ترجمة: عبد الرحمن السيَّد – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
لطالما وقفتُ مذهولًا أمام التخصّصات التي درستُها؛ حيث جمع بينها عاملٌ مشتركٌ واحدٌ وهو ما أسمَيته: “قانون السُّلالات”.
ذلك القانون الذي يشير إلى اتّباع المتخصِّصين في أيّ حقلٍ من حقول المعرفة لنهج أسلافهم، فعلى سبيل المثال، كان أرسطو (Aristotle) تلميذًا لأفلاطون (Plato)، ومارتن هايدجر (Martin Heidegger) تلميذًا لإدموند هوسرل (Edmund Husserl)، ونعوم تشومسكي (Noam Chomsky) تلميذًا لزليج هاريس (Zellig Harris) عالِم اللغويّات الأكثر شهرةً وذكاءً بين أبناء جيله. وممّا لا شكّ فيه أن قانون السُّلالات هو نتيجة جزئية لعملية الاختيار الذاتي، فقد غدا التلامذة من الأجيال الصاعدة الأكثر ذكاءً قادرين على تمييز المعلِّمين وتحديد أفضلهم، وفي المقابل أصبح لدى المعلِّمين ذكاء كافٍ يجعلهم على درايةٍ بآلية اختيار التلامذة ذوي القدرات العقلية الأكبر. وهناك تفسير منطقيّ آخر لقانون السُّلالات وهو أنّ المعلم إذا كان من أبرز أبناء جيله، فلا شكّ أنّ أثره الإيجابي سيمتدّ إلى تلامذته من العلماء الناشئين في شتى المجالات.
وكلا التفسيرَيْنِ جزء من هذه القصة، لكنّ الأمر يبدو أكبر ممَّا هو عليه؛ فعندما يتبادر إلى ذهني اسم فرانز برينتانو (Franz Brentano)، الفيلسوف وعالِم النفس الألماني الذي امتدَّت مسيرته المهنية من سبعينيّات القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين، لا أجد في مُخيّلَتي أيّ شخص غيره استطاع أن يبسُط سُلالته الفكرية على نطاقٍ واسعٍ لتشمل مختلف العصور، والتخصّصات، لذا أرى أنه يُمثِّل حالة عملية فريدة لقانون السُّلالات.
ولا شكّ أنّ برينتانو كان له أثرٌ ملحوظٌ في مجال علم النفس والفلسفة. أمَّا الفلسفة فهي تنقسم اليوم بشكلٍ عامّ إلى الفلسفة التحليلية، والفلسفة القارية، وكلاهما يستمِدّ نظريّاته من برينتانو، الذي كان لأعماله وتعاليمه أثرٌ بالغٌ على تلامذته من علماء النفس المؤثِّرين، بمن فيهم كارل ستومبف (Carl Stumpf) -غالبًا لم تسمع عنه من قبل-، وسيغموند فرويد (Sigmund Freud) -بالتأكيد سمعت عنه-.
يقوم “قانون السُّلالات” على قاعدةٍ نفسية أخرى تتجاوز هذَيْنِ التفسيرَيْنِ المنطقيَّيْنِ المذكورَيْنِ أعلاه، حيث تشير هذه القاعدة النفسية إلى أنّ المعلم الذي يتمتع بشخصيةٍ مُلهِمة قادرة على غرس مفهوم التفاني بين تلاميذه إنما يمنحهم بذلك شهادة ضمنيّة تدفعهم إلى العمل على أن يكونوا علماء مبدعين قادرين على أن يعيدوا التفكير في القوانين التي كانوا يسلّمون بصحتها في السابق، وبالرغم من أنّ هذه الشهادة كان لها بريقٌ يجعل الجميع يَحلُمون بالحصول عليها إلا أنّ الأمر لم يكن بتلك السهولة التي يعتقدها البعض، لا سيّما إذا ظلّ المعلِّم متمسكًا بشخصيته المهيبة.
برينتانو، في فلورنسا، عام 1898.
وُلِد برينتانو عام 1838، ونشأ في مدينة أشافنبورغ الواقعة على بعد 25 ميلًا -تقريبًا- من جنوب شرق فرانكفورت، حيث ترعرع برينتانو في عائلةٍ مثقفة من الفنّانين والمفكرين، كان معظمهم من الروم الكاثوليك المتدينين. وكان شقيقه الأصغر، لوجو (Lujo)، أحد علماء الاقتصاد الأكثر نفوذًا بين أبناء جيله، وكانت تجمعه بعالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (Max Weber) علاقة مُضطربة.
في الثامنة عشرة من عُمره، انتقل فرانز برينتانو إلى مدينة “ميونيخ” لدراسة الفلسفة، وبعد مرور عامَيْنِ توجَّه إلى برلين ليتخصَّص في فلسفة أرسطو، وقد حفّزه على ذلك فريدريش ترندلينبرج (Friedrich Trendelenburg)، أحد أبرز الفلاسفة في ألمانيا. وفي عام 1862، قدَّم برينتانو أطروحته عن أرسطو في جامعة توبنغن، ثمّ اتّجه بعد ذلك إلى دراسة اللّاهوت حيث اتّجه إلى المدرسة الإكليريكية في ميونيخ، ثمّ في فورتسبورغ، حيث عُيَّن كاهنًا كاثوليكيًّا في الـ 6 من أغسطس عام 1864، وهو في السادسة والعشرين من عُمره.
بدأ برينتانو مسيرته المِهنية كأحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة فورتسبورغ، عام 1866. وهناك انجذب إليه التلامذة والتفّوا حوله. وكان النظام الأكاديمي في جامعات ألمانيا يقضي بأنّ يحصل عضو هيئة التدريس على أجرِه من الرسوم الدراسية التي يسددها التلامذة المسجِّلون في المواد الدراسية التي يقوم العضوّ بتدريسها، فإن لم يُسجِّل معه أيّ طالب، فلن يحصل على أيّ أجر أو راتبٍ ليقتات به. لكنه حظيَ بمجموعةٍ من التلامذة الذين أصبحوا فيما بعد علماء مشهورين نجحوا في أن يشقّوا طريقهم بأنفسهم. وقد واصل اثنان من تلامذته المتفوقين العمل معه، وهما: كارل ستومبف (Carl Stumpf)، الذي كان يَصغُر برينتانو بعشر سنوات، حيث أصبح فيما بعد أحد روّاد علم النفس الألمان، وأنطون مارتي (Anton Marty)، الذي أصبح أستاذًا بجامعة تشارلز فرديناند في براغ، وأحد أساطين الفلسفة اللغويّة.
عام 1869، وخلال انعقاد مجلس الفاتيكان الأوّل، كُلِّف برينتانو بكتابة بيان عن العصمة البابويَّة. وبعد فترة من دراسة ما يشوب العصمة الأبويَّة من مآخذ، توصَّل برينتانو إلى استنتاجات أشعلت في داخله الرغبة في التخلّي عن منصبه الكهنوتي. وفي الصيف التالي، أعلنت الكنيسة الرومانية مبدأ العصمة البابويّة الذي يُقدِّس كل ما ذكره البابا خلال حديثه للكاتدرائية السابقة. وكان برينتانو غريمًا قويًّا لهذه الدوغماتية، حيث تخلّى في نهاية المطاف عن كهنوته ومنصبه عام 1873، برغم ترقيته إلى درجة أستاذ في العام السابق. وبعد مرور فترة وجيزة، عُرض عليه منصب رئيس قسم الفلسفة في جامعة فيينا، وهو منصب كبير بالنسبة إلى شابٍّ حديث السِّن مثله.
وقد اضطرّ برينتانو إلى التخلّي عن كهنوته ورتبته التعليمية ليتزوج، عام 1880. ولذا قرَّر الانتقال إلى فيينا عام 1874، وبعد سنوات وجد عددًا من التلامذة يغمرهم الحماس للتعلّم على يديه، بمَن فيهم فرويد، وتوماش ماساريك (Tomáš Masaryk) -الذي تولّى منصب الرئيس الأول لتشيكوسلوفاكيا فيما بعد-، كما كان من بينهم فلاسفة المستقبل إدموند هوسرل (Edmund Husserl)، وأليكسيوس مينونج (Alexius Meinong)، وكريستيان فون إيرينفيلس (Christian von Ehrenfels).
بعد أن تخلَّى برينتانو عن كهنوته عام 1880، تقدَّم للزواج من إيدا فون ليبن (Ida von Lieben)، وهي امرأة من عائلةٍ معروفة التقى بها في فيينا، لكن علاقتهما كانت مخالفة للقانون النمساوي الذي كان يمنع الكاهن السابق من الزواج (بل يُنقل إلى العيش في الصحاري إذا غادر الكنيسة وفقًا لما تنصّ عليه الإمبراطورية النمساوية المجريَّة)؛ لذا قرَّر برينتانو التخلّي عن جنسيته النمساوية ليصبح من مواطنيّ ساكسونيا، آملًا أن يساعده هذا التحوُّل السياسي في حلّ مشكلته، لكن دون جدوى. وفي تلك الأثناء، حاولت جامعة فيينا مرارًا وتكرارًا تعيينه مرّة أخرى محاضِرًا بها، لكن الحكومة النمساوية حالت دون ذلك، فاضطر إلى العمل في الجامعة على وظيفة أكاديميّ له الحقّ فقط في أن يتقاضى راتبه من الرسوم التي يتمّ تحصيلها من التلامذة المسجِّلين في مادته العلمية، وباءت كل جهوده في إلغاء قرار الحكومة النمساوية بالفشل. ونظرًا إلى عدم ثبات دخله من هذا العمل، ظلّ برينتانو يعاني من سوء وضعه المادي؛ ومما زاد الأمر سوءًا أنه لم يُسمَح له بالإشراف على التلامذة المتميزين المسجِّلين للحصول على درجة الدكتوراة، إذ أُجبر على توجيه تلامذته إلى الحصول على درجاتهم العِلميّة تحت إشراف الأساتذة المتفرغين.
تزوج برينتانو من فون ليبين ليجد نفسه يعيش في وسطٍ اجتماعي نادرٍ في فيينا، عُرف أعضاؤه بدعمهم للفنون، ونشاطهم السياسي، وآرائهم الليبرالية. وقد فارقت زوجته الحياة -بشكلٍ مفاجئ- عام 1894، وكان حينها في السادسة والخمسين من عمره ليقرِّر بعدها مغادرة فيينا في العام التالي. وخلال العشرين عامًا التالية، استقرّ برينتانو في فلورنسا، حيث دأب تلامذته السابقون على زيارته من حينٍ لآخر. وفي هذه الفترة، بدأت حالته الصحية تسوء حيث كان مصابًا بمرض انحلال العين التنكسي الذي تسبب في فقدانه نعمة الإبصار تمامًا، ما جعله يعتمد على الآخرين في القراءة أو الكتابة. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وأعلنت إيطاليا الحرب ضد ألمانيا والنمسا، انتقل برينتانو إلى سويسرا (الطرف المحايد) وظلّ فيها إلى أن وافته المنيّة، في زيورخ عام 1917، عن عُمرٍ ناهز 74 عامًا.
قد نجد في سيرة برينتانو ما يصيبنا بالحيرة في بعض الأحيان، فلم نفهم كيف يتسبَّب قراره بالزواج بعد تخلّيه عن كهنوته في تنحيه عن منصبه كأستاذٍ متفرغٍ في فيينا ليتولّى منصبًا أدنى، وهو ما يُعرف اليوم بدرجة أستاذٍ مساعد. لكننا، وفي أحيانٍ أخرى، نشعر أننا نحيط بكل جوانبه بوضوح، ليس لشيء سوى لمكانته بين تلامذته الذين وصفوه بأنه شخصية كانت تتمتع بكاريزما مُبهرة وسِماتٍ خاصةٍ جعلت منه معلمًا قادرًا على جذب أفضل التلامذة إليه وكسب ولائهم وتفانيهم وإخلاصهم له.
كانت محاضرات برينتانو الذي كان ينتمي إلى أحد أهمّ التيّارات الفلسفية الألمانية والنمساوية تدور حول قناعته بأن ممارسات علم النفس التجريبي الجديدة كانت بمثابة تغيير لقواعد الفلسفة. ولم يكن هذا رأيه وحده بل أيَّده في ذلك فيلهلم فونت (Wilhelm Wundt)، وهو الأبّ الروحي لعلم النفس التجريبي، حيث يرى برينتانو أنّ علم النفس يشتمل على فرعَيْنِ هُما: علم النفس الوصفي، وعلم النفس الوراثي (أو التجريبي).
ولسوء الحظ، لم نجد في هذَيْنِ النوعَيْنِ ما قد يساعدنا كثيرًا في تحديد أوجه الاختلاف بينهما. لكن يمكننا القول بأنّ علم النفس الوصفي يُعَدّ في جوهره وصفًا لما يدركه العقل بشكلٍ مباشر، وقد أشار إليه برينتانو بالفينومينولوجيا؛ لأنّ الظواهر من وِجهة نَظره هي ما يستطيع العقل تصوّره بشكلٍ مباشر. وتكمُن وظيفة عالِم النفس الوصفي في فهم السِّمات المنطقية لإدراكات العقل. أمَّا علم النفس الوراثي فيشمل كلّ الجوانب النفسية الأخرى بخلاف ذلك، ويتوافق إلى حدٍّ كبيرٍ مع ما يَدرُسه علماء النفس اليوم من حيث إمكانية تطبيقه على دراسة علم التشريح، وعلم وظائف أعضاء الدماغ والحواسّ في جسم الإنسان، وهي دراسات لا يمُتُّ إليها علم النفس الوصفي بأيّ صِلة على الإطلاق.
وفي عام 1929، أقرَّ المفكرون المؤيدون للمنطق التجريبي في بيانهم الذي أصدروه في فيينا بضرورة اتّباع نظريّات برينتانو باعتباره أحد أهمّ الفلاسفة في تلك الفترة.
ونَعرِض هنا لشيء من أصول الفلسفة القاريَّة -التي تقوم على دراسة السلوك والطباع البشرية ودراسة الكثير من المظاهر النفسية والعقلية-، وهو ما يُعرف بـ “علم النفس الوصفي”، والتي سبقت أيّ قياسات فيزيائية (وليست في حاجة إلى أيّ دراسات مادية). وقد ركّز هوسرل (Husserl)، أحد تلامذة برينتانو، عمله على تطوير هذا المفهوم، وأطلق عليه مصطلح الفينومينولوجيا. ولا يخفى علينا أنّ برينتانو كان قد عكف على الصلاة والتأمُّل وجعلهما جزءًا من أنشطته اليومية، وكتب عن ذلك بشغَف لتلميذه ستومبف. كما نجد في أعماله حول التأمُّل الداخلي ما يفيد بأن بعض الجهود الذهنية التي يبذُلها المرء عند التأمُّل تكون صعبة للغاية، ويُعد ذلك الأمر بمثابة اعتراف يؤكد أنّ استنتاجاته كانت تستند إلى أسلوبٍ منهجي في التأمُّل الذاتي، وهو نهجٌ ليس نتاجًا للفترة التي عملها في مختبرات علم النفس بل هو نتاجٌ لوعيه الداخلي الدقيق.
كانت أعمال برينتانو مصدر إلهام للفلسفة التحليلية؛ فالمفكرون المؤيدون لمدرسة فيينا الوضعية، والذين شكَّلوا النواة الأساسية للفلسفة التحليلية في عشرينيّات القرن الماضي، أكدوا أيضًا أن نظريّاتهم تستند إلى عمل برينتانو، الذي دعم التعلّم بالملاحظة بدلًا من فلسفة إيمانويل كانط(Immanuel Kant)، أو هيجل (Hegel). كما نسب المفكرون المؤيدون للمنطق التجريبي في فيينا أعمالهم إلى برنتانو كأحد أسلافهم الفلاسفة في بيانهم الصادر عام 1929.
وشهد تلامذة برينتانو برجاحة عقله وأثره في تطوّرهم. وبرغم ذلك، لم ينشر برينتانو الكثير من أعماله في حياته؛ ما أدَّى بدوره إلى تضاؤل الوعي بأهميته لا سيَّما بعد وفاة تلامذته بنهاية فترة الثلاثينيّات من القرن العشرين، برغم الدراسات العديدة التي تُجرى على أعماله إلى يومنا هذا.
وكان الأمر الذي أثار فضولي ودفعني إلى دراسة أعمال برينتانو ما قرأته لبعض تلامذته عنه بعد وفاته مباشرة. وبرغم أنني قد حظيت بمعرفة بعض المعلِّمين الملهمين (سأشير إلى أحدهم فيما بعد)، إلا أنني لم أشهد مطلقًا مثل هذا الوصف الدقيق الذي صوَّر لنا جهود برينتانو المتواصلة للحفاظ على توازنه الفكري والنفسي وسط ذلك الزخم الفكري الذي كان يسود تلك الفترة.
وقد وصفه ألويس هوفلر (Alois Höfler)، بقوله:
“كان برينتانو مُحاطًا ببيئةٍ رومانسية زادت من سِحره وسطوته كسليل شعراء ومفكرين. كان لخُصلاته السوداء المنسدلة، ولحيته السوداء السميكة التي يتخَلَّلها خصلات فضيّة، ووجهه الشاحب تأثيرٌ غامضٌ وسِمةٌ غريبةٌ لوجه لا يحظى به إلا فيلسوفٌ أو شاعرٌ أو فنانٌ. كان يمتلك عينَيْنِ سوداوَيْنِ داكنَتيْنِ، قادرتَيْنِ على الإقناع دائمًا، لكنهما تنطقان بوضوح عمَّا يعتريه من وهنٍ وآلام”.
فيما وصفه ستومبف تلميذه الأوّل، بقوله:
“لم ألتقِ بعالِمٍ قط، طوال مسيرتي الدراسية طالبًا وأستاذًا جامعيًّا، كان قد كرَّس نفسه وكل حواسِّه لرسالته كمعلمٍ… فكانت علاقته الطيبة بتلامذته، والتي كان قوامها التفاني المطلَق لهدفه الأسمَى، نابعةً من رغبةٍ لم تفارقه طوال حياته”.
لقد كان لستومبف تأثيرٌ كبيرٌ على علم النفس الذي كان ما يزال في طور نشأته الأولى عندما اشتغل به. وبعد حصوله على درجة الأستاذيَّة في فورتسبورغ، وبراغ، وهالي، عُيّن بروفيسيرًا في برلين، حيث أنشأ هناك معهدًا أصبح فيما بعد مركزًا لعلم النفس الغشتالتي بعد الحرب العالمية الأولى. وقد كتب ستومبف أطروحة بعنوان: “لمحة على منظور برينتانو حول الخلاف الذي اعتقد أنّه لا أساس له من الصحة”.
بعد وفاة برينتانو، قرَّر ستومبف -وكان قد بلغ من العمر 70 عامًا- أنّ يكتب عن برينتانو في مذكراته، فكتب ما يلي: “تعجز الكلمات عن التعبير عمَّا أدين به من تقديرٍ وامتنانٍ لمعلِّمي الرائع. فقد كانت تربطه بتلامذته علاقة وطيدة حرص على الحفاظ عليها، وكان لها دورٌ كبيرٌ في حياته الشخصية أكثر ممّا يفعل العديد من المفكرين الآخرين”.
وصف ستومبف التغيير الذي عايشه بفضل صحبته لبرينتانو، وذلك عندما عزف عن دراسة القانون في الجامعة بعد بضعة أسابيع قائلًا: “قبل عيد الميلاد، لجأت كما أفعل عادةً إلى معلِّمي لأحيطه علمًا بأنني أعتزم العمل في مجال الفلسفة واللاهوت طوال حياتي. حتى أنني لم أخفِ عنه رغبتي في اتباع نهجه الكهنوتي، لكنه لفت نظري إلى أشياء لم أُلقِ لها بالًا”.
منذ ذلك اليوم، اعتاد برينتانو قضاء العديد من الساعات مع ستومبف، لكن مع ترقّي ستومبف في المناصب المهنية وبعد أن فرّقتهما أماكن الإقامة، بات منظورهما الفكري مختلفًا إلى حدٍّ ما. وحمل ستومبف على عاتقه مسؤولية كونه التلميذ الأوّل لبرينتانو. وقد علَّق ستومبف على أطروحته التي كانت بعنوان: “لمحة عن منظور برينتانو حول الخلاف الذي اعتقد أنه لا أساس له من الصحة”، قائلًا: “إذا حدث ولاحظ برينتانو في كتابات تلامذته أفكارًا تختلف إلى حدٍّ كبيرٍ عن أفكاره، دون أن يجد لها ما يبررها، فإنه كان ينظر إليها في بداية الأمر على أنّها عبارات عشوائية ليس لها ما يبررها، برغم دراسة أصحابها لها بشكلٍ دقيقٍ لعدة سنواتٍ وتطورها بصورةٍ تدريجية لدرجة أنّ المرء قد لا يدرك مراحل تطورها الدقيقة. وفي مواجهة ذلك، لم يجد برينتانو بُدًّا من التعبير عن شعوره بالامتعاض من حينٍ لآخر”.
لا يزال هناك نمطٌ يتكرر مرارًا وتكرارًا بين المعلِّمين الملهمين الذين أخرجوا لنا شخصيّاتٍ بارزةٍ في الأجيال التالية، وهو عدم تقبّلهم لفكرة أن ينحرِف عن مسَارهم أيٌّ من تلامذتهم.
لم يكن هناك توافُق بين ما ذهب إليه فرويد خلال مسيرته المهنية من تصنيفاتٍ لعلم النفس مع ما تبنَّاه برينتانو، برغم أنّ فرويد حضر معه خمس دورات دراسية في مجال علم الفلسفة خلال سنوات الدراسة، كانت هذه الدورات هي الوحيدة التي حصل عليها فرويد خارج نطاق دراسته للطب. وقد كتب إلى صديقه إدوارد سيلبرشتاين (Eduard Silberstein) قائلًا: “أعلم يقينًا أنك ستندهش فور علمك بحضوري دورةً موضوعها وجود الله يحاضرها البروفيسور برينتانو المُلهم. فبرغم أنه عالِمٌ وفيلسوفٌ، إلا أنّه يؤمِن بضرورة الدفاع عن الوجود الإلهيّ الخالد… ذاك الرجل المحيِّر، والمثالي، والمؤمن بالله، والعالِم الغائيّ، والمؤيِّد لنظرية داروين، والزميل الذكيّ، عبقريٌّ بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لا أخفيك سِرًّا: لقد أسَرَني بحكمته لدرجة أنني قرّرت أن أحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة وعلم الحيوان”.
بعد مرور عدة سنوات، وفي عام 1932، تذكَّر فرويد عملًا كان قد ترجمه من اللغة الإنجليزية أثناء فترة دراسته أشار فيه إلى أنّ برينتانو كان قد أطلَق عليه لقب “المترجِم”، وأردف قائلًا: “وكنت وقتها تلميذًا عنده أو ربما في وقتٍ سابق لذلك”.
كان كريستيان فون إهرنفيلز (Christian von Ehrenfels)، نمساويًّا أرستقراطيًّا درس مع برينتانو في فيينا، ثمّ مع تلميذه السابق أليكسيوس مينونج (Alexius Meinong). وبعد عام 1896، عمل إرينفيلز أستاذًا للفلسفة في جامعة تشارلز، وهي جامعة ألمانية في براغ. وخلال السنوات الأخيرة من حياته، قارن إرينفيلز بنظرته الثاقبة بين برينتانو ومينونج قائلًا: “اسمحوا لي أن أقرّ وبلا تردد أنّ برينتانو كان الأجدر من ناحية القدرة الإنتاجية، أمَّا حدة الذكاء كانت متماثلة بينهما. لكن من وِجهة نظري، كان برينتانو العالِم الذي حظيَ بعديد من الهِبات. فقد كانت غريزته تقوده إلى ممارسة أساليب تفكير واضحة وضرورية ومقبولة حيثما كان ذلك مناسبًا، في حين أنّ تفكير مينونج كان ينجذب بشكلٍ مباشر إلى كل ما هو معقّد ودقيق وشاقّ. وخرجت من ذلك بانطباع آخر أنّ برينتانو كان أكثر تفوقًا في تناول مبدأ اقتصاد الجهد، إلى جانب تفوقه المنهجي الواضح في أسلوب عرضه الشفهي والكتابي. ولا ريب في أنّ كل ما نحتاجه هو الإيجاز والوضوح وليس الإطناب غير الضروري… وهنا لا بد أنّ أؤكد على إعجابي بتلك السِمة الأساسية التي وصفها مينونج أفضل وصف بـ”الضمير العلمي أو الأخلاق العلمية”. ومع ذلك، لم تكن ظروف برينتانو ملائمة كما كان ينبغي له؛ لأنّه كان منذ البداية الأكثر ثقافةً وفكرًا من وِجهة نظري، بل والأكثر تميزًا إلى حدٍّ بعيدٍ (إذ يقول عن نفسه: في تلك الأيّام، قدمتُ من موطني في والدفيرتل ومن بلدة كريمس آن دير دوناو الصغيرة إلى فيينا، وما زلت أحدِّد ملامح التميز التي أسير عليها). وقدَّم برينتانو دروسًا تعليمية كانت تستمر لعدة ساعات، وسرعان ما وصلت إليه شخصيًّا بفضل توصية أحدهم، ووجدته محاوِرًا ساحرًا وشخصية مُلهِمة في كلامه وهيئته”.
كان أشهر أعمال إهرنفيلز “خصائص النظرة الكليَّة” (Über Gestaltqualitäten) (1890)، الذي تناول فيه الهدف الأساسي الذي وضعه برينتانو للعلاقة المنطقية بين الجزء والكلّ، بالإضافة إلى عرض فكرة الشكل أو النظرة الكليّة. وقد تناول هذه الفكرة العالِم والفيلسوف الكبير إرنست ماخ (Ernst Mach)؛ لما لها من أهمية بالغة، وأبرز مثالٍ على مفهوم النظرة الكليّة هو اللحن الذي يتألّف من نغماتٍ موسيقية ليكون في النهاية نتاجًا لها مجتمعةً بنظامٍ وإيقاعٍ واحدٍ ليظهر في صورته النهائية. ثمّ عاد إهرنفيلز إلى تناول نفس الأمر، مشيرًا إلى إرنست ماخ الذي تمحور بحثه حول دراسة مفهوم النظرة الكليّة، والذي أصبح في النهاية أحد أكثر الأبحاث تأثيرًا في تاريخ علم النفس. والآن، فإننا غالبًا ما نعتقد بأن الكلّ ليس مجموع أجزائه، لكن مهمتنا أن نحدِّد الفرق بين الكلّ ومجموع أجزائه. وكانت استعانة إهرنفيلز باللحن الموسيقي بمثابة مثال لتمييز الكلّ الأكبر المكوّن من مجموع أجزائه (وقد ينطبق ذلك على بنية الكلمة أو الجملة). فمن السهل التعرُّف على اللحن رغم رفع نغمته أو خفضها باستخدام الفواصل الموسيقية. فكيف سنتعرَّف على اللحن إذا تغيَّرت نغماته الجزئية؟ وهو شيء علائقيّ يربط الأجزاء ببعضها.
“لم أشعر بالإهانة على الإطلاق كتلميذ، إذ كان برينتانو لديه رغبة في العطاء، لا في الكسب فحسب”.
افتتح إهرنفيلز مقالته بالاعتراف بأن كتاب “تحليل الشعور” (1886) -وهو أحد الكتب الشيّقة التي ألَّفها ماخ- كان بمثابة مصدر الإلهام ونقطة الانطلاق بالنسبة إليه؛ إذ كتب إلى أحد أصدقائه يقول: “لقد أرسلت كتابي “خصائص النظرة الكليَّة” إلى ماخ، الذي جاء رده مهذبًا وودودًا حيث أوضح أنّه قد أشار إلى الأفكار الرئيسة التي وردت في هذا الكتاب من منظورٍ نفسيّ في عام 1865″. ذلك بلا شك يؤكّد فكرة التواصل الفكري بيننا، ولذا وبكل أسفٍ رفض ماخ الاطلاع على الكتاب أو التعديل فيه ولو بجرّة قلم.
كان إهرنفيلز المعلِّم الأوّل لماكس فيرتهايمر (Max Wertheimer)، وقد استكمل متطلَّبات الحصول على الدراسات العُليا في برلين تحت إشراف ستومبف، حتى كان له ذلك في فورتسبورغ تحت إشراف أوزوالد كولبي (Oswald Külpe). وفي وقتٍ لاحقٍ، استطاع فيرتهايمر أن يطوِّر سيكولوجيا الجشتالت التي كانت أكثر فعالية من مدارس علم النفس السابقة في توضيح المبادئ المؤثرة التي تنظم العالَم الواقعي بشكلٍ ديناميكيٍّ. ذلك فضلًا عن أنّ إهرنفيلز تمكَّن من التأكيد على وجود فجوة منطقية بين إدراك الجزء وإدراك الكلّ، حيث إن إدراك الكلّ له أهمية موضوعية أكبر من إدراك الجزء.
وبعد انقضاء تلك السنوات التي تتلمذ فيها إهرنفيلز على يد برينتانو، كتب إهرنفيلز لمعلِّمه رسالة أشار في بعض أجزائها إليه بصيغة الغائب. وقد اقتبستُ المقالة التالية ممَّا كتبه خلال سنوات دراسته:
“أكتب هذه الرسالة انطلاقًا من العلاقة التي تجمع بيننا، لأؤكد على النقاط التالية: إنّ برينتانو عالِمٌ يتمتع بفكرٍ ثريٍّ، وكما هو حال الكثير من أصحاب العقول المستنيرة، فإنه يعاني من متلازمة معروفة هي التصرفات أحادية الجانب والتحيُّز الذي يمثل جزءًا بارزًا من شخصيته المتطورة. فإن محاولة إقناعه بنتيجةٍ ما في أيٍّ من مجالات العلوم أو الثقافة العامة التي لا يتقبّلها بطبيعته، لن تسفر عن شيء سوى إهدار الجهد وإثارة العواطف؛ لأنّ من أختلف معه في هذه الحالة هو أستاذي المبجَّل الذي أُكنّ له كل التقدير وأدين له بالولاء. لذا، فمن ذلك الحين فصاعدًا، أصبحت أكثر إصرارًا على تبنّي سلوك التلميذ تجاه معلّمه عند التعامل مع برينتانو (وهذا الأسلوب مألوف بالنسبة إليّ على كل حالٍ)، وأن أقبل كل التوجيهات السديدة والقيمة التي سيقدمها لي بكل امتنان. وعند مناقشته في أمرٍ ما، فإنني أعتزم التوقف عن إظهار ردود فعل فكرية أو عاطفية قد لا يتقبّلها، كما لن أتأثر باستخفافه بأيّ شيء أقدّره، أو بتقليله من شأن ما قد أراه أنا عظيمًا وجديرًا بالثناء، فلو كان شخصًا عاديًّا، لكان هذا السلوك غير مقبولٍ بالنسبة إليّ ويتعارض مع احترامي لذاتي. لكن نظرًا لمكانة برينتانو عندي، فإني لا أشعر بالإهانة على الإطلاق كتلميذ، لأنه يرغب دومًا في العطاء، لا في الأخذ. وبالنسبة إليه، فإنّ تصميم أُسس الفكر وترسيخها ضروريّ للاستمتاع بالحياة. وحتى إذا حاول شخص ما الرد عليه بأسلوبٍ مماثلٍ، فلا شك أنه قادر على أن يجبره على التزام الصمت على الفور وذلك بمنطقه الجدليّ المتميز بل سيسخر منه سِرًّا (أو علنًا)”.
وكحال تلامذة برينتانو الآخرين، يعتقد إهرنفيلز أنّ شغفه الفكري بمعلّمه كان سببًا في حصوله على منحٍ بحثية متميزة لدراسة وسائل جديدة لفهم العقل. فقد كان عمل الطلاب بشكلٍ مستقلّ دون الحصول على منحٍ دراسية أمرٌ مكلفٌ للغاية لكنه يستحقّ.
هوسرل (Husserl) هو الفيلسوف الأشهر في عصرنا هذا من بين تلامذة برينتانو. ولذا نوصي كل من يرغب في دراسة الظواهر، بمن فيهم تلامذة الفلسفة القارية، أن يبدأ بقراءة أعماله. وكما هو الحال مع ستومبف، لم يَخطُر ببال هوسرل أنه سيُصبِح فيلسوفًا متخصّصًا في هذا المجال، بل كان يُخطِّط ليكون عالِم رياضيّات، وبالفعل حصل على درجة الدكتوراة في الرياضيّات تحت إشراف ليوبولد كرونيكر (Leopold Kronecker)، وكارل وييرستراس (Karl Weierstrass)، وكانا عالِـمَيْنِ بارزَيْنِ في ذلك التخصّص حينها. لكن المحاضرات التي ألقاها برينتانو أسَرت عقله وجعلته يتحوّل عمَّا كان يُخطِّط لدراسته. ولكي يحصل على درجة أستاذ أكاديمي، كان عليه أن يتقدَّم بأطروحةٍ علمية ولذا عمل تحت إشراف أحد الأساتذة (لكن برينتانو لم يكن قد حصل على درجة الأستاذية حينها)، لذا انتقل للدراسة مع ستومبف وقدَّم أطروحته حول فلسفة الرياضيّات عام 1887.
ووفقًا لاعتبارات عصرنا الحالي، فإنّ هوسرل يُعَدّ الفيلسوف الأكثر شُهرة من برينتانو، إذ يتذكّره الجميع بأنه الفيلسوف الذي ابتكر “مفهوم الفينومينولوجيا”، أيّ دراسة الظواهر الخارجية والتجارب المباشرة، رغم أنّ نشأة هذا المفهوم تعود في الواقع إلى علم النفس الوصفي الذي أسَّسه برينتانو. لكننا إذا أمعنّا النظر في فكر هوسرل حول برينتانو بعد وفاته، سيتردَّد على آذاننا الصراع الوِجداني الذي واجه تلامذته عندما حاولوا تغيير مسَاره. لقد تحدث هوسرل ونقل لنا رأيه في برينتانو عندما استمع إلى محاضراته، قائلًا:
“كانت كل سِمةٍ وكل نظرة من عينيه تتَّسِم بالعمق والتأمل والإصرار، بل كانت كل أساليبه تعبِّر عن وعيه بمهمته العظيمة”.
هل هناك ثَمَّة وصف أفضل للشخصية المُلهمة من ذاك الوصف؟ أيضًا وصف هوسرل أسلوب برينتانو كالتالي:
“كان أسلوبه الخطابي بمثابة رسائل علمية محايدة، لكنها برغم ذلك كانت تتمتع بأسلوبٍ فني رفيع اعتمد عليه برينتانو في تعبيره عن نفسه بطريقةٍ مناسبة وطبيعية”.
ترك برينتانو انطباعًا ظلّ حيًّا في نفوسنا، إذ “كان يقف أمام تلامذته الصِغار كعرّاف مُطلِّع على الحقائق الأبدية وكرسولٍ قادمٍ من عالَمٍ آخر”.
حتى بعد وفاته، وصف هوسرل قدرته على جذب انتباه مَن حوله، قائلًا:
“برغم كل تحيُّزاتي، لم يسعني مقاومة شخصيته المُلهمة لفترة طويلة. وسرعان ما فتنتني وغلبتني بوضوح تفسيراته وبراعة جداله”.
ولاحظ هوسرل أنّ برينتانو كان لديه اقتناع راسخ بصدق فلسفته، حيث قال:
“في الواقع، كانت لديه ثقة مطلَقة، ويقينًا ثابتًا بأنّه على حقّ وأنه في الاتجاه الصحيح، وكان يؤسِّس لفلسفة علمية بحتة لن تهتز أبدًا، وكان يعتقد أن تأسيس هذه الفلسفة بمثابة دعوةٍ ملقاةٍ على عاتقه. وما من شك أنّ قناعته التامة بمهمته كانت هي الحقيقة المطلَقة التي حمَلها طوال مسيرته، ومن دون معرفة هذه المسألة، لن يتسنَّى لنا فهم شخصيته ولا الحكم عليها بشكلٍ صحيح. ومع ذلك، كان برينتانو “شديد التحفظ تجاه أيّ انحراف عن قناعاته الراسخة”، فسرعان ما كان يغلبه حماسه عندما كانت تُوجَّه له أيّ انتقادات بشأن قناعاته تلك، إلى جانب التزامه الشديد بالصيغ المحددة والبراهين المنطقية، وصموده في وجه الانتقادات حتى يتغلّب عليها بفضل براعته وأسلوبه المتقَن، لكن الأمر لم ينته هنا، بل كان يترك لدى معارضيه شعورًا بعدم الرضا عندما يبني فرضيته أمامهم على بدهيّاتٍ أصلية متعارضة”.
وأضاف هوسرل: “ولن تجد أحدًا يأخذ الأمور على محمَل الجدّ عندما يجد من يعارض قناعاته الراسخة كما كان يفعل برينتانو”.
وبناءً على ذلك، فإنّ الروابط الوثيقة التي يبنيها الطالب على الصعيدَيْنِ الشخصي والفكري في بداية مسيرته المهنية تتطور لتتحوّل إلى قوًى قد تؤدي بمقاطعة من يخالفه الرأيّ. وقد أوضح هوسرل مرّةً أخرى كيف أنّ علاقته تأثَّرت بمعلّمه حيث قال:
“في البداية، كنت تلميذه الأكثر حماسًا، ولم أتوانَ مطلقًا عن تقديره كمعلّم. ومع ذلك، لم يكن يجدر بي أن استمرّ كعضو في مدرسته”.
أدرك هوسرل أنّه سيمضي في هذا الطريق ليصبح فيما بعد مفكرًا مستقلًّا، وفي هذا الصدد يقول:
“ومع ذلك، أدركت حجم غضبه عندما شقَّ كلٌ منّا طريقه الخاص، رغم اعتمادنا على أفكاره”.
ومما لا شك فيه أنّ هوسرل كان يعلم جيدًا أنّ ذلك كان أسوأ سياق يتوقعه برينتانو، الذي لا شك أنه سيرى ذلك خروجًا عليه؛ إذ كيف للتلميذ أن يختلف مع أستاذه؟ فلم يكن برينتانو منصِفًا في تعامله مع هذه الحالات، لكن هذا ما حدث معي وكان لا شك محبِطًا.
بعد أن قرأت ما كتبه هوسرل عن علاقته بمعلِّمه، كنت أودّ أن أحثّه في هدوءٍ على التأني في حُكمه على برينتانو وطريقة تفكيره، وذلك لأنّ هوسرل في نهاية الأمر سيصبح هو الأكثر شهرة بعد قرنٍ من الزمان، لكنه لم يكن يعلم ذلك على أية حال. فلم يكن هوسرل على درايةٍ بما سيحدث مستقبلًا، ولم يكن متأكدًا مما إذا كان التيّار سيَجرُفه بعيدًا. لكنه كان على يقينٍ من أنه لن يستطيع تقديم حجةٍ يدعم بها وِجهة نظره إلا إذا كان برينتانو مقتنعًا بها، فكان بين خيارَيْنِ إما أن يستسلم لانتقادات معلّمه أو أن يشقّ طريقه بمفرده حتى وإن كان على يقين بأن لديه حُججًا أفضل ممَّا عنده. وعلى ما يبدو أنّه كان يتحدث عن نفسه، عندما قال:
“إنّ الشخص الذي تُحفِّزه وتسيطر عليه دوافع فكرية غير واضحة، أو الذي يسعى للتعبير عن البدهيّات التي ما تزال غامضةً من الناحية النظرية ولا تتوافَق مع النظريّات الأخرى، لا يُحبِّذ الإفصاح عن أفكاره لشخصٍ مقتنع بصحة نظريّاته ولا لعالِمٍ صاحب حُجةٍ قويّةٍ مثل برينتانو بكل تأكيد”.
خلاصة ذلك أنّ هوسرل كان قد حاول منذ البداية مناقشة برينتانو لكنه لم يتمكّن من ذلك؛ لأنّ أفكاره كانت بمثابة هرطقة، ولم يكن قادرًا على تلبية معايير معلِّمه لإقناعه بشكلٍ منطقي. وأضاف هوسرل: “إنّ عجز المرء عن توضيح أفكاره أمرٌ مؤلمٌ بحقّ”. لكنه لم يستطع إقناع برينتانو بالخطأ الذي كان يعتري تعاليمَه أو ببدائله المنطقية، وقد كتب في ذلك يقول: “إنّه لمن المؤسف أن يعجز المرء عن دحض وتفنيد أفكار الآخرين أو توضيح أفكاره بشكلٍ كافٍ”. بالفعل، إنها لمعضلة أن يُصاب أحدنا بالصمَم في حضور معلِّمه”.
كنت في تطوري شبيهًا بذلك، ولعلَّ هذا الأمر كان السبب وراء قطيعتي لمعلِّمي، وإن لم تكن هذه القطيعة على الصعيد الشخصي. وكان لهذا أثره في تعقُّد تواصلنا الفكري بشكلٍ كبير فيما بعد. وأُقرُّ وبكل صراحة أنّ الخطأ لا يعود إليه من البداية، فقد بذل كل امرئ ما بوسعه لإعادة العلاقات العِلمية بيننا. ولا بد أنه تفهّم أن تقديري له لم يتضاءل على مدار هذه العقود، بل ارتفع وازداد.
ومرَّت سنوات عديدة بعد أن سلك كلٌّ منهما طريقه. وقبل وفاة برينتانو، عاده هوسرل أثناء إقامته بفلورنسا. وكان قد أُصيب بالعمى تقريبًا في ذلك الوقت، وأصبح عاجزًا عن القراءة والكتابة إلا إذا استعان بأحد تلامذته، وكان الشيب قد انتشر في رأسه، وفقدت عيناه بريقها الذي طالما أسَر تلامذته. في هذه اللحظة أدرك هوسرل أنّ معلّمه بات يعاني من وطأة ظروفٍ فرضتها عليه الحياة، بلا رفيق يُحاوِره ويُناقِشه في نظريّاته الفلسفية. لكنه كان ما يزال قادرًا على الاستماع، وهنا أضاف هوسرل قائلًا:
“لقد شعرت مرّة أخرى بأنني ما زلت تلميذًا مبتدئًا أشعر بالتواضع والضعف أمام هذه العقلية العميقة والمؤثِّرة. فآثرت الاستماع إليه بدلًا من التحدّث، إذ كان حديثه عظيم الأثر ذا تعبيرات رصينة متقنة. لكنه ولوهلةٍ طلب منّي التحدث ولم يقاطعني أبدًا، بل أفسح لي المجال للتحدث عن الطريقة الظواهرية للبحث، واختلافي القديم مع علم النفس. لكنَّنا في النهاية لم نصِل إلى أرضيةٍ مشتركة في هذا الشأن. ولعلّي المخطئ في هذا الأمر. فبسبب قناعتي الداخلية، لم أدرك أنه لن يتقبّل احتياج بدهيّاته الأساسية الخاطئة من وِجهة نظري إلى بعض التغييرات، خاصةً بعد أن ثبت أنه لن يتخلَّى مطلقًا عن أسلوبه في الدراسة وفكره الثابت في المفاهيم والحُجج”.
لم يكره هوسرل معلّمه برينتانو مطلقًا. بل من -خلال لقائهما الأخير- اكتشف أنّ لديه “جانب روحاني جعله يبدو وكأنه لم يعد ينتمي إلى عالَمنا هذا، وكأن نصف روحه قد انتقلت للعالَم الأسمَى الذي طالما آمن به وبشدة”. وأدرك حينها أنّ عالَمنا سيفقد قريبًا مفكرًا ومعلّمًا بارزًا. وقد أنهى هوسرل ملاحظته بهذه الكلمات: “وهكذا كانت صورته الحيَّة في مخيّلتي، شخصٌ ينتمي إلى عالَمٍ أسمَى”.
وننتقل الآن سريعًا إلى العام 2011، عندما نظَّم قسم اللغويّات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي أنشأه تشومسكي (Chomsky)، وموريس هالي (Morris Halle)، عام 1961، حفلًا خاصًا للتلامذة الذين حصلوا على درجة الدكتوراة على مدار خمسين عامًا منذ إنشاء هذا القسم الذي أفسح المجال لدراسة قواعد اللغة -وقد شاركت في هذا الحفل-، وفي الليلة الأولى، أعدّوا عشاءً للطلاب القُدامى، وبلغ الحضور 200 فردًا رغم أننا كأستاذة لغويّات نعمل في أماكن مختلفة. وعقب الفراغ من مأدبة العشاء، وقف بعضنا يشارك ذكرياته مع معلّميهم خلال السنوات التي قضيناها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لدراسة اللغويّات تحت إشراف تشومسكي وهالي وزملائهما.
لم يمضِ وقت طويل بعد العشاء حتى قرأت ما كتبه ستومبف وهوسرل عن برينتانو، وأدهشني مدى تشابه لغتهم ومشاعرهم مع لغة الطلاب ومشاعرهم في وصف تشومسكي. فقد جاء وصف هوسرل لبرينتانو بأنّه “ذو العقلية المتعمقة والشامخة”، التي تجعل حُجج المرء أمامه ضعيفة وبلا قيمة، ويشبه هذا وصف بعض الطلاب لتشومسكي بعد لقائهم به، فقد كان عقلهم وتفكيرهم يتعطل لحظة دخولهم مكتبه. وكما قال ستومبف عن برينتانو، لقد كان تشومسكي أيضًا واثقًا بأفكاره متمسكٌ بها حيث “انتصرت أفكاره على معارضيها بفضل أسلوبه المُتقن في الجدال الذي طالما أثار لدى معارضيه شعورًا بعدم الرضا إذا أسند حُجته إلى البدهيّات الأصلية المتعارضة”. وعندما كان تلامذة برينتانو يسيرون على نهجه، كانت الأمور تسير على ما يرام، لكنهم عندما قرَّروا الانحراف نحو مسَار مختلف، فقد عُدّ ذلك إقرارًا منهم بعدم قناعتهم بموقفه الفكري. ولذا فإنّ تشومسكي وضع تلامذته في موقف لا يُحسدون عليه تمامًا كما فعل برينتانو.
إنّ الديناميكا النفسية لعلاقة المعلّم والتلميذ مسألة تتسم بقدرٍ كبيرٍ من التعقيد. ولا شك أنَّنا نجد اليوم نزعةً سريعةً لتفسير هذه الديناميكا النفسية من منظور السُلطة أحيانًا ومن منظور الهُويّة الجنسية أحيانًا أخرى. فقد سلَّطت ملاحظات تلامذة برينتانو عنه الضوء على المشاعر المؤثِّرة التي تركها في نفوس تلامذته، وتعرّفنا من حديثهم عنه على الصعوبات التي منعتهم من مخالفة منهجه، ومنها أنه حقَّق نجاحًا استثنائيًّا في البحث عن طريقة لتحفيزهم على الالتزام بمنهجه، وقد أعربوا جميعًا عن صعوبة انفصالهم عنه، لكنهم وبرغم ذلك انفصلوا عنه لاحقًا. ومن ثَمّ فإنني على قناعةٍ تامةٍ بأنّ برينتانو نجح وببراعةٍ في أعقد وأصعب مهمة كُلِّف بها كمستشارٍ للبحوث وهي أنّه أقنع تلامذته بأنّ لهم الحريّة في صياغة آرائهم الفكرية وتشكيل توجّهاتهم دون تدخلٍ من أحدٍ.
برأييّ أن الذي سبق جزءٌ لا يتجزأ من قانون السُّلالات؛ فالحريّة التي ينشدها الطلاب لشقّ طريقهم بأنفسهم تتوقف على قدرة المعلّم على تحقيق النجاح، ولذا فقد أوردنا في مقالنا هذا جزءًا مما وَصَلنا من حياة المعلّم الشخصية ومكانته بين أقرانه وتلامذته. لقد خصَّص برينتانو حياته لأفكاره التي آمن بها، ونشرها من خلال محاضراته، وهذا ما دَفَعنا لكتابة هذا العرض؛ من أجل أن نعود معكم بالزمن 125 عامًا، ونُبحِر في الدروس التي قدَّمها ونستمتع بها في أوقات راحتنا.
الهوامش
هذا المقال مقتبَسٌ من كتاب: “معركة في ميدان الذهن (Battle in the Mind Fields) 2019″، لـ جون جولد سميث، وبيرنارد لاكس (John A Goldsmith and Bernard Laks).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.