إنّ تفكير سبينوزا من ذلك النوع الذي يُغري بأشدّ التفسيرات تضادًا. فكتاباته – لاسيما كتابه الأكبر «الأخلاق» -، تُغري كل عصر بأنّ يفسّرها تبعًا لمقتضياته الخاصة، وكل كاتب بأن يجد فيها انعكاسًا لاتجاهاته الفكرية المفضلة، وهذه ظاهرة من أعجب الظواهر في تاريخ الفلسفة. وبهذه الفكرة افتتح فؤاد زكريا حديثه عن نظرية الأخلاق عن باروخ سبينوزا.
الطابع الأساسي للنظرية الأخلاقية
أهمّ طابع يمثّل النظرية الأخلاقية عند سبينوزا هو القول بأنّ الإنسان لا يقف بمعزل عن الطبيعة وقوانينها؛ إذْ انتقد سبينوزا بشدة أولئك الذين تصوّروا الإنسان على أنه «يقف من الطبيعة كأنه دولة داخل دولة، ويظنون .. أنّ له سلطانًا مطلقًا على أفعاله، وأن شيئًا لا يتحكم فيه سوى ذاته». نقطة البداية الأساسية في هذه النظرية هي الإدراك العلمي للارتباط بين الإنسان وبين الطبيعة بوجهٍ عام، ومن ثم تأكيد سيادة فكرة الضرورة في مجال الإنسان بدوره؛ «فمن المحال ألاّ يكون الإنسان جزءًا من الطبيعة، أو أن يكون قادرًا على أن لا يتأثر إلاّ بالتغيرات التي يمكن فهمها من خلال طبيعته بوصفها العلّة الكافية لها».
وأهمّ ما استحدثه سبينوزا، نتيجة لهذه النظرة إلى الإنسان، هو أنه نزع عن عالم الإنسان الباطن قناع الصوفية والغموض الذين كان السابقون عليه يخفون الإنسان به، وأدرجه ضمن الظواهر العلمية الخاضعة للبحث والتحليل، وبحثه، كما قال في مقدمة الباب الثالث من الأخلاق: «كما تُبحث الخطوط والمسطحات والأجسام». وهكذا أكد أن الهدف من علم الأخلاق ليس الوعظ والإرشاد، إنما الدراسة، والبحث، والفهم، فنَقَل بذلك الأخلاق من مجال ما ينبغي أن يكون إلى مجال ما هو كائن، وأكد أن مهمته بوصفه باحثًا أخلاقيًا ليست أن يحتقر أو أن ينتقد، إنما أن يفهم الطبيعة البشرية على ما هي عليه. وهكذا تجاوز سبينوزا الحواجز بين الواقع والمثَل العليا، وبين ما هو فعلي وما هو معياري مثالي، وأنكر الخير المطلَق، ومن ثمّ عالم الغايات الذي تركزت فيه الأخلاق المثالية بأسرها.
هذه الصفة الأساسية تفسّر الطابع الفريد الذي تتميز به الأخلاق عند سبينوزا: فالأخلاق من وجهة نظر معينة مستحيلة في مذهبه، فيما هي من وجهة نظرٍ أخرى أساس ذلك المذهب والعنصر الجوهري فيه. ومن المستحيل تفسير هذا الازدواج الغريب إلاّ من خلال الارتباط الوثيق بين موضوع الأخلاق، وهو الإنسان، وبين ضرورة الطبيعة في مجموعها.
من المستحيل، كما قال هفدنج، أن يكون للأخلاق قيام في مذهبٍ ينظر إلى الوجود من خلال صورة الأزل. ففي مثل هذا المذهب تطغى الضرورة المطلقة إلى حدٍ لا يعود معه في وسع المفكر أن يعالج أيّ موضوع من منظور الإنسان وحده، وهو المنظور الضروري في الأخلاق. ولكن هفندنج يتغلّب على هذه الصعوبة بالتفرقة بين وجهة النظر الأزلية ووجهة النظر العملية، والقول إنّ الحديث في الأخلاق يعالج الطبيعة من حيث هي مطبوعة، أيّ من حيث أنها تتضمن كائنات جزئية ذات سلوكٍ عمليّ متناهٍ.
ومع ذلك يصعب من وجهة النظر هذه الاهتداء إلى مكانٍ للأخلاق في مذهب ينظر إلى الوجود من وجهه الأزلي، فإن من الممكن، من وجهة نظر أخرى، القول بأنّ الأخلاق هي الموضوع الأساسي في تلك الفلسفة. وليس لأحدٍ أن يدهش على الإطلاق لأن سبينوزا أطلق على كتابه الرئيسي اسم الأخلاق في الوقت الذي عالج فيه موضوعات ميتافيزيقية خالصة. ذلك لأن الحدّ الفاصل بين البحث في الطبيعة من وجهها الشامل وبين البحث في الإنسان لا وجود له عند سبينوزا. بهذا المعنى أيضًا التفرقة بين الواقع والواجب، وبين العلم النظري والبصيرة العملية، وبين الأخلاق والعلم.
الطبيعة والقيم الأخلاقية
يقول فؤاد زكريا نستطيع أن نقول إن المظهر الرئيسي للاختلاف بين وجهة نظر سبينوزا ووجهة النظر التقليدية إلى الأخلاق هو أن القيم الأخلاقية عنده ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة، بينما كانت القيم الأخلاقية في نظر الفلاسفة التقليديين هي الغاية النهائية لسلوك الطبيعة بأسرها وهذا الفارق الرئيسي هو الذي يحدد الاختلاف بين وجهة النظر العلمية الصارمة عند – سبينوزا – وبين وجهة النظر الغائيّة السائدة من قبله.
الطبيعة عند سبينوزا خالية تمامًا من القيم البشرية: «إنّني لا أعزو إلى الطبيعة جمالاً ولا نظامًا ولا اضطرابًا؛ فليس في وسع المرء أن يقول عن الأشياء إنها جميلة أو قبيحة، منظمة أو مضطربة، إلاّ من وجهة نظر الخيال». والخير والشر لا وجود لهما إلّا في ذهننا، لا في الطبيعة، وليست لهما أية دلالة ميتافيزيقية، إنما هما يتعلقان بوجهة نظر البشر فحسب وبعبارةٍ أخرى، فالخير والشر «لا يدلان على صفة إيجابية في الأشياء منظورًا إليها في ذاتها، إنما هما أحوال للفكر أو موضوعات فكرية نكوّنها من مقارنة الأشياء بعضها ببعض. وهكذا يمكن أن يكون الشيء الواحد في نفس الآن خيرًا وشرًا، وسويًّا إزاء هذا وذاك». مثال ذلك أن هبوط سعر سلعة ما يمكن أن يُعد خيرًا من وجهة نظر الشاري، وشرًّا من وجهة نظر البائع، أما من وجهة نظر الشخص الذي لن يشتري هذا السلعة ولن يبيعها ولا صِلة له بها، فليس لهذا الحادث معنىً أو قيمة في ذاته. فإذا تساءلنا بعد ذلك عن دلالة الحادث – أعني هبوط سعر هذه السلعة – كما هو في ذاته، لكان الجواب هو أن الحادث في ذاته لا ينطوي على قيمة أو دلالة أخلاقية، بل إنه يتخذ هذه الدلالة من وجهة نظرنا نحن، ونتيجة لمقارنتنا إيّاه بحوادث أخرى في سياق حياتنا.
نقد فكرة حرية الإرادة
يظهر اتساق الاتجاه الحتمي في نظرية سبينوزا الأخلاقية بوضوح في نقده لفكرة حرية الإرادة. فعلى خلاف معظم المذاهب الفلسفية التي لم تتصوّر إمكان قيام الأخلاق دون إرادة حرة، يؤكد سبينوزا أنّ الاعتقاد بحريّة الإرادة وهمٌ باطل. وأثره من آثار الجهل بالأسباب الحقيقية، وأننا لن نستطيع فهم الإنسان على حقيقته، ومن ثمّ فهم طبيعة سلوكه، طالما أننا نفترض مقدّمًا مثل هذه الفكرة الباطلة.
يوضح سبينوزا، في رسالته رقم 58، طريقته الخاصة في فهم الحرية فيقول: «يكون الشيء في رأيي حُرًّا عندما يوجد ويفعل حسب ضرورة طبيعته وحدها، ويكون مرغمًا عندما يتحكم شيء آخر في وجوده وفعله تبعًا لقاعدةٍ محددة». ويشرح سبينوزا اعتقاد الإنسان بحرية إرادته عن طريق التشبيه التالي: إنّ الحجر لا يتحرك إلاّ إذا دفعته علّة خارجية. لنتصوّر أن هذا الحجر يعتقد، أثناء حركته، أن جهده هو الذي يجعله يتحرك؛ إذْ ليس لديه وعي إلاّ بجهده هو، على حين أنه يجهل الأسباب الخارجية التي تحكمت في حركته، وهكذا يتصوّر نفسه حُرًّا. تلك هي حال الحُريّة البشرية.
ويلاحظ في تعريف سبينوزا للحرية، أنها لا تتعارض مع الضرورة، إنما مع التحكم أو الإرغام الخارجي. فالحرية هي الضرورة الباطنة، أيّ أنّ الكائن يكون حُرًّا إذا لم يكن يرغمه شيء خارج عنه، إنما يكون سلوكه متفقًا مع الضرورة الباطنة لطبيعته فحسب. ومن الواضح أنّ الحرية بمعناها الحقيقي لا تتوافر في هذه الحالة إلّا للكون بمعناه الشامل، الذي لا يتحكم في شيء ولا يوجد شيء خارجه حتى يقال إنه يرغمه. وهذا هو معنى العبارة المصوغة بلغةٍ لاهوتية، القائلة إنّ الله وحده هو الحُرّ.
النتيجة الثانية لهذا الفهم الخاص للحرية، وربطها بالضرورة الباطنة، هي الربط بين الاعتقاد الباطل بحرية الإرادة البشرية، وبين الجهل بالأسباب؛ «فالناس يخطئون حين يظنون أنفسهم أحرارًا، ومردّ اعتقادهم هذا إلى شعورهم بأفعالهم الخاصة، وجهلهم بالأسباب المتحكمة فيها. إذن ففكرتهم عن الحرية ليست إلاّ جهلهم بمسببات أفعالهم. أما قولهم إن الأفعال البشرية تتوقف على الإرادة، ما هي إلاّ عبارة لا تطابقها أية فكرة. فلا أحد منهم يعلم ما هي الإرادة، وكيف تحرك الجسم، أما أولئك الذين يباهون بمثل هذه المعرفة، ويتخيلون مساكن أو مقارّ تحلّ فيها النفس، فلا يثيرون إلاّ الضحك أو الاشمئزاز. إذن، فمن المحال أن يكون الإنسان حُرًّا بمعنى أن له مشيئة أو إرادة تسلك من تلقاء ذاتها دون أن يتحكم في سلوكها سبب خارجي؛ إذ إن الإنسان على صلة مستمرة بعوامل لا متناهية في العالم المحيط به، ومن المحال أن يسلك على أيّ نحو دون أن يأخذ هذه العوامل بعين الاعتبار؛ «فليس للذهن إرادة مطلَقة أو حُرّة؛ إنما يتحكم في رغبته في هذا الشيء أو ذاك سبب تحكم فيه بدوره سبب آخر كان له بدوره سبب ثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية».
مع ذلك فهناك، رغم هذه الضرورة المطلَقة، شعور مؤكد لدى الإنسان، ورغبة في الحكم على الأشياء، كما لو كان المرء هو الآمر الناهي في مجاله الخاص. وهكذا يفرق سبينوزا، رغم إيمانه بفكرة الضرورة، بين القوانين الطبيعية والقوانين التي يسنّها الإنسان، ويفسرّ الاعتقاد بوجود نوع من القوانين الخاضع لإرادة الإنسان. بأنه راجع إلى جهلنا بالأسباب النهائية القصوى، وإيثار الحديث عن الأسباب القريبة، ما يؤدي إلى قبول فكرة عرضية الأشياء، حتى تكون الحياة ممكنة، بالنسبة إلينا.
واضح، من هذه الفكرة الأخيرة، أنّ سبينوزا يقول بمستوياتٍ مختلفة لتفسير فكرة الحرية. ففي المستوى المطلَق يكون كل شيء ضروريًا، وتنتفي الحرية بمعنى المشيئة التي لا تخضع لعامل خارجي، أما على المستوى النسبي أو الحيوي فإن بعض الأشياء يكون عرضيًا إذا كانت معرفتنا بأسبابه غير كافية، وإذا كانت رغبتنا قوية في أن نسلك كما لو كنّا نتحكم فيه بالفعل. هكذا تكون الضرورة بالنسبة إلى سبينوزا مثلاً أعلى للمعرفة: فإذا تأملنا الأشياء من وجهة نظر المعرفة الكاملة بها، أيّ إذا تصوّرنا أن لدينا معرفة كاملة بأدقّ تفاصيل الطبيعة، فمن الواجب عندئذ أن يختفي الاعتقاد بحريّة الإرادة، ويصبح كل شيء مرتبطًا ارتباطًا ضروريًا بأسبابه المعروفة. ولكن الملاحظ من جهة أخرى أنّ موقفنا الإنساني ذاته لا يتيح لنا الوصول إلى هذه المعرفة الكاملة التي تغدو كل الحوادث في ظلّها ضرورية.
معرفتنا بطبيعتها ناقصة، ولا يمكن أن تستوعب كل شيء، وهذا الجهل الذي نعيش فيه – بدرجاته المتفاوتة – يجعل لفكرة حريّة الإرادة مكانًا في تفكيرنا على الدوام. إذن، حرية الإرادة فكرة واقعية، أما فكرة الضرورة فهي تعبير عن مثل علمي أعلى. والفكرتان تنتميان إلى منظورين مختلفين: منظور الحياة الفعلية من جهة، ومنظور المثَل الأعلى للمعرفة العلمية من جهة أخرى. ويبدو أنّ سبينوزا لم يكن يرمي إلاّ إلى استخلاص هذه النتيجة، أيّ إلى أن يقول: تستطيعون أن تعتقدوا أن إرادتكم حُرّة طالما أنكم تجهلون الأسباب الحقيقية للظواهر. وأنا لا أنتقدكم على ذلك. ولكن كل ما أريده منكم هو أن تعترفوا بأنّ المعرفة الكاملة لهذه الأسباب كفيلة بأن تقضي على اعتقادكم الحال بحرية الإرادة، وبأنّ تأمل الأشياء من وجهة النظر الشاملة يؤدي حتمًا إلى سيادة فكرة الضرورة.
يؤكد سبينوزا هنا على أنّ الضرورة لا تقضي على القوانين الإلهية، ولا على القوانين البشرية. وسيظلّ للأخلاق دائمًا نفعها سواءً اتخذت الأوامر فيها صورة القوانين أو الشريعة الإلهية، أم اتخذت أية صورة أخرى. وسواءً نظرنا إلى القواعد الأخلاقية على أنها تصدر عن الله، أو تأملناها من حيث هي صورة صادرة عن ضرورة الطبيعة، فستظلّ في كل الأحوال نافعة لنا.
جملة القول، إنّ موضوع الأخلاق من المواضع التي لا يمكن إغفالها البتة، خاصةً في ظلّ التطور الذي يعرفه العالم على مستوى العلاقات وعلى مستوى القيم. ذلك أنّ القيم وُجدت مع وجود الجنس البشري، وستبقى معه، وكلما اختلّت تلك الأخلاق اختلّ معها المجتمع؛ لذا نحن بحاجة ماسّة إلى الاهتمام بهذا الموضوع خاصةً على مستوى مدارسنا وجامعاتنا.