رسم توضيحي من قبل جوان إمبيريو / ذا أتلانتك. المصادر: هـ. أرمسترونغ روبرتس/ غيتي، سوميابراتا روي/ غيتي.
أصبح استخدام تحليل الحيوانات لفهم الإنسان العاقل بشكلٍ أفضل نوعًا فرعيًا في مجال الكتابة العلمية. في بعض الأحيان ينجح هذا الأمر، كما استخدمت سابرينا إيمبلر أنثى أخطبوط أرجوانيةً تتضور جوعًا أثناء احتضان بيضها كاستعارة عن حالات الأكل المضطرب، في كتابها المعنون بـ: “مدى وصول الضوء” (How Far the Light Reaches). لكن في أحيانٍ أخرى، يبدو المشروع وكأنه يفرض التجانس تمامًا: يقوم المؤلف بتجميع مجموعة واسعة من الأنشطة الحيوانية وصولاً إلى مستوى الخليَّة، ويصفها بطرقٍ قد توحي بأن بعض الصفات البشرية لها نظير في المحيط الحيويّ.
ويكون الضغط أشد عندما يكون النشاط الذي يتم شرحه معقدًا وإنسانيًا في جوهره، كـ “الخداع” مثلاً. وهذا يجعل كتابة كتاب: “كاذبوّ الطبيعة وطبيعة الكاذبين” (The Liars of Nature and the Nature of Liars) مهمة صعبة، وهو كتاب حديث من تأليف ليشنغ سون -أستاذ سلوك الحيوان والبيئة والتطور في جامعة واشنطن المركزية- الذي قدَّم من خلاله سلسلة من الحقائق المسلية حول الطرق العديدة التي تستخدم بها النباتات والحيوانات الخداع من أجل البقاء. لكن اللغة المستخدمة شبيهة بلغة البشر للغاية، مما يقوض النقاط التي يحاول توضيحها بشأن الغش في العالم الطبيعي. في البداية، يعترف سون بأن نَسب القصدية إلى سلوك الحيوان “ليس بالأمر السهل، ولا الضروري”، فيما يعترف بأن تكيّفات الخداع تنشأ من رحلة التطور غير المخطط لها. حيث يكتب: “يزدهر الغش في الطبيعة كنتيجة مباشرة للانتقاء الطبيعي”، كما “يعمل كقوة انتقائية فعّالة تدفع عملية التطور بنفسها”. لكن اختياراته للكلمات وصياغته الغريبة غالبًا لا تشرح سوى جزء بسيط للقارئ حول كيفية “كذب” و”خداع” النباتات والحيوانات فعليًا.
إنّ السلوك الذي نعتقد أنه كذب يتطلّب نوعًا أكثر تعقيدًا من الإدراك مقارنةً بما يتطلّبه قول الحقيقة، كما أن من المؤكد تطلّبه لنوع من الإدراك الأكثر تعقيدًا مما تتمتع به الطيور والزهور والفطريات. عندما كنت أكتب مقالاً عن علم الخداع قبل بضع سنوات، أخبرني عالِم النفس بول إيكمان أنّ الكاذب يحتاج إلى ثلاث صفات حتى ينجح، وهي: القدرة على التفكير بشكلٍ استراتيجي، مثل لاعب الشطرنج الجيد. والقدرة على التعرّف على احتياجات الآخرين، مثل أخصائي علاج موهوب. والقدرة على إدارة العواطف، مثل البالغين. بمعنىً آخر، يحتاج الكاذب الجيد إلى مستوىً عالٍ من الذكاء الإدراكي والعاطفي.
وعلى الرغم من أنّ الكذب – على الأقلّ عند البشر – قد يكون مهارة بارعة، فإن التطور الذي ينشأ من خلاله الغش في العالم الطبيعي ليس ذكيًا على الإطلاق. إنّ الطريقة التي يصف بها سون كل مثال تجعل الأمر يبدو وكأن النباتات والحيوانات تطور خصائص معينة من التزييف أو التقليد من خلال نوع ما من الدوافع الماكرة والخبيثة. ولكن لا يوجد شيء متعمد في التكيف التطوري الذي يتمثّل في إدامة الخصائص التي تنشأ بشكلٍ عشوائي وتعمل على تحسين فرصة الكائن الحيّ في البقاء على قيد الحياة والتكاثر ونقل نفس الخصائص المفيدة إلى الجيل التالي. إنها عملية تافهة، لا تفتقر إلى القصدية فحسب، بل تفتقر أيضًا إلى أيّ نوع من الغاية يتخطَّى حدود مساعدة كائن حيّ معين على البقاء والتكاثر.
سون على دراية بهذا، فهو أستاذ في علم الأحياء، لكن الأسلوب الذي يستخدمه يوحي بخلاف ذلك. حيث يقع سون كغيره في فخّ الكتابة العلمية المتمثّل في توسيع الظواهر البيولوجية بحيث تناسب حدود الفهم البشري. ونتيجة لذلك، لا يمكن أن نلوم القارئ على التوصّل إلى استنتاجٍ مفاده أنّ الحيوانات والنباتات الخادعة – وصولاً إلى مستوى البكتيريا – دائمًا ذكيَّة بما يكفي لتكسب العدد القليل من “الحِيل الجديدة”، على حدّ تعبيره في إحدى محاولاته العديدة الغريبة لتبسيط الفكرة.
لذا، وفقًا لسون، فإن غش الطبيعة يأتي في نوعين: الكاذبون، والمخادعون. ويلتزم الكذب بما يسمّيه قانون الغش الأوّل: “تزوير الرسائل عند إرسال الإشارة”. ويندرج الخداع تحت قانونه الثاني: “استغلال التحيزات أو نقاط الضعف أو العجز في الأنظمة الإدراكية لدى حيوان آخر”.
لكن لتوضيح هذه القوانين – بل وحتى لتعريفها – يستخدم سون مصطلحات تشير إلى القصدية؛ وإلا كيف تتوقع من الجمهور العادي أن يفسّر أفعالاً مثل التزوير والاستغلال؟ لكن مثل هذا التفسير سيكون مضلّلاً. وكما لاحظ سون نفسه، فإن التطور عملية عابثة، بلا تخطيط ولا اتجاه ولا شيء سوى صدفة لميزة انتقائية ناتجة عن تغيّر جيني عشوائي تمامًا.
كما يبدو أنّ اختياراته للكلمات الجاذبة – التي تمّ توظيفها بلا شك لجعل كتابته أكثر سهولة ومتعة – تتجاهل هذه العشوائية تمامًا. فهو يستخدم مصطلحات مثل المحتالين والنصابين وفناني الخداع لوصف حيوانات الكتاب، بما في ذلك ضفادع شجرة المحيط الهادئ، ويتحدث عن “الخدع” التي “اخترعها” الوقواق، فهو يستخدم كلمات كهذه لوصف الغشاشين الذين ليس لديهم حتى أجهزة عصبية، مثل زهرة الآلام في أمريكا الجنوبية. وهي زهرة تطورت ببقعٍ تشبه بيض فراشة هلكونيوس، مما جعل الفراشة تتجنب البقاء عليها وتنتقل بدلاً من ذلك إلى نباتٍ يبدو غير مشغول – أسلوب إبعاد مفيد، وهو ما يسمّيه سون “الشكل الأكثر غرابة لمحاكاة النباتات”، لأن يرقات الهليكونيوس حديثة الفقس يمكن أن تكون مدمرة تمامًا لزهرة الآلام. واختار سون أن يصف نشأة تلك البقع الصفراء؛ لأن “هذه النباتات يمكنها “قراءة أفكار فراشات الهلكونيوس”. ولكن في الحقيقة، لا يوجد أيّ انخراط لإدراكٍ خارج الحواسّ في النبات، حيث إن بيض الفراشة المزيف هذا هو نتيجة تحول عشوائي في تلوين الأوراق، والتي تبين أنها مفيدة للنبات المتحول. واستخدام علامات الاقتباس المنبهة حول عبارة “قراءة الأفكار” لا يُخرج المؤلف من المأزق. (كما أن علامات الاقتباس المنبهة لا تساعد عندما يصف نسل طائر الجنك داكن العيون أحادي الزواج عادةً على أنه “طير مولود خارج إطار الزواج”).
إذا كنت تبحث عن مجموعة من الحقائق الغريبة حول روعة العالم الطبيعي -وهو ما يُطلق عليه نهج “gee-whiz” في الكتابة العلمية – فإن هذا الكتاب يفي بالغرض. إنه في كثير من الأحيان مجموعة تثقيفية لبعض أعمال الخداع الحيوانيّ المذهلة التي تطورت في المفهوم الدارويني للصراع الوحشي من أجل البقاء. إن سرد بعض الحكايات التي قرأتها هنا من شأنه أن يجعلك محطّ الأنظار في حفلات الكوكتيل. هل تعلم -على سبيل المثال- أنّ خطوط الحمار الوحشي تخلق تأثيرًا مربكًا يسمَّى “انبهار التشويش” (razzle dazzle)، وأنّ ميزتها قد تكون إبعاد ذباب تسي تسي؟ ثمّ هناك طائر الوقواق، أحد أكثر الطيور الكاذبة شهرة على هذا الكوكب، والذي يضع بيضه في عشٍّ واحد من بين ما يصل إلى اثني عشر نوعًا آخر من الطيور، ويرمي إحدى البيضات التي تنتمي إلى هناك ويجبر الأم المخدوعة على تفقيس ورعاية مولوده الجديد. كما تطلق يرقة عثث أبو الهول صفارة تحاكي نداء الإنذار الذي يطلقه أحد الحيوانات التي تأكلها، وهو طائر القرقف، مما يجعل طائر القرقف يتخلَّى عن وجبته المحتملة ويهبط بحثًا عن ملجأ.
في الفصول الأخيرة من الكتاب، يحاول سون رسم خطّ مستقيم من هذه الكائنات العديدة إلى البشر. ويذكر أنه يمكننا “استخدام فهمنا التطوري المكتسب حديثًا لكيفية عمل الغشاشين لتصميم استراتيجيات جديدة لمكافحة الغش في مجتمعنا”. لكن هذا يبدو كمسعىً عقيم، إذ يفتقر إلى الكثير من التعقيد الذي ينطوي عليه الخداع في جنسنا البشري. نعم، يعترف سون بأن الغش عند البشر أكثر ثراءً من حيث “الحجم، والتنوع، والتعقيد، والجدة” مقارنةً بالحيوانات الأخرى. ونعم، يعزو هذا الثراء إلى قدرتنا اللغوية الفريدة والمستوى الأعلى لذكائنا وهيكلنا الاجتماعي المعقد. ولكن بينما يحاول تغطية مجموعة واسعة من الخداع البشري – بما في ذلك سلاسل بونزي والأكاذيب على وسائل التواصل الاجتماعي والخيانة الزوجية – فإنه ليس لديه في الواقع أيّ شيء جديد أو مفيد ليقدّمه.
إنّ رغبة سون في استخلاص الدروس من العالم الطبيعي حول الأكاذيب البشرية تنطوي على خطرٍ أكثر دهاءً، فالكائنات الحيَّة الأخرى ليست مجرد كائنات بدائية صغيرة ذات فرو أو ريش، ومقارنة سلوكها بسلوكنا قد يؤدي إلى التقليل من تقديرها باعتبارها كائنات حيَّة مذهلة. إن التنوع المذهل للمحيط الحيويّ، الذي تطور من خلال تغيرات عشوائية على مدى العصور، هو سبب كافٍ للتعجب من كل الطرق التي ساعدت بها بعض السلوكيات المدهشة النباتات والحيوانات على الازدهار.
لذا، إذا أوصيتُ بقراءة كتاب: “كاذبوّ الطبيعة وطبيعة الكاذبين (The Liars of Nature and the Nature of Liars)”، فذلك لكونه موضوعًا رائعًا لحفلات الكوكتيل، بجانب أهمية أخذ الدروس حول الخداع البشري من علماء النفس وعلماء الأعصاب والفلاسفة.
الهوامش
روبين مارانتز هينيغ، كاتبة علمية مستقلة، وتشمل كتبها: الراهب في الحديقة (The Monk in the Garden)، وطفل باندورا (Pandora’s Baby)، وعُمر العشرينات (Twentysomething).
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة ذا أتلانتيك).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.