حاورها: طامي السميري
- كل رواية يترجمها المترجم تترك أثرها عليه – بشكل عام كيف هي آثار تلك الروايات التي قمتِ بترجمتها وبشكل خاص كيف هو أثر رواية (أمريكانا) لـ شيماماندا نغوزي أديتشي؟
لم تكن رواية أمريكانا بالرواية السهلة، رغم بساطة قصة الحب فيها بين البطلين اللذين تفرقهما الأيام. لكن قصة الحب ليست المحور الرئيس، ثمة ما هو أكبر من قصة حب جمعت مراهقين فرّقهما فساد السلطة، فلدينا الفساد الذي ينخر نيجيريا – مثلما يفعل في دول عديدة-ولدينا العنصرية في أمريكا وأوروبا، وامتياز الرجل الأبيض والمفاهيم الاجتماعية التي تتغير بفعل ذلك كله. تلتفت أدتشي هنا إلى تفاصيل صغيرة جدًا كل منها قطعة أحجية تتضح بعد تركيبها الصورة الكاملة. كانت مقاطع تدوينات إفيملو التي تكتب فيها عن مشاهداتها في أمريكا تحت عنوان “فهم أمريكا للسود غير الأمريكيين”، ثم سمّتها “رشة عنصرية أو ملاحظات منوعة حول الأمريكيين السود (أولئك الذين كانوا يُسمّون بالزنوج سابقًا) من سوداء غير أمريكية”، كانت ملاحظاتها ذكية جدًا جدًا!
- يقول الروائي النيجيري شينوا أتشيبي عن رواية امريكانا: “إن الكُتاب المترددين وقليلي الخبرة يتحاشون التعقيد بكل ما تعنيه هذه الكلمة، لكن أديتشي تتبنى هذا التعقيد”. خلال ترجمتك للرواية كيف تم التعاطي مع هذا التعقيد؟
ربما لأنها عمدت إلى جعل أحداث الرواية في مواطن متعددة، في نيجيريا، ثم في أمريكا وبريطانيا، ثم العودة إلى نيجيريا. لقد كانت أدتشي ذكية بارعة جدًا ملمّة بتاريخ بلادها والانقلابات العديدة والاغتيالات التي شهدتها نيجيريا، وهي حكواتية بارعة وذكية للغاية.
- هذه الرواية المكتوبة بقدرٍ متساوٍ من الغنائية. كيف وجدت لغة الكاتبة وأسلوبها في السرد؟
ترى أدتشي أن الوضوح في الكتابة أمر إلزامي، وهي تؤمن بعبارة من قال “إن الكتابة يجب أن تكون واضحة بقدر لوح زجاج النافذة”. ولكن هذا لا يلغي شاعرية اللغة لديها في المواضع التي تحتمل الشاعرية (في وصف مشهد الطاووس على أطلال المنزل القديم مثلًا) وهي حتى في شاعريتها واضحة، إنها ببساطة روائية فذة!
- عندما تم تكليفك بترجمة رواية أمريكانا ما هي التحضيرات التي قمت بها لتساعدك في انجاز ترجمة هذه الرواية؟
مثلما أفعل مع كل عمل أقدم على ترجمته، قرأت ما تيسر لي من مراجعات حول الرواية، وشاهدت بعض المقاطع المرئية للكاتبة، إضافة إلى قراءة أعمالها السابقة (زهور الكركديه الأرجوانية، ونصف شمس صفراء)، وترجمت لها خطابًا بعنوان “خطر القصة المفردة” إلى جانب قصة بعنوان أﭘوللو.
- تكتب أديتشي في أكثر من جنس أدبي. هل اطلعتِ على اعمالها الأخرى وهل اسلوبها في الكتابة مختلف بين عمل واخر؟
قرأت لها علينا جميعًا أن نصبح نسويين، وعزيزتي هاجر أو مانفستو نسوي بخمسة عشر مقترحًا. لا بد أن يختلف قليلًا لاختلاف الجنس الأدبي الذي تكتب به، لكن الذي لم يختلف هو حدتها وذكاؤها.
- ما بين الرواية الأولى التي يترجمها المترجم وما بين الرواية الأخيرة التي ترجمها-هل هناك فارق في الأداء سواء في تكنيك الترجمة من ناحية الأسلوب واللغة؟
بلا شك! والفارق هائل جدًا، من وجهة نظري على الأقل. الرواية الأولى مثلها مثل أي عمل أول، تشوبه كثير من العيوب، ولا يمكن إنكار ذلك مهما بلغت دقتها، إذ سيرى المترجم نفسه – قبل الآخرين-مواطن ضعفه (إلى جانب أخطائه)، بل إننا، معشر المترجمين، نسلّم العمل في شكله النهائي وعند إصداره نلوم أنفسنا على تعبير أو صياغة، مع العلم أن الفاصل الزمني ليس إلا بضعة أشهر (بين تسليم العمل وإصداره وتوزيعه في المكتبات)، فكيف إذن سيكون حال المترجم إن قارن بين العمل الأول وبين آخر إصداراته! ولكننا جميعًا نسعى إلى الكمال ونطمح إليه، رغم أن العمل البشري يشوبه النقص حكمًا، فنحن لسنا بآلهة!
- هل أنتِ مع أو ضد تخصص المترجم في ترجمة أعمال لروائي محدد؟
لست مع ولا ضد. هذا يعود للمترجم في نهاية الأمر؛ فقد يمنحه تخصصه في روائي واحد قدرة على فهمه أكثر من غيره. ومن خلال تجربتي وجدت التنويع والانتقال بين الروائيين (سواء في أدب الناشئة أو روايات الكبار) فائدة عظيمة تعرفت بها على أساليب مختلفة من عصور وأجيال مختلفة. والأمر ينطبق أيضًا على الكتب غير الروائية، إذ وجدت أن ترجمتها تفتح نوافذ متعدد على العالم، لا يُكتفى بمعرفته عن طريق الأدب وحده، وإن كنت أؤمن قطعًا بقدرة الأدب على منحنا فهمًا أفضل للعالم من حولنا.
- هل أنتِ مع اختيار المترجم العمل الذي يرغب في ترجمته أم مع التكليف من جهة ما، وهل يشكل ذلك الأمر فارقا في الترجمة؟
يجوز الوجهان كما يقول النحاة! لا فرق بين أن يختار المترجم عمله أو أن ترشحه له الدار، لأن المهم في كلتا الحالتين والأمر الذي يشكّل فارقًا حقيقيًا هو تقبّل المترجم للعمل الذي يترجمه، وهذا لا يعني بالضرورة أن يوافق كاتبه على كل ما ورد فيه، بل قد يلجأ المترجمون أحيانًا إلى ترجمة ما يعارض آراءهم ويخالفها رغبة منهم في رمي الحصاة في النهر وتحريك المياه الراكدة، وبخاصة إن كان العمل معنيًا بالأمور المسكوت عنها، أو التي تتعرض للتجاهل خشية إثارتها الجدل. وحين أقول أنها تثير الجدل، لا أعني قطعًا الأعمال السطحية التي تهتم للقشور، بل المقصود أنها تنير الأماكن المظلمة وتضعها على المجهر استعدادًا لتشريحها. لذا الشرط الأساسي أن يجد المترجم في العمل الذي يزمع ترجمته شيئًا يضيف بشكل أو بآخر إلى قارئه، وأن يخلص للعمل ليخرجه بالصورة اللائقة.
- لك تجارب متعددة في ترجمة ” أدب الناشئة” هذا النوع من الأدب كيف تجدين ترجمته، وهل هو مختلف عن ترجمة أدب الكبار في جوانب القيم الأخلاقية والاجتماعية؟
أحب قراءة أدب الناشئة وترجمته. كتبت عن هذا الحب في نشرة إلخ من ثمانية، “رسالة إلى قارئ لا يحب كتب الأطفال”، وأرجو أن تسمح لي بأن أقتبس لك شيئًا مما قلته هناك. “إن حكايات الأطفال تمر بالمراحل التي يمر بها بطل الأساطير كما وصفها جوزف كامبل في كتابه البطل بألف وجه بدءًا من العالم الاعتيادي وانتهاءً بالعودة المظفرة وزوال البلاء. وهي بهذا لا تصور العالم بريئًا ورديًا، لكنها تعيد الإحساس بالأمل في عودة الأمور إلى نصابها. وما ضرّ أن نعود أطفالًا مرة أخرى؟ لقد آمن هيرمان هسه أن عودة الفنان طفلًا وأن يكون صديقًا وشقيقًا للأرض والنباتات والصخور والسحب هي الخلاص، عملًا بما جاء في الكتاب المقدس “الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات”.
- بعد هذا التراكم في ترجمة الأعمال الأدبية ما الذي تشعرين بأنه اختلف في مسيرتك في عالم الترجمة؟
مرت سنوات طويلة على أول عمل لي في الترجمة (مبادئ الحوكمة في المنظمات غير الربحية)، والعالم كله تغير منذ ذلك التاريخ! لقد منحني العمل هدوءًا أكبر، ورغبة أعظم في الاعتزال والاكتفاء بعالم الحبر والورق. أحاول الابتعاد عن الصخب والاستمتاع بعملي، وأعرف حق المعرفة أن هذه المتعة ستنعكس في صفحات العمل الذي أترجمه، أيًا كان الفن الأدبي الذي ينتمي إليه. لقد عرفت بوساطة الترجمة أمورًا أكثر مما عرفته بوساطة القراءة فقط، سواء أكان ذلك في المفردات ومدلولاتها وتاريخها (في اللغتين العربية والإنجليزية)، أم في تقنيات الكتابة، أم في العالم وعجائبه.
- هل المترجم الجيد هو جيد في كل الأعمال التي يترجمها أم مستوى الترجمة غير ثابت ويخضع لعوامل متغيرة تجعل الترجمة رهينة الجدية والشغف مع كل عمل يترجمه؟
لا بد أن تكون الترجمة رهينة الجدية والشغف، والمترجم الجيد هو جيد في كل الأحوال. يُظن أحيانًا أن جودة الترجمة لدى بعض الأسماء المعروفة قد تراجعت، ويلقى اللوم على المترجم دون أن يأخذ القارئ في حسبانه أن العيب في النص الأصلي لسبب ما، وربما لا يكون عيبًا بل أسلوبًا كتابيًا لم يعتده القارئ. المقصد أن المترجم هو المتهم حتى تثبت براءته، والكاتب بريء حتى تثبت إدانته! إن كان ذوق القارئ لم يوافق العمل المترجم لأي سبب -وهذا حقه لأن غاية الأدب الأولى هي الإمتاع-فهذا لا يعني أن العمل فيه عيوب بالضرورة.
- البعض من المترجمين يرفض أن يتدخل المحرر الادبي في تحرير ترجمته – ما موقفك من هذا الأمر؟
على العكس تمامًا، فمهمة المحرر مهمة ضرورية للعمل المترجم. ولكن الفكرة أن المحرر (وهو في معظم الحالات مدقق لغوي إلا فيما ندر) يفترض مسبقًا أن لغة المترجم يشوبها اللحن، وأن لسانه “أعجمي”، فيبدأ بفرض خياراته على النص من دون تبرير هذا الخيار، أو سماع وجهة نظر المترجم فيما ذهب إليه! سأذكر لك مثالًا. في إحدى ترجماتي لأدب اليافعين، اعترض المحرر على استخدامي أسلوب التصغير، مع أنه أسلوب عربي فصيح. ثم وجدته في جملة أخرى يبدل كلمة بيظ (بالظاء) بكلمة بيض السمك. ولم أجد لهذا مبررًا لغويًا إلا في كتاب تراثي قديم مجهول، وكان المثال عن بيض النمل. رفضته طبعًا. يجب أن يدرك المحرر أن النص ليس ساحة تنافس بينه وبين المترجم، ويفترض أن هدفهما مشترك وهو الخروج بالنص بأبهى حلة وإيصاله إلى يد القارئ منتجًا مكتملًا، وإن كان الفعل البشري ناقصًا دائمًا. في تجربتي، لم أعترض على اقتراحات المحرر أو تصويباته، أينما وجدتها وجيهة. لكن التغيير للتغيير فقط ينم عن تعالٍ وعنجهية، لأن المحرر ليس مطلعًا على النص الأصلي (غالبًا) لذا عليه أن يقتنع بأن المترجم أقدر منه على تحديد الخيار المناسب للمفردات. وأرجو أن يتحلى المحررون والمدققون اللغويون بشيء من سعة الصدر والروح الرياضية، فالأمر ليس شخصيًا ولا هو مسألة إثبات وجود. كلاهما (المترجم والمحرر) موجود، وعمل كليهما مهم، ولا أحد يعلو على أحد.
- هل هناك استفادة شخصية في ترجماتك من الذكاء الاصطناعي. وكمترجمة محترفة كيف تنظرين الى مستقبلك بوجود هذا المنافس الشرس؟
أحرص عادة على السلامة اللغوية، لكني قررت أن أتخلى عن هذا الحرص وعن كل قواعد الحذر والسلامة، وأن أتصف بالجسارة عندما ترجمت رواية الفتاة ذات الصوت العالي، الصادرة العام الماضي عن دار كلمات. فقد عمدت إلى “تكسير” اللغة إذ لن يجد من يقرؤها صفحة تخلو من الأخطاء، لأن البطلة تتحدث بلغة إنجليزية مفككة وتعج بالكوارث اللغوية والنحوية، وإن حاولت أن تتفاصح في استخدام بعض الكلمات الكبيرة فاللغة المتداعية التي تتكلم بها البطلة هي صوتها الذي تريد له أن يعلو ويعلو، ولو اخترت أن يخلو النص من هذه الأخطاء، لتداعت بنية الرواية ولم يعد فيها ما يميزها. وأنا لست أول من يقدم على مغامرة في الترجمة، ولن أكون الأخيرة. ولا شك أن مسيرة الزملاء والزميلات تغص بأمثال هذه المغامرات، على اختلاف صورها وأشكالها. سؤالي لك هل يستطيع الذكاء الاصطناعي الإتيان بمغامرات جسورة كمغامرات المترجمين؟ هل يجيد لعب الألعاب اللغوية التي يلعبها المترجم/ البهلوان؟ أدام الله المترجمين، وأدام فيهم الجسارة!
———–
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.