ربما على التفكير أن ينطلق من مفهومه للاختلاف، ليس بوصفه تباينًا أو تمايزًا، وإنما بتلك الهويّة التي تعطيه سِمة التكرار والتشابه والتعدد المنفتح على التاريخ المهمَّش من التفكير الإنساني.
انطلاقًا من هذا المفهوم، يصح أن نتحدث عن الشِّعر والفلسفة من حقولهما المتشابكة والمتقاطعة في غابة اللغة، ومن دلالاتهما المشتركة التي تتجّه من الذات إلى العالم الخارجي كظاهرة للرغبة والفهم. فالشِّعر منذ بزوغ فجر الفلسفة كان ممتزجًا فيها ومتداخلًا بقوة في تراكيبها ونظامها، من شذرات هيراقليطس وبارمينيدس، إلى خطب سقراط وحواراته؛ فسقراط كان يرى أنّ الشِّعر ذو مصدر علويّ نابع من الإلهام، ومهمته تحرير الإنسان، ووضعه على درب الاستنارة المؤديّة إلى الحقيقة.
رغم أنّ أفلاطون قد طرد الشعراء من جمهوريته بوصفهم غاوين ومضلِّلين عن الحقيقة، وأنهم يتخذون من الألفاظ والعبارات أدوات تُلوّن الأشياء كالرسام؛ إلا أن أفلاطون في شبابه كان شاعرًا ذا أسلوبٍ بليغ وجميل في طرح العبارة والفكرة، وحتى في نظامه الفلسفي الذي عرض فيه الطبيعة والوجود بأكمله، فهو ينحى للشِّعر من خلال أسلوبه وابتكاراته. وينسحب هذا على فلاسفة عصر النهضة الأوروبي بدءًا بديكارت وباسكال وكيركيغارد، وانتهاءً بنيتشه الذي دعا إلى تحريرالفلسفة من اتساقها وجموديتها، وصبَّها في قالبٍ شِعري وجداني. فقوّة التخييل والعاطفة يجب أن تمتزج بالفكر واليقظة، فيما تتجّه إلى العالم من أعماق الذات الإنسانية.
الدهشة بين الشِّعر والفلسفة
يرى الشاعر والفيلسوف الإيطالي جاكومو ليوباردي (1798-1837)، أنّ الشِّعر والميتافيزيقيا وجهان لعملةٍ واحدة، وأنّ الشِّعر أقدم من الفلسفة؛ بارتباطه بالطابع السِّحري والبدائي في الدهشة والانبهار بالأشياء. فالشِعر كان ميتافيزيقا أسلافنا البدائيين، وكانت مَلَكة فطرية عندهم نتيجة جهلهم بالعلل، وهذا الجهل نتيجة انبهارهم إزاء الأشياء كلها، وكان الشِّعر لديهم ذا طابع إلهي، إذ كانوا يتخيلون أنّ أسبابَ الأشياء التي يشعرون بها، ويندهشون من أجلها إلهيّةٌ؛ لذا منحوا الأشياء التي تدهشهم وجودًا له جوهر مطلق، وكانوا شعراء بالمعنى الأوّلي لهذه الكلمة؛ أيْ مبدعين، لم تنشأ أفكارهم من ملاحظة الأشياء فحسب، بل كانت تُسقِط على العالم صورًا قابلة لأن تمنحه المعنى.
هذه الدهشة عادةً ما تسكن الأطفال في لذة اكتشافهم للأشياء، وبناء عالمهم وفق تصوراتهم؛ وبناءً على ذلك: أنْ يكون المرء شاعرًا يعني أن يعثر من جديدٍ على طفولةٍ معينة في داخله، لكن هذه الطفولة لا تعني الجهل أو السذاجة، بل تلك الرابطة القوية بين الذات والأشياء التي تتلاشى بواسطتها الأنا، أيّ تلك الطفولة المستعادة عند الرغبة. هذا هو التعريف الذي منحه بودلير للشِّعر، بوصفه استعادة الطفولة أو البراءة المفقودة.
كل شيء يبدو للشاعر وكأنه يراه للمرّة الأولى، إذ يؤكد هولدرلين أنّ كل شيء يكون غيرَ مفهوم، وغير محدد، وعلى شكل مادة مجردة، بحيث لا يسلِّم الشاعر عند هذه اللحظة بأيّ شيء باعتباره معطى، وأن لا شيء ثابت يصلح كنقطة انطلاق له. كما وصف الفيلسوف الألماني هايدغر الشِّعر، بأنّه أوفر الأعمال حظًّا من البراءة.
الفلسفة والشِّعر يشتركان بتلك الدهشة الإنسانية الأولى، والفرق بين دهشة الشِّعر ودهشة الفلسفة أنّ الشِّعر يبقى قائمًا في عالم التصوّرات الطفولية التي يسبغها على العالم، أما الدهشة في الفلسفة فتأتي من الملاحظة الدقيقة للأشياء وتستقر في الذهن، بوصفها سؤالًا يتطلّب البحث والمعرفة والشك. ففي اللحظة التي يظهر فيها الشيء يطرح هذا الشيء الذي يظهر الأسئلة حول ظهوره، لذلك الفلسفة بدايةً انحدرت من الشِّعر وتزودت منه، وكذلك العلوم التي انحدرت من الفلسفة، وعليه فإنّ جميع العلوم تدين للشِّعر بكمالها. هذا ما يدفعنا للبحث عن نقطة تقاطع المحاور الثلاث التي يجب أن نفكر فيها وننطلق منها، من أجل إعادة بناء العالم والإنسان.
اللغة المشتركة بين الفلسفة والشِّعر
علينا أن نسلِّم أولاً أنّ الفلسفة والشِّعر كلاهما يشتركان في النص اللغوي، وهدف كل منهما هو البحث عن الكينونة في اللغة. يعد ليوباردي أنّ اللغات منذ انحدرت من مرتبة الأشياء المحسوسة كليًا إلى الأشياء الأقل ارتباطًا بالحواسّ، ومنها إلى الأفكار؛ باتت مهمة الشِّعر والفلسفة حينها تكمن في العثور على رابط متين يوطد التصورات بحواسنا.
إنّ الفيلسوف العظيم هو شاعر عظيم أيضًا؛ من خلال قدرته على اكتشاف الصِلات ومعرفتها، ثمّ ربط التفاصيل ببعضها، وهذا لا يتمّ إلا باللغة عن طريق عودتها إلى ذلك الصوت البدائي المتحرّر من النظام والجمود. هذا ما أكد عليه نيتشه، فأغلب شذراته ونصوصه لا يمكن تجنيسها أدبيًا بشكلٍ مطلَق، وبذات الوقت لا يمكن فصلها عن الحقل المشترك بين الأدب والفلسفة.
يشترك الفيلسوف الألماني هايدغر والإيطالي ليوباردي في أنّ المثال الأعلى الذي يصبو إليه الكلام يتوق إلى عالمٍ أعلى. ومهمة اللغة عند هايدغر هي أن تجعل الموجود وجودًا منكشفًا في حالة فعل. بواسطة اللغة يمكن التعبير عن أنقى الأشياء، وأوغلها في الغموض، كما يمكن التعبير عمّا هو غامض وعمّا هو شائع أيضًا. لذا فالشِّعر هو صوت أجدادنا الضارب في القِدم، هو الذي يبدأ فيجعل اللغة ممكنة، لنفهم ماهية اللغة ابتداءً من ماهية الشِّعر. اللغة الأولية هي الشِّعر بوصفه تأسيسًا للوجود.
هنا يجب أن تتحدد وظيفة الفكر بدلالتيّ الحضور والغياب، عن طريق العودة إلى تلك اللغة البدائية والأسطورية، مع صنع الاختلاف والفارق في تلك اللغة القديمة، ثمّ اتصالها مرّة أخرى بلغتنا الحديثة، فيصبح ما ينبثق من الشاعر قصيدة، هذه القصيدة تكمن غرابتها بوصفها مستمدة من لغةٍ مجهولة، أو من استعمالٍ غريب في اللغة المعروفة.
يؤكد مارتن هايدغر أنّ الشعراء – وحدهم من بين البشر الفانين – الذين ينشدون للآلهة ويتبعون أثرها المتواري، ويرسمون لإخوانهم البشر الفانين معالم درب الارتداد، حيث تكمن المهمة الشِّعرية في تتبّع أثر المقدّس الذي يبقينا متيقظين له؛ وعليه فالشعراء هم وحدهم الذين يمسكون بالزمن ويُحدِثون فرقًا في أثر الماضي العائد إلينا والكائن في المستقبل.
يشبّه هايدغر حركة الشعراء هنا بحركة الغريق؛ إذ تتحدد مهمتهم في بلوغ الهاوية التي يكون قعرها موطئ قدمهم وأن يعودوا إلينا من ذلك القعر. هذا الاختبار وحده منوط بالشعراء كمنقذ يكشف لنا درب الارتداد الجماعي. وتتمّ هذه العملية في العناصر الأولية لأفكارنا، التي تخلق كينونة أخرى للغةٍ أقلّ ارتباطًا بالعالم المادي والمحسوس.
يرى ليوباردي أنّ لغة العصر الحديث قاحلة ومقفرة ومصابة بالتصدّع؛ نتيجة انفصالنا الشامل عن الحضارة القديمة، ما أدى إلى اتساع الهوّة التي تفصلها عن لغةٍ ثرية غزيرة بالمعاني والألفاظ، فالكلمات التي نستخدمها والاستعمالات الفكرية التي نلجأ إليها هي رهن ما ورثناه من القدامى، والذي سُلب منّا.
إنّ إعادة تأويل الزمن الماضي من أجل تشكيل المستقبل عند ليوباردي، يقابله عند هايدغر مفهوم الاختلاف والتفكير في اللاّ مفكر فيه، وهذا التفكير هو حركة مزدوجة من الماضي إلى المستقبل، يتم التعبير عنه داخل اللغة، لكن من أين تجد تلك اللغة هذا الفضاء الواسع لاستيعاب الشِّعر والفلسفة داخل قوالبها، دون الوقوع في الأوهام العاطفية أو الجمود النظري؟ تكمن أهمية الشاعر والفيلسوف عند ليوباردي في تدوين سلاسل الكلمات، واستخراج جذورها المشتركة، أيْ بمعنىً آخر فإننا نعرض حالات الاختفاء والزوال والنسيان، ونسعى لترميم الصدع في ذاكرتنا المتشققة.
قلّة من الفلاسفة يعمدون إلى طرح التساؤلات حول لغتهم وطريقة تعبيرهم الخاصة، حول أشكالها وأسلوبها؛ تحديدًا الدور الذي تضطلع به في تشكيل عالمهم الذهني. إنهم يكرّسون تفكيرهم في التبحّر في اللغة، ونادرًا ما يتأملون لغتهم لحظة استخدامها لتشكيل التصورات الذهنية.
إنّ الفكر البشري حسب ليوباردي لم يتوصل أبدًا إلى تكوين فكرة واضحة تمامًا عن شيء غير محسوس بالكامل، إلاّ من خلال مماثلته ومقارنته وتشبيهه بالأشياء المحسوسة، أيْ بمنحه – بمعنى ما – جسدًا. تنشأ الكلمات والجُمل من التصدّع المستمر الذي يفصل إدراكاتنا الحسية عن تمثيلاتنا الذهنية، وتمثيلاتنا الذهنية عن الكلام الذي نتفوّه به، ما يؤدي إلى تموضع اللغة في عجزها وقصورها عن التعبير المُراد الوصول إليه. إذن يجب البحث عن الفكرة وتمثّلاتها الذهنية خارج اللغة التي ترتبط بشحنة الانفعالات، لكن كيف يحصل هذا إذا كانت اللغة تعبّر عن كل شيء محسوس، ولا تخرج عن نطاق العالم والزمن البشري؟ يقترح ليوباردي أن نقترب أكثر من العناصر المكوّنة للأشياء من خلال تفكيك أفكارنا تدريجيًا، بغية اكتشاف ماهيتها وتحديدها.
الكلمات لا تعبّر إلاّ عن تلك الأفكار التي تكون موجودة مسبقًا في الأفكار القديمة، التي تمّ فصلها في حينها عن مختلف أجزاء الأفكار الأم، وذلك بواسطة التحليل الذي أنجزه طبيعيًا تقدُّم الفكر البشري، وبفضل هذا التأثير، نحصل على الكلمات الملائمة التي تعبّر عن فكرةٍ مؤلَّفة من عدة أجزاء ومرتبطة بأفكارٍ متلازمة وكثيرة العدد.
يلامس مظهرُ المفكر مظهرَ الشاعر، وهنا تكمن روعة الشِّعر والفلسفة، في إيقاظ مجموعةٍ من الأفكار داخلنا، وفي إتاحة المجال لذهننا بأن يهيم في حشدٍ من التصورات بكل غموضها والتباسها. يؤكد فرانسوا ليوتار أننا نكتب بالاتجاه المعاكس للغة؛ فنحن نقصد أن نقول ما نجهل كيفية قوله. وبناءً عليه يذهب ليوباردي إلى أنّ الفيلسوف يشترك مع الشاعر في إصغائه لذلك الصوت الذي يُوحي إليه بكتابة القصيدة من وحي الحقيقة؛ فيرضى بأن يكون مجرد مستمع لذلك الصوت الذي يسبق وجوده ووجود اللغة: صوت الفكرة الذي لا يشيخ، وتزول فيه جميع التناقضات.
هل من الممكن سبك الفلسفة في قالبٍ شِعري؟
إنّ ما ترسخ في الذاكرة من التراث الفلسفي هو ما جاءنا عن طريق القوالب الأدبية، كالشِّعر والشذرات؛ فنحن لم نعرف الوجود الثابت والأزلي والوجود بما هو موجود إلاّ من قصيدة بارمينيدس في الطبيعة، ولم نعرف وحدة الأضداد والعالم المتغيّر إلاّ من شذرات هيراقليطس، كذلك كيركيغارد، ونيتشه الذي عرفنا فلسفته في إرادة القوة والعَود الأبدي وحفرياته في الأخلاق، عرفناها من خلال الشذرات والسرد الروائي في كتابه الشهير «هكذا تكلّم زارداشت». العاطفة أيضًا تفكر وهي تعيد تشكيل تصوراتها لفهم العالم ولرحلة العذاب الطويلة التي يعانيها الإنسان، فما ينطلق من الأعماق يستقر في أعماقٍ أخرى.
يقول ليوباردي: «إنّ الفلاسفة الذين يمتلكون نظرة ثاقبة وعميقة تجاه الأشياء، هم أولئك الذين يتميزون بقواهم الانفعالية والتخييلية، وبإلهامٍ ووحيّ شِعري، يتبدى ذلك في مؤلفاتهم وأفعالهم، أو في الآلام التي كابدوها بسبب المخيلة أو الحساسية»؛ ولذا بسبب كل هذه الأمور مجتمعة نستطيع سبك كل فلسفة في قالبٍ شِعري.
هل هناك نظرية موحّدة تسعى لاندماج الشِّعر بالفلسفة؟
يجب أن يوجد وعيٌ بأنّ العالم المعاصر عالم مفتّت متشظي، يعاني فيه الإنسان من الاغتراب والتشيؤ، ما يدعونا إلى الحركة الارتدادية في الفكر عند هايدغر من خلال التفكير في ما لم يسبق التفكير فيه، فنحن مهما حاولنا التفكير سنظلّ في نطاق عالم التراث كما يقول هايدغر، شرط أن يحرّرنا من التفكير المسبق، ويعيدنا إلى التفكير الذي يجعلنا نتقدّم إلى الأمام؛ وهذا لن يتم إلاّ بقدر ماهيتنا المعطاة للغة. لذا علينا أن ننطلق من الأسلوب في اللغة الذي يوحّد هذين المجالين، وعليه يجب على الأفكار أن تتخذ شكلها في الأسلوب؛ إذْ يتصف الفكر البشري بطابعٍ مادي في عملياته وتصوراته كافّة، حيث الأسلوب والكلمات، هما ثوب الأفكار وجسدها.
يمكن للفلسفة بتساؤلاتها واهتماماتها أن تنضوي تحت راية الشِّعر في اشتغاله الجمالي باللغة، أو يمكننا أن نتفلسف بلغة الشعراء، كما يقول بلانشو. هذا لن يتمّ إلاّ بتوحيد الأفكار الجديدة في الإنسان العصري؛ من خلال توحيد الأدوات التي تعطي هذه الأفكار شكلها ووجودها. هذا التوحيد أيضًا قد ينسحب إلى مجالاتٍ أخرى خارج الشِّعر والفلسفة، ما يتطلّب عودة باللغة إلى أصل الأصول، ثمّ تحريرها من الأوهام الدخيلة في عالمنا الحديث، عندها يمكن للإنسان أن يعلو فوق كل ما هو ضحل ومبتذل، وأن يتحرّر من كل عبوديةٍ ورغبةٍ في التدمير.