قمتُ مؤخرًا بسؤال مجموعةٍ من البالغين الصغار المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق عن محاولاتهم لفرض الحدود الشخصية مع والديهم (مجموعة أنا عضوة فيها: دفعة 1989، من لينينغراد إلى تكساس). نادرًا ما تلقيت الكثير من الردود من المخبرين بهذه السرعة.
في أحد الأيام، أتَت والدة أولغا ب، واستبدلت أوانيها الفضيَّة بأوانٍ فضيَّة أخرى، اعتقدت (الأم) أنها “أفضل”. أعطت آنا ز. والديها نسخة من مفتاح منزلها لحالات الطوارئ فقط، ولكن في أحد الأيام، استدارت في الفناء الخلفي لمنزلها ورأت والدتها تلوّح لها من نافذة غرفة نومها (طلب المخبرون ذكر أسمائهم الأولى والحرف الأوّل من اسم عائلتهم من أجل التحدث بحريَّة عن الأمور العائلية الخاصة التي -إذا سألت والديهم- لا ينبغي أبدًا مشاركتها مع الغرباء).
أخبرتني فيرونيكا م. أنّ والدها يعتقد أن “الحدود ستالينيَّة”. ومع ذلك، فقد قارنت وضع الحدود الشخصية بحكاية الأطفال الهولندية عن الصبيّ الذي يضع إصبعه في السّد لمنع الفيضان: “سيكون الأمر أسوأ إذا لم أحاول حماية حدودي الشخصية”.
أفترض أن المهاجرين من الجنسيات الأخرى يشعرون بالحيرة بالمثل إزاء الحدود الشخصية، كل ما في الأمر هو أن الاتحاد السوفييتي السابق يقع في شريحة رفيعة جدًا من مخططّ فين للثقافات الجماعية والحازمة في نفس الوقت. من المعروف أن اللغة الروسية لا تحتوي على كلمة تعني “الخصوصية”، وهو المفهوم الذي يكمن في جوهر معظم الحدود الشخصية. ولتفسير تعديّ الآباء للحدود الشخصية، كل مَن أجريت معهم مقابلات تحليلات نفسية دقيقة: سيذكرونك بأنهم أتوا إلى هنا بلا شيء، ثمّ قاموا بتربية أطفالهم في الرأسمالية المتوحشة في الضواحي. أخضعت المدارس الأمريكية أطفالها لعدد لا يحصى من ورش العمل لمكافحة المخدرات والعلاقات الحميمية، حول أهمية المساحة الشخصية والاستقلالية. ومع ذلك، ظلّ أهلنا متمسكين بالأمل في أننا كبالغين سنتصرف كما لو كنَّا نعيش في شققٍ مشتركة (kommunalka) مكدسة، ونُذعن إلى والدينا الساكنين في نهاية الرواق. إنهم يريدون منَّا أن نكون أفضل منهم، ولكن أيضًا أن نكون مثلهم تمامًا. تقول فيرونيكا: “تفكير والدي هو: إذا كنتِ تحبيننا، ستفعلين ما نقوله حتى لا نقلق”. إذا قرَّر الآباء الرُّوس الحصول على وَشم – وهو ما لن يفعلوه أبدًا – فسيكون الوَشم هذه العبارة فقط.
يَصعب على الآباء الرُّوس فهم الحدود الشخصية بسبب نسخ مكبّرة من الأسباب التي تجعل الجميع يعانون في فهمها: تمثّل مفهومًا غير مألوف، وجميعنا نعتقد أننا نعرف طرقًا أفضل للتعامل مع الخلافات. ما الذي حدث للتعامل مع كل شيء عن طريق الصراخ؟ لا نحبّ عندما يتم فرض الحدود علينا، ولا نحبّ الاضطرار إلى فرضها، ولا نعرِف حتى كيفية القيام بذلك تمامًا (رغم أنّ من خلال الكثير من الممارسة، يبدو أن من أجريت معهم المقابلات قد اكتشفوا الطريقة).
ومع ذلك، يبدو أن الحدود الشخصية واسعة الانتشار. على الرغم من أنّ التعريف الدقيق للحدود الشخصية يختلف بشكلٍ كبير، إلا أنّ من الأفضل فهمها على أنها مجموعة من القواعد الداخلية التي تحدد ما أنت على استعداد لتحمّله من الآخرين. تقدم حسابات العلاج النفسي على الإنستغرام ومواقع الويب المختلفة إرشادات لوضع الحدود الشخصية، ويمتلئ تطبيق التيك توك بمقاطع فيديو حول “وضع حدود شخصية واضحة” مع أطفالك، بينما يجب في نفس الوقت ألاّ تخبرهم أبدًا بكلمة “لا”. في عام 2022، أكَّد لنا أحد الكتب الأكثر مبيعًا: “الحدود الشخصية: ضع الحدود التي ستحرّرك” (The Book of Boundaries: Set the Limits That Will Set You Free)، أنّ الحدود “ستحرّرك”، وفي عام 2023، شرح كتاب آخر من أكثر الكتب مبيعًا، وهو: “بلا دراما: دليل لإدارة العلاقات الأُسريَّة غير الصحية” (Drama Free: A Guide to Managing Unhealthy Family Relationships)، كيفية وضع الحدود الشخصية مع الأشخاص الصعب التعامل معهم. يتعلّم الكثير من الناس عن الحدود الشخصية في جلسات العلاج النفسي، وعدد الأشخاص الذين يتلقون العلاج آخذ في الارتفاع – فقد سعى ما يقرب من واحد من كل أربعة بالغين تحت سِن 45 عامًا إلى الحصول على علاج الصحة النفسية في العام الماضي. توقّع أحد المعالجين النفسيين أن الناس قد يتحدثون عن الحدود الشخصية أكثر؛ لأن دونالد ترامب جعل السياسة مُستقطبة وحسَّاسة للغاية. لماذا تتعلَّم كيف تتجادل بشكلٍ أفضل مع عمّك المُتحفظ عندما يمكنك أن تقول له ببساطة: “ليس لديّ القدرة على إجراء هذه المحادثة الآن؟”. إذا كان الجحيم هو العيش مع الآخرين، فإن الحدود الشخصية تبدو مثل سُلَّم من الحِبال يأخذك إلى “المَطهَر” (purgatory).
ومع ذلك، حتى مع الانتشار الواسع لمفهوم “الحدود الشخصية”، قام الناس بسوء فهمه، لينضم إلى مصطلحيّ التلاعب بالعقول والنرجسية في مجموعة المصطلحات النفسية التي يُساء استخدامها. عندما تريد من شخصٍ ما أن يفعل شيئًا ما، فإن استخدام كلمة حدود شخصية يمكن أن يضفي على الطلب مظهرًا من المشروعية العلاجية. وكان المثال الأخير الأكثر علنية هو نصّ الرسائل التي شاركتها راكبة الأمواج سارة برادي من صديقها السابق جونا هيل، التي بدا فيها الممثل يدّعي أن بعض “حدوده الشخصية” هي ألا تركب برادي الأمواج مع الرجال أو تنشر صورًا لنفسها في ملابس السباحة. قالت لي كارين أوستيرل، وهي معالجة نفسية في واشنطن دي سي: “أعتقد أنّ الناس يتعلّمون بعض مفاهيم العلاج النفسي أو المصطلحات المتخصِّصة، ثمّ يرمونها في الأرجاء بشكلٍ عشوائي كالسِّهام”.
قد نشعر بالانزعاج عندما تُفرض علينا الحدود الشخصية؛ نظرًا لأن العديد من الأشخاص ينظرون إلى العلاقات السعيدة على أنها خالية من المشاكل، فإن الطلب من الشخص الآخر التصرف بشكلٍ مختلف قد يبدو وكأنه رفض. بعض الناس – بسبب الصدمة أو الجروح الأخرى – قد يفسّرون كلمة “لا” ممن يحبّونهم على أنها نهاية العلاقة. لكن من المفترض أن تساعد الحدود الشخصية في الحفاظ على العلاقات، لا في تدميرها. تقول المعالجة النفسية ومؤلفة كتاب: ” بلا دراما ” (Drama Free)، نيدرا جلوفر تواب: “يعتقد الناس عادةً أن الحدود الشخصية تهدف إلى السيطرة على الأشخاص الآخرين، بينما هي في الواقع إجراءات وقائيَّة لنفسك وللسَّلام والراحة في العلاقات”.
في الواقع، وجود حدود شخصية واضحة يمكن أن يكون علامة على وجود علاقة صحية بشكلٍ خاص. قال معظم المهاجرين السوفييتيين السابقين الذين أجريت معهم مقابلات إنّ علاقتهم بآبائهم تحسَّنت بعد فرض الحدود الشخصية، حتى لو لم يعجب الآباء بتلك الحدود كثيرًا.
عندما بَلَغت آنا ز. 25 عامًا، كانت لا تزال تعيش مع والديها. وفي أحد الأيام، تركت هاتفها في المنزل لتتدرَّب مع مدرب الباركور، ولم تتمكن والدتها لفترة وجيزة من الوصول إليها. بحثت والدتها في فاتورة هاتف آنا، ووجدت رقم المدرِّب، واتصلت به بنفسها. وعندما واجهتها آنا، برَّرت والدتها تصرفاتها بقول إنها لا تزال تدفع فاتورة هاتف آنا. قالت آنا إنها طلبت من والدتها عدة مرات أن تحترم خصوصيتها أكثر، لذا اتخذت إجراءً هذه المرة: وضعت الهاتف على الطاولة وغادرت المنزل لبضع ساعات، وصُدمت آنا باعتذار والدتها لها عند عودتها. يقول أليكس لي، المعالج النفسي في منطقة خليج سان فرانسيسكو: “إذا احترم الناس حدودك الشخصية، فربما يكون هؤلاء أشخاصًا جيدين لإبقائهم بجانبك”.
ولكن الأهم من ذلك أننا كثيرًا ما نُسيء فهم ما يعنيه أن تكون الشخص الذي يضع الحدود الشخصية. غالبًا ما يُنظر إلى الحدود على أنها قواعد لأشخاص آخرين، لكنها في الواقع قواعد لنا. إنها تعريفنا الخاص لما نشعر بالارتياح تجاهه، واختيارنا الخاص لما سنفعله إذا تجاهل شخص ما تلك الحدود. الحدود الشخصية تعني “أنك أنت المسؤول عمَّا يوجد في حياتك، وعن أفكارك، ومشاعرك، وأفعالك، وآرائك”، كما تقول دانا سكاغز، المعالجة النفسية في ولاية تينيسي، “وللآخرين أيضًا الحقّ في أفكارهم، ومشاعرهم، وآرائهم، وأفعالهم الخاصة”. لدى الآخرين حياتهم الخاصة بهم، ولا يمكنك تحديد مَجرَاها. قد يعني هذا أيضًا أنك لن تتدخَّل في معتقدات الآخرين ولن تحاول جعلهم يتصرفون بطريقةٍ معينة.
وهذا تمييز مهم، لأن الاختبار الحقيقي للحدود الشخصية هو كيفية استجابتك عندما يفعل الأشخاص الآخرين أشياءً لا تريدهم أن يفعلوها. تقول لورا فلاديميروفا، المعالجة النفسية الأوكرانية في بروكلين: “ليس هناك حدود شخصية دون عواقب داخلية. لنفترض أنكِ أختي، وأقول لكِ: “لا أريدك أن تأتي دون سابق إنذار بعد الآن”، ثمّ أعتقد – وهذا يعتبر اعتقادًا خاطئًا – بأنك سوف تستمعين إلى ما طلبته وستتوقفين عن المجيء دون سابق إنذار”.
لكن أختك – والأشخاص الآخرين – قد لا يوافقون على حدودك الشخصية. وفي تلك المرحلة، عليك أن تقرّر ما ستفعله. عندما تمرّ أختك دون سابق إنذار، هل ستسمح لها بالدخول؟ هل ستطلب منها العودة في وقتٍ لاحق؟ هل ستبعد نفسك عنها لبعض الوقت؟ بطريقةٍ ما، تعد رسائل جونا هيل مثالاً جيدًا على فرض الحدود الشخصية، فهو يقول إنه لن يستمر في العلاقة إذا لم تتم تلبية طلباته (الغريبة وغير المعقولة). قد يتساءل المرء لماذا قد يدخل في علاقةٍ مع راكبة أمواج شِبه محترفة إذا كان يغضب بسهولة بسبب صورها وهي ترتدي ملابس السباحة، ولكن الحدود الشخصية – مهما كانت غريبة – تبقى حدودًا.
وينطبق هذا المنطق نفسه على وضع الحدود الشخصية مع الأطفال. قد يعتقد الآباء أن الحدود هي قاعدة يجب على أطفالهم اتباعها – على سبيل المثال: “عليك أن ترتدي حذائك قبل الخروج من المنزل”. ولكن في الواقع، ما يهم هو ما سيفعله الوالد عندما يختبر الطفل تلك الحدود (من المحتمل أنهم في نهاية الأمر وضعوا الأحذية على أرجُل الأطفال بأنفسهم أثناء تعرّضهم للهجوم بركلات صغيرة).
الاعتقاد الشائع الخاطئ الأخير بشأن الحدود الشخصية هو أنه يجب طرد منتهك تلك الحدود تلقائيًا وبشكلٍ دائم من حياتك. قالت لي نيدرا: “في بعض الأحيان، مع الحدود الشخصية، نعتقد أننا نحتاج لتطبيق العواقب الأكثر مبالغة دائمًا”. ولكن إذا أنهينا علاقاتنا في كل مرة يتم فيها انتهاك حدودنا، “فلن تكون لدينا أيّ علاقات”. في المرة الأولى التي ينتهك فيها شخص ما حدودك الشخصية، قد تحتاج لتذكيره بحدودك فقط. في المرة القادمة، قد تقرّر الانقطاع عنهم لمدة أسبوع، على سبيل المثال. فقط في الحالات القصوى يجب عليك قطع جميع أنواع التواصل معهم.
في الواقع، لا يستطيع حتى المحترفون إجبار الجميع على الالتزام بحدودهم الشخصية. أخبرتني المعالجة النفسية لورا أنها لا تحبّ أن تسألها والدتها عن كيفية سير الأمور مع شريكها، وقالت: “بغضّ النظر عن عدد المرات التي أطلب فيها أن يظلّ ذلك أمرًا شخصيًا، فإنه بطريقةٍ ما يعود إلى المحادثة كل ستة أشهر أو نحو ذلك”.
وماذا تفعلين حيال ذلك؟ قالت: “إنها دورة مستمرة، حيث أنفجر ولا أتحدث مع أمي لفترة، ثمّ أجري معها محادثة لطيفة وسَطحية حول أشياء أخرى مرة أخرى”.
والدتك قَلِقَة عليكِ فحسب، هذا كلّ ما في الأمر.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة ذا أتلانتيك).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.