ترجمة: محمد حسين – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
شرَعت شركات الإعلانات في اجتياح نومنا؛ في محاولةٍ لغرس منتجاتهم في أحلامنا. وهذا ليس من قبيل المجاز أو الخيال، بل هو أمرٌ واقع.
ففي ليلة إقامة مباراة السوبر بول 55 للتتويج بالبطولة السنوية لكرة القدم الأمريكية Super Bowl LV، أجرت شركة مولسون كورس للمشروبات الكحولية ما أطلقت عليه: “أكبر دراسة للأحلام في العالم”. حيث أعلنوا بوضوحٍ أنهم يريدون غرس صور بيرة كورس مع مناظر واقعية جميلة (لأنهار الألب، على سبيل المثال) داخل عقول من يخوضون تجربة الأحلام. ومن ثَمَّ، تعاقدوا مع أحد المتخصصين في علم النفس من جامعة هارفارد من أجل تصميم مؤثرِّات لاحتضان أحلام محددة، وقدّموا حوافز وعروضًا للتشجيع على المشاركة في الدراسة مثل الحصول على مشروبات مجانية، كما أنهم استطاعوا، في خبطةٍ تسويقية كبيرة، إقناع نجم البوب زين مالك بالموافقة على إجراء بثّ حيّ عبر إنستغرام وهو نائم في أثناء مشاركته في تجربة احتضان حلم بيرة كورس، مع أنه ذكر أنّ المشروع كلّه كان “نوعًا من الفوضى والاضطراب”.
ليست هذه حالة فردية. فهناك كثير من الدراسات في مجال التسويق تختبر علانية طرقًا جديدة لتغيير وتوجيه سلوكيات الشراء من خلال اقتحام النوم والأحلام. فقد كشفت دراسة أجرتها الجمعية الأمريكية للتسويق بنيويورك سنة 2021، بعنوان: “مستقبل التسويق” أنه من بين أكثر من 400 موظف يعملون بالتسويق في شركاتٍ من شتَّى أنحاء الولايات المتحدة فإن 77% منهم يتطلعون إلى الاستفادة من تكنولوجيا الأحلام في الإعلانات خلال السنوات الثلاث القادمة. إذن، سرعان ما يصبح حقيقةً واقعية هذا الاستخدامُ التجاري لاحتضان الأحلام من أجل تحقيق الأرباح، أيّ تقديم المثيرات قبل النوم أو في أثنائه للتأثير على مضمون الأحلام.
بالطبع، ليس المعلنون أوّل من يعمل على التأثير في الأحلام واحتضانها، بل هناك من فعل هذا قبلهم بزمن طويل؛ إذ يرجع احتضان الأحلام إلى قدماء المصريين قبل أكثر من 4000 عام، حيث كان يرقد الناس نائمين في أسرَّةٍ مقدسة في سيرابيوم سقّارة حتى يتلقّوا أحلامًا إلهية. وكذلك في اليونان القديمة، حيث كان المرضى يذهبون إلى معابد الكهنة من أجل الأحلام. وأيضًا في وقتنا الحاضر، حيث يؤدي احتضان الأحلام دورًا أساسيًّا في الاستشفاء والممارسات العلاجية والروحية مثل يوغا نيدرا وموهافي الشامان. هذه التقاليد عابرة للزمان والمكان وتقدم للناس وسائل للانتقال من أحلام ذات مضمونة لا يُمكِن التنبؤ بها إلى أحلام مقصودة تتناول أفكارًا وقضايا محددة. غير أنّ التكنولوجيا المتقدّمة والتطور الجاري في مجال علم النوم يعملان على تحسين وتطوير كيفية توظيف هذه التقنيات بشكلٍ موثوق.
مؤخرًا، شارك اثنان مِنّا نحن مؤلفيّ هذه المقالة (آدم وروبرت) في فريق يعمل على تطوير أداة يمكن ارتداؤها لتحفيز احتضان الأحلام أُطلق عليها اسم دورميو Dormio. فكرة الأداة هي ربط ثلاثة مستشعرات للنوم بجهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي لحثِّ المستخدمين على التفكير في موضوعٍ بعينه، قد يكون شيئًا بسيطًا كشجرة أو معقَّد كمشكلة محيّرة في العمل. بعد ذلك، وعند التأكد من أنهم ناموا لمدة تمّ تحديدها مسبقًا، توقظهم هذه الأداة التكنولوجية عبر صوت خفيف وتُسجِّل تقريرهم الكلامي عن الأحلام. وقد أظهرت ورقة بحثية نُشرت مؤخرًا عن هذه التقنية، التي أطلقنا عليها “احتضان الأحلام المستهدفة TDI”، أظهرت أن مثيرات ما قبل النوم قد اندمجت في أحلام المشاركين على نحوٍ أكثر موثوقية من تقنيات سابقة لاحتضان الأحلام خرجت من المختبرات.
وكما كشفت الأحداث لاحقًا، يبدو أنّ هذه الورقة العلمية حول “احتضان الأحلام المستهدفة”، قد أثَّرت في اقتحام شركة مولسون كورس عالم الأحلام والسيطرة عليها؛ فقد استعملوا في حملاتهم التسويقية تعبير “احتضان الأحلام المستهدفة”، وهو تعبير لغوي انفردت به هذه الورقة. ومع تقدم الأبحاث في هذا المجال، لا نتوقع إلا أنّ آخرين سيحاولون استعمال هذه التقنيات والاكتشافات للتلاعب بأحلامنا من أجل غرس منتجاتهم فيها، ومن ثمّ التأثير في سلوكياتنا أثناء اليقظة في نهاية المطاف. ولا عجب أنّ أحدنا (آدم) تواصَلَت معه شركات عديدة، ومنها شركات تكنولوجية كبرى وبعض كبار اللاعبين في صناعة السفر، يطلبون المساعدة في مشاريع احتضان الأحلام المستهدفة لأسباب تجارية. ومع ذلك، فالمبادئ والمناهج الجوهرية الأساسية التي تقوم عليها فكرة احتضان الأحلام المستهدفة وغيرها من التقنيات المصممة للتأثير في محتوى الأحلام ليست بتلك الدرجة من الصعوبة التي تحول دون فهمها وتوظيفها. وقريبًا سيأتي الوقت حيث لن تكون هناك حاجة إلى طلب مساعدة علماء النوم.
نحن، كعلماء، ندرس النوم والأحلام لأسباب عدة، ومن ذلك فهم العمليات المعتمدة على النوم مثل معالجة الذاكرة وضبط الانفعالات وتقويمها، ودراسة كيفية تأثير الأحلام على المعارف التي سبقتها، وكذلك من أجل فهم ومعالجة أفضل لأعراض وثيقة الصلة بالأحلام مثل كوابيس اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وأيضًا باعتبار الأحلام مصدرًا لمؤشرات على الحياة النفسية السّوية. وبالمثل، يسعى الباحثون العاملون في مجال احتضان الأحلام المستهدفة وفي المجال الأوسع وهو هندسة الأحلام إلى فهم كيفية نشوء خبرات الأحلام في المخ خلال مراحل النوم المختلفة، وإلى تحسين جودة النوم لدى الناس وتحفيز الإبداع وتيسير عمليات التعلم والإدراك المرتبطة بالأحلام. ومع أن هذه جميعًا تمثّل أهدافًا محمودة، إلا أننا معنيون بشدة بالجهود الحالية لاستغلال النوم والأحلام لدى الناس، كما هو ظاهر في محاولة شركة مولسون كورس لاستخدام فكرة احتضان الأحلام المستهدفة من أجل بيع مواد مسبِّبة للإدمان.
كذلك، مما يثير حيرتنا ودهشتنا غياب احتجاج الجمهور على فكرة اختراق شركات الإعلانات لأحلامنا الليلية على نطاق واسع. وفيما عدا بعض اللفتات -أحيانًا تكون ذات طابع هزلي ساخر-، التي يعبّر عنها الناس في التعليقات المصاحبة للفيديو الترويجي لشركة كورس، ومقالة في مجلة ساينس/العلم، لم تحظَ هذه القضية وما تثيره من إشكاليات بالاهتمام إلا قليلًا. ويظهر هذا الأمر في دراسة “مستقبل التسويق”، التي أُجريت عام 2021: فمن بين أكثر من 500 مستهلك شملهم الاستطلاع لم يعترض على استخدام شركات الإعلانات لاحتضان الأحلام سوى 32% فقط، في حين رفض الإجابة 30% منهم. فما الذي خسرناه حين أُصِبنا بشكلٍ جماعي بالتبلُّد تجاه انتهاك خصوصياتنا والممارسات الاقتصادية الاستغلالية التي نقبلها بسعادة ونحصل على دزينة من عبوات المشروبات مقابل غرس إعلانات الخمور في أحلامنا؟ من بين أمور كثيرة خسرناها، فمن المؤكد أننا لدينا قدر ضئيل من الوعي بمدى أهمية النوم والأحلام، وكيف أنّ لهما دورًا حاسمًا وبنَّاءً في سلوكنا طوال اليوم وأن نحظى بحياةٍ طيبة سويَّة.
خلال العقدَيْن الماضيَيْن، تبيّن بوضوح شديد أن النوم ليس مجرد وقت للراحة. ففي أثناء نومنا، يقوم المخ -باستمرار- بمراجعة ما حفظته ذاكرتُنا من أحداث طوال اليوم. يعمل النوم على تثبيت بعض هذه الذكريات ويمنحها مناعة وحصانة ضد النسيان، ويعمل على تقوية البعض الآخر بصورةٍ فعَّالة. وأحيانًا يعمل النوم على تثبيت وتقوية جزء من ذكرى محددة، وقد يكون هذا الجزء هو الجانب الشعوري الظاهر من تلك الذكرى، أو قد يكون النقيض من ذلك تمامًا؛ أيّ جوهر الذكرى وفحواها. كما يساعد النوم على دمج المعلومات الجديدة ضمن شبكة المعلومات الموجودة من قبل في المخ، ويحدِّد الأنماط التي تتشاركها عدة ذكريات مختلفة، وذلك باكتشاف القواعد الحاكمة لتلك الأنماط. بل إن النوم قد يعزّز من قدراتنا الإبداعية، سواءً بشكلٍ غير مباشر بأن يزيد من فرص الاكتشافات الإبداعية بعد الاستيقاظ، أو بشكلٍ مباشر من خلال ما يظهر في الأحلام ذاتها.
غير أن هذه العمليات يمكن التلاعب بها. ففي إحدى الدراسات، بعد أن أخذ المشاركون غفوة، تحسَّنت قدرتهم على تذكّر مكان شيء ما -(قطة، على سبيل المثال)- كانوا قد رأوه من قبل على شاشة الحاسوب إذا ما تمّ تشغيل صوت ذي علاقة بهذا الشيء -(مواء قطة، على سبيل المثال)- أثناء الغفوة. وفي دراسة أخرى، كان المشاركون على استعداد لدفع سعر أعلى لوجبة خفيفة معروفة بعد تشغيل اسم تلك الوجبة أثناء الغفوة، ولكن لم يحدث الأمر ذاته إذا تمّ تشغيل اسم الوجبة حال يقظتهم. ومع أنه يُعتقد أن أغلب عمليات معالجة الذكريات أثناء النوم تحدث خارج وعي النائم، إلا أنه من الواضح اليوم أنها تحدث أثناء الحلم كذلك، ما يجعل من اختراق الأحلام تهديدًا محتملًا لذكرياتنا بل ولمعنى الذات، وهو معنًى يتحدد إلى حدّ كبير من خلال ذكريات حياتنا اليومية التي تستقرُّ وتندمج أثناء النوم.
ثمَّة توثيق جيّد لتأثير خبرات ما قبل النوم على مضمون الأحلام وسرديات أحداثها، وخصوصًا أحلام “الهيبناغوجيا” hypnagogic، التي تحدث قبيل النوم مباشرة أو فور الانتقال من اليقظة إلى النوم. فترة ما قبل النوم هي الوقت المخصَّص لمراجعة أحداث اليوم من أجل تحديد ووسم تلك الذكريات التي تتطلّب معالجة لاحقة أثناء النوم. ومن ثمّ، فإن الإقحام التجريبي لأية أفكار خلال هذه الفترة قد يعطي هذه الأفكار الأولوية في عملية معالجة الذكريات لاحقًا في تلك الليلة. فقد أوضحت دراسة أن ثلثيّ المشاركين، الذين قضوا ساعات في لعبة تتريس Tetris على مدى عدة أيام، ذكروا أنهم عايشوا حلمًا واحدًا على الأقل يحتوى على صور واضحة من اللعبة وذلك خلال فترة الانتقال من اليقظة إلى النوم في الليالي التي لعبوا خلالها تلك اللعبة. وفي دراسة أخرى، تبيّن أن الانغماس لفترة وجيزة في فقرة للطيران عبر نظارة الواقع الافتراضي أدى إلى زيادة معدل أحلام الطيران لدى المشاركين وذلك في غفوةٍ تعقب تلك الممارسة أو في الليلة اللاحقة.
تسعى عملية احتضان الأحلام المستهدفة إلى الاستفادة من الفترة المميزة عند الانتقال من اليقظة إلى النوم وذلك للتأثير على مضمون الأحلام خلال الدقائق الأولى من النوم. ثمَّة شاهد قصصيّ يشير إلى أنّ تذكّر الأحلام، لا سيما من فترة الانتقال من اليقظة إلى النوم، يعمل على تيسير عملية الإبداع. في كتابه أسرار المهارة السحرية الخمسين (1948)، وثَّق سلفادور دالي تقنية أطلق عليها: “إغفاءة بمفتاح”، حيث يجلس في كرسي ويضع أحد ذراعيه على مسند الذراع ممسكًا مفتاحًا ثقيلًا أعلى طبق مقلوب، ثمّ يستحضر في ذهنه مشكلة تشغله ويترك نفسه تسرح وتشرد حتى النوم. وعند الانتقال من اليقظة إلى النوم، تسترخي عضلات يديه فيسقط المفتاح مرتطمًا بالطبق فيوقظه، وغالبًا ما يستفيق وقد اكتشف حلًّا لمشكلته.
وكما أشرنا أعلاه، فقد أثبتت أداة دورميو، التي يمكن ارتداؤها، فعاليةً في تيسير احتضان الأحلام المستهدفة، حيث ينشأ عنها ما لا يمكن وصفه إلا بأنه أحلام خلّاقة إبداعية. في إحدى الدراسات، عندما طُلب من 25 مشاركًا التفكير في شجرة ثمّ جرى إيقاظهم من غفوات ما يصل إلى 67 مرة، ففي كل مرة -عدا مرة واحدة فقط-، ينشأ عن عملية الإيقاظ هذه حلم من أحلام الهيبناغوجيا، ووردت إشارات إلى أشجار في 45 حلمًا من هذه الأحلام. وكمثال على مدى إبداعية هذه الأحلام، فقد حكى أحد المشاركين قائلًا: “يمكنني سماع جذور الشجرة تخفق بنشاط وحيوية كما لو أنها تقودني إلى أحد الأماكن”، كما تذكّر مشارك آخر قائلًا: “كنت أكبر حجمًا من الأشجار بدرجة هائلة، ويمكنني أكلها كطعام بين أصابعي يؤكل باليد”. أما حكايات الأحلام التي نشأت لدى الأشخاص الذين استغرقوا في النوم وهم يشاركون في احتضان الأحلام المستهدفة فقد كانت أكثر إبداعية بدرجة كبيرة لافتة، وذلك وفقًا للمعايير الذاتية والموضوعية على حدّ سواء. ويمكن توظيف أحلام كهذه من قِبل الكُتَّاب أو الموسيقيين أو صُنَّاع الأفلام أو أيّ شخص آخر يتوق إلى الإلهام الخلّاق أو الاستكشاف الإبداعي.
إنّ دعم الإبداع وتعزيزه ليس إلاّ أحد الاستخدامات الممكنة لتقنيات احتضان الأحلام المستهدفة. فنحن، على سبيل المثال، نفحص حاليًّا هل من الممكن استخدام عملية احتضان الأحلام المستهدفة مع مَن يُعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وذلك من أجل دعمِ معالجةٍ في أثناء النوم للذاكرة المتعلِّقة بالصدمة وتيسير التعافي. كذلك يحدونا الأمل أنه يمكن استخدامها لعلاج مَن يُعانون من الكوابيس، وذلك بمساعدتهم على أن يحلموا بموضوعات كوابيسهم بطريقةٍ أكثر إبداعية وبتغيير قدراتهم على التحكم والضبط فيما يتعلق بمضمون الحلم.
ولكن هناك شواهد كثيرة تشير إلى أنه يمكن استعمال تقنيات احتضان الأحلام المستهدفة لأغراضٍ غير حسنة.
ثمَّة تاريخ ممتد للعلاقة الوثيقة بين دراسة الأحلام وصناعة الإعلانات في الولايات المتحدة. يُعرف عن إدوارد بيرنيز، ابن أخت سيغموند فرويد، أنه رائد العلاقات العامة وصناعة الإعلانات في الولايات المتحدة، وذلك، من بين أمور أخرى، عبر كتب مؤثرة مثل كتاب البروباغندا (1928) Propaganda. كانت نظريات فرويد، التي تناولت طبيعة الأحلام واللاوعي، هي ما استلهمه بيرنيز في مقارباته وأفكاره للتأثير على الجمهور العام، مع تركيز على خلق رغبات وارتباطات لا واعية. وفي سلسلة من الحملات الإعلانية التي لاقت نجاحًا هائلًا، برهن بيرنيز على أنّ القوى غير العقلانية التي تُحرِّك السلوك البشري يمكن تسخيرها من أجل “هندسة القبول”، والتلاعب بسلوك الناس دون إدراكهم هذا الأمر. إن التحليل النفسي هو المجال الذي أمدّ صناعة الإعلانات بفكرة البيع عن طريق الارتباط، مثل الربط بين السيارات والرجولة أو السجائر والحريّة، تمامًا كما هو الحال مع مشروع شركة كورس لاحتضان الأحلام؛ حيث رُبط بين الخمر والخبرات الإيجابية الترويحية.
ألْهَمَ بيرنيز، خلال العقود التالية، موجةً من رواد صناعة الإعلانات أن يوظّفوا مُحلِّلين لحوافز المستهلكين ومتلاعبين بمكنون أنفسهم، الذين سعوا جاهدين إلى الكشف عن الرغبات اللاواعية لدى المستهلكين وتوجيهها. وبدا أن المحفزات اللاشعورية، والتي استُكشِفت أوّلًا في مختبرات دراسة الإدراك الحسّي والانتباه، هي ما يتلاءم على أكمل وجه مع أغراضهم. فقد أشارت الأبحاث إلى أن المحفِّزات اللاشعورية يمكنها إيصال رسائل دون عتبة الإدراك الحسّي لدى الشخص، ما يسمح بإدخال دوافع وحوافز جديدة وارتباطات ذات مغزى لدى المشاهدين المستهدَفين، وذلك على نحو غير ملحوظ.
في عام 1957، عقد الباحث المتخصص في دراسة الأسواق جيمس فيكاري مؤتمرًا صحفيًّا -حيث يدّعي أن ظهور تعبيرات مثل “كُلْ فشار”، و”اشرب كوكاكولا”، على الشاشة لثوانٍٍ أثناء عرض أحد الأفلام أدّى إلى زيادة مبيعات هذَيْن المنتجَيْن بصورةٍ لافتة- هذا المؤتمر لمس وترًا حساسًا. فالادعاءات المتعلقة باحتمال وجود رسائل لا شعورية اشتُمَّ منها تلاعب إحدى إذاعات الدول الشيوعية بعقول الناس. وقد طُلِبَ، وعُقِد بالفعل، شرحٌ وتوضيحٌ لفكرة الإعلان اللاشعوري لهيئة الاتصالات الفيدرالية (FCC) وأعضاء الكونغرس، حيث عُرضت عبارة “كُلْ فشار” أمام الحضور في أثناء عرض أحد البرامج التلفزيونية، إلاّ أنّ الاستجابة كانت ضعيفة: حيث قال سيناتور بطريقةٍ مازحة: “أعتقد أنني بحاجةٍ إلى الهوت دوغ”، ويبدو أنه ما من أحد استولت عليه رغبة في تناول الفشار.
لا عجب أنّ الحضور لم يحرّكه شيء؛ فالدليل على أن الإعلان اللاشعوري يُسبِّب تأثيرات سلوكية كبيرة كان، ولا يزال، واهيًا إلى حدّ كبير. وباعتراف فيكاري نفسه (بعد خمس سنوات من تلك الواقعة)، كان فيكاري قد زيَّف دراسته. ورغم ذلك، فقد صرّحت هيئة الاتصالات الفيدرالية أنه: “بغض النظر عمَّا إذا كانت المادة اللاشعورية المُذاعة مؤثرة أم لا، فإن إذاعة هذه المادة يتعارض مع التزام المحطة بخدمة المصلحة العامة؛ لأنّ هذه المادة مُعدَّة ومُصمَّمة لتكون مُخادعة”. فمن وجهة نظر الهيئة التنظيمية، فإن أيّ رسالة تسعى إلى خداع وعي المستمعين ومراوغته من أجل التأثير فيهم دون أن يستطيعوا تقييمها هي رسالة مُخادعة بطبيعتها. وعلى نحوٍ أكثر تعميمًا، خَلَصت لجنة التجارية الفيدرالية، التي لها سُلطة تنظيم الإعلانات بأسرها، إلى أنه: “يُعَدُّ من الخداع والاحتيال أن يقوم العاملون في مجال التسويق بتضمين الإعلانات بما يُسمَّى الرسائل اللاشعورية التي قد تؤثر في سلوك المستهلكين”، ما يجعل هذا الأمر أحد الصور المحظورة من الإعلان والترويج. ولكن لم يصدر أيّ قرار يبين سريان هذا الحظر على انتهاك الأحلام، ولا بد أن صناعة الإعلان على وعي بغياب هذا الأمر.
إنّ ما يخشاه الناس حقًّا هو أن يستخدم التسويق اللاشعوري مشهدَ أحلامنا كفضاء إعلاني. فالمثيرات التي يجري غرسها أثناء النوم قد تؤثّر في الناس من دون أن يكون بمقدورهم تقييم تلك المؤثرات. ومن الأسهل كثيرًا غرس تلك المعلومات أثناء النوم منه في أثناء نوافذ اللاوعي المفتوحة لأجزاء من الثانية التي لا بد أن تتوافق معها المثيرات اللاشعورية. وعلى الأرجح، سيؤدي غرس الإعلانات في الأحلام إلى تغيير في السلوك، حتى لدى المشاهدين الذين لا علم لهم بهذا الأمر، وكذلك من لا يتذكرون من أحداث أحلامهم إلاّ القليل.
من المسلَّم به أن هذا حقل بحثي ناشئ، بيد أن ثمَّة ما يسوّغ الاعتقاد بأن هذه التدخلات والانتهاكات، حتى ولو كانت لبرهةٍ قصيرة وتحت التحكم والسيطرة خلال ليلة نومٍ واحدة، ستترك أثرها على سلوك الناس أثناء اليقظة. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة حديثة على المدخنين البالغين أنّ نشر روائح مستهدَفة بعينها -مزيج من البيض الفاسد أو السمك المتعفن أو دخان السجائر- أثناء نوم المشاركين في الدراسة، أدَّى إلى انخفاض معدل تدخينهم خلال الأسبوع التالي. وقال معظم هؤلاء المشاركين إنهم لا يتذكرون أيّ شيء بخصوص ذلك التدخل الذي حدث. ومما يزيد من تأكيد التأثير الملحوظ لهذا النوع من الإدراك الترابطي الذي يُدار أثناء النوم أنه حين قدَّم الباحثون القائمون على الدراسة الروائحَ ذاتها لمجموعةٍ أخرى من المشاركين وهُم في حالة يقظةٍ كاملة لم يكن للروائح أيّ تأثير على معدل تدخينهم لاحقًا.
لا يقتصر عمل هذا النوع من الأبحاث على إبراز مدى قوة العمليات التي يقوم بها المخ أثناء نومنا (ومع ذلك فهي لا تحظى بالتقدير والاهتمام الكافي)، وإنما يكشف أيضًا أن الذهن سريع التأثّر وبسهولة بما يجري أثناء نومنا وسرعان ما يُنسى في الوقت ذاته. ثمَّة مثال آخر هو الورقة التي نُشرت مؤخرًا وتبيّن أن تشغيل مقاطع صوتية مسجلة لبعض أسماء المنتجات أثناء النوم، وليس في اليقظة، قد يغيّر تفضيلات اختيار الوجبات الخفيفة ناحية إم آند إمز M&Ms أو سكيتلز Skittles. وقد خَلُص الباحثون إلى أنّ “النوم يمثّل على الأرجح فترة فريدة مميزة يحدث خلالها أن التفضيلات والاختيارات التي تكون مستقرّة ثابتة في غير أوقات النوم يمكن تعديلها بشكلٍ انتقائي من خلال عوامل ومؤثرات خارجية”. وإذا كان العلماء يعتقدون هذا الأمر حقًّا ويصدّقونه، فلن تتخلّف شركات التكنولوجيا عنهم كثيرًا.
طوّر عمالقة التكنولوجيا مثل أمازون وأبل وغوغل أدوات ذكية مُصمَّمة لمراقبة النوم (مثل مستشعر الرادار الذي ستطلقه أمازون قريبًا، وجهاز آيفون من أبل، وساعة أبل، وسوار فيت بيت، وجهاز نيست هاب من غوغل). وفي حين أن هذه التقنيات والبيانات التي تجمعها مُجهَّزة في ظاهر الأمر لتحسين النوم، فليس من الصعب تصوّر عالم تصبح فيه هواتفنا ومكبرات الصوت الذكية -الموجودة الآن بكثرة في غرف نومنا– أدوات لبثّ الإعلانات طوال الليل، أو لجمع البيانات، بعلمنا أو من دون علمنا.
وحتى لو كنَّا على استعدادٍ لأن نعطي الإذن لجمع البيانات حول نومنا، فمن الصعب أن نفهم بشكلٍ كامل كيف ستُستخدَم هذه البيانات. تصوّر أن تُباع هذه البيانات لشركات تبيع أدوات مساعدة للنوم، ومن ثمّ، لا سيما بعد ليلة عانيت فيها بعض الأرق، تكون الإعلانات التي تظهر أثناء عمليات البحث التي تجريها على الإنترنت تكون لمنتجات مثل بينادريل Benadryl، وأمبين Ambien، وتايلينول بي إم Tylenol PM، حتى ولو كنت لا تتذكّر مدى صعوبة نومك تلك الليلة. وحيث إنه من المعروف أن عدم النوم بقدر كافٍ يزيد من السلوكيات التي تنطوي على مخاطرة، فقد يتوقع المرء أن يُبتَلى بأحد الإعلانات المُوجَّهة الخاصة بلعب القمار عبر الإنترنت. ولأن هناك شاهدًا يربط بين قلّة النوم وتناول السكريات أيضًا، فقد تظهر إعلانات للحلوى. وإذا ما ذهبنا خطوة أبعد، والتقطنا الخيط من الأبحاث التي تدرس تغيير الحلوى المفضلة أثناء غفوات النوم، فمن السهل أن نتخيّل أحد الموسيقيين يتعاون مع مُصنِّع حلوى سكيتلز لتقديم مقطع صوتي يتمّ تشغيله أثناء الإغفاء لمدة ساعة لاحتضان أحلام مُهدّئة تخديرية للحلوى. ويمكن للعملاء أن يحصلوا على خصم نصف السعر لمجرد الاستماع لمقطعٍ صوتيّ مُهدّئ أثناء الإغفاء، وقد لا يكون هناك أيّ مطلب قانوني فيما يتعلق بوجود موافقة مُعلَنة واضحة بخصوص كيف ستؤثّر عملية الاحتضان على سلوك الشراء.
إذن، الحلوى في يدك، لعلّك ترغب في مشاهدة عرض وأنت تقضمها. وإذا كان هناك عرض ترويجي لمنصة نيتفلكس فهذا يعني أن اشتراكك سيكون مصحوبًا بمثيرات لاحتضان الأحلام أيضًا عبر تمكين أحلام مرتبطة بعرض جديد بعد قضائك وقتًا طويلًا في المشاهدة بشراهة حتى وقت نومك، هذا كله يحدث بينما تقوم أدوات قياس جودة النوم -بما في ذلك التغيرات في تنفّسك ونبضات قلبك خلال الأحلام- بإخبار المعلنين ما إذا كانت تلك المثيرات قد استُقبلت وعملت بكفاءة أم لا وكيف يمكن تخصيص الإعلانات المقبلة وتفصيلها.
بالتأكيد لن يكون هذا هو ما كنتَ تعتقد أنك توافق عليه حين أعطيتَ الإذن بالموافقة لتسجيل وجمع بيانات نومك.
ولتوضيح الأمر، فنحن لا نعتقد أن علم النوم والأحلام قد وصل إلى درجة كافية من التقدم في الوقت الحالي لدرجة الاستخدام الموثوق تقنيات احتضان الأحلام المستهدفة للتأثير في سلوك المستهلكين على نطاق واسع. إلا أن هذا لن يمنع الشركات من استخدام ما هو معروف بالفعل من أجل استكشاف آليات جديدة للتسويق وتمهيد الساحة حتى يكونوا جاهزين حين يتوصل العلم إلى ما يحتاجونه. وفي نهاية الأمر، فالسؤال الأساسي المطروح ليس بالضرورة ما إذا كانت إعلانات الأحلام تؤثر في سلوك الناس أم لا (فهي تؤثر بالفعل) أو ما إذا كانت الإعلانات على نطاق واسع المرتبطة بالنوم مُجزية ومُجدية اقتصاديًّا (فهذا الأمر لا يزال مُبهَمًا)، وإنما السؤال بالأحرى هو ما إذا كنا، كافراد وكمجتمع، نعتقد أن العاملين بالتسويق الماهرين والشركات الكبرى ينبغي أن يُسمَح لهم بجمع بيانات هائلة حول عمل أدمغتنا أثناء النوم، ناهيك عن استغلال تلك البيانات والتلاعب بها. وإذا كان ثمَّة درس واحد تعلّمناه من نشاطنا وممارساتنا وسلوكياتنا الخاصة على الإنترنت، فهو أنه بمجرد جمع تلك البيانات فإنها عرضة للتسريب والبيع واستغلالها من أجل تحقيق الأرباح والاستهداف الانتقائي والتلاعب والترويج لأغراض تجارية، وذلك دون علمنا.
إن وضع حدود فاصلة بين الاستخدامات المحتملة المفيدة والضارة للتكنولوجيا الناشئة المرتبطة بالنوم والأحلام ليس مسألة بسيطة سهلة. قد يكون كثير من الناس مهتمين بالأدوات الآسرة المصمَّمة لتيسير أحلام الطيران أو لإثارة أحلام صافية واضحة (أن تعرف أنك تحلم بينما لا تزال في الحلم). وقد يحبّذ بعضنا أحلام باتمان أو المرأة الخارقة/سوبروومان لأطفالنا (أو حتى لنا نحن!) لمجرد المتعة والتسلية، وقد يحبّذ البعض الآخر أحلام التمشية في مُدنٍ في إسبانيا أو تشيلي لتعزيز تعلّم اللغة أو حتى لتشجيع السياحة. في حين أن آخرين قد يدعمون هندسة الأحلام التي تهدف إلى مساعدة الناس على مواجهة مخاوفهم أو أن يصبحوا رياضيين أو فنانين بشكلٍ أفضل. وكما رأينا أعلاه، فقد تُستخدم تلك التقنيات أيضًا لتعزيز الإبداع وتخفيف الكوابيس وتسكينها، والمساعدة في علاج من يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، أو لتغيير سلوكيات ضارة مثل تدخين السجائر.
وبطبيعة الحال، لا نعدم المناطق الرمادية التي سيحتاج الناس إلى استكشافها وسبر غورها. ومن ثمّ، تتمثّل مسئوليتنا في خلق حوار وتحديد معالم تلك المناطق قبل أن تصبح تلك السيناريوهات أمرًا واقعًا. وثمة خطوات قُطعت بالفعل في هذا الاتجاه. ولمن هم على أول الطريق، فقد وقّعت مجموعة يزيد عددها على 40 باحثًا من المتخصصين في دراسة النوم والأحلام على وثيقة ترفض الحملات الإعلانية عن طريق الأحلام مثل تلك التي أجرتها شركة مولسون كورس، بينما أعدَّ آخرون مسودة ميثاق أخلاقيات هندسة الأحلام وذلك لتعزيز النقاشات المتعلقة بآثار هذا الحقل البحثي الناشئ والاعتبارات الأخلاقية التي ينبغي أن توجّه هذا المجال ليمضي قُدُمًا مواصلًا مسيرته إلى الأمام. أحد الأسئلة المتعلقة بالسياسة الواضحة المنظّمة لهذا الأمر هو ما إذا كانت لجنة التجارة الفيدرالية ستطلق بيانًا لإنفاذ تلك السياسة يُعلن بوضوح أن الإعلان الذي يستهدف الأحلام بدون موافقة مُعلَنة يُعَدُّ غشًّا وتدليسًا، وذلك كما هو الحال فيما يتعلّق بممارسات الإعلانات اللاشعورية.
على مدى العقد الماضي، دخلنا في حقبةٍ جديدة ومثيرة فيما يتعلّق بفهمنا للوظائف والعمليات المعقدة الكثيرة للغاية التي ينفذها المخ خلال مراحل النوم المختلفة، بما في ذلك تلك وثيقة الصلة بالأحلام. وفي حين أن تلك التطورات العلمية تحمل في طياتها وعدًا كبيرًا وبشرى عظيمة، إلا أنها تكشف في الوقت ذاته عن الطرق العديدة التي يمكن من خلالها إساءة استخدام تلك المعرفة والتكنولوجيا. لم تكن تجربة إعلان الأحلام التي أجرتها شركة كورس مجرد حملة تسويق تحايلية، وإنما كانت إشارة ودلالة على أن ما كان يندرج ذات يوم ضمن الخيال العلمي سرعان ما يصبح واقعًا نعيشه. والآن، نجد أنفسنا على منحدر زَلِق للغاية. أمَّا إلى أين ننزلق، وبأيّ سرعة، فهذا أمرٌ يتوقف على ما نتخذه من إجراءات من أجل الحفاظ على أحلامنا مَصونة محميَّة.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.