في حواره الذي ينقله أفلاطون أو يتخيّله على أيّة حال، ضمن إطار محاوراته السقراطية، يسأل سقراط السوفسطائيَّ الشهير غورجياس، عن المنتوج الذي تسفر عنه ممارسته لمهنته التي تقوم على تعليم «الفصاحة» أو الخطابة؛ ولمّا لم يدرك غورجياس فحوى السؤال – بالنظر إلى أنّ ما ينتجه بديهيّ ولا يحتاج إلى تعريف أو شرح – أمعن سقراط في التوضيح، قائلاً بأنّ الطبيب يستخدم الحديث لشرح الداء والدواء لمريضه، كما أنّ صانع الأحزمة ينتج أحزمة مثلًا، لذا ما الذي تنتجه أنتَ بفصاحتك؟ طبعًا ينتهي الحوار بإفحام سقراط لخصمه، حين عجز غورجياس عن تحديد المنتوج العملي لما يقوم به.
ولعلَّ شيئًا مماثلًا شهدناه بعد ذلك بألفيتين ونصف، في إحدى سهرات «دروس جون بلايرز»، في الجامعة الحرّة التابعة لمعهد الفيلم البريطاني بلندن، أوائل سبعينيات القرن العشرين، خلال تلك السهرة السينمائية/التعليمية – الممتدة حتى صباح اليوم التالي، من الثامنة مساءً إلى الثامنة صباحًا – وأمام جمهور من الطلاب كنّا نشكّل جزءًا منه، عُرضت مادة النقد السينمائي، وقد كان نجم تلك الليلة الكاتب الذي سيفوز بنوبل لاحقًا، هارولد بنتر، الذي جاء ليعرض لنا ويحدّثنا بوصفنا «نقاد المستقبل»، عن كتابته لسيناريوهات تلك الثلاثية السينمائية التي أخرجها جوزف لوزاي، والمكوّنة من: «الخادم»، و«حادثة»، و«الوسيط».
خلال تلك الجلسة التفتت طالبة شابّة نحو بنتر، وسألته بشيء من الحيرة مرسوم في نظراتها: «مستر بنتر، هل يمكنك أن تتكرم وتشرح لنا ما جوهر هذه المهنة التي تشجعنا على ممارستها، أيْ: النقد؟»، ويبدو أن بنتر قد بُوغت بسؤال لم يكن مستعدًا للإجابة عليه وقتها، لذا ابتسم بحيرةٍ ثمّ أجاب بقوله: «إنّ الإجابة على سؤالكِ يستغرق وقتًا، فامنحيني بضعة أيام، ثمّ اتصلي بي لأحاول أن أوضح لك الأمر…». ولا أعلم إن كانت قد اتصلت به أو استوضحت منه لاحقًا! أعلم فقط أنّ هذا السؤال يبدو دائمًا مربكًا، ويكاد يكون بلا جوابٍ واضح.
قد يكون ملائمًا ذكر حالتين عمليتين لتوضيح المقصد؛ ففي تلك السنوات ذاتها، تعرّفت على الصحافي اللبناني الكبير سعيد فريحة في لندن لمناسبةٍ ما، ولمّا كان من أصدقاء والدي سألني بلطفٍ عمّا جئت لأتعلّمه في العاصمة البريطانية، فأجبته: «السيناريو، والنقد السينمائي». حينها بدت الدهشة على محيّاه وصرخ بي بطريقته الظريفة: «السيناريو ربما، ولكن لماذا النقد؟ هل النقد يدرّس في الجامعات؟»، ثمّ أضاف وقد لمعت في ذهنه فكرة: «هيّا… هيّا، أوقف هذه المسخرة وتضييع الوقت، وعُد إلى بيروت واكتب ما شئت من النقد في مجلتي “الصياد”، وبعد ثلاثة أو أربعة مقالات ستصبح ناقدًا، إن كنتَ تجيد الكتابة بلغةٍ عربية سليمة». طبعًا لم أناقشه، بل شكرت طيبته بابتسامةٍ لطيفة.
بعد ذلك بنحو ثلاثين عامًا أو أكثر، كنت قد صنعت لنفسي اسمًا في عالم النقد السينمائي ذاته، واتصل بي الصحافي عبد الكريم أبو النصر الذي كان يستعد لإصدار مجلة «الوسط» التي تصدر عن دار الحياة، ليسألني عمّا إذا كنت أحبّ أن أحرّر صفحات سينمائية في المجلة، فأجبته بأنني لا أحبّ ذلك فقط، بل يسرّني أيضًا! فتعاقد معي على الفور، ثم قال لي وقد بتّ من موظفيّ المجلة بكل وضوح: «أريدك أن تكتب كل ما له علاقة بالسينما ونجومها وأخبارها، ولكن ابتعد عمّا يسمى بالنقد أرجوك! فهو لا معنى له والقرّاء لا يستسيغونه». والحقيقة أنني ما انطلقت في حديثي من هذه الحكايات إلاّ لأتطرق إلى ما يمكن اعتباره «سوء تفاهم»، يطول المسألة النقدية؛ إذ حتى اليوم وفي وقتٍ تكاد السينما نفسها تلفظ أنفاس كيانها القديم الذي عاش قرنًا وربع القرن حتى الآن، ما تزال قضية النقد السينمائي مبهمة، ومهنته غامضة، وممارسوه ينعونه منذ سنوات وسنوات، ولكن ما يزال كل كاتبٍ عن السينما والأفلام يعرّف نفسه بأنه ناقد، فيما لا يتورع أولئك الذين مارسوا النقد الحقيقي كثيرًا أو قليلًا – خلال ثلث القرن الأخير – عن إعلان أنّ النقد انتهى، كما أنّ السينما الجادة تنتهي بدورها. والسؤال البديهيّ هنا: هل انتهى النقد؟ وهل انتهت السينما؟ يقينًا أنّ الإجابة على هذا السؤال تقتضي منّا أن نحاول توضيح أولًا ما هو النقد طالما أننا – على الأقل – نعرف ما هي السينما.
ليس من السهل تحديد ما هو النقد، حتى وإن كفَت أحيانًا بضع عبارات للوصول إلى تعريفٍ ما، وحتى لو احتاج الأمر إلى مجلداتٍ لا تقلّ حجمًا عن موسوعة هيغل في علم الجمال؛ ونعرف أن ممارسيّ هذا النوع من الحكم المتراوح بين العلم والإبداع قد اشتغلوا على مثل هذا التعريف منذ بدايات ولادة الفن، حيث ثمّة نظريات في هذا المجال توازي عددًا – وأحيانًا قيمةً – منتجات الإبداع نفسها. ولن نتوقف هنا عند المعاني القاموسية لكلمة «نقد»؛ فهي لا تعني شيئًا بقدر ما تعني كل شيء، مما يعيدها إلى نقطة البداية.
لقد تغيّر المصطلح مع مرور الأزمنة وتراكم الممارسات، وتبدّل تبدلات جذرية بحيث لم يعد له أية علاقة بالمعنى القاموسي للكلمة الذي يعني تمييز القمح عن الزُّؤان! ولكن يمكننا تحديد الممارسة النقدية بكونها إطلالة على المبدَع، تتوخى تعريفه، والحكم عليه، وربما ربطه بالمجتمع الذي أُنتج فيه، وبتاريخ منتجه ومن ثم بعلاقته بالجمهور المتلقي. ولكن هنا يُطرح سؤال شائك: لماذا يحتاج المبدَع إلى كل هذه الشروحات ونحن نعرف أنه منتج شخصي لفنان أو مفكر أو كاتب يريد أن يوصله إلى جمهوره، ويعتقد أن وصوله لا يجب أن يلعب فيه أيّ وسيط أو أيّ دور؟ فإذا كان العمل الإبداعي يحتاج إلى الشرح والتقييم فسيكون معنى ذلك أنه ناقص! فلمَ على المتلقي أن يتعاطى مع عمل ناقص؟ هناك كثير من الفنانين يصرّون على عدم تفسير أعمالهم انطلاقًا من فكرة أن التفسير يضفي على المبدَع نظرة لو كان المبدِع يشعر بضرورتها لأضافها هو إلى عمله. وفي هذا السياق قد يرضى الفنانون الكبار بأن يتولى مؤرخوّ الفن أو الإبداع إدراج مبدَعهم في سياقاته الزمانية والمكانية، ومن هنا يتحول النقد إلى تأريخ ويصبح شيئًا آخر.
ثمّ هناك في السياق ذاته الطرف الآخر: المتلقي، فما موقفه من هذا الأمر؟ إننا نعرف أن جمهرة متلقي العمل الإبداعي قد تضم الألوف والملايين، الحقيقة أنّ هذه ليست سوى نزر يسير من الأسئلة التي يثيرها حضور النقد في حياة الإبداع ولم نصل إلى تقديم إجابات عليها منذ أرسطو على الأقل، لكن هذا لا يعني أننا نود استبعاد المسألة برمتها من الطرح وننصح المتلقي بالاكتفاء بالمبدَع وحده دون شروحاته وتقييماته، أيّ دون النقد الذي يمكن أن يتلوه ويُعاد إليه بعد أزمنة طويلة.
في نهاية الأمر طالما أنّ هناك من يمارسون «اللعبة» النقدية عن اقتناع، لا بد لنا من التعامل معهم بجديةٍ وكذلك باقتناع. لكن الشرط الأول لورود هذه السبيل سيكون بالنسبة إلينا هنا العودة إلى تعريف النقد بوصفه إبداعًا، حتى وإن كانت له سِمات العلم، ولا مفرّ هنا من أنّ نوضّح هذه المسألة بالنظر إلى أنّ في مقدورها أن تمنح النقد جوهرًا ما، لعلّه يكون جوهره المقترح في نهاية الأمر.
هذه النظرة تقترح أنّ المسألة تبدو وكأن ما يسمى نقدًا ما هو إلاّ سلسلة في تعاملات متعددة تصحب العمل الإبداعي، منذ تكوّن الفكرة في الذهن، ولا تتوقف بعد ذلك أبدًا. ولنعبّر عن هذا بتجربةٍ شخصية، وسآخذ هنا رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، قرأت هذه الرواية حتى اليوم خمس مرّات، آخرها قبل أشهر قليلة من كتابتي لهذه الأسطر؛ كانت المرّة الأولى وأنا في الخامسة عشرة، والثانية قرابة سن الثلاثين، ثمّ في سن الأربعين بمناسبة ذكرى مئة عام على رحيل كاتبها العظيم، ثمّ في سن الخامسة والخمسين تقريبًا قرأتها بترجمةٍ فرنسية بديعة جديدة، وأخيرًا منذ أشهر عدت إلى الترجمة الرائعة التي حقّقها الراحل سامي الدروبي، ضمن ترجمته لأعمال دوستويفسكي الكاملة، قبل ثلاثة أرباع القرن؛ والواقع أنّ الرواية في حدّ ذاتها لم تتغيّر إطلاقًا على مرّ الترجمات والسنوات، لكنها في كل مرّة تبدو لي متغيرة بصورةٍ جذرية! فأدركتُ أنني أنا من قد تغيّر خلال ذلك كله: تعاملي مع الفكر تغيّر، وطريقتي في تلقي السياسة والفلسفة تغيّرت، وعلاقتي مع لغة الأدب تغيّرت، وتفاعلي مع اللغة نفسها تغيّر. باختصار في كل مرّة كنت أقرأ فيها «الإخوة كارامازوف» كنتُ أشعر أنني أمام عالمٍ جديد وشخصياتٍ جديدة، بل راح تعاطفي يتبدل من شخصيةٍ إلى أخرى، فكنت في كل مرّة أعيد إبداع الرواية وعلاقتي بها من جديد، حتى وإن كنت في القراءات الخمس مجرد قارئ، بالكاد كتبت عن «الإخوة كارامازوف» بضع فقراتٍ تعريفية لا أكثر، ولم أشملها بأي دراسةٍ نقدية تستحق هذا التوصيف، إلاّ أنني في كل مرّة أُعيد خلق الرواية وربما اتباعًا لخطى دوستويفسكي نفسه الذي جعل من نفسه بكتابته لتلك الرواية متلقيًّا / ناقدًا لما رصده في المجتمع من حوله. وقد يجوز القول هنا بأنني كقارئ تحولت إلى «ناقد خاص»، أيْ: إلى مبدع من خلال قراءتي للرواية، ثم لو كتبت عنها نصًا وقُرئ، فإن قارئه سيلقي عليه هو الآخر نظرة قارئ / ناقد؛ وهكذا يُعاد خلق الرواية في كل مرّة على ضوء التبدلات المتراكمة بين قارئ وآخر، وزمنٍ وآخر.
وبما أننا قدّمنا هذا الاقتراح، فلا بد أن ننتقل إلى موضوعنا الآخر المرتبط به: ما يسمى بالنقد السينمائي؛ فإذا كانت قراءة الرواية لا تحتاج إلى أكثر من شغفٍ بفعل القراءة، وفضول للتعرّف على تفكير الكاتب، واستكشاف زمنه وبيئته، فمن المؤكد أنّ قراءة فيلم من الأفلام التي تستحقّ اسم فيلم سينمائي، تحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير؛ ومن هنا – كما سوف نرى بعد أسطر – قد تحتاج القراءة الفيلمية إلى عناصر أكثر رحابة، وذلك – تحديدًا – لأنّ السينما ليست بأية حالٍ من الأحوال ممارسة إبداعية بسيطة، فهي ليست مجرد صناعة وتجارة بقدر ما هي إبداع فني مركّب، بل شديد التركيب. وهذا ما يجعل «النقد السينمائي» ذا مشروعية واضحة، فالسينما سُميّت الفن السابع عن خطأ؛ لأنها في الحقيقة تحتوي في داخلها على كل الفنون الأخرى؛ هي قصة – حتى حين تكون سينما توثيقية – وهي صورة، وهي بِنى عمرانية – حتى بالمعنى الهندسي للكلمة – وهي أداء يقترن بالأداء المسرحي، وهي شاعرية محملة بمعانٍ مضمرة لا تؤمّنها الصورة المرئية مباشرة، وهي علم وظائف الأعضاء والتشريح، وهي مكمن للتحليل النفسي لا سيما من خلال استخدامها اللقطات المكبرة وتفاصيل الصورة التي قد تبدو ثانوية للوهلة الأولى، وهي صنو للفن التشكيلي، وربما بديلًا لبعض ما طواه الزمن منه.
والسينما باتت منذ زمن بعيد موضوعًا لعلم الاجتماع، من حيث علاقة العروض بتاريخها وذهنية متفرجيها، وتأثير هذه الذهنية على نوعية الأفلام المطلوبة والرائجة، كذلك فإن السينما باتت على علاقةٍ حاسمة بالفلسفة من خلال تعاطيها مع مفاهيم مثل الزمن والحركة وما إلى ذلك. والحقيقة أننا لو واصلنا سرد هذه اللائحة من الأبعاد والنعوت المتصلة بالسينما، سنحتاج إلى أضعاف المساحة المتاحة لنا هنا، لذا نكتفي بما أوردنا وننتقل إلى التساؤل حول ما نريد استخلاصه منا.
نريد أن نقول بكل بساطة إنّ السينما، حين تنتج فيلمًا كبيرًا لا بد للفيلم أن يصل بذاته ودون وسيط إلى جمهوره، سواءً كان هذا الجمهور شعبيًا أو نخبويًا، ونعرف أن لكلٍ من هذين الجمهورَين امتداداته وأفلامه التي قد تكون أحيانًا هي ذاتها، وقد تتمايز أحيانًا تمايزًا كبيرًا؛ فهل نلوّح هنا بعدم جدوى النقد السينمائي؟ على الإطلاق، بل نكاد نتحدث عن الحاجة المطلَقة لهذا النقد في هذا المجال الإبداعي بالذات؛ لأن صناعة الفيلم لا تنتمي – في عُرفنا – إلى مخرج وكاتب سيناريو فحسب، بل إلى عددٍ كبير من المبدعين، والمهنيين، وعمّال آخرين يساهمون في عملية صنعه من ألفه إلى يائه.
كذلك يساهم في صنعه جمهور المتلقين الذين يتلقون العمل السينمائي في ظروف بالغة الخصوصية: عتمة الصالة، والشعور بالوحدة بين «وحدات» كثيرة تترصد ما يحدث على الشاشة في آنٍ واحد، لترسم كل وحدة حصتها من الأحداث في لعبة تماهٍ مدهشة، وحبس الأنفاس حتى تضاء أنوار الصالة مع كلمة «النهاية»، ثمّ محاولة ربط ما شوهد بعد انتهاء العرض قبل محاولة ربط الفيلم نفسه في لحظةٍ تالية بما سبق رؤيته من أشرطة سابقة للممثلين أنفسهم أو للمخرج نفسه؛ وكل هذه العناصر مع غيرها هي التي تجعل المتفرج، سواء أكان عاديًا أو نخبويًا، يصبح بعد مشاهدة فيلم ما غير ما كان عليه قبله. ويقينًا أنّ هذا كله قادر على أن يحوّل لعبة المشاهدة إلى دوامةٍ تحتاج كابحًا يضع الأمور في نصابها، موحّدًا بين شتى العناصر التي أدتْ دورها في تلك المشاهدة.
هنا تكمن الحاجة إلى ذلك العنصر الذي يمكنه أن يؤدي دورًا جامعًا وأساسيًا في لعبة التلقي، فهل سنسميه ناقدًا، أو سننظر إليه نظرة أكثر شمولاً، ذلك المبدع الذي سيضيف إلى الفيلم المُشاهَد الترابط الضروري بين عناصر المشاهدة المتعددة؟ الحقيقة أننا لسنا هنا أمام ممارسة نقدية عادية تتوخى التعبير عن رأي في الفيلم وتقييمه، بل أمام ممارسة موسوعية، ولكي يستوعب صاحبها العمل السينمائي المعني يتعين عليه أن يكون ملمًّا بالعديد من العلوم، والفنون، والتاريخ؛ تحديدًا تاريخ الرواية، والفن المسرحي، والتحليل النفسي، والفن التشكيلي؛ بل ربما حتى بالطقوس الدينية، وفن التمثيل؛ إلخ.
طالما أنّ الفيلم السينمائي يحتوي على كل هذه العناصر والأبعاد، وطالما أنّ من البديهي القول هنا إنّ الممارسة الفنية تحسب كل عناصرها بالثواني كما بالنفقات؛ فلا يمكن النظر باستهانةٍ إلى أيّ عنصر مستخدم داخل المشهد، والذي يكلف استخدامه وقتًا ومادة، ولا يمكن لكل عنصر إلاّ أن يكون مقصودًا كجزء من «الدييجيز» (وهو الاسم اللاتيني الذي يطلق في عالم السينما على كل ما تحتويه الصورة من عناصر مادية أو حوارية أو موسيقية). لا بد للمتفرج أن يدرك ماهية هذه العناصر التي تكوّن له المشهد، وإلا سيفوته الكثير.
ولعلَّ في إمكاني هنا أن أعطي مثالًا واحدًا يوضح ما أريد قوله: ففي فيلم «المرّ والرمان» للفلسطينية نجوى نجار، يمرّ مشهد تغسل فيه البطلة قدمي زميلها، وهي زوجة أسير فلسطيني تحبّ الرقص المسرحي الفني، وتمارسه مع هذا الزميل، وزوجها في السجن. شاهدنا الفيلم يومها وكنا أعضاء لجنة تحكيم في مهرجانٍ عُرض فيه، ومعنا مخرج عربي كبير استاء من المشهد ولم يفهمه، وراح يتمتم مستنكرًا؛ فابتسمت وقلت له إنّ المخرجة مسيحية، ولم يفهم ما أردت قوله فصرخ: «أيحق لها إذن أن تفعل هذا في مشهد مقزز؟» ضحكت وفسرت له دلالة غسل القدم بالنسبة إلى ما فعله السيد المسيح مع حوارييه. سألني المخرج: أأنت مسيحي لتفهم هذا؟ أجبته بالنفي. فسأل مستغربًا: فكيف تعرف هذه الحكاية؟ قلت له لو لم أكن أعرفها لما ادعيت أنني ناقد سينمائي!
المخرج الصديق لم يدرك حينها جوهر ما كنت أريد قوله، بأنّ تلك الموسوعية الشاملة أمرٌ لا بد منه للوصول إلى فهمٍ حقيقي للفيلم السينمائي، بفضلها – أي الموسوعية – يكون الناقدُ ناقدًا حقيقيا، بامتلاكه المعرفة بعدد كبير من صنوف الفن، والتعامل مع التاريخ والمجتمع، ومن المؤكد أن ما يمارسه ليس نقدا بحتا فحسب، بل هو استطراد لعملية الإبداع التي تمرّ من الإطلالة على الزمان والمكان، وصولاً إلى المتلقي، ثمّ بالضرورة مرورًا بذلك «المبدع» الآخر الذي يمتلك من شمولية الرؤية ما يمكنه من أن يُضفي على العمل الفنيّ أبعادًا وتفسيرات جديدة قد تكون مستغلقة أحيانًا، حتى على مبدعيّ العمل أنفسهم.
ولعلَّ في مقدورنا أن نختم هنا بتذكيركم بأنّ مخرجينَ عربًا كبارًا مثل: محمد خان، ويوسف شاهين، ورضوان الكاشف، كان يحلو لهم الجلوس مع ممارسيّ ذلك النوع من «النقد»، ولسان حال الواحد منهم، يقول: إنني أجلس معكم؛ لكي أفهم أفلامي بشكلٍ أفضل!