مقالات

الفكر-«البريكولاج»

 في ذكرى هذا اليوم العالمي للفلسفة، يحضرني أمران بصدد الفيلسوف مارتين هايدغر. أولهما ما كان أشار إليه، في تمهيده لمحاضرته «الزمان والوجود»، من كون «الفكر يوجد اليوم في وضع يتطلب تأملات بعيدة أشد البعد عن حكمة يمكن توظيفها»، تلك الحكمة القابلة للتوظيف والاستعمال هي التي كان ماركس وصفها في مخطوط «الإيديولوجيا الألمانية» بكونها: «سقط المتاع لتلك الفلسفة التي تُعرض في المزاد«، والتي نلفيها اليوم بغزارة كمستهلكات ينشرها تجار «الحياة السعيدة» وأصحاب فلسفة «الوصفات الطبية» في المجلات وعلى شاشات التلفزيون، بل وحتى في بعض الجامعات والكتب.

الأمر الثاني ما كان هايدغر كتبه استهلالًا لأعماله الكاملة التي بدأ نشرها سنةً قبل وفاته: «هي دروب وليست أعمالًا»: Wege – nicht Werke. ما حاول المترجم الفرنسي أن ينقله، محتفظا على صورته البلاغية، بقوله: «Des passages – non des ouvrages»، «ممرات هي-وليست مؤلفات». كأنّما يقصد بذلك أن يؤكّد أن دروب الفكر تتنافى ونشر أعمال كاملة وتقترن بالتشتت، وأنّ كتاباته ليست في النهاية إلا مسالك وممرّات ودروبًا، أكثر منها أهدافًا ومقاصد وغايات.

كأنما يحثنا «فيلسوف الغابة السوداء» على أن نتعلم «أن نفكر أقل مما نفكر»، على حدّ قول بلانشو، ففي «عوزنا الفكري، يكمن غنى الفكر»، ذلك الغنى الذي يجعلنا نحس أن التفكير يعني دائمًا أن نتعلم كيف نفكر أقلّ. هذا الأقل، هو عوز وخصاص نسبة إلى اغتناء وهمي، نسبة إلى وهم اغتناء. سنتعلم كيف نفكّر في الفراغ الذي هو الفكر من أجل أن نحافظ على الفراغ عندما نكتب ونتكلم، فنبتعد بفكرنا عن الامتلاءات الهشة، والحلول السهلة، والمنظومات المحبوكة، سعيًا وراء ما أسمح لنفسي بأن أنعته، في يوم الذكرى هذا، بالفكر-البريكولاج.

«استُعمل الفعل bricoler في معناه القديم، كما يؤكد كلود ليفي شتراوس، دلالة على لعبة الكرة والبليار، كما على الصيد والفروسية، لكنه كان دائما إشارة إلى حركة عارضة: حركة الكرة التي ترتد على أعقابها، والكلب الذي يشرد أثناء الصيد، والفرس الذي يحيد عن الخط المستقيم تجنبًا لحاجز من الحواجز[1]». لا يحمل لفظ «بريكولاج» هنا أيّ معنى انتقاصي. فلا يتعلق الأمر مطلقًا بقياس انشغال فلسفي يتسم بالتلفيق والترميق على كتابة تتسم بالحبك والانتظام والإتقان. أستعمل هنا لفظ «بريكولور» في المعنى الذي يستعمله به كلود ليفي-شتراوس حينما يجعله في كتاب «الفكر المتوحش» مقابلًا للمهندس. نقرأ في هذا الكتاب: «بإمكان البريكولور أن يقوم بمهام عديدة ومتنوعة، لكنه، على خلاف المهندس، لا يجعل أيًا منها يتوقف على الحصول على المواد الأولية وعلى الأدوات المهيأة قياسًا على مشروعه: عالم أدواته عالم منغلق، والقاعدة التي يعمل حسبها هي التكيّف مع ما يتوفر، وأعني مع مجموعة محدودة من المواد والأدوات، التي قد تكون متنوعة؛ لأن التأليف بين عناصر المجموع لا علاقة له مع مشروع اللحظة، بل ولا مع أي مشروع مخصوص، وإنما هو نتيجة لا تخضع لضرورة لكل الفرص التي سنحت لتجديد المخزون وإغنائه، أو صيانته بفضل ما يتبقى من البناءات السابقة»[2]. فبينما يشكل المهندس الذات الفاعلة التي هي المصدر المطلق لمنتوجها الذي تستطيع أن تبنيه وتتيقن منه قطعةً قطعةً لكونها تقيّمه على منهج، وتبنيه وفق قواعد، وتسنده إلى معيار، فان البريكولور لا ينطلق من «الطبائع البسيطة» التي ينتهي إليها التحليل الديكارتي، والتي يدركها العقل بداهة، وإنّما مما يتوفر له من أدوات، وما يقع تحت يديه من وسائل لم تكن مهيأة بالضرورة كي تستخدم من أجل العملية التي يستخدمها فيها، والتي يتحايل لتكييفها معها، وهي وسائل وأدوات يكون على أتمّ استعداد لهجرها والتخلّي عنها إن تبدّى أن أدوات أخرى ملاءمةٌ أكثر منها.

في كتابه «ابتكار الحياة اليومية» يميز ميشيل دو سارتو استراتيجيات المهندس عن تاكتيكات البريكولور. الاستراتيجية حساب لعلاقات القوة التي تفترض سلطة وإرادة، «إنها مبادرة الحداثة العلمية، السياسية أو العسكرية»، أما التاكتيك، فيفترض، على العكس من ذلك، غياب السلطة، «إذْ لا مكان لها إلا عند الآخر». يعمل التاكتيك في ميدان ليس في حوزته. إنه يتصيد الفرص التي تعنّ له. إذا كانت استراتيجية المهندس «تنتج وترصد وتفرض»، فإن تاكتيك البريكولور «يستعمل ويعالج ويحوّل مجرى الأمور[3]».

في نقده للأنثربولوجي الكبير، يذهب جاك دريدا إلى تفكيك الثنائي بريكولور/مهندس، منتقدًا صورة المهندس عند ليفي-شتراوس، معممًا البريكولاج على الفعالية الذهنية في جميع مستوياتها. يكتب: «سيكون على المهندس، الذي يضعه كلود ليفي شتراوس مقابلًا للبريكولور، أن يبني صرح لغته بأكمله، بما يشمله من تركيب ومعجم. بهذا المعنى فإن المهندس أسطورة من الأساطير: إنه ذات فاعلة من شأنها أن تكون المصدر المطلق لخطابها الخاص، وتكون هي التي وضعته بحذافيره، وتكون هي خالقة الكلم، بل إنها تكون الكلم ذاته. […] ما إن نكف عن الإيمان بوجود هذا المهندس، وعن خطاب ينفصل عن التلقي التاريخي، وما إن نقبل أن كل خطاب هو خطاب متناه خاضع لنوع من البريكولاج، وأن المهندس أو العالم هما أيضًا نوع من البريكولور، فإن فكرة البريكولاج ذاتها تغدو مهددة، ويتحلل الاختلاف الذي تشتق منه معناها»[4]. لعل هذا هو دفع صاحبي كتاب «ألف بساط» إلى «أن يريا أننا جميعنا ممارسو بريكولاج، وأن لكلٌّ منا آلاته الصغيرة»[5].

في البريكولاج لا يذهب الفرد بعيدًا، بل يتأقلم مع ما يتوفر له كي يخوض غمار البحث ويتفاعل مع تحولات المعطى، ومخاض الكتابة. البريكولور لا يركن إلى معيار، ولا يعوّل على سند. فلا تخطيطات ولا مفاضلات. والأدهى من ذلك، لا تعلق بمستقبل واعد. فالأحلام والمشاريع لا معنى لها هنا إن لم تجد تحققها المباشر، أي بالضبط إن لم تعد أحلامًا ومشاريع. مفاهيم كالتخطيط والمشروع لا محل لها هنا. ما يتبقى للمشتغل بالكتابة الفلسفية هو أن «يدبّر حاله»، و«يخترع» ذاته، لكن لا يكون ذلك استنادًا إلى مرجع، واقتداءً بنموذج، وإنّما باستعمال ما يتوفّر، وما يوجد «تحت» اليد، وليس «فوق»، لا فوق اليد ولا فوق الواقع. فما من تعال.

لا يقتصر هذا البريكولاج على ما يمكن أن أدعوه إنتاجًا؛ بل يمتد حتى ما كان بالنسبة لجيلي تلقيًا. ربما لن أكون مغاليًا لو قلت إنّ الجيل الذي أنتمي إليه تلقى الفلسفة بطريقة لا تخلو من بريكولاج. يتضح ذلك إن نحن دققنا النظر في مسار أفراد ذلك الجيل وتنوّع اهتماماتهم، وصولًا إلى اختيار موضوعات أبحاثهم، والاستعانة بأساتذتهم. لقد كانت الحياة الدراسية لذلك الجيل تتحدد أساسًا بـ«ما يتوفر»، قراءةً ودراسةً وإشرافًا، ولا داعي إلى التذكير أن ما كان يتوفر اتسم بالمحدودية، تلك المحدودية التي جاهد ذلك الجيل لتخطيها مساهمة في إرساء كتابة فلسفية.

وعلى رغم ذلك، فإن كل من يشتغل بالكتابة الفلسفية، رغـــم ما يطبعها من بريكولاج، ورغم أنـــه يظل ضائعًا بين نتف ما يكتب، تائهًا بين دروب لا يبدو أنها تتقاطع، فإنـــه يتّبع، على الرغم منه، وربما دون وعي، يتّبـــع مســـالك تُخطّ له، ومسـارات ترســـمها انشـــغالات اللحظـــة التاريخية والمعرفية التـــي يتفاعـــل معهـــا، بحيـــث ينتهـــي بـــه الأمر إلى أن يعمـــل وفـــق منطـــق لا يحيد عنـــه. صحيـــح أنّه ليـــس منطـــق الكاتـــب، إلا أنّه يظـــل منطـــق الكتابـــة، وســـيقول آخـــرون «منطـــق المعنى». وهـــو ليـــس بالضرورة منطقًـــا مبسّـــطًا تســـنّه إرادة متحكمـــة، إلا أنــّـه، مهــمـا تعددت دروبه وتشـــابكت أطرافـــه، فإنـــه يرســـم حـــدودًا، ويحدد مجالات، ويخلق شبكات.

هـــذا النـــوع مـــن الوحـــدة التـــي تثـــوي خلـــف تشـــتت البريكولاج يمكن أن نقول إنه لا يحيد عن كون العمل الفكري سعْيًا للاستفراغ وليس للمراكمة، وكون الفكر كبحًا وفرملة. لا يمكــن للفلسفة اليوم أن تكــون إلا تفاعــلًا مــع نبضــات الحيــاة المعــاصرة بهدف مقاومـــة مـــا يســـودها مـــن أشـــكال البلاهـــة، لخلق المسافات التي تفصلنا عنها، وهي تســـتدعي، تبعـًــا لذلـــك، كتابـــة أقـــرب إلى الاستجابة اللحظيـــة لما لا ينفـــكّ يتجـــدّد. إنها فلسفة تكرس الانفصــال الــذي يطبــع الكائــن الحديث، وتكتفي بأن تقيم فكرًا مقتصرًا على شق الدروب، وإحداث الفراغ في ما يقدّم نفسه ممتلئًا، وما يغرق في اليقينيات الموهومة، والانتظامات المفتعلة.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

[1] Lévi-Strauss Cl., 1962, La Pensée sauvage, Paris, Plon, 1962, p. 26.

[2] نفسه، ص 29.

[3] Certeau M. de, L’invention du quotidien. 1. Arts de faire, Paris, Gallimard, 1990 pp. xlvi-xlvii.

[4] Jacques Derrida, L’écriture et la différence, Paris, Éd. Le Seuil, 1967 : 417-418

[5] Deleuze G., Guattari F,Capitalisme et schizophrénie 2. Mille plateaux, Paris, Minuit, 1980, p.7.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى