لتحميل الحوار :حوار معنى مع فهد المطيري
1- أشكرك جزيل الشكر دكتور فهد على قبول هذه الدعوة. أود أن أبدأ حديثي معك بسؤالك عن أكبر التأثيرات العلمية في حياتك: ما هي أهم المحطات الفكرية التي تراها الآن بعد مرور السنين؟ ولماذا اخترت اللسانيات تخصصًا علميًا لك؟
لعلّي أختار مدينة الجهراء في الكويت بوصفها أول محطة ساهمت في تشكيل تفكيري في وقت مبكر، فقد كنت محظوظًا بأصدقاء من أبناء الجيران مجتهدين في دراستهم ومتباينين في توجهاتهم الفكرية، وكنا نعتاد الجلوس أثناء سنوات المراهقة في ديوان أحدنا، وأذكر أني أطلقت على الديوان اسم «دار الخلافة» نظرًا إلى أن مقاعد الجلوس فيه تشبه مقاعد الجلوس في المسلسلات التاريخية ! لا أذكر أننا جلسنا مرة من دون أن يحتدم النقاش حول موضوع ما، كنا نتعارك بالحجج والحجج المضادة حول موضوعات سياسية واجتماعية ودينية، ولم نكن حينئذٍ نعرف أسس التفكير النقدي، بل كانت حواراتنا تجري على السليقة وما يتيحه لنا الحس السليم، لكن وهبتنا تلك السنوات لياقة نقاشية مبكرة، وهي سنوات ما زلت أتذكّر تفاصيلها وأذكر شخوصها بكثير من الحنين والامتنان.
أما المحطة الثانية فهي جامعة سلمنكا في إسبانيا، فقد كان لها تأثير كبير في تكويني العلمي. جئت إلى مدينة سلمنكا في النصف الأول من التسعينيات، وكنت حينئذٍ لا أفقه من اللغة الإسبانية إلّا كلمة Hola، وتعني «مرحبًا»، وبعد دراسة مكثفة للغة دامت ستة أشهر، دخلت الجامعة في قسم اللغة الإسبانية وآدابها، ولقد كانت السنة الجامعية الأولى معاناة حقيقية، وهي معاناة متوقعة بطبيعة الحال، فالمطلوب كان أكبر بكثير من الموجود؛ مثلًا، كان يتعيّن على مَن لم يعرف من اللغة سوى إلقاء التحية أن يكون مستعدًا بعد بضعة أشهر فقط في أن يرقى إلى مستوى طلّاب يدرسون لغتهم الأم! يجنح الشباب عمومًا إلى قبول التحدّي بصرف النظر عن حجمه، وقد كنت شابًّا، لكني لم أكن متهوّرًا، فقد أدركت منذ البداية أنّ ما أسمعه من أساتذتي في قاعة الدرس لن يكفي لتجاوز تلك المرحلة بنجاح، كما لن تكفي ملخّصات المحاضرات التي يتداولها الطلاب فيما بينهم لاجتياز الاختبارات، يُضاف إلى ذلك أن الإنترنت لم يكن متوافرا في تلك الحقبة، وكان لا بدّ – إذًا – من الإقدام على الخطوة الأشد صعوبة، فانكببت على القراءة المتأنّية والمستفيضة لأكبر قدر ممكن من قائمة المراجع في كل مادة دراسية، وقد منحني ذلك قدرًا معقولًا من الثقة بالنفس، لكنه منحني أيضًا إدراكا مبكّرا لحجم جهلي، إلى جانب إدراك أهمية القراءة المتعمّقة حول أي موضوع قبل التجرّؤ على الخوض فيه.
كانت إسبانيا أيضًا هي المحطة التي خلقت عندي اهتمامًا بدراسة اللغة من حيث هي لغة، وفي جامعة سلمكنا سمعت لأول مرة اسم «تشومسكي»، وكان ذلك تحديدًا في مقرر اللسانيات لطلاب السنة الثالثة. أذكر أن أستاذ المقرر لم يكن متحمسًا جدا لأفكار تشومسكي، لكنه نقل عنه ما يكفي لإثارة فضولي في معرفة المزيد حول برنامجه «الأدنوي» الذي لم يمض على ظهوره آنذاك أكثر من سنة، وأشدّ ما لفت انتباهي في ذلك البرنامج هو تلك الإشارة إلى العلاقة بين القوانين الفيزيائية التي تحكم الدماغ والقوانين السيكولوجية التي تحكم وظائف العقل ومن ضمنها اللغة، ومنذ تلك اللحظة عقدت العزم على إكمال الدراسات العليا في تخصص اللسانيات، وفي لسانيات تشومسكي على وجه التحديد.
2- وتوّج هذا الاهتمام بأطروحتك المميزة للدكتوراة عن البرنامج الأدنوي لنعوم تشومسكي، والتي نشرتها دار كامبردج عام 2014. في ذلك الكتاب عرضت لأهم الجوانب النظرية والمنهجية لهذا البرنامج ونقدتها. بخطوط عريضة، ما الذي تراه مفيدًا في هذا البرنامج العلمي؟ وما هي أهم المآخذ عليه؟
من حيث الفائدة، يمتاز البرنامج الأدنوي بحثّ الباحثين على تأمّل علاقات تبدو أشد عمقًا بين اللغة وموضوعات أخرى للبحث، وبالتالي، يمتاز هذا البرنامج بتخطّي الحدود التقليدية بين التخصصات العلمية. هنا – إذًا – فائدة على مستوى التكوين العلمي للدارس، فالتعامل مع البرنامج الأدنوي يمنحك فرصة في اكتساب نظرة أكثر اتّساعًا وأشدّ عُمقًا لموضوع البحث، ذلك أنه برنامج يقوم على أسس فلسفية ويتطّلب فهمه حدًّا أدنى من الاطلاع على تخصصات علمية أخرى مثل الفيزياء والأحياء والرياضيات وغيرها، فعلى سبيل المثال، حين يتحدّث تشومسكي عن برنامجه الأدنوي، فإنه يتحدّث عن برنامج يطمح إلى ردم الهوّة بين العقل والدماغ، وهذا أمر يتطلّب تجاوز ما هو لسانيّ صرف في دراسة اللغة إلى ما هو طبيعيّ أو رياضيّ أو فلسفي، ولهذا نجد في كتاباته إحالات على أعمال «كريستوفر تشيرنياك» وغيره من المختصين في علم الأعصاب الحاسوبي، إلى جانب الإحالات التقليدية الأخرى على أعمال ومفاهيم تنتمي إلى العلوم الطبيعية والرياضيات وفلسفة العلم وفلسفة العقل.
هذا بالنسبة إلى ما أراه مفيدًا في الأدنوية، وأما ما أراه من مآخذ فحدّث ولا حرج مع الأسف! سأكتفي هنا بذكر ثلاث نقاط بصورة مختصرة، ولك إن شئت أن نتوقف عند أيّ منها إذا لزم الأمر للمزيد من التفصيل.
أولًا: ينحاز تشومسكي وأتباعه إلى آراء أو مواقف محددة في ميادين مختلفة لإضفاء مشروعية على البرنامج الأدنوي، ولا ضير في هذا الانحياز حين تؤخذ المواقف المغايرة الأخرى في عين الاعتبار أيضًا، لكن هذا نادرًا ما يحدث مع الأسف. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يتبنى تشومسكي القراءة الفلسفية لأعمال غاليليو كما ساقها كل من الفرنسي كواريه والنمساوي فاييرآبند من دون أدنى إشارة لآراء النقاد الآخرين في تلك القراءة، كما يتبنّى رأيًا علميًا محددًا بخصوص توقيت نشأة اللغة من دون اعتبار لعدم وجود شيء من الاتفاق حول هذه النقطة، بل إنّ بعضًا من المواقف التي يتبنّاها تشومسكي وبعض أتباعه، من أمثال بالماريني في الولايات المتحدة وفوكيو في اليابان، لم تعد مقبولة عند المتخصصين في الميدان ذي الصلة، كالنظرة إلى قوانين الفيزياء نظرة غائية صرفة، إضافة إلى تبنّي مواقف متباينة من الموضوع نفسه، مثل تبنّي تشومسكي لمبدأ «التكذيب» عند بوبر ثم الانقلاب الكامل عليه من دون حتى اعتراف بوجود تبدّل في موقفه.
ثانيًا: هناك ما يشبه النزعة التسويقية للبرنامج الأدنوي بين بعض أتباع تشومسكي وبمباركة تشومسكي نفسه في بعض الأحيان، وهي نزعة لا تليق بأي ميدان علمي. هناك وجهان لهذه النزعة في تصوّري: من جهة، هناك تضخيم (بل وتشويه تاريخي أيضًا) للبرنامج الأدنوي من حيث النشأة والأهداف والنتائج، ومن جهة أخرى، هناك استخفاف كبير لرأي النقاد اللسانيين الكبار يصل مع الأسف في بعض الأحيان إلى درجة التجاهل التام، ولا يُمكن تخيّل تحقيق أي تقدّم ملحوظ في أي ميدان علمي من دون تعامل جادّ مع النقد.
أخيرًا: يحاول البرنامج الأدنوي تقديم تفسير أشد عمقًا لظاهرة اللغة من خلال الذهاب إلى أبعد من الكفاية التفسيرية، أي أنه يتجاوز تفسير ظاهرة اكتساب اللغة إلى تفسير النحو الكلي نفسه والمسؤول عن هذا الاكتساب، لكنّ البرنامج الأدنوي – مع ذلك – لا يقدّم تفسيرًا يتّسم بأبسط معايير جودة التفسير العلمي، فكثيرًا ما نجد في الأدبيات الأدنوية عبارات لها الشكل التالي: x تفسّر y، بحيث تشير x إلى قيد من قيود الوجائه التي تفصل بين النسق الحاسوبي والنسقين الخارجيين المرتبط أحدهما بالمعنى والآخر بالصوت، وتشير y في الغالب إلى مفاهيم نظرية يُمكن الاستغناء عنها بسهولة أو الاستعاضة عنها بأخرى، من دون أدنى اعتبار لمعنى التفسير المقصود هنا أو لبنيته المنطقية، ناهيك عن جودة الدليل المصاحب له.
3- بخصوص النقطة الثانية، ما أبرز بعض هذه الانتقادات التي يتجاهلها مناصرو البرنامج الأدنوي؟
كثيرة هي الانتقادات التي كان مصيرها التجاهل، وليس جميعها مقصورة على البرنامج الأدنوي وإن كانت تشمله. مثلًا، ينتمي هذا البرنامج إلى ميدان «اللسانيات الأحيائية»، وهذا يعني أنّه برنامج يرث النظرة التشومسكية للغة بوصفها كينونة بيولوجية مرتبطة بالدماغ البشري، كما يرث أيضًا النظرة الحاسوبية للغة بوصفها نسقًا تكراريًا منتجًا لعدد لامتناهٍ من الجُمل. نحن – إذًا – أمام موقف أنطولوجي ينظر إلى اللغة بوصفها بيولوجية ولامتناهية، وهو موقف نال نقدًا لاذعًا من قِبل لسانيين كبار من أمثال كاتز وبوستال ولانغدون، حيث قدموا حججًا منطقية ورياضية تشير إلى عدم اتسّاق مثل هذا الموقف، وبصرف النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع تلك الحجج، من المؤسف أن يكون مصيرها عند تشومسكي إما التجاهل التام وإما الاستخفاف المعيب. هناك أيضا ظاهرة لا أعتقد أنها تخفى على المشتغلين في ميدان اللسانيات النظرية، وهي أنّنا نجد في المقاربات التوليدية المنافسة للبرنامج الأدنوي إحالات كثيرة على أعمال تشومسكي وأنصاره، إمّا بغرض نقدها أو لمجرّد عقد مقارنة معها، في حين أننا لا نكاد نجد شيئًا يُذكر في أدبيات البرنامج الأدنوي حول تلك المقاربات المنافسة. يحضرني هنا مثال محدد: لا تكاد تخلو أعمال روبرت بورسلي من عرض لآراء تشومسكي وآخرين بغرض نقدها قبل تقديم بديله النظري المفضّل (أي HPSG)، لكن في المقابل، يندر أن تعثر على إحالة على كتابات بورسلي في الأدبيات الأدنوية، فضلًا عن التعامل مع نقده بشيء من الجدّية.
4- ركزتَ كثيرًا على «الأطروحة الأدنوية القوية» في ذلك الكتاب. ما مفاد هذه الأطروحة؟ وما مدى نجاعتها؟
تفيد هذه الأطروحة بأنّ اللغة حلّ أمثل لشروط المقروئية، وكما تبدو ظاهريًا على الأقل، هي إلى التعريف أقرب منها إلى الفرضية العلمية، وأما عن مضمونها، لا بدّ أولًا من التذكير بأهم الافتراضات الأولية قبل أن نصل إلى لُبّ الأطروحة: أولًا، اللغة وظيفة من ضمن الوظائف العقلية التي يتيحها الدماغ البشري؛ ثانيًا، اللغة في جوهرها نسق حاسوبي يستعين بمعجم إدراكي لإنتاج جُمل أو عبارات محددة تعكس كل منها علاقة بين نسقين محاذيين للنسق الحاسوبي، أحدهما نسق مرتبط بالصوت والآخر نسق مرتبط بالمعنى؛ ثالثًا، كي يتسنّى لنا استخدام اللغة، لا بدّ من قدرة النسقين المرتبطين بالصوت والمعنى على قراءة العبارات التي ينتجها النسق الحاسوبي، وهذا ما يُعرف بشروط المقروئية.
كل ما سبق يشير إلى افتراضات أولية تستند إليها الأطروحة الأدنوية القوية، وهي فرضية تفيد بأن النسق الحاسوبي – حين يؤدي وظيفته المتمثلة في الربط بين الصوت والمعنى – يستجيب بشكل أمثل إلى شروط المقروئية. بعبارة أخرى، المشكلة الجوهرية التي يواجهها النسق الحاسوبي هي عقد أفضل علاقة ممكنة بين الصوت والمعنى، وأطروحة تشومسكي هنا تفيد بأن النسق الحاسوبي ينجح بالفعل في إيجاد حلّ أمثل لهذه المشكلة. هنا يبرز سؤال جوهري: ما السبب في قدرة النسق الحاسوبي على أداء هذه المهمة بشكل أمثل؟ تشير إجابة تشومسكي إلى افتراض يبدو إلى الخيال أقرب منه إلى الواقع، وهو افتراض مفاده أنّ النسق الحاسوبي يخضع إلى قوانين الفيزياء التي تمتاز ببساطتها، وحين نقرأ في الأدنوية عن وصف اللغة بالبساطة والكمال والاقتصاد، فإنّ كل هذه الأوصاف هي ما تشير إليه كلمة «أمثل» في الأطروحة الأدنوية القوية. هي «أدنوية» لأنها تفترض اقتصار النسق الحاسوبي (أو النحو الكلي) على أقلّ قدر ممكن من الخصائص التي من شأنها حل مشكلة الربط بين الصوت والمعنى، وهي قوية لأنّ هذا ما يترتّب على كونها أدنوية، ذلك أنها أطروحة تفترض أن أغلب الخصائص التي تبدو ظاهريًا منتمية إلى النسق الحاسوبي ليست سوى واحد من احتمالين: إمّا أنها خصائص غير حقيقية دعت إليها أسباب نظرية صرفة ويُمكن التخلّي عنها، وإمّا أنها خصائص حقيقية لكنها مشتقة من مصادر تقع خارج نطاق اللغة (أو النسق الحاسوبي). بحسب تصوّر محدد للأطروحة الأدنوية القوية، وهو تصوّر دافع عنه تشومسكي وآخرون، تقتصر خصائص النسق الحاسوبي على الخاصية التكرارية، وأما الخصائص الأخرى فتكمن مهمة البرنامج الأدنوي في محاولة اشتقاقها من مصدرين: موقع اللغة ضمن مكونات إدراكية أخرى، وموقع اللغة ضمن عالم طبيعي وخاضع لقوانين الفيزياء. ترتبط شروط المقروئية بالمصدر الأول، وترتبط الحوسبة المثلى بالمصدر الثاني، وكلتاهما قوام ما يسميه تشومسكي «الضرورة التصورية الاقتراضية».
نأتي الآن إلى الشق الثاني من سؤالك: ما مدى نجاعة هذه الأطروحة؟ إذا نظرنا إليها بوصفها فرضية، فإنها فرضية تواجه مشكلات ذوات طبيعة مفهومية من جهة، وإمبريقية (تجريبية) من جهة أخرى. كما بدا لي أثناء كتابة رسالة الدكتوراة ما بين عامي 2007 و2011، وكما يبدو لي الآن أيضًا، تُعدّ الخاصية التكرارية للغة أبرز مثال يُمكن من خلاله الوقوف على كلا النوعين من المشكلات التي تواجهها الأطروحة الأدنوية القوية.
سبق أن أشرت إلى تصور يتبنّاه تشومسكي وآخرون ومفاده أنّ الخاصية التكرارية هي الخاصية الوحيدة التي يُمكن اعتبارها مقتصرة على اللغة البشرية، أو «فرضية التكرار فقط» كما سمّاها بنكر وجاكندوف في نقدهما الشهير لكل من تشومسكي وفيتش وهاوزر (ينبغي أن أشير على الهامش، وعلى العكس مما هو شائع، أن تبنّي تشومسكي لجوهر هذه الفرضية يعود إلى حقبة ما قبل ظهور الأدنوية). هنا يبرز سؤال جوهري: ما مُبرّر وجود العملية الحاسوبية المسؤولة عن الخاصية التكرارية، وأعني بها عملية «ضمّ»Merge كما يترجمها بعض الباحثين، أو «إغصان» كما يترجمها آخرون؟ كما هو معروف، تعقد هذه العملية الحاسوبية علاقة بين موضوع تركيبي «أ» وموضوع تركيبي «ب» لإنتاج موضوع تركيبي جديد على شكل المجموعة {أ، ب}، ونظرًا إلى عدم وجود سقف أعلى لعدد المرات التي يُمكن من خلالها استخدام هذه العملية، فإنها تكون بذلك عملية مسؤولة عن إنتاج تعابير لغوية لا محدودة.
تثير هذه العملية مشكلات كثيرة، لعلّ أقلّها هو تبرير اعتبارها عملية حاسوبية ثنائية تحديدًا، لكن ما يهمّنا هنا هي تلك المشكلات المرتبطة بـ «فرضية التكرار فقط» من حيث أنها جزء من الأطروحة الأدنوية القوية. بالنسبة إلى تشومسكي، في أي نظام شبيه باللغة، هناك ضرورة لوجود عملية «ضمّ» التي تتجسد من خلالها الخاصية التكرارية، وهي ضرورة يصفها تشومسكي بأنها «ضرورة تصورية افتراضية». لكن سبق أن أشرنا إلى وجود مصدرين فقط لهذه الضرورة: فإما أن نبرّر وجود أي خاصية لغوية بواسطة اشتقاقها من شروط المقروئية، وإما أن ننظر إلى هذه الخاصية بوصفها أثرًا لقوانين الفيزياء التي يخضع إليها العالم الطبيعي ومن ضمنه اللغة. ما يثير الاهتمام هو أنّ تشومسكي لا يستعين بأي من هذين المصدرين لتبرير وجود عملية «ضمّ»، وليس عسيرًا فهم السبب هنا؛ الاستعانة بأيّ من هذين المصدرين ينقض صحة «فرضية التكرار فقط» التي يدافع تشومسكي عنها، إذ لا ينبغي أن ننسى أنّ الاستعانة بهذين المصدرين الخارجيين جاءت لغرض أدنوي، وهو تقليص أكبر عدد ممكن من الخصائص والعمليات التي نسبتها نظريات ما قبل الأدنوية إلى بُنية اللغة لحلّ مشكلة اكتساب اللغة، والغرض من هذا التقليص هو إتاحة الفرصة أمام إمكانية التعامل مع مشكلة أخرى، وهي مشكلة تطوّر اللغة خلال مدة زمنية قصيرة نسبيًا كما يرى تشومسكي. إذا لم تكن «الضرورة التصورية الافتراضية» في سياق الأطروحة الأدنوية متاحة لعملية ضمّ، فأي نوع من الضرورة يُبرّر وجود هذه العملية؟ كان هذا السؤال يشغلني كثيرًا أثناء كتابة رسالة الدكتوراة، ومهما أنسَ فلن أنسى عبارة لتشومسكي التي استوقفتني كثيرًا وزادت الأمر تشويشًا، وهي عبارة وردت في مقاله الشهير والمعنون «Approaching UG from Below»، حيث يؤكد تشومسكي من خلالها على أن عملية «ضم» تنتمي إلى النحو الكلي بصرف النظر ما إذا كانت هذه العملية مقتصرة على مَلَكة اللغة أم لا!
أذكر أني بعثت إلى تشومسكي السؤال التالي حول هذه النقطة تحديدًا: إذا كنت تصف النحو الكلي بأنه النحو الذي يضمّ كل العمليات والخصائص المقصورة على مَلَكة اللغة، فكيف تستطيع القول إنّ عملية ضمّ تنتمي إلى النحو الكلي حتى لو كانت غير مقتصرة على مَلكة اللغة؟! كما ذكرت في الرسالة، ثم في الكتاب لاحقًا (ص 105)، أعترف بأنّ إجابة تشومسكي عن هذا السؤال لم تكن متماسكة، فقد أجاب بأنّ خصوصية عملية «ضمّ» لا تكمن في اقتصارها على مَلَكة اللغة، بل في قدرتها على إنتاج تعابير لغوية مركبّة! بدت لي إجابة تشومسكي غير مقنعة لأنها تنزع عن مفهوم «الخصوصية» قيمته إلى حدّ جعله مبتذلًا، فقياسًا على إجابته، بإمكاننا القول أيضا إنّ علمية «ضمّ» مقصورة على النسق البصري من حيث أنها عملية تنتج صورًا بصرية مركبّة، أو أنها عملية مقصورة على نسق الفكر من حيث أنها عملية تنتج أفكارًا أو قضايا مركبّة، وبهذا لم تعد خصوصية هذه العملية الحاسوبية مرتبطة باقتصار وجودها على نسق معين، بل بطبيعة عملها داخل أي نسق! لكن لماذا لا يتخلّى تشومسكي كُليّا عن الخصوصية اللغوية لهذه العملية التكرارية؟ لأن هذا التخلّي ببساطة سيجعل من عملية اكتساب اللغة «معجزة»، فكما يصرّ تشومسكي مرارًا وتكرارًا، لا بد من وجود شيء خاص باللغة وحدها وإلّا أصبحت ظاهرة اكتساب اللغة غير قابلة للتفسير.
في الجانب المفهومي أيضًا هناك استراتيجية اعتمدها تشومسكي وأتباعه للتعامل مع الأطروحة الأدنوية القوية، وهي استراتيجية أشرت إليها باسم «استراتيجية عدم الكمال» أو imperfection strategy، وقد بذلت جهدًا مضنيًا في الفصل الثالث من الكتاب في محاولة شرح هذه الاستراتيجية قبل نقدها، وتضمّن النقد حجة ما زالت تبدو لي متماسكة ولم أعثر حتى الآن مع الأسف على مَن يتكرّم بالرد عليها حتى من ضمن من قاموا مشكورين في عرض كتابي ونقده، كمثل كولن في بريطانيا أو هيروكي في اليابان.
هذا في الجانب المفهومي، وأما في الجانب الإمبريقي فإنّ المشكلات التي تثيرها الأطروحة الأدنوية القوية كثيرة، بعضها يتعلّق بوجود الخاصية التكرارية في مجالات تقع خارج نطاق اللغة، وبعضها يتعلّق بصعوبة إخضاع خصائص الفكر المرتبطة بشروط المقروئية لمعيار التجربة. حاولت على مضض طرح تصوّر مبدئي للتعامل مع النوع الأخير من المشكلات، وذلك من خلال الاستعانة ببعض الدراسات في علم الإدراك الحيواني لإيجاد معيار أكثر موضوعية لشروط المقروئية في البرنامج الأدنوي، وأقول «على مضض» لأنّ رسالتي للدكتوراة لم تتضمن هذا التصوّر، بل قمت بإدراجه في الكتاب لاحقًا بعد ملاحظة أحد المحكّمين بأنّي – حسب تعبيره – قمت بعملية هدم ممتازة، لكني لم أكترث بالبناء، وقد دفعتني هذه الملاحظة إلى إضافة التصوّر الذي أشرت إليه في آخر الكتاب.
5– ما «المقصود باستراتيجية عدم الكمال»؟
لعلّ أنسب طريقة لشرح هذه الاستراتيجية أن نبدأ بمفهوم «الكمال». باختصار شديد، واعتمادًا على ما سبق أن ذكرت حول الأطروحة الأدنوية القوية، أي خاصية لغوية يُمكن اشتقاقها من هذه الأطروحة، إما بحُكم موقع اللغة في النسق الإدراكي أو بحُكم موقعها في العالم الطبيعي، هي خاصية يُمكن وصفها بالكمال، أي أنها انعكاس للنسق الحاسوبي من حيث أنه «تصميم كامل» perfect design في تأدية وظيفته على أكمل وجه. مفهوم «الكمال» هنا هو المقابل لمفهوم «الخصوصية»، فنحن نجد عند تشومسكي قراءتين متكافئتين للأطروحة الأدنوية القوية؛ من جهة، تفيد هذه الأطروحة بأن كل خاصية لغوية هي تعبير عن الكمال في تصميم اللغة من حيث استجابتها لشروط المقروئية أو خضوعها للقوانين التي تحكم العالم الطبيعي، ومن جهة أخرى، تفيد الأطروحة أنّ لا خاصية في هذا التصميم تشير إلى خصوصية لغوية (لاحظ أنّ هنا تحديدًا تكمن المشكلة التي أشرت إليها في إجابتي عن سؤال سابق، وأعني بها المشكلة المرتبطة بالخاصية التكرارية، فتشومسكي ينظر إلى عملية «ضمّ» بوصفها معبرّة عن الكمال في التصميم اللغوي، وينظر إليها أيضًا بوصفها خاصية مقتصرة على اللغة، وهنا برأيي عدم اتساق، فالخاصية التي تعبّر عن كمال التصميم اللغوي لا تعبّر عن خصوصية لغوية، والخاصية التي تعبّر عن خصوصية لغوية لا تعبّر عن كمال التصميم اللغوي).
نأتي الآن إلى الاستراتيجية التي عبّر عنها تشومسكي في «استقصاءات أدنوية» Minimalist Inquires، وهي استراتيجية تتكون من خطوتين: الخطوة الأولى هي تحديد الوظيفة الجوهرية للغة، والخطوة الثانية هي استقصاء مدى نجاح اللغة في تأدية هذه الوظيفة. تكفّلت الأطروحة الأدنوية بالخطوة الأولى، فبحسب هذه الأطروحة، الوظيفة الجوهرية للغة هي تلبية الشروط المفروضة على النسق الحاسوبي بُحكم موقع اللغة في النسق الإدراكي وموقعها في العالم الطبيعي، وهذا يعني أن الخطوة الثانية تتمثّل في معرفة أين تُخفق الأطروحة الأدنوية، أي في محاولة العثور على خاصية لا تدل على كمال تصميم اللغة. هذا يعني أن «استراتيجية عدم الكمال» تهدف إلى تكذيب الأطروحة الأدنوية القوية. هذا ما يبدو ظاهريًا، لكن لو دقّقنا في كيفية عرض تشومسكي لهذه الاستراتيجية، فسنلاحظ أنها استراتيجية غير متسقة من الناحية المنطقية الصرفة، وهذا – كما أشرت – ما حاولت توضيحه خلال مناقشتي لهذه الأطروحة.
6- هناك مآخذ عديدة على ما سمّاه تشومسكي «الأسلوب الغاليلي»؛ حيث تُعدُّ النظرية نموذجًا مُجرّدًا للظاهرة المدروسة دون الاهتمام كثيرًا بالمعطيات التجريبية، وكثيرًا ما يضرب تشومسكي مثالًا لذلك بالنظريات الفيزيائية. نجد انتقادات بدرجات ونبرات مختلفة من لسانيين مرموقين؛ من جيفري بلوم وراي جاكندوف، مرورًا بدانيل إيفرت في قضية البيراها، وصولًا إلى أشد النقود حدّة في كتابات بول بوستال. ويبدو لي أن الخيط الناظم في جميع هذه الانتقادات هو أن تنظير تشومسكي في عمومه غير قابل للتكذيب (كما صاغه كارل بوبر). ما رؤيتك عمومًا للـ«الأسلوب الغاليلي»؟ وما رأيك في هذه الانتقادات الموجهة له في هذا الجانب المنهجي؟
من المؤسف أن تعامل تشومسكي مع «مبدأ التكذيب» تعامل براغماتي صرف، فحين كان تشومسكي يشعر بتفوّق نظريته حول اكتساب اللغة على نظرية جان بياجيه أثناء مناظرتهما الشهيرة في منتصف السبعينيات، كان يصرّ على أن النظرية الخاطئة جديرة بالاحترام لأنها سمحت لنا على الأقل بفحصها والحُكم عليها، لكن حين يجنح تشومسكي إلى التجريد، خصوصًا في برنامجه الأدنوي، نراه يسخر بوضوح من مبدأ التكذيب ضمن إجابته عن سؤال حول مدى قابلية الأطروحة الأدنوية القوية للتكذيب، وأما الاستعانة بما يسمى «الأسلوب الغاليلي» فالغرض منه واضح؛ حماية تصوّر نظري ومنحه مناعة ضد أي دليل يتعارض معه.
هناك ورقة نشرتها في عام 2008 ويدور موضوعها تحديدًا حول الأسلوب الغاليلي عند تشومسكي، وقد حاولت من خلالها تتبّع المصادر الفلسفية لهذا الأسلوب، وكان من ضمن ما لفت انتباهي آنذاك أنّ الصورة التي يتبنّاها تشومسكي حول أسلوب غاليليو العلمي صورة منحازة تمامًا لقراءة محددة ضمن فلسفة العلم الحديث، ومن دون أدنى اعتبار إلى رأي النقّاد لتلك القراءة، ولعلّ أبرزهم هو الإيطالي فينوتشيارو، والذي بيّن أوجه القصور في قراءة كل من كواريه وفايرآبند لأسلوب غاليليو العلمي، وهي القراءة التي يستند إليها تشومسكي في تبنّيه لهذا الأسلوب في منهجه اللساني.
كل ما أتيت أنت على ذكره من النقاد صحيح فيما يتعلّق برفضهم للأسلوب الغاليلي كما يتبنّاه تشومسكي، وهناك غيرهم في أوروبا من أمثال رودلف بويتا، وبييتر سورن، وكلهم يبدون متفقين على أن الأسلوب الغاليلي كما يفهمه تشومسكي متعارض مع مبدأ التكذيب، وهذا أيضًا صحيح بلا شك، لكن ينبغي التأكيد هنا على نقطة ذات أهمية وأعترف أنها كانت غائبة عني إلى أن قضيت سنة التفرّغ العلمي في معهد ميونخ لفلسفة الرياضيات قبل بضع سنوات، فهناك قدّمت ورقة حول الأسلوب الغاليلي عند تشومسكي ضمن أحد السيمينارات الدورية في المعهد، وقد أفدت كثيرًا من الزملاء الحضور وكان جُلّهم يشتغل في ميدان فلسفة العلم، ومن ضمن الإفادة هي عدم المبالغة في النظر إلى مبدأ بوبر حول التكذيب بوصفه المعيار الأمثل لمدى علميّة أي نظرية أو فرضية، فالمبدأ نفسه لا يخلو من المشكلات العويصة، ومع ذلك، ينبغي التأكيد أيضا على أن قابلية التكذيب ضرورة حتى مع عدم قدرتنا على تحديد معايير واضحة لهذه القابلية، ولا يبدو مثل هذا الأمر بدعة في فلسفة العلم الحديث، فحين تصدّى كارل همبل، مثلًا، لبناء أنموذج للتفسير العلمي، أكّد على ضرورة احتواء بنية التفسير العلمي لقانون عام من دون قدرته على تقديم معيار يصف من خلاله ما ينبغي أن يُعدّ قانونًا عامًّا. أقول هذا الكلام تفاديًا لأي حجة يُراد بواسطتها الدفاع عن الأسلوب الغاليلي في اللسانيات بذريعة أن مبدأ التكذيب نفسه يعاني من مشكلات فلسفية، فما هو ضروري هنا هو قابلية التكذيب من حيث المبدأ، لا تقديم تصوّر فلسفي متماسك حول المبدأ نفسه.
7- أتفق معك في أن «مبدأ التكذيب» يستخدم في الحجاج والنقاش، ويؤخذ وكأنه مسلمة متفق عليها. لكن دعنا نطيل الوقوف بعض الشيء على هذه المسألة الهامة:
كثيرًا ما يرد على استخدام «مبدأ التكذيب» (بصرف النظر عن الصياغة البوبرية له) -بوصفه المعيار الأوحد في قبول أو رفض النظريات- بأمرين:
(1) لفت الأنظار إلى أبحاث توماس كون في تاريخ العلم وفلسفته. فإنْ أخذنا بأشد التفسيرات تطرفًا لأبحاث كون؛ فإنّ قبول النظريات ورفضها، و«التحوّل النموذجي» (وباختصار شديد، يعني الانتقال من نظرية إلى أخرى في المجال العلمي) لا يقوم بناءً على دحض النظريات وأسسها النظرية والتجريبية؛ إنما بناءً على عمليات اجتماعية متشابكة في المجتمع العلمي نفسه. ويستشهد كون بعبارة الفيزيائي الشهير ماكس بلانك في هذا الموضع بأن «الحقيقة العلمية لا تنتصر بإقناع خصومها، وجعلهم يرون الضوء؛ بل لأن هؤلاء الخصوم ماتوا، وولد في أعقابهم جيل جديد أَلِفَ هذه الحقيقة».
(2) المسألة الثانية هي مسألة «نقص الإثبات» أو «underdetermination»، ومفادها استحالة أن تكون مجموعة معينة من الأدلة في زمن معين كافية لنا في تحديد اعتقاداتنا وقناعاتنا إزاء نظرية معينة. وعليه، لا يصح أخذ الأدلة التجريبية -معيارًا وحيدًا- في إثبات ورفض النظريات العلمية.
يبدو لي أن هذين الاعتراضين يصبان في صالح «الأسلوب الغاليلي». بماذا نرد عليهما في نظرك؟
بالنسبة للمسألة الأولى، أعتقد أنّ علينا التفريق بين نوعين من المقاربات في فلسفة العلم: النوع الأول بقي داخل حدود المنطق، والنوع الثاني خرج عن تلك الحدود. من ضمن أشهر المقاربات التي بقيت داخل حدود المنطق تلك المتعلقة بمنطق الاكتشاف العلمي عند كلّ من كارل بوبر وتشارلز بيرس ونوروود هانسون، وهي مقاربات اختصّت في تحليل طبيعة الاستدلال المنطقي في سياق الاكتشاف العلمي، وأما المقاربات التي ذهبت إلى خارج حدود المنطق فمن أشهرها مقاربة كلّ من توماس كون وباول فايرابيند للمنهج العلمي في سياق تاريخي.
جاء هذا النوع الأخير من المقاربة الفلسفية بوصفه ردّ فعل على تراجع هيمنة التجريبية المنطقية على فلسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين، أي أن الفراغ الذي تركته التجريبية المنطقية تمّ ملؤه بنزعات تاريخية وفوضوية (أناركية)، وكان الرابط المشترك بين هذه النزعات هو نفي أن يكون العلم من حيث منهجه وتطوره التاريخي خاضعًا إلى شروط المنطق. رأى توماس كون أنّ منهج العلم يخضع لقواعد تتغيّر بتغيّر «البارادايم» أو «النموذج الإرشادي» الذي يعتمده العلماء ضمن حقبة تاريخية تمثّل «العلم القياسي»، كما نفى إمكانية المقارنة بين المفاهيم الخاصة بكل نموذج إرشادي بين حقبة وأخرى، في حين ذهب فايرابيند، ليس إلى نفي إمكانية عقد تلك المقارنة فحسب، وليس إلى نفي وجود حقيقة موضوعية فحسب، بل إلى نفي وجود منهج علمي أيضًا. كلاهما نال شهرة سريعة بالقدر الذي تجاوزت فيه إسهاماتهما حدود المنطق في فهم طبيعة المنهج العلمي، ولعل في هذه الحقيقة ما يدفع إلى التعامل مع أفكارهما، إنْ لم يكن «مع قليل من الملح» كما يقول المثل الانكليزي، فبكثير من التحوّط على الأقل.
عودة الآن على سؤالك الذي أستأذنك في صياغته على نحو مختلف مع عدم الإخلال بمضمونه: هل تخدم مثل هذه النزعات التحايل على مبدأ قابلية التكذيب؟ لا تبدو الإجابة قاطعة في حالة توماس كون، لكن في حالة فايرابيند تبدو الإجابة أشد وضوحًا، ذلك أنه لا يكتفي بنفي وجود منهج علمي، بل إنّه يشير أيضا إلى «الحيلة» بوصفها وسيلة مشروعة للدفاع عن صحة فرضية علمية، كما أنّه يروّج لمبدأ «كل شيء جائز» في المنهج العلمي، وبرأيي أنّ إزاء مثل هذا الموقف العدمي لا فرصة على الإطلاق لإمكانية التمييز، ليس بين فرضية صحيحة وأخرى خاطئة فحسب، بل بين العلم الحقيقي والعلم الزائف أيضًا، وهذه نتيجة كارثية لا أعتقد أن عواقبها تقتصر على منطق الاكتشاف العلمي، ويكفي أن نتأمّل الأزمة الصحية الراهنة كي ندرك ذلك.
حين ننظر إلى مبدأ قابلية التكذيب، ليس بوصفه معيارًا لتراكم المعرفة العلمية، بل بوصفه معيارًا لتقييم فرضية محددة، فإن اللجوء إلى تلك النزعات التاريخية والفوضوية لا يصلح أن يكون حجة ضد هذا المبدأ البوبري الذي يعاني – كما هو معروف – من مشكلات بنيوية أشد عمقًا. لا تخلو مقاربة بوبر من مشكلات في الحالتين: (1) في حالة فشل فرضية في تجاوز معيار التكذيب، و(2) في حالة نجاحها في تجاوز هذا المعيار، وكلتا الحالتين ترتبط بالمسألة الثانية التي أثرتها أنت حول «نقص الإثبات»، وأعترف بأني لا أحبذ هذه الترجمة وأفضّل بدلًا عنها «نقص التحديد»، ذلك أن من المستحيل إثبات فرضية على الإطلاق مهما كان عدد الأدلة على صحتها.
ترتبط مسألة «نقص التحديد» بما يُعرف باسم «أطروحة دوهيم » من حيث أنها تؤكد على عدم وجود تجربة حاسمة بوسعها تبيان أين يكمن الخلل في فرضية تفشل في تجاوز معيار التجربة، ذلك أنّ ليس هناك فرضية يُمكن إخضاعها للاختبار بمعزل عن مجموعة من الافتراضات الضمنية المصاحبة لها. صحيح أنّ بوبر يستند إلى «حجة نفي التالي» في دفاعه عن معيار قابلية التكذيب، لكن هذه الحجة، وبالرغم من أنها تمثّل استنباطًا سليمًا من الناحية المنطقية، إلّا أنه استنباط تشير نتيجته إلى نفي صحة الفرضية وتوابعها من افتراضات ضمنية، لكن ليس بوسع نتيجة هذا الاستنباط أن تشير إلى نفي الفرضية بمفردها، وهنا مكمن الضعف في مقاربة بوبر، فقد يؤدي معيار التكذيب إلى استبعاد فرضية صحيحة في ذاتها. صحيح أيضًا أن بوبر لا يعارض إمكانية إعادة النظر في الافتراضات الضمنية لمنح الفرضية فرصة أخرى لتجاوز معيار التكذيب، لكن حصر هذه الافتراضات الضمنية غير ممكن فعليًا، فبعضها قد لا يخطر في بالنا عند إخضاع الفرضية وتوابعها للاختبار.
نأتي الآن إلى الحالة الثانية والمتعلقة بنجاح الفرضية في تخطّي معيار التكذيب. هنا أيضًا تقف مسألة «نقص التحديد» حائلًا دون قدرتنا على القطع أن هذه الفرضية هي الوحيدة القادرة على تفسير الظاهرة محل الدراسة، لكن ينبغي أيضًا أن نتذكر أن بوبر يؤكد أنّ تجاوز الفرضية بنجاح لمعيار التكذيب لا يعني تأكيدها أو حتى ازدياد درجة احتمال صحتها. ماذا يعني إذًا؟ هنا يلجأ بوبر إلى مفهوم «التعزيز»؛ تحظى أي فرضية بالتعزيز حين تتجاوز بنجاح معيار التكذيب، وتزداد درجة تعزيزها بالقدر الذي يزداد فيه مقدار نجاحها في تجاوز هذا المعيار. تنبغي هنا المقارنة بين مفهومي «التأكيد» و«التعزيز». أولًا، كلاهما يشير إلى النتيجة نفسها، وهي القبول المبدئي بفرضية بعد تجاوزها اختبار التجربة. ثانيًا، كلاهما يتّسم بالتدرّج، فهناك درجات للتأكيد كما أن هناك درجات للتعزيز. أخيرًا، وهنا مكمن الاختلاف بينهما، حين نهدف إلى تأكيد فرضية، فإننا نقيس درجة احتمال صحتها قبل التحقق من مدى تأييد نتيجة التجربة لمحتواها، في حين أننا حين نهدف إلى تعزيز فرضية، فإننا نقيس درجة احتمال عدم صحتها قبل التحقق من مدى تكذيب نتيجة التجربة لمحتواها. لا يعنينا هنا التشكيك بوجود اختلاف حقيقي بين مفهومي «التأكيد» و«التعزيز»، إنّما يعنينا ما يتضمّنه مفهوم «التعزيز» عند بوبر من اعتراف بضرورة القبول المبدئي بصحة فرضية بعد تجاوزها معيار قابلية التكذيب، وهذا التعزيز، كما بيّن بوضوح ويسلي سالمون، ليس سوى علاقة استدلال توسّعي، أي استدلال استقرائي، وبالتالي، ليست مقاربة بوبر استنباطية خالصة كما يزعم، فإضافة مفهوم «التعزيز» إلى منهجه الاستنباطي يدلّل على أن بوبر لم ينجح في تجاوز مشكلة الاستقراء.
هذه جميعها مشكلات تتعلّق بمدى تماسك مبدأ قابلية التكذيب ضمن إطار نظري محدد، لكنها لا تنفي قابلية التكذيب بوصفها معيارًا ضروريًا في تقييم أي فرضية علمية، وبهذا لا تصلح الإشارة إلى هذه المشكلات لتبرير التمسّك بصحة فرضية في ظل وجود أدلة تدحض صحتها.
8- العديد ممن هم في مجال اللسانيات يكاد يماهون بين الدراسة العلمية الصحيحة للغة وبين اللسانيات التشومسكية (على الأقل، في العالم الأنجلوأمريكي، واليابان، وأقسام اللسانيات في عالمنا العربي). ورغم ذلك لك مآخذ على لسانيات تشومسكي. برأيك، ما الخطوات المناسبة في تجاوز هذه المماهة؟ وبمَ نعالج قصور اللسانيات التشومسكية من وجهة نظر فلسفة العلم؟
بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال، لست أدري حقيقة إلى أي مدى يمكن القول بانتشار مثل هذه المماهاة، لكن «الدراسة العلمية الصحيحة للغة» هي الدراسة المتوافقة مع أبجديات المنهج العلمي بصرف النظر عن مصدرها، وميدان اللسانيات يزخر بعلماء من كل المدارس الفكرية، وأمّا لسانيات تشومسكي فهي مثل غيرها من اللسانيات، لها ما لها وعليها ما عليها، وإذا كان لا بدّ من اختيار مدرسة فكرية محددة بوصفها المثال الأبرز على جودة المنهج العلمي، فلعلّي لا أختار اللسانيات التشومسكية لهذا الغرض تحديدًا لأسباب كثيرة، بعضها متعلّق بشكل مباشر بالشق الثاني من السؤال، وهذا ما سأحاول الإجابة عنه في ما يلي.
هناك فعلًا قصور للسانيات التشومسكية حين نفحصها من زاوية فلسفة العلم الحديث، وقبل التطرّق إلى كيفية معالجته، ينبغي أولًا تحديد أبرز مظاهر هذا القصور، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها، مثل عدم احترام قابلية التكذيب وعدم توضيح بنية التفسير اللساني. لا أعتقد أن قابلية التكذيب تحتاج إلى المزيد من الإسهاب حولها، لذا سأنتقل مباشرة إلى الحديث عن بنية التفسير في اللسانيات التشومسكية.
جميعنا يعرف التقسيم التقليدي لأشكال التفسير في ميدان اللسانيات إلى تفسير داخلي وتفسير خارجي، أي إلى تفسير يستمد أدواته التفسيرية من داخل النحو، مثل التفسير الصوري أو النحوي، وتفسير يستمد أدواته التفسيرية من خارج النحو مثل التفسير الوظيفي والتفسير التاريخي. حسنًا، لنطرح الآن السؤال التالي: إلى أي نوع من هذه الأنواع الثلاثة ينتمي التفسير المعتمد في اللسانيات التشومسكية؟ حاول أن تطرح هذا السؤال على بعض المشتغلين في اللسانيات التشومسكية وستسمع – على الأرجح – إجابات مختلفة، وهذا في حد ذاته أمر مثير للانتباه، ليس لأنّ الإجابات ستأتي مختلفة، بل لأنّ السؤال نفسه بهذه الصياغة لا إجابة ممكنة عنه من دون جعله أكثر تحديدًا، إذ ينبغي أن نحدد أولًا عن أي حقبة تاريخية من اللسانيات التشومسكية نتحدّث بالضبط.
دعني أحاول توضيح هذه النقطة: قبل ظهور البرنامج الأدنوي، كان التفسير عند تشومسكي وأتباعه تفسيرًا نحويًا بامتياز، لكن بعد ظهور الأدنوية، انتقل النحو الكلي من كونه أداة لتفسير خصائص اللغة إلى كونه موضوعًا للتفسير، وأما أدوات التفسير فأصبحت تُستمدّ من خارج النحو، إما من مصدر إدراكي، وهنا نكون أمام تفسير وظيفي، وإما من مصدر متعلّق بالعالم الطبيعي، وهنا قد نكون أمام تفسير عِلّيّ. أقول «قد» لأننا لا نعرف حتى الآن إلى أي نماذج التفسير في فلسفة العلم الحديث ينتمي التفسير الأدنوي، بل لا نعرف أيضًا ما هي البنية المنطقية لهذا التفسير رغم كل التسويق لوجود علاقة بين الفعاليّة الحوسبيّة في اللغة وقوانين الفيزياء.
إذا أردنا – وهنا أتناول الشق الثاني من سؤالك – أن نعالج هذا القصور الإبستمولوجي في اللسانيات التشومسكية، لا بد من التعامل مع فلسفة العلم الحديث بطريقة أكثر جدّية، أي بطريقة لا تأخذ من فلسفة العلم ما من شأنه فقط تعزيز ثقتنا بصحة أسلوبنا الخاص في دراسة اللغة، فلدى فلسفة العلم الحديث الكثير لتقدّمه إلى ميدان اللسانيات، وبالأخص في ما يتّصل ببنية التفسير العلمي والمشكلات المتعلقة به. هناك بطبيعة الحال مَن تناولوا بالبحث طبيعة التفسير في ميدان اللسانيات بشكل عام، مثل الفرنسي باول إنجريه أو الأميركي فريديريك نوماير، لكن ما زال هذا التناول قاصرًا فيما يتعلّق باللسانيات التشومسكية على وجه الخصوص، إذ ما زال يدور حول التقسيم التقليدي للتفسير في ميدان اللسانيات والذي سبقت الإشارة إليه، كما أنه لا يتضمّن أي محاولة جادة لتوضيح البنية المنطقية للتفسير الأدنوي ومدى علاقتها بنماذج التفسير المختلفة في فلسفة العلم الحديث.
9- لنبعد عن تشومسكي والنحو التوليدي ولنذهب إلى اللسانيات عمومًا. إحدى المصاعب التي يواجهها طالب اللسانيات المطّلع هي تعدد المناهج والنظريات في اللسانيات؛ إذْ حتى لو اقتصرنا على المدارس الأنجلوأمريكية، وقبلنا القسمة الكبيرة بين اللسانيات الصورية واللسانيات الوظيفية؛ فإننا سنرى كمًا كبيرًا من النظريات تنتمي لهاتين المدرستين الكبيرتين، والتي لها اختلافاتها غير الهينة فيما بينها، وقد يصل الاختلاف أحيانًا إلى رفض الاتفاق على المصطلحات الأساسية في المجال.
أولًا، هل هذه مشكلة تستدعي الحل؟ وبوصفك أستاذًا جامعيًا، كيف تتعامل مع هذا الاختلاف الكبير في النظريات والأسس المنهجية في التدريس واختيار المناهج المناسبة؟
كما تعرف، لا يختلف ميدان اللسانيات عن ميادين العلوم الإنسانية الأخرى من حيث كثرة طرق البحث في مقابل قلّة النتائج؛ فكل ميدان من هذه الميادين أشبه بشجرة جذورها كثيرة وثمارها قليلة، وهذا أمر متوقّع حين يكون الوعي الإنساني نفسه أداة للبحث وموضوعًا له في آن واحد.
لنأخذ ميدان اللسانيات كمثال: نستخدم اللغة في دراسة اللغة، أي أننا نستخدم وظيفة عقلية لدراسة هذه الوظيفة العقلية نفسها، لكن المعضلة المنهجية لا تتوقف عند هذا الحد، فاللغة لها جانب فيزيائي وجانب نفسي وجانب اجتماعي، هي تِنّين ذو ثلاثة رؤوس كما يصفها فيلسوف العلم الأرجنتيني ماريو بُنجي! سأستعير هذا التشبيه لأضيف التالي: لو نظرت إلى هذا التِنّين من زاوية محددة، فقد لا ترى له إلّا رأسًا واحدًا، لكن لو نظرت إليه من زاوية أشد اتّساعًا، ستراه على حقيقته. بالطبع، لا ينكر المتبنّون لمقاربة محددة في دراسة اللغة وجود مقاربات أخرى، وحين يكونون لُطفاء، يذهبون إلى حدّ الاعتراف بأهمية تلك المقاربات المغايرة، لكنهم غالبًا ما يُنهون اعترافهم بالتأكيد على أنّهم معنيّون في المقاربة المفضّلة لديهم فحسب. لا يبدو لي هذا الموقف مفيدًا في تحقيق تقدّم نحو فهم ظاهرة اللغة، وما يزيد الطين بِلّة هو وجود أولئك الذين يشتركون في النظر إلى الرأس نفسه من رؤوس التنين الثلاثة لكنهم مختلفون حول الزاوية المثلى للنظر إليه، وبهذا أصبحت لدينا مقاربات لغوية مغايرة، بل متناحرة، ضمن إطار النحو التوليدي مثلًا. إذا كان هذا هو واقع الحال، فلا غرابة أن تكون لكل مقاربة لغوية مصطلحاتها الخاصة ومنهجها الخاص ونتائجها الخاصة بل وأبطالها أيضًا.
هل هذا يعني بأنّ هناك رفضًا لمبدأ التعاون البحثي؟ لا يبدو ذلك صحيحًا، فكل مدرسة لسانية تقريبًا منفتحة على ميادين بحثية تقع خارج مجال اللسانيات وتستعين بها عند الحاجة؛ على سبيل المثال، تنهل المقاربة الأفلاطونية الحديثة للغة مما تتيحه فلسفة الرياضيات في صياغة تصوّراتها تجاه اللغة، كما تحاول المقاربة الأدنوية التماهي مع الفيزياء النظرية للارتقاء باللسانيات إلى مرتبة العلوم الطبيعية. هنا يبرز سؤال يبدو لي جديرًا بالاهتمام: ما السبب في ميل اتجاه التعاون البحثي في اللسانيات نحو الخارج بدلًا من الداخل؟ لعلّ في ثنايا الإجابة عن هذا السؤال يكمن الخيط المؤدي إلى الحلّ الذي تسأل عنه؛ يبدو لي أنّ التنافس بين المقاربات اللسانية المختلفة في تحقيق نتائج كبيرة يطغى على استعدادها إلى التعاون في ما بينها لفهم ظاهرة اللغة.
بالنسبة إلى سؤالك حول تعاملي مع النظريات والمناهج المختلفة في التدريس، لا أعتقد أني أجد صعوبة في ذلك، لسبب بسيط: أعمل في مؤسسة لا تتطلّب ولا تسمح – مع الأسف – في التوسّع أو التعمّق في البحث اللساني داخل قاعة الدرس لأسباب كثيرة، ليس أقلّها ضعف التعليم بشكل عام، لكني أحاول قدر المستطاع إثارة فضول الطالبات والطلاب حول ظاهرة اللغة بوصفها ظاهرة تستحق التأمّل والدراسة.
10- في سؤال التنظير في مجال اللسانيات، يواجه اللساني العربي اعتراض «الأصالة» التنظيرية، ومفاده أن هذه اللسانيات «الغربية» غير مناسبة لمجالنا التداولي، كما أن لدينا العتاد النظري الكافي فيما قدمه أسلافنا علماء اللغة في تراثنا. بمَ تتعامل مع هذه الاعتراض؟ وما وجاهة سؤال الأصالة في هذا الموضع؟
ليست هذه القضية سوى حالة خاصة من قضية الأصالة والمعاصرة في ثقافتنا العربية-الإسلامية، فكل ما يُمكن قوله هناك يُمكن قوله هنا، وإجابة عن سؤالك، لست أرى أننا أمام اعتراض حقيقي. أولًا، حين يتعامل ميدان علمي مع ظواهر طبيعية بمعناها الواسع، لا قيمة للبعد الجغرافي، فليس هناك كيمياء شرقية وكيمياء غربية، وليست هناك نظرية فيزيائية صحيحة حين نقوم بفحصها على يسار خط غرينتش وخاطئة حين نقوم بفحصها على يمين الخط، وبالمثل، ليست هناك لسانيات غربية وأخرى شرقية. ثانيًا، لا وجود لأيّ «عتاد نظري كافٍ» أيّا كان مصدره، فالنظرية الكاملة وهمٌ يتعارض مع واحد من أهمّ دروس تاريخ العلم الحديث، وهو درس التواضع المعرفي الذي تفرضه أحكام المنطق، وهي أحكام تفيد بأننا لن نستطيع أبدًا الادّعاء بامتلاك الكلمة الأخيرة حول أي موضوع يتعلّق بعالم الحسّ. أخيرًا، ليس هناك تعارض بالضرورة بين الأصالة والمعاصرة، هناك ربما مَن يهابون الجديد وآخرون يحتقرون القديم، ولكن هذه مشكلة مرتبطة بموقف كلا الفريقين ولا تصلح أن تكون دليلًا على وجود تعارض بين الأصالة والمعاصرة. هل يعني ذلك عدم وجود تعارض بينهما على الإطلاق؟ بالطبع لا، لكن هذا مشابه من حيث القيمة للقول بوجود اتفاق بينهما أيضًا. أعتقد أن جوهر المشكلة هنا مرتبط بمواقف آيديولوجية مسبقة تجاه ثنائية الجديد والقديم بشكل عام، وبالرغم من كل العداء للعلم الحديث في فلسفات ما بعد الحداثة، لا قيمة حقيقية للموقف الآيديولوجي في تحديد مسار العلم من حيث هو أداة معرفية بامتياز، أداة قاصرة بلا شك، لكنها أفضل المتاح أمام الجنس البشري.
11- كان الحوار معك تطوافًا مثريًا وممتعًا في هذه القضايا الدقيقة والشائكة. أكرر شكري لك على منحنا جزءًا من وقتك الثمين، وأوّد أن نختم هذا الحوار بسؤالك عن مشاغلك الفكرية والعلمية الحالية: ما المباحث التي تشغل بالك حاليًا وقد نرى نتاجها في المستقبل المنظور؟ وما هي مشورتك للمهتمين في مسائل دراسة اللغة والإدراك وقضايا فلسفة العلم عمومًا؟
انتهيت أخيرًا من كتاب كنت قد بدأت الاشتغال عليه أثناء فترة التفرغ العلمي في ألمانيا، وآمل أن يرى النور قريبًا، ويدور موضوعه حول ماهية العلم وتاريخه وفلسفته، مع تبيان علاقته بالمنطق والرياضيات، وأعمل حاليًا على مراجعة ترجمة للنشر في مجلة «حكمة»، كما أعمل على كتابة ورقة أحاول من خلالها تحليل بنية التفسير في ميدان اللسانيات التشومسكية، فهذا موضوع يشغلني منذ مدة طويلة، ورغم أني كتبت حوله أكثر من مرة، إلّا أني أجد أنه موضوع لم يزل يثير عندي الكثير من التساؤلات. هناك أيضًا مسائل أرجو التفرّغ لتناولها مستقبلًا بالبحث والدراسة، بعضها متعلق باللسانيات في محيطنا العربي، وبعضها متعلق بمفهوم «الفلسفة العلمية» عند بعض المفكرين العرب.
بالنسبة للنقطة الثانية من سؤالك، هي ليست مشورة بقدر ما هي مجرّد اقتراح أسعى أنا نفسي دائمًا إلى تحقيقه، وهو النظر إلى أي مشكلة علمية من زاوية أشد اتساعًا، فالتقسيم التقليدي للكليات إلى أقسام علمية ليس سوى تقسيم متواضَع عليه، والاستزادة قدر الإمكان من الأدوات المعرفية التي يتيحها كل علم على حدة خطوة ضرورية على طريق التعامل المثمر مع أي مشكلة علمية حتى إنْ لم يُفضِ هذا التعامل إلى حلّها، فعلى قارعة طريق العلم نحو الحقيقة الكثير من الثمار التي نستطيع اقتطافها قبل الوصول، وأغلب الظن أننا لن نصل أبدًا.