ترجمة: علي رضا – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
صعبٌ للغاية، تجريديٌّ للغاية، مشبوهٌ للغاية. ظلّ هيجل خارج نطاق الأسفار الفلسفية الإنجليزية لمدة قرنٍ من الزمان. فلماذا عاد نجمه إلى السطوع مرّةً أخرى؟
من بين الفلاسفة العظماء ليس هناك مَن ازداد ونقص تأثيرُه بقدر جورج فيلهلم فريدريش هيجل G W F Hegel. فعند وفاته عام 1831، كان الصوت المُهيمن على الفلسفة الألمانية. لكن سرعان ما انقسم أتباعه إلى معسكرَيْنِ متعارضَيْنِ: اليمين الهيجليّ، وهُم مجموعة دينية ومحافظة، واليسار الهيجليّ، وهُم جماعة راديكالية اجتماعيًّا، ومن بينهم كارل ماركس Karl Marx. وسط مشاجراتهم، بدأ نجم هيجل يَخفِت في ألمانيا. لكنّه -في أواخر القرن التاسع عشر- سطع مرّة أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية وبقية أوروبا. كان لهيجل تأثير عميق على بعض سُلالات الفلسفة القاريّة في القرن العشرين، مثل: الوجودية الفرنسية، ومدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية. لكن الفلسفة الناطقة بالإنجليزية في القرن العشرين وقفَت بقوةٍ ضد الفكر الهيجليّ الجديد الذي سيطر على الجامعات في نهاية القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت، اكتسبَت فلسفة هيجل سمعة سيئة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية (بما في ذلك الولايات المتحدة): كتاباته صعبة للغاية، وأفكاره مجردة للغاية، وسياسته، وكذلك لاهوته، مشبوهة للغاية. فتَعامَلت الفلسفة الإنجليزية مع أعماله بسخريةٍ واستهزاء، واستُبعِدت من الأسفار التي يحتاج الفلاسفة المتمرسون إلى إتقانها.
لكن المانع الذي أعاق الدراسات الإنجليزية لفلسفة هيجل قد انهار أخيرًا، وهناك عدد من الأمريكيين يَشُقون هذا الطريق. مرّة أخرى، يَسطَع نجم هيجل. فليس من المستغرب قولنا: إنّ الانفتاح الجديد على هيجل يُمثِّل نقطة انعطاف مهمة في الفلسفة الأمريكية.
لطالما كان استقبال هيجل في أمريكا مُعقَّدًا. ففي منتصف القرن التاسع عشر وحتى أواخره، كان يُقرَأ ويحظى باحترامٍ واسع. كان هناك العديد من المجموعات الراسخة، والتي غالبًا ما تكون مليئة بالمهاجرين الألمان، مُكرّسة لدراسة هيجل، مثل هيجليّ أوهايو وسانت لويس. كان هناك المثاليّون الهيجليّون البارزون في الجامعات، ولا سيَّما جوشيا رويس Josiah Royce، في جامعة هارفارد، وجي واتس كانينغهام G Watts Cunningham، في كورنيل. وربما الأهم من ذلك، تأثّر العديد من البراغماتيين، وخاصةً تشارلز بيرس Charles S Peirce، وجون ديوي John Dewey، بهيجل. (لم يكن ويليام جيمس William James من المعجَبين بهيجل). ثمّ بدأ ردُّ الفعل المضاد في إنجلترا، مع ثورة برتراند راسل Bertrand Russell، وجي إي مور G E Moore، ضد المثاليّين البريطانيين، لكن الأمريكيين استكملوا المعركة وهاجموا هيجل هجومًا مضاعفًا مع تَشرُّبهم لفلسفة الوضعيّين المناطقة logical positivists الهاربين من ألمانيا النازيّة في الثلاثينيات.
صورة لجي دبليو إف هيجل (1831)، للفنان جاكوب شليزنجر Jakob Schlesinger، في المعرض الوطني القديم Alte Nationalgalerie، برلين. الصورة مستخدَمة بإذن مارسيل مولينا جونيور/فليكر.
انقلبت الفلسفة الإنجليزية على هيجل لعدة أسباب. كان يُنظر إلى فلسفته على أنها خُلاصة لنظام ميتافيزيقي كبير يزعم أنه يكشف قَبليًّا عن البنية الأساسية للواقع بوصفها عقلية، أو بمُفردات هيجل، روحية – شيء مثل روح العالَم، أو (حتى أسوأ)، إله إسبينوزا تبعًا لمذهب وحدة الوجود pantheistic. وهكذا، لم يكن نظام هيجل ميتافيزيقا مُبَهرَجة فحسب، بل كان لاهوتًا مُبَهرَجًا أيضًا. دافعَ هيجل أيضًا عن الكلانية holism التي تتعارَض مع الفلسفة الذرية atomism، (والنظرية الأسسية foundationalistic في المعرفة)، التي تُصاحِب المذهب التجريبي empiricism بشكلٍ طبيعي وكأنها درس يُمليه علينا العلم الحديث. عارضَت فلسفة هيجل النزَعَات اللا-ميتافيزقية، والذريّة، والأُسسية، والتجريبية للفلسفة الإنجليزية، ذات التوجُّه العلماني المتزايد.
على مستوىً أقلّ تجريدًا، أصبحت الفلسفة الإنجليزية مفتونة بتطوُّرات المنطق التي بدأها جورج بول George Boole، وجوتلوب فريجه Gottlob Frege، وبرتراند راسل، وألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead. أصبحت البحوث في المنطق، المعمَّمة على فلسفة اللغة، الفلسفة الأولى في البلدان الناطقة بالإنجليزية. من هذا المنظور، كان منطق هيجل (الذي يمكن القول إنه لُبّ فلسفته) إمّا رجعيًّا بشكلٍ رهيب أو غير مفهوم، كحال حديثه عن الديالكتيك dialectic. جعل غموض كتابات هيجل رفض فلسفته أسهل. لأنّه في الأخير، هل بمقدور أحد تحديد ما كان هيجل يقصده فعليًّا؟
إنّ انبعاث حركة تقدير فلسفة هيجل، التي ازدهرت في العقود القليلة الماضية في أمريكا، قد استجاب لمعظم هذه الشكاوى. تلك الحركة التي قادها روبرت بيبين Robert Pippin، وتيري بينكارد Terry Pinkard، وكين ويستفال Ken Westphal. في الآونة الأخيرة، المجلد الضخم: “روح الوثوق A Spirit of Trust” (2019)، لروبرت براندوم Robert Brandom، الذي يُناقِش فيه كتاب هيجل: “فينومينولوجيا الروح Phenomenology of Spirit” (1807)، قد تجاوز تفسير هيجل لتطوير فلسفة، رغم أنها لا تزال متجذِّرة في فلسفة اللغة، إلاّ أنها تستعيد هيجل أيضًا بوصفه سلفًا أصيلًا، أو حتى السلف الوحيد.
كانت الخطوة الأوليّة التي قامت بها كتابات بيبين وبينكارد، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، هي تقديم قراءة “غير ميتافيزيقية” لهيجل. مثل هذه القراءة ترى فلسفة هيجل امتدادًا وتطرفًا لفلسفة إيمانويل كانط Immanuel Kant؛ إنها تؤكد على الجوانب التي يَنتقِد فيها هيجل، مثل كانط، الميتافيزيقيا العقلانية التي تعتقد أنّ الحقائق الأساسية التي تحكم العالَم يمكن أن تُعرف قَبليًّا عبر العقل وحده. فيقولون: إنّ هيجل لا يبحث في الحقائق فوق-الحسيّة، وإنما يبحث في المقولات categories التي نستخدمها للتفكير والتصرف داخل العالَم.
ليست الروح كيانًا متعاليًا فوق العالَم وخارجَه، وهي أيضًا ليست متطابقة مع العالَم المادي، وإنما هي العالَم الاجتماعي، وبشكلٍ خاص هي الهياكل المعيارية التي تُشكِّل التفاعلات الاجتماعية البشرية، وبالأخصّ العقلانية البشرية. تتجسد هذه الهياكل المعيارية في الظروف والأنشطة المادية بالضرورة، لكنها لا تَتطابَق مع الأنشطة الطبيعانية الموصوفة (أيّ غير المعيارية) للأجسام المادية. لنأخذ الشطرنج كمثال على الهيكل المعياري. لا يُمكِن مطابقة اتخاذ إجراء مثل لعب حركة معينة مع القيام بحركةٍ فعلية على رقعة الشطرنج المادية، أولًا لأن لعب الشطرنج لا يتطلّب القيام بحركاتٍ فعلية، فيمكن للمرء لعب الشطرنج باستخدام أنواع مختلفة من قطع الشطرنج أو دون أيّ قطع على الإطلاق. وثانيًا لأنّه يجب أن يقوم بها لاعبون مُتّبِعون للقواعد المعترَف بها على نِطاق واسع والتي تطورت تاريخيًّا. إنّ سَرديّة هيجل حول تطوُّر الروح هي سَرديّة عن تطوُّر الهياكل المعيارية الحاكمة، والمتحقِّقة في الهياكل والتفاعُلات الاجتماعية البشرية، تلك الهياكل التي تجعل التفكير العقلاني ممكنًا.
تتعامل هذه القراءة لمشروع هيجل مع البهرجة الميتافيزيقية المُفترَضة للنظام الهيجليّ، فترى أنها ليست معرفة لكيانٍ أو عالَم آخر، وإنما هي محاولة لتنظيم المعرفة (النظرية والعملية) المتراكِمة عبر التاريخ فيما يتعلَّق بالعالَم الاجتماعي المحسوس الذي نعيش فيه. كما أنّ النظام الهيجليّ ليس قَبليًّا: يسمح هيجل صراحةً بالتطور التاريخي المستمر لمخطَّط المقولات بوصفها مفردات التعبير عن العالَم. فبينما كان كانط يعتقد بثبات مخطَّط المقولات الذي يُهيكِل الفكر وعدم قابليّته للتغيير -ببساطة، هو معطى لنا- أدرك هيجل أنّ الفكر الإنساني قد تطوَّر وصَقَل نفسه بمرور الوقت، ليس فقط من خلال تراكم وقائع جزئية جديدة، ولكن أيضًا من خلال إعادة تنظيمها بطرق جديدة وتطوير أساليب جديدة للكشف عن أنواع جديدة من الوقائع، بل وخلقِها أيضًا. هناك مُتَّسَع في التطور الديالكتيكي لمقولاتنا قادر على استيعاب الاكتشافات التجريبية التي تؤدي إلى طرقٍ جديدة في التفكير، مثل تطوير ميكانيكا نيوتن. يُعتبَر الوعي التاريخي في فلسفة هيجل نقطة جذابة للعديد من الذين يجدون النهج اللا-تاريخي للفلسفة الإنجليزية السائدة ضيّق الأفق.
ومع ذلك، فإن أيّ إحياء حقيقي للفكر الهيجليّ بين الفلاسفة التحليليين الناطقين بالإنجليزية، سوف يحتاج إلى التغلب على الأسسية الذريّة التي ألهمتهم في الأصل بالمنهج التحليلي. هنا يظهر ويلفريد سيلرز Wilfrid Sellars على مسرح الأحداث، رغم أنه لم يُعرَّف بوصفه هيجليًّا على الإطلاق. الحقيقة أنّ سيلرز شخصية مثيرة للاهتمام. اعتبر نفسه فيلسوفًا تحليليًّا، وبجانب هربرت فيجل Herbert Feigl، الذي كان في الأصل عضوًا في حلقة فيينا، قام بتجميع أوّل كتاب معتمد للفلسفة التحليلية، وفي عام 1950، أنشأ مجلة: “دراسات فلسفية Philosophical Studies“، وهي أوّل مجلة باللغة الإنجليزية مُكرَّسة صراحة للفلسفة التحليلية. لكن قُرِئ سيلرز على نطاقٍ واسع في كل من الفلسفة التاريخية والمعاصرة، في الفلسفة القارّية وكذلك في الفلسفة الإنجليزية. إنه ببساطة لم يتقيّد بالحدود التي رسمها العديد من الفلاسفة “التحليليين”.
قبل سيلرز، تناول الفلاسفة “التحليليون” فكرة “التحليل” بجدية مُطلَقة: لقد سَعَوا لعزل “الذرات” الأساسية التي تُشكِّل معرفتنا وخبرتنا، بل العالَم نفسه. ثمّ سَعَوا لإظهار كيفية بناء هياكل المعرفة، والخبرة، والعالَم، وفق قواعد المنطق الحديث. لقد سعوا لتحديث فلسفة تجريبية مُستمَدة بالأساس من أعمال ديفيد هيوم David Hume، وجون ستيوارت ميل John Stuart Mill. إدراكًا لهذه النزعة التجريبية للفلسفة الإنجليزية، سعى سيلرز لنقلها إلى مرحلة كانطية أكثر صقلًا وإنصافًا لحقيقة أنّ التمثيلية representationality (أو القصدية intentionality)، التي تكمن وراء كل المعرفة والخبرة ليست ذريّة على الإطلاق، ولكنها دائمًا ما تكون منهجية، وتخضع دائمًا لقواعد، ولمعايير الصواب.
هاجم سيلرز النزعة الذريّة والأسسية في مقاله: “التجريبية وفلسفة العقل Empiricism and the Philosophy of Mind” (1956). على الرغم من طول المقال، فقد تبين أنه مجرد خطوط عريضة لمراجعة غنية ومعقدة لنظرية المعرفة وفلسفة العقل اللتين هيمنتا على الفلسفة الإنجليزية في منتصف القرن العشرين. لقد تنبأ بالعديد من التطورات الفلسفية في أواخر القرن العشرين. كانت النظرية الدلالية semantic theory أحد الأبعاد المهمة لوجهة نظر سيلرز، والتي -مقارنة بالنظريّات السائدة في ذلك الوقت- أتت مختلفة بما يكفي لتمكين أتباع سيلرز من البدء في فهم منطق هيجل، وهو ما يُعَدّ خطوة رئيسة نحو إحياء الفلسفة الهيجليّة. تتمثَّل مساهمة براندوم Robert Brandom في التفسير “اللا-ميتافيزيقي” الحديث لهيجل في كون النظرية الدلالية هي المفتاح لإحياء الفكر الهيجليّ، لذلك دعونا نفحصها من كَثَب.
اعتمد التقليد التحليلي على ما بدا أنه تصوُّر مباشر للدلالة اللغوية. في حين أنّ التركيب اللغوي syntax يتعلَّق بالعلاقات داخل اللغة (البناء الصحيح، القواعد النحوية لتكوين الجمل المشروعة لغويًّا)، فإن الدلالة اللغوية -نظام المعاني الخاص بتحديد محتوى التعبيرات اللغوية- تتعلق بالعلاقة بين اللغة والعالَم. لكن سيلرز يُنكِر احتياج الدلالة اللغوية إلى وجود علاقة أساسية بين الكلمة والعالَم، ويحاجِج بأنّ محتوى التعبير اللغوي -وكذلك محتوى المفاهيم والأفكار- هو مسألة العلاقة الاستدلالية inferential الصحيحة بينها وبين التعبيرات أو الأفكار الأخرى. لذا فإنّ الدلالات هي في المقام الأول مسألة علاقة كلمة بكلمة وليست علاقة كلمة بعالَم.
من أجل شرح هذه النظرية الدلالية الاستدلالية، يوسِّع سيلرز مفهوم الاستدلال ليشمل الاستدلالات السليمة صوريًّا والتي يبحث فيها المنطق الصوّري -الاستدلالات التي تعتمد فقط على البنية التركيبية للجمل المعنية، ومن ثمّ لا تؤثر الكلمات غير المنطقية على سلامة تلك الاستدلالات- وليشمل أيضًا الاستدلالات المادية Material inferences. الاستدلالات المادية هي الاستدلالات التي لا تعتمد سلامتها على بنيتها التركيبية فقط. على سبيل المثال، الاستدلال من “الكرة حمراء” إلى “الكرة ملونة” ليس سليمًا صوريًّا، ولكنه استدلال جيِّد للغاية.
من وجهة نظر سيلرز، لا تتعلَّق الدلالة اللغوية فقط بالعلاقات داخل اللغة؛ لأن استجاباتنا للعالَم من حولنا تُسمَّى انتقالات إلى داخل اللغة language-entry transitions (أو جُمَل الملاحظة)، والطريقة التي نتصرف بها وفقًا لنوايانا ورغباتنا المحددة، والتي تُسمى انتقالات إلى خارج اللغة language-exit transitions، هي أيضًا عناصر مهمة في تكوين المعنى. إنّ الكيفية التي يتفاعل بها المرء مع العالَم (ومع الآخرين) مهمّة لتفسير اعتقاداته ورغباته. والنتيجة هي أنّ محتوى الكلمة أو الجملة، وكذلك محتوى المفهوم أو الفكرة، يتم تحديده من خلال موقعه داخل نظام اقتصادي لغويّ معقد، والذي يتضمَّن جُمَل الملاحظة، والاستدلالات، والأفعال اللغوية speech acts المختلفة، وما إلى ذلك، وكلها تستجيب لمعايير الاستخدام السليم.
هذه دلالة لغوية كلانية ولا-أسسية؛ لأن محتوى التعبيرات لا يتحدَّد بشكلٍ مستقل عن التعبيرات الأخرى في النظام. التقط براندوم، زميل سيلرز الأصغر سنًّا، سلسلة أفكار سيلرز هذه وكشف حقيقة أن مفاهيمنا لها تاريخ، أيّ قصص تروي كيفية اكتساب هذه المفاهيم للعلاقات التي جعلتهم على ما هُم عليه. ثمّ استخدم براندوم هذه الرؤية للدلالة اللغوية من أجل تفسير مفهوم هيجل عن الديالكتيك. لا يشمل تفسير براندوم للعلاقات المادية بين المفاهيم فحسب، بل يشمل أيضًا الاستثناءات المادية؛ لأن ما يستبعده المفهوم أو لا يتوافق معه ماديًّا لا تقلّ أهمية محتواه عمَّا يَستلزِمه أو يُستلزَمه. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن يكون للألوان كتلة؛ لا يمكن أن تكون الأسماك من ذوات الدم الحار. تساعد هذه التعارُضات في تفسير فكرة التحديد السلبي التي يستخدمها هيجل كثيرًا. وفقًا لبراندوم، في كتابه: “روح الثقة“: “بوصفها مبدأً دلاليًّا براغماتيًّا عميقًا، إنّ الطريقة الوحيدة لفهم محتوى مفهوم محدَّد، كما يعتقد هيجل، هي من خلال إعادة بناء عقلاني للتاريخ التعبيري التقدمي المتعلق بعملية تحديده”.
هذا صحيح بالنسبة إلى مقولاتنا المفاهيمية -المفاهيم التي نَنظِم بها ذخيرتنا من مفاهيم الدرجة الأولى- كما هو الحال بالنسبة إلى مفاهيم الدرجة الأولى، والتي تنطبق مباشرة على الأشياء، والأحداث، وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، في جملة “كرة التنس صفراء”، إنّ كلمات “تنس”، و”كرة”، و”صفراء” كلها مفاهيم من الدرجة الأولى مُنطبِقة على شيء مُعيَّن. تُصنِّف المقولات المفاهيمية المفاهيم الأخرى إلى أنواع مفاهيمية، كما هو الحال في “الأصفر هو سِمة بصرية؛ الكرة شكل هندسيّ”. هناك أنواع مختلفة من السِّمات -البصرية، اللمسيّة… إلخ، وأنواع مختلفة من خصائص الأشكال- كرة، مكعب، حلقة. ومن ثَمّ فإن براندوم يوضِّح رؤية سيلرز الأصلية للدلالة اللغوية بطريقة تتصل مباشرة بفكر هيجل. دعنا الآن نفصّل ما يعنيه براندوم بـ “إعادة بناء عقلانيّ للتاريخ التعبيري التقدمي” المتعلِّق بتحديد المفهوم.
يتحدَّد محتوى المفهوم عبر موقعه في شبكة العلاقات الاستدلالية والتطبيقات الواقعية التي يلعب دورًا فيها. إنّ تحديد محتويات معظم المفاهيم التجريبية من الدرجة الأولى، مثل: “أرجواني” أو “فيل” ليس من مهامّ الفلاسفة. تتعلَّق وظيفة الفيلسوف بتحديد محتويات المقولات المفاهيمية، تلك الأفكار العُليا التي تَنظِم مجموعة من المفاهيم التجريبية الأدنى: ما يجعل شيئًا ما سببًا أو مادة.
إنّ محتويات المفاهيم الذاتية التي نستخدمها في التعامل مع العالَم من حولنا ليست ثابتة أو غير قابلة للتغيير. هناك العديد من مصادر التغيير في مثل هذه المفاهيم، وتُعَدّ التجربة أحد أهم تلك المصادر: فقد تَغيَّر المفهوم الأوروبي للبجع عندما اكتُشِفَت البجعات السوداء في أستراليا. يُمكِن للعلم التجريبي تضخيم مثل هذه التغييرات: فعلى سبيل المثال، نحن الآن نمتلك مفهومًا أكثر دقة عن الماء أو المادة، مقارنةً بأسلافنا منذ مئات السنين. عادةً ما تؤدي التجربة إلى تغيير مفاهيمنا التجريبية من الدرجة الأولى، ولكن يمكن أن تؤثِّر أيضًا على المقولات المفاهيمية.
وهكذا فإن تاريخ البحث هو قصة تغيَّرت فيها أيضًا مفاهيمنا عن السببية والشيئية المادية. ولهذا فإن البحوث التجريبية ليست هي المصادر الوحيدة للتغيير المفاهيمي؛ لأن التطورات في الدين، والفنون، والسياسة، والتفكير الفلسفي تؤثِّر أيضًا على الملامِح المتغيِّرة لمفاهيمنا. يُعتَرف الآن بالمساواة بين الجنسَيْنِ في الغرب بشكلٍ طبيعي، رغم أنها لا تُمارَس عمليًّا بشكلٍ طبيعي، وهو تغيير كبير مقارنة بالعصور السابقة. ومع ذلك، تظلّ إحدى المشكلات هي أنه ليس كل نِتاج التغيير المفاهيمي جيِّد. على سبيل المثال، هناك الآن حُجَج مُقنِعة مفادها أن مفهوم العِرق هو إضافة متأخِّرة نسبيًّا إلى الذخيرة المفاهيمية للثقافة الغربية، وأنه تغيير غير صحيّ على الإطلاق. لقد وفّر الشروط التمكينية للتمييز التعسفي والمؤذي بين الناس، ودعّم القمع الجائر ضد أعداد كبيرة من البشر. ومع ذلك، فهو مفهوم مُهمّ أيضًا في فهم الهياكل والممارَسات الاجتماعية الحالية؛ لا يمكننا التوقُّف عن استخدامه الآن.
هذا هو السبب في أنّ براندوم (متحدثًا باسم هيجل) يعتقد أنّ الإحاطة بمفهوم محدَّد يتطلَّب “إعادة بناء عقلاني” لتاريخه. تُعتبَر إعادة البناء العقلاني هذه بمثابة قصة عقلانية، ومستنِدة إلى الأدلة، حول كيفية وعلة اكتساب هذا المفهوم بالدور، العلاقات الاستدلالية، الذي يقوم به. في كثيرٍ من الحالات، ستوفِّر هذه القصة تبريرًا للاستخدام والتطوير المستمر لهذا المفهوم. في بعض الحالات، قد تَحُدُّ القصة من مجال التطبيق أو حتى تُقَوِّض استحقاقنا في الاستمرار في استخدام مفهوم ما، ومن ثَمَّ تدفَع تطوَّره في اتجاهٍ مختلف تمامًا. أيضًا، في بعض الأحيان قد تبرِّر هذه القصة التخلّي عن المفهوم تمامًا، وإسناد دور تاريخي بحت له، كما حدث مع فلوجستون phlogiston [عنصر كان يُعتقَد وجوده في جميع الموادّ القابلة للاحتراق].
ستتّسِم المفاهيم التي سيتمّ الاحتفاظ بها وتطويرها بـ “تاريخ تقدميّ تعبيري”. أمَّا المفاهيم التي (يلزم) التخلّي عنها أو تقييدها، مثل فلوجستون أو العِرق، فلن تتّسِم بذلك. سيكون التاريخ التقدميّ التعبيري هو التاريخ الذي يعرض استخدام المفهوم، على مدار تاريخه، ليتقدَّم دومًا نحو حال أفضل، ليكون تعبيرًا، في تحسنٍ مطَّرد، للمفهوم كما هو في الواقع (على الرغم من أنه ربما قد يواجه بعض الانتكاسات العرضية). لذلك، تُعَدّ تعريفات القواميس طُرُقًا سيئة لتحديد محتوى المفهوم؛ فهي في أحسن الأحوال تُعطينا لمحة سريعة فقط عن الوضع الحالي للمفهوم. أمَّا التحديد الحقيقي لمحتوى المفهوم فسيكون تقريرًا تاريخيًّا يعرض كيفية اكتساب المفهوم دوره الحالي في اقتصادنا السلوكي. الأمر نفسه ينطبق على توضيح محتوى المبادئ. بالطبع، لا ينتهي الحال بكل مفهوم أو مبدأ إلى الكشف عن جوانب من الحقيقة، و\من ثمّ لن تنتهي كل قصة توضيحية إلى تَبرِئة هذا المفهوم أو المبدأ. في أيّ لحظة عبر التاريخ، تكون بعض المفاهيم في خطر، فلن يَدعَمها بوضوحٍ تاريخ تقدُّمي تعبيري. سيتمّ إيضاح عناصر مثل مفهوم فلوجستون أو مبدأ تفوق العِرق الأبيض بحيث يظهر افتقارهم إلى التبرئة.
في شرح رؤيته لكيفية ظهور المفاهيم بشكلٍ ديالكتيكي، يستخدم براندوم تشبيهًا بالفكر القضائي في القانون العام. لم تُصَغ مفاهيم ومبادئ القانون العام صراحة وحَرفِيًّا قط. في الحقيقة، لا يمكن حسمها نهائيًّا، للأبد؛ لأنه لا يُمكِن تحديدها بالتفصيل الكافي لتطبيقها دون أحكام إضافية تأخذ في الاعتبار تفاصيل كل قضية على حدة. أيْ أنها تخضع بالضرورة للتكييف والتحسين استجابةً للظروف الجديدة أو المتغيرة. يُبدي كل قاضٍ رأيه في قضيةٍ معينة في ضوء وقائعها المسجَّلة وحيثيّاتها المُثبَتة. والشيء المثير هو أنه يُمكِن للقاضي أن يُقرِّر أن بعض أحكام القضايا السابقة خاطئة، وأن بعض الحيثيّات مُثبَتة أكثر من غيرها. هذا الحُكم، بدوره، مُعرَّض للردّ أيضًا. لا يوجد حدّ أو نقطة نهائية حيث يُحسَم كل شيء للأبد، ولا يوجد قاضٍ مُطلَق.
يجب أن يُنظر إلى محاولات البشرية لاكتشاف الحقيقة وفعل الصائب على أنها منخَرِطة في تأرجُح مماثل ومستمر بين اللاعبين. تتجه إجراءات القانون العامّ نحو العدالة بقدر ما يكون صدق انشغال القضاة بـ “الحكم الصحيح”، دون أن تُفسِده الاعتبارات الشخصية، والسياسية، والدينية، حتى عندما نعترف أنه لا يوجد قضاة موضوعيون بشكل مثالي. وإذا عدنا إلى العملية المجتمعية التي يُشبِّهها براندوم بالقانون العام، فسنجد أنها تأمُل أن تمضي أكثر فأكثر نحو الحقيقة فقط بقدر السعي الصادق (والعقلاني) للمساهمين في هذه العملية نحو إحراز الحقيقة وتعزيز الازدهار البشري. لا يمكن للمجتمع تحقيق حالته المثالية إلا إذا سادت روح الثقة المتسامِحة والعطوفة بين فاعليه. إن ديالكتيك هيجل ليس منهجًا فلسفيًّا غامضًا بقدر ما هو تمثُّل للعملية التي من خلالها يصل المفكرون المحدودون والعقلانيون إلى حقائق ثابتة ودائمة. في “روح الثقة“، يُخبِرنا براندوم أنّ فلسفة هيجل تشمل: “نظرية دلالية لغوية منيرة أخلاقيًّا؛ لأنه تبيَّن أنّ الفهم الصحيح لشروط امتلاك الأفكار والنوايا المحددة، والالتزام في الأحكام والأفعال بقواعد مفاهيمية ذات محتوى محدد، يفرض علينا تبني مواقف إدراكية لعملية متبادلة من نوع معيَّن: التسامُح، والاعتراف، والثقة… إن الفهم الصحيح لأنفسنا بوصفنا مخلوقات استنباطية-خطابية يُلزِمنا بتأسيس مجتمع يأخذ فيه الاعتراف المتبادل شكل التذكُّر المتسامِح: مجتمع مُلتزِم بالثقة ومبنيّ عليها”.
يشترك نهج براندوم في عديد النقاط مع نهج الهيجليّين “غير الميتافيزيقيين”، ولكن هناك بعض الالتزامات الميتافيزيقية المهمة كامنة بداخله. يجب الانتباه إلى أنه بالنسبة إلى براندوم، فإن “المفهوم” و”المبدأ” غامضين: هناك (سلسلة) المفاهيم البشرية أو الذاتية لـ س، تمثُّلات عقلية محدِّدة لزمانِ ومكانِ مجتمَعٍ ثقافيٍّ معينٍ، ثم هناك المفهوم الموضوعي لـ س، الحقيقة التامة، أو المثال الذي تهدف إليه سلسلة المفاهيم البشرية المعينة تلك. يلتزم براندوم بالواقعية (الذاتية) للمفاهيم والمبادئ الجزئية، والمتجسِّدة، والمحلية التي تعمل في أذهان الناس، كما يلتزم أيضًا بالواقعية (الموضوعية) للمفاهيم والمبادئ التي هي، بالمعنى الجيد للكلمة، “موجودة” في العالَم بشكلٍ مستقلّ عن أيّ مُفكِّر. يرى براندوم أن المفاهيم والمبادئ لها واقعية ذاتية وموضوعية، ومن ثَمّ فموقفه في هذا الصدَد مثل موقف أفلاطون. لكن وفقًا لبراندوم، لا يقع هذا الواقع الموضوعي للمفاهيم والمبادئ في واقعٍ فوق-حسّي معروف فقط عبر الحدس الخالص، ومن ثَمّ فموقفه في هذا الصدد مثل موقف أرسطو. يرى براندوم أن المفاهيم متضمّنة في صور الأشياء ذاتها. فهو يعتقد أن العالَم الموضوعي المعقول هو “دائمًا بالفعل في صورة مفاهيمية (ومن ثمّ فهو، في الأخير، معقول وقابل للتفكُّر فيه) بشكلٍ مستقلّ عن أيّ من نشاطات الأشخاص المفكرين الذين يبدوا لهم هذا العالَم معقولًا ومفهومًا من حيث المبدأ”.
يأخذنا التفكير في هذه الادعاءات إلى التعمُّق قليلًا في نظرية براندوم. العلاقات الاستدلالية التي تُشكِّل محتوى المفهوم هي روابط موجِّهية modal، ما يلزم ضرورة أن يرتبط بمفهوم ما، وما يمكن أن يكون مرتبطًا به فقط. ربما توجد موجِّهات أخرى أيضًا، مثل ما هو من المحتمل أو عادة ما يكون مرتبِطًا به، وأيضًا مثل ما يجب، أو لا يجب، أن يكون مرتبطًا به. يميل التجريبيون عادة، سيرًا على خُطى هيوم، إلى أن يكونوا متشككين للغاية بشأن الوجود الموضوعي لمثل هذه الروابط الموجِّهية، نظرًا لأنها غير متاحة مباشرة أمام التجربة الحسِّية. لكن عقلانية براندوم لا ترى أيّ مبرر للشكّ في الحقيقة الموضوعية للخصائص الموجِّهية والعلاقات “الموجودة” في العالَم.
في الواقع، يذهب براندوم إلى أبعد من تأييد الواقعية الموجِّهية المباشرة. في حين تُجسَّد المفاهيم الموضوعية وتُحدَّد من خلال خصائص موجِّهات الحقيقة Alethic والعلاقات بين كائنات العالَم (ما يلزم ضرورة/يُمكِن فقط أن يرتبط بشيء آخر)، إلا أنّ براندوم يعتقد أيضًا أن مفاهيمنا الذاتية تتجسَّد وتتحدَّد من خلال خصائص موجِّهات الواجب deontic والعلاقات بين مفاهيمنا عن الأشياء في العالَم (ما يجب أن يُفكِّر فيه المرء، أو مسموح له بالتفكير فيه، في ضوء ما يُفكِّر فيه الآخر). إنّ هدفنا المعرفي هو الوصول إلى التطابُق بين خصائص الواجب والعلاقات بين أفكارنا (على سبيل المثال، إذا اعتقدنا بأنها تُمطِر، فيجب علينا أيضًا الاعتقاد بأن الأشياء في الخارج ستكون مُبتلّة)، من ناحية مع خصائص الحقيقة والعلاقات بين موضوعات أفكارنا (أيّ إذا كانت السماء تُمطِر، فبالضرورة، ستكون الأشياء التي في الخارج مُبتلّة). إلى الحدّ الذي تعكس فيه أنماط موجِّهات (الواجب)، في أفكارنا الروابط الفعلية لموجِّهات (الحقيقة) بين الأشياء التي نُفكِّر فيها، وهنا نكون قد أدركنا الحقيقة. يلزم ملاحظة أن هذه هي أقصى حدود التطابُق: المفاهيم الذاتية قابلة للتغيير، وهي تتحدّد أكثر فأكثر كلَّما اقتربت من المفهوم الموضوعي الذي تهدِف إلى التقاطه. المفهوم الموضوعي (على سبيل المثال، ماهية السببية في العالَم) ليس، كما نظن، خاضعًا للتغيير: إنّه المثال الثابت الذي تهدِف إليه سلسلة المفاهيم الذاتية للسببية.
هيجل مثالي، ليس بمعنى أنه يعتقد أن العالَم يتكون فقط من حالات عقلية، إنه مثالي؛ لأنه يرى أن الذاتيّات والموضوعي تتشكَّل من خلال العلاقات الموجِّهية الثرية، الأولى عبر موجِّهات الواجب والثانية عبر موجِّهات الحقيقة، من بين عناصر هذه العوالم. إنه مثالي؛ لأنه يرى تماثُل بنيتَيْ الوجود والفكر، رغم “المفاتيح” المختلِفة (موجِّهات الحقيقة ضد موجِّهات الواجب).
بالطبع هناك رفض كبير تجاه قراءة براندوم لهيجل، خاصةً بين أولئك الذين يؤكِّدون على البعد الديني أو الروحي لفكر هيجل. يُفسِّر براندوم إله هيجل تفسيرًا انكماشيًّا deflationary: “الله الأبّ هو الصورة المكسوّة حسيًّا للمجتمع المحكوم معياريًّا، والذي تمّ توليفه من خلال السلوكيّات الإدراكية المتبادَلة (التي لها بِنْية الثقة) بين الأفراد الواعين بذواتهم”.
يواجه براندوم أيضًا صعوبة في تفسير تصريحات هيجل (أم التخلص منها؟) حول غائية العالَم، ونهاية التاريخ، وبقية جوانب نظام هيجل التي لا يذكرها براندوم سوى لِمامًا.
بدأت حركة إعادة إحياء هيجل في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية بتناول فلسفته الاجتماعية والأخلاقية، حيث كان اعتراف هيجل بالتواصلية الاجتماعية الجوهرية للبشرية تصحيحًا مهمًّا للفردانية شبه الأنوية solipsistic لليبرالية التنويرية. حطَّمت قراءات هيجل اللا-ميتافيزيقية المزيد من الحواجز أمام الفهم المعاصِر من خلال إظهار أنّ هيجل لا يحتاج إلى أن يُقرأ بوصفه إحياءً لعلم الوجود اللاهوتي onto-theology العقلاني الذي عفا عليه الزمن. يوضِّح عمل براندوم، بدوره، أنّ قراءة هيجل يُمكِن أن تساهم في فهمٍ أعمق للمنطقة التي لطالما كانت مركزية للفلسفة الإنجليزية “التحليلية”: فلسفة اللغة. من خلال إيجاد “نظرية دلالية لغوية منيرة” في فلسفة هيجل، وضع براندوم هيجل في قلب الفلسفة الناطقة بالإنجليزية.
هيجل من أعظم الفلاسفة. وبقدر ما أتعاطف مع القراءات اللا-ميتافيزيقية لفلسفته، لا أعتقد أنه يُمكِن للمرء تَجاهُل علم الوجود اللاهوتي المتضمَّن في كثير من كتاباته. أيُّ تأويل تاريخي دقيق لهيجل يجب أن يأخذ ذلك في الحسبان. لكن ليس هذا ما يجعل هيجل مُلهِمًا بحق، وإنما تَبصِراتُه الثاقبة في بِنْية المشكلات الفلسفية. إن الديالكتيك، الذي غالبًا ما يُمثِّل مشكلة لشرَّاح هيجل، يستند، في رأيي، إلى الإصرار على أنه لا يوجد مفهوم قائم بذاته. الديالكتيك هو البحث عن سياق أوسع يمكن من خلاله لمفهوم مستهدَف -سواءً كان مفهومًا شديد التجريد والعمومية مثل الوجود أم مفهومًا ذا تطبيق محدَّد مثل اليقين الحسّي أو العمل الفني أو شخصية اعتبارية- لعب دورَه بحقّ في التقاط الواقع الذي نعيش فيه. ولا يُمكِن للمفهوم المستهدَف تأدية وظيفته بشكل جيِّد سوى في صحبة المفاهيم الأخرى، والتي بدورها تقودُنا إلى مفاهيم أخرى، وهكذا. لا يقبض المنطق الصوري على هذه العلاقات.
مرارًا وتكرارًا، عندما أنظر في معالجة هيجل لبعض الموضوعات الفلسفية، تنبثق الاستنارة من كتاباته (التي غالبًا ما تكون غامضة). لقد اتضح لي أن فضّ نسيج نثر هيجل الفضفاض يستحقّ الجهد المبذول؛ حيث يوفِّر لنا لمحات عن كيفية “تماسُك الأشياء معًا”، والتي يفشل الآخرون في رؤيتها.
الهوامش
1- ويليم ديفريس Willem de Vriesis، أستاذ الفلسفة بجامعة نيو هامبشاير. تشمل كتبه “نظرية هيجل للنشاط العقلي Hegel’s Theory of Mental Activity” (1988)؛ “المعرفة، والعقل، والمعطى Knowledge, Mind, and the Given” (2000)، مؤلف مشارك مع تيم تريبليت Timm Triplett لكتاب “ويلفريد سيلرز Wilfrid Sellars” (2005)، والمجموعة المحررة “التجريبية والمعرفة الإدراكية والمعيارية والواقعية Empiricism, Perceptual Knowledge, Normativity and Realism” (2009).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.