيما هو أهون على صعيد الحياة، ويظل إشكالاً على صعيد الأخلاق: كصراخ البطل في وجه أبيه أو انسكاب محتوى الكوب على جهاز الكمبيوتر، وميل المشاهد -إن افترضنا- إلى الخيار الثاني، والعودة مجبراً للأول لإكمال الفيلم الذي لن يكتمل دون المرور بهذا الاختيار، فالأمر يبدو أقرب ما يكون إلى مصادرة ما تختاره من طريق ، وإجبارك على السير في الطريق المختار شئت أو أبيت.
إن ما لم يخطر في بال Chance على الإطلاق أن يعود للقصر ثانية، فيجد أن جهاز التحكم الذي يملكه قادر على تسييره هو لا تخييره.