أولًا: مقدمة
تميّزت الأفكار السياسية منذ العصر اليوناني، وطيلة العصور الوسطى، بكونها مثالية وحالمة، تتوق إلى إنشاء المدن الفاضلة، ما تجسّد مع أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة»(1)، الذي بلور فيه نتيجة مفادها إنّ الحُكم لا يمكن أن ينجح إلّا بتسيير الفلاسفة، حيث يقول: «إنّ الدّولة لن تتخلّص من شرورها إلّا إذا حَكمها الفلاسفة»(2)، فبحسبه تُبنى الدولة وفقًا لمبادئ طبيعية، عندما تسير على منهج الفئات الحكيمة التي تتّصف بالمعرفة، وليس من أحد يحظى بهذا الوصف سوى الفئة القليلة في الدولة، وهي فئة الفلاسفة «الذين نقول إنّ علينا توْليتهم الحُكم»(3)؛ فنجد المدينة الفاضلة أشهر مُدن أفلاطون من حيث الفكرة، التي استحالت أن تتحوّل إلى واقع يمكن تحقيقه إلى الآن.
وتجسّدت في تُربتنا الإسلامية مع أبي نصر الفارابي الذي أعاد الفكرة نفسها، في العصر الوسيط من منظور ديني إسلامي، اعتمد فيها على حاكِم يوحّد الأمّة، بحيث خرج من نطاق «المدينة» المحدود جغرافيًّا إلى مفهوم «الأمّة» الواسع النّطاق؛ فنجده يقول عن مواصفات هذا الحاكم، إنه «الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلًا. وهو الإمام، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، ورئيس الأمّة الفاضلة، ورئيس المعمورة من الأرض كلّها»(4)، فارتكزت فكرة الفارابي في القرن الرّابع الهجريّ/العاشر ميلادي، على وحدة الأمّة، لِما كان حالها من تشتّت وانقسام، فأراد بشكل أو بآخر جمع شتاتها سياسيًّا، وحتّى دينيًّا، على إثر الخلاف الشّديد بين الفقهاء، والسبب الأساسي اختلافهم حول مَن يتوّلى الحُكم؟ ومن الأحقّ بالخلافة؟ وهي مسألة سياسية صُبغت باللون الديني، ما يظهر بجلاء في قول الفارابي: «ملوك المدن الفاضلة، الذين يَتَوَالَوْنَ في الأزمنة المختلفة، واحدًا بعد آخر، فكلّهم كنفْس واحدة، وكأنّهم مَلِك واحد يبقى الزّمان كله. وكذلك إنْ اتّفق منهم جماعة في وقت واحد، إما في مدينة واحدة، وإما في مدن كثيرة، فإنّ جماعتهم كَمَلِك واحد، ونفوسهم كنفْس واحدة»(5).
ولعلّ المُتمثّل في النّموذجين السّابقين أنّهما يطرحان الفكرة نفسها التي تدور حول ما يجب أن يُوجد، وليس ما هو موجود. من هذا المنطلق، كانت السياسة عبارة عن خلط واضح بالدّين، ولم تكن تلك القضيّة التي تغوص في أعماق الشّعب والحاكم معًا، وتنهل من فلسفاتهما، وهو ما بدأ أثناء عصر الحداثة الأوروبيّة تحديدًا القرن السّادس عشر ميلاديّ، حيث كان علامة فارقة في الفلسفة السّياسيّة؛ فنزل بالمدينة الفاضلة المتعالية هناك في السّماء إلى الأرض حيث الواقعيّة الملموسة.
سنلمس حدوث قطيعة مع المدن الفاضلة – في العصور القديمة والوسطى – بظهور عصر النّهضة والزّمن الحديث، حيث سيتمّ الانتقال من المدن الفاضلة إلى الواقعيّة السّياسيّة، بمعنى الانتقال ممّا يجب أن يكون إلى ما هو كائن، وهو ما تبلور مع نيكولو مكيافيلي(6)، الذي كان بطل هذه القطيعة أو النّقلة، إن صحّ التّعبير.
فعندما نقول عِبارات مثل: أستاذ الشّرّ، نائب الشّيطان، محامي الخداع، منهج الوصوليّة… وغيرها من الصّفات والنّعوت القدحيّة، يتبادر لأذهاننا مباشرة دون تردّد اسم نيكولو مكيافيلي؛ إذْ ظلّت هاته الأوصاف لصيقة بالمفكّر الإيطاليّ منذ كتابته أشهر مؤلَّفاته «الأمير» لعهد قريب للغاية، وتُعزى التّشبيهات تلك لأسباب متعدّدة، كانت في الحقيقة اتّفاقًا بين الدّارِسِين حول كون المكيافيلّيّة منهج الوصوليّة بامتياز.
خلافًا لهذا الحُكم المطْلق، سنحاول البحث في دهاليز سياسته، وما أحاط بها من أسباب موضوعيّة وربّما ذاتيّة، تجعلنا نؤكّد الحُكم السّابق أو نصل لنتيجة أخرى مفادها إنّ الرّجُل أُسيء فهمه، وربّما كان خطأ في قراءة أفكاره وتحليلها، بما يجعلنا نسير ضدّ التّيّار، ونقول: المكيافيلّيّة ليست وصوليّة.
لمقاربة هذا الموضوع نطرح الأسئلة التّالية: لماذا كان مكيافيلي – وما يزال لدى الكثيرين – مرادفًا للشّرّ والخداع؟ ألا يوجد خير في السّياسة؟ ما موقع الخير والشّرّ فيها؟ أليست الكياسة مطلوبة بحدّة إذا كانت المصلحة عامّة؟ لماذا خاطر بحياته كي ينصح أميرًا، وهو المَنْفِيّ الفقير من عامّة الشّعب؟ ما الغرض الحقيقيّ لتأليفه كتاب الأمير؟ وأخيرًا ما أهمّ النّقاط في كتابه هذا المثير للجدل؟
ثانيًّا: السياق السياسي والثقافي لظهور المكيافيلّيّة أثناء عصر النّهضة
وُلد نيكولو مكيافيلي في فلورنسا سنة 1469م، وكان والده محاميًا في المدينة نفسها، تلقّى مكيافيلي التّعليم المعتاد الذي يشمل أولاد الأسر البرجوازيّة، فَدَرَسَ اللّغة اللّاتينيّة، والتّاريخ الرّومانيّ. ومِن حسن حظّه، أنّه شهد مجموعة أحداث، ووقائع قيّمة من تاريخ فلورنسا بداية عصر النّهضة؛ إذ عاش فترة أهمّ ملوك أسرة آل ميديتشي: لورينزو العظيم(7) وابنه بييرو ثمّ الحفيد لورينزو، صاحب إهداء كتاب الأمير، كما عاصر حقبة مشاهير الفنّ والعِلم،أمثال: مايكل أنجلو وليوناردو دافنتشي وبوتيتشيلو، كما شهد فترة حُكم الرّاهب جيروم سافونارولا(8) حتّى إعدامه حرقًا سنة 1498م، وهي نفسها سنة تعيينه في التّاسعة والعشرين من عُمره أمينًا «للدّيتشي دِلا جويرا»؛ مجلس الحرب المكوَّن من عشرة أعضاء، الذي ظلّ يشغله أربعة عشر عامًا(9).
كان لهذا الثّراء المعرفي الثّقافي النّصيب الأكبر في تكوين شخصيّة مكيافيلي، وتفوّقه في عَمَله أيمّا تفوّق، باعتباره مبعوثًا للشّؤون الخارجيّة الفلورنسيّة؛ إذ كانت إيطاليا، تلك الفترة، مازالت تعاني وطأة الحُكم الإقطاعيّ، وواقع التّجزئة لدويلات عديدة، ومن سيطرة الفاتيكان المستفيدة الأولى من الوضع. لكن نزعة الاستقلال الفكريّة التي فشت بداية عصر النّهضة، جعلت مكيافيلي يستقل بالسياسة، ويفصلها عن الكنيسة، كما جعلت جاليليو جاليلي باكتشافاته العِلميّة يفصل الفَلك عنها، وكانت الضّجّة الكبرى هي التي جعلت مارتن لوثر يفصل الدّين نفسه عن الكنيسة صاحبة المقام الأوّل – في نظرها – بعد الله تعالى(10)، ما يؤكّده الاقتباس التّاليّ، قائلًا: «اتّجهت النّهضة في ناحية من نواحيها إلى الاستقلال من الدّين، حتى عِلم السّياسة ظهر له مَن يدافع عنه في شخص مكيافيلي الذي كان يطلب لهذا العِلم استقلالًا كي يبحث في نزاهة، فلا يخضع الباحث فيه للدّين أو الأخلاق، وإذن يمكن أن نقول إنّ أوّل واجب قام به الأدباء والعلماء بداية النّهضة، كان الاستقلال من سلطان الدّين»(11).
لقد شكّل عصر لورينزو دي ميديتشي المُلقَّب بالعظيم، الفيصل في نهضة فلورنسا وتقدّمها على كافّة المستويات، حتّى عُرفت أسرة ميديتشي ليس بمؤسِّسها جيوفاني دي ميديتشي، بل براعي الفنون والفنّانين لورينزو دي ميديتشي؛ «في عهد الأمير الميديتشي الذي سمّاه الفلورنسيّون “لورينزو العظيم”، حيث سمّوا عهده بالعصر الذهبي للنّهضة الإيطاليّة، وكان “لورينزو” أديبًا وشاعرًا، وإليه يرجع الفضل في حفظ توازن القوى بين الوحدات الرئيسية الخمس للسّلطان في إيطاليا، وهي مملكة نابولي، والدّولة البابويّة في روما، والبندقيّة، وفلورنسا، وميلان، وفترة حكمه بين عامي 1469و 1492م»(12).
واكب مكيافيلي، كما قلنا سابقًا، فترة توهّج عصر النهضة، وعاش أحداثًا عظيمة؛ ففي سنة 1492م مات العظيم لورينزو دي ميديتشي، وخلفه بييرو دي ميديتشي الذي أمضى سنتين في الحُكم فقط، واضطرّ بعدها الخروج من فلورنسا منفيًّا إلى روما، عندما تعرّضت المدينة لغزو جاءها على أيدي شارل الثّامن مَلِك فرنسا، فحوالي ديسمبر سنة 1494م، «ترك الجيش الفرنسيّ إقليم توسكانيا، وقد أَحاله إلى أَطلال وخراب (…)، وقد دثرت أيّام ميديتشي إلى غير رجعة، وكان على المدينة أن تستنشئ نفسها من جديد»(13).
كما ظهر راهب دومينكاني اسمه جيروم سافونارولا قام بإصلاح الجمهوريّة، ونجح في إقامة حكومة دينيّة، بَشَّر فيها بالمَلِك الفرنسيّ شارل الثّامن مبعوثًا من الله تعالى، مُخلِّصًا الأمّة من الظّلم والجور، وما لبثت أن انهارت فأُعدم الرّاهب جيروم حرقًا سنة 1498م وسط المدينة، وأُنشئت مستشاريّة لجمهوريّة فلورنسا، تُشرف على كافّة الشّؤون فيها(14).
بعد إعدام جيروم سافونارولا، كان بييرو دي ميديتشي منفيًّا خارج المدينة، ولم يكن لدى مواطني فلورنسا رغبة في عودة أسرة ميديتشي إلى الحُكم، إذ أصبح المجلس الجديد المنتخَب عنصرًا قويًّا من عناصر الحكومة الجمهوريّة. هكذا، وجدت أسرة ميديتشي وأنصارها أنفسهم مكروهين، ممّا فسح المجال أمام جيل الإداريّين الموهوبين، من بسْط سيطرته على المدينة، وأخلى السّاحة من الحرس القديم، ممثَّلًا بأنصار ميديتشي وسافونارولا معًا. وكان من بين الموهوبين، الشاب مكيافيلي، الذي انتُخب في منصب من المناصب العليا، وأثبت كفاءته إلى حدّ أُرسل نحو الخارج مبعوثًا فلورنسيًّا(15)؛ بينما «تمثّلت المقترحات الرئيسة، في إلغاء المجالس الفاسدة التي جاءت بها أسرة ميديتشي بغرض البقاء في السلطة، والسّماح لجميع المواطنين الذي نُفوا، منذ تولّي أسرة ميديتشي السّلطة عام 1434م، بالعودة هم وعوائلهم ومن تحدَّر من نسلهم، إلى فلورنسا»(16).
أُرسل مكيافيلي في سنة 1502م ضمن بعثة رسميّة إلى سيزار دي بورجيا(17) في أربينو(18)، حيث التقاه وتأثّر به، ووجد فيه الرّجُل السّياسيّ المستبدّ الذي استطاع القضاء على مناوئيه وأعدائه كلّهم، وبَسَطَ سيطرته ونفوذه على منطقة واسعة من إيطاليا، وأصبح بورجيا بعدها بطل فلسفة مكيافيلي(19)، كما سنرى.
وفي سنة 1507م، تقدّم مكيافيلي بمشروع للحكومة الفلورنسيّة، يهدف تكوين جيش قويّ من أبناء الشّعب، عِوض الاعتماد على المرتزقة الذين ينساقون وراء من يدفع لهم أكثر، دون النّظر لأيّة مسوّغات أخرى. ولقي المُقترح ترحيبًا، وتكلّف مكيافيلي شخصيًّا بإنجازه، إذ «اهتمّ كثيرًا بالقضايا العسكريّة، وبذل كلّ ما بوسعه لكي تتخلّص فلورنسا من المرتزقة، وتُشَكِّل جيشًا شعبيًّا، كان يظنّه قادرًا على التّنظيم والقيادة ميدانيًّا»(20)، وفي هذا الصّدد، نشير إلى أن مكيافيلي ألّف كتابًا كاملًا حول «فنّ الحرب»، ارتقى فيه إلى مستوى التّنظير ممزوجًا بالمُمارسة الميدانيّة.
وفي سنة 1510م، والسّنة التي تليها، أُرسل مكيافيلي إلى فرنسا ضمن بعثة لِلْمَلِك لويس الثّاني عشر، وتأثّر بحبّ الشّعب له، ولقوّة الدّولة الفرنسيّة التي تتمتّع بحرّيّة، واستقلال مادّيّ وسلطويّ كبيرين. كما عرج في طريقه على دولة سويسرا، ووجدها أيضًا في تنظيم مُحْكم، وقوّة عسكريّة ممتازة(21).
ولكن، سنة 1512م، وقع حادث مفاجئ خطير، «ممّا أدّى إلى تحوّل جذريّ في حياة مكيافيلي (…)، إذ أمر يوليوس الثّاني جيوش الحِلف المقدّس أن تُسقط حكومة الجمهوريّة في فلورنسا، وتُعيد آل ميديتشي إلى الحُكم، ولم يستطع حرس مكيافيلي الوطنيّ الصّمود (…)، وتربّع آل ميديتشي على العرش، وأُلقي القبض على مكيافيلي. ورُمي بالسّجن وعُذّب، وبعد خروجه انتقل وزوجته، وأولاده الأربعة لبيت أسرته في سان كاستشيانو، حيث قضى السنين الخمس عشرة الباقيّة من حياته فيها؛ حيث عانى الفقر والحاجة، لكنّه في هذه الفترة ألّف كلّ الكتب التي أحدثت انقلابًا في الفكر والفلسفة السّياسيّة في العالِم كلّه»(22).
ثالثًا: سياق تأليف كِتاب «الأمير»
يمكن أن نبحث السياق في رسالة شخصيّة معبِّرة لمكيافيلي نفسه، صديقه فتوري(23)، يشرح فيها أسباب تأليفه الكتاب، بحيث يحكي فيها عن الكارثة التي حلّت به، ونفيه من المدينة إلى قرية هادئة في الضواحي الريفية(24)، يقاسي عزلة موحشة، ويعاني الفقر معلِّلًا نفسه بالآمال. حيث يصحو مطلع الشّمس قاصدًا إحدى الغابات يراجع فيها ما كَتَبَه بالأمس، حاملًا معه كتابًا من كُتب الشّاعر الفلورنسيّ الشّهير دانتي، بعدها يقضي وقتًا مع العمّال في الغابة، متوجِّهًا نحو حظيرة حيث يصطاد الطّيور، ولنتركه يكمل الحكاية بنفسه قائلًا: «ويمرّ الوقت، وأنا مبتهج مسرور بهذه الأفكار، ثمّ آوي بعد ذلك إلى الفندق القائم على جانب الطّريق. وأتحدّث للمارّة، وأسألهم عن أخبار الأماكن التي أقبلوا منها (…)، ونتشاحن [مع بعض أصدقائه من مالِكي وعمّال الفندق] على أتفه الأمور حتّى تُسمع أصواتنا في بلدة سان كاستشيانو، ويؤدّي انغماسي في هذا الانحطاط إلى ضعف قواي العقلية، فأصبّ غضبي على القَدَر وبلواه. وأعود إلى داري في المساء، وآوي إلى حجرة مكتبي، وأخلع عند بابها ملابسي الريفية الملطخة بالطين والأقذار، وأرتدي ثياب رجال البلاد، حتّى إذا لبست ما يليق بي من الثّياب (…)، ألَّفت كتيِّبًا سمّيته في الإمارة، غرقتُ فيه إلى أبعد عمق أستطيع من التّفكير في هذا الموضوع، وبحثتُ فيه طبيعة الإمارة، وعدد أنواعها، وطريق الوصول إليها، والاحتفاظ بها، وسبب ضياعها»(25).
في منفاه، كما سلف، كتب كتاب «الأمير» مخطوطًا دون عنوان حسب المصادر الأصليّة، فأعطاه النّاشرون هذا الاسم؛ لأنّ الكتاب كان إهداء للأمير فقط. في مقدّمته عبارة: من نيكولو مكيافيلي إلى لورينزو الابن العظيم لبييرو دي ميديتشي. ولنلاحظ أيضًا جملتَه «غرقتُ فيه إلى أبعد عمق أستطيع من التّفكير»، التي تدلّ على المجهود الفكري في الكتابة، وكم يستغرق النّظر من الجهد، والفكر، وتعب العقل؛ إذْ لا يمكن التأليف بمزاج عكر، بعدما قال: «يؤدّي انغماسي في هذا الانحطاط إلى ضعف قواي العقلية»، كما وَصَفَ أثناء مشاحنته مع أصدقائه على أتفه الأسباب، وإلّا كانت النّتيجة غير مُرضيّة على الإطلاق. فما للفعل «غرقتُ» من معانٍ!
من بين الأسباب الرّئيسيّة لتّأليفه كتاب «الأمير»، خوفه على حال بلده المقسَّم المنهوب المنهوك. وكان أفضل عند مكيافيلي التضحيّة بجيل ثمّ الفوز بتوحيد إيطاليا، على بقاء البلاد مُقَسَّمة متطاحنة، حيث «كتب مكيافيلي كتاب “الأمير” في الفترة بين عامي 1513-1514م، عندما انهارت بلاده بسبب الحرب الأهليّة والاحتلال الخارجي. سعى مكيافيلي لتأليف كتاب إرشادي، يسترشد به جميع القادة السياسيين، خاصّة عائلة ميديتشي سادته، والقادة السابقين لفلورنسا. بعد ذلك، لم يكن “الأمير” مجرّد كتاب كَتَبه ليلقى الحظوة لدى عائلة ميديتشي فحسب، بل أصبح نداء للجهاد للدفاع عن فلورنسا وإيطاليا – عن طريق الهيمنة الفلورنسيّة – ضدّ “البرابرة” الذين يُقصد بهم: الغزاة الإسبّان والفرنسيّون»(26).
من هذا الإطار، كان لزامًا عليه – من غيرته الوطنيّة أوّلًا، وبعد ذلك إن أمكن القول، استعطافه الأمير للعودة إلى العمل الحكوميّ بدرجة أقل – الاتكّاء على خبرته الطويلة في ميدان السياسة، والممارسة الديبلوماسيّة، في تقديم خدمة لبلده وشعبه، فتناول بقوة الأفكار المحضة، والدروس والعِبر العديدة التي عَلِمَها وعَمِل بها في الوقت نفسه، فـأساس ما كتبه مكيافيلي يرتكِز حول السّلطة، والنّظام، والحُكم، وما يزيد قوّة طرحه، أنّه كان ممارِسًا للسياسة سنوات، ولم يكن مُنظِّرًا فحسب.
يمكن القول إنّ فلسفته سياسية واقعية بحتة، «ليس فيها شيء من فلسفة ما وراء الطبيعة، ولا اللاهوت، ولا يطرح مسألة الإيمان والكفر (…)، حتّى إنّ فلسفة الأخلاق عندما يتحدّث عنها، فإنّه يضعها في خدمة السياسة بوصفها فلسفة تابعة»(27)، بحيث السياسة عنده فنّ الممارسة في الواقع، واختبار ما يمكن اختباره، وتجريب الخطّة تلو التالية، وهكذا. لقد كان السبق لمكيافيلي في الميدان الديبلوماسي؛ لأنّه الأوّل تقريبًا في التّاريخ، الذي تناول الموضوع دراسة وتفصيلًا وتخصصًا، كأنّه أمام معادلات رياضيّة مُحْكمة الواحدة تشرح الأخرى؛ بمعنى أمام مشروع متكامل، فكتابه «كتاب عملي جدًّا، وواقعي للغاية، قصد به صاحبه وصف الحياة السياسية الواقعية، وتوجيه نظر الأمير إلى الشّروط اللازمة لإقامة جمهورية أو إمارة في عالَم الواقع – لا يوتوبيا أو مدينة فاضلة في عالَم الخيال – والمحافظة عليها»(28).
مما سبق ذكره، يؤكّد عبد الله العروي سياق تأليف كتاب «الأمير»، مشيرًا لسبب هامّ تمثّل في معاناة مكيافيلي النفسية جرّاء الحالة المزرية التي آلت لها بلده، فيقول: «إنّ أوروبا الشمالية، البربرية في نظر الإيطاليين، لم تدخل في العصر الحديث إلا عندما غزت جيوشها شبه الجزيرة، فقهرت دُوَلها ونهبت ثرواتها. هذه التجربة المؤلمة هي التي تَسِم في الواقع فكر مكيافيلي، كما تدل على ذلك الخلاصة المُحزنة لكتابه الأمير»(29).
يلخص النص التالي تلك الأسباب السابقة، مقتضَبة في كلام واضح المعاني والدلالات، حول سياقات التّأليف: «أوّلًا، لأنه كتب “الأمير” بغرض استعادة بعض من مصداقيته، وشهرته السياسية لدى أصحاب عمله السابقين. ثانيًّا، لأنّه كتب هذا الكتاب كعمل وصفيّ لا نصيّ. بمعنى آخر، أصرّ مكيافيلي على أنّه كتب هذا الكتاب ليصف عالَم السياسة على حقيقته، لا كما يجب أن يكون في صورة مثالية أسطورية غير قابلة للتحقيق. فقد تشرّب كتاب “الأمير” بالواقعية السياسية، مما أدّى إلى استنكار القادة الدينيين والسياسيين فورًا له ذاك الوقت»(30).
عمومًا، يبقى الكتاب تأسيسًا للحاكم، كيفما كان، لإدارة حُكْمه بالخير والشر إن اقتضى الأمر ذلك. ليس لتعليم الطغيان، بل لإرشاد الطيبين من الناس كيف يستفيدون من الطّغاة. أو بعبارة أخرى، التّعلم من الأشرار كيفية الانتصار على الشر؛ فتطبيق هذا الأخير للدفاع عن النفس واجب لمواجهة العدو، والخونة بالصرامة اللازمة. وإلا أصبح مصير الشعب في مهبّ الريح، دون نسيان مبدأ هامّ يكون متلازمًا والتّطْبيق ذاك، هو: استعمال القوة لا يكون إلا في الضرورة.
هذا ختام الجزء الأوّل من هذه المقالة، والذي كان توطئة حول الفكر السياسي حتى ظهور القطيعة، في القرن السادس عشر ميلادي مع مكيافيلي، الذي يُعدّ كتابه الأمير مرجعًا في هذه الإشكالية، لذلك سنبقى في الجزء الثاني من هذه الدراسة مع تحليل جامع للكِتاب الذي يتكوّن من إهداء موجز، وستة وعشرين فصلًا مُختصَرًا، اعتمد فيها مكيافيلي الحقائق التاريخية، لا النظريات المجردة، لكثرة الأمثال المذكورة فيه، فكلّ فصل يبدأ بمثال أو أكثر من الواقع، حدث قديمًا أو حديثًا. فقسّمتُ تلك الفصول، صَنِيعَ دراستي لها، لمحاور أربعة – كما سنرى – حسب الموضوعات التي ناقشها مكيافيلي وقد رتّبتُها، كالآتي:
المحور الأوّل: الحكومات والمماليك وصفاتهما من الفصل 1 إلى الفصل 11
المحور الثّاني: الجنود وأنواعها من الفصل 12 إلى الفصل 14
المحور الثّالث: شخصيّة الأمير من الفصل 15 إلى الفصل 21
المحور الرّابع: الحاشية المقرّبة وتوحيد إيطاليا من الفصل 22 إلى الفصل 26
وهي المحاور التي سنتعرف عليها بالتّفصيل، لِفهْم دقائق الكِتاب واستنتاج أهمّ النّقاط الكُبرى منه في ارتباطه مع الواقع، والامتدادات الفكريّة التي فتحتها أفكاره، وكانت مثابة أساس اعتمد عليه الفلاسفة والدّارسين، معاصريه ولاحقيه، في تأسيسهم السياسي ذاك.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الإحالات والهوامش
(1) مِن أجود كُتب أفلاطون المؤسِّسة للفكر السياسي، وهو عبارة عن حوار فكري يقترح فيه أفلاطون رؤيته للمدينة الفاضلة في يوتوبيا حالِمة؛ إذ يعرض أفلاطون ملامح المدينة الفاضلة، التي تتحقق عندما تكون تحت حُكم الفلاسفة ومن تسييرهم، أما باقي أفراد الشعب فكلّ في مجال تخصصه يعمل فيه ويتقنه.
(2) جمهورية أفلاطون، أفلاطون، ترجمة ودراسة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ط1/2004م، ص:371.
(3) المرجع نفسه، ص:356.
(4) أراء أهل المدينة الفاضلة، أبو نصر الفارابي، تقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق بيروت لبنان، ط2/1968م، ص:127.
(5) المرجع نفسه، ص:134.
(6) «قضى مكيافيلي (1469-1527م)، كلّ حياته في فلورنسا، ولم يغادر إيطاليا إلّا للقيام بمهمّات سريعة في فرنسا وألمانيا (…) فجر نهضة ستأذنُ لأوروبا الغربيّة بممارسة هيمنة لا ريب فيها على بقيّة العالَم». ينظر: ابن خلدون ومكيافيلي، عبد الله العروي، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الساقي، ط1/1990م، ص:6.
(7) لورينزو العظيم دي ميديتشي (1449-1492م)، «الذي سمّاه الفلورنسيّون “لورينزو العظيم” حيث سمّوا عهده بالعصر الذّهبيّ للنّهضة الإيطاليّة، وكان لورينزو أديبًا وشاعرًا، وإليه يرجع الفضل في حفظ التّوازن في القوى بين الوحدات الرّئيسيّة الخمس للسّلطان في إيطاليا، وهي مملكة نابولي، والدّولة البابوية في روما، والبندقية وفلورنسا وميلان، وفترة حكمه بين عامي 1469و 1492م»، ينظر: مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط1/1994م، ص:37.
(8) «وُلد جيروم سافونارولا في 21 سبتمبر 1452م، واتّسم منذ طفولته بالجدّيّة، وغمره الإحساس بالوحدة إلى جانب زهده الفطريّ في الحياة (…) أمضى سافونارولا سبعة أعوام بداية من سنة 1475م، في دير الدّومينكان في بولونيا (…)، وبعد ذلك انتقل إلى فلورنسا سنة 1481م». لتفاصيل أكثر ينظر: أبرز ضحايا محاكم التفتيش جاليليو- سافونارولا- برونو، رمسيس عوض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005م، ص:163، وما بعدها في الفصل المخصَّص لسافونارولا.
(9) لتفاصيل أكثر ينظر: مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، مرجع سابق، ص:40 وما بعدها. بتصرّف.
(10) لتفاصيل أكثر ينظر: ما هي النهضة، سلامة موسى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ط1/2012م، ص:67.
(11) المرجع نفسه، ص:42.
(12) مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، مرجع سابق، ص:37.
(13) موت في فلورنسا، بول ستراثيرن، ترجمة ناصر مصطفى أبو الهيجاء، مراجعة أحمد خريس، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، كلمة، ط1/2015م، ص:315.
(14) مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، مرجع سابق، ص:39. بتصرّف.
(15) موت في فلورنسا، بول ستراثيرن، مرجع سابق، ص:548.
(16) المرجع نفسه، ص:316.
(17) كان «من بين الأشخاص الأساسيين الذين تمثّل بهم مكيافيلي في كتابه “الأمير“، سيزار بورجيا، الابن غير الشّرعي لرودريجو بورجيا البابا ألكساندر السّادس عام 1492م»، ينظر: القيادة مقدمة قصيرة جدا، كيث جرينت، ترجمة حسين التلاوي، مراجعة هاني فتحي سليمان، مؤسسة هنداوي، ط1/2013م، ص:44.
(18) شرق فلورنسا، وهي منطقة قريبة من مدينة «بيسارو» حاليًّا.
(19) مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، مرجع سابق، ص:40.
(20) ابن خلدون ومكيافيلي، عبد الله العروي، مرجع سابق:8.
(21) تفاصيل أكثر لرحلات مكيافيلي ينظر: مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، مرجع سابق، ص:40، وما بعدها.
(22) المرجع نفسه، ص:41-42.
(23) سفير فلورنسا في مدينة «روما» المستقلة آنذاك.
(24) بلدة سان كاستشيانو، هي قرية ضواحي مدينة فلورنسا الإيطالية حاليًّا، حيث كانت تُقيم عائلة مكيافيلي.
(25) مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، مرجع سابق، ص:42-43-44.
(26) القيادة مقدمة قصيرة جدا، كيث جرينت، مرجع سابق، ص:43-44.
(27) مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، مرجع سابق، ص:49.
(28) الأخلاق والسياسة دراسة في فلسفة الحكم، إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، 2002م، ص:251-252.
(29) ابن خلدون ومكيافيلي، عبد الله العروي، مرجع سابق، ص:7.
(30) القيادة مقدمة قصيرة جدا، كيث جرينت، مرجع سابق، ص:43.