مقالات

الله وكل شيء: «برهان الصديقين» لابن سينا

ستيفن غامبارديلا - ترجمة: أحمد شكري مجاهد

لمَ وجد الموجود ولم يكن معدومًا؟

هذا سؤال كثيرًا ما نسأله على مر حياتنا، وعادة ما يقال إنّ الفلسفة تبدأ بالتساؤل، وإنّ الطفل أعظم الفلاسفة؛ لأن الخوف لا يمنعه أن يسأل «لماذا»؟ والسؤال الأكبر هو: «لماذا أي شيء؟».

وعادة ما يُفترض أن ليس لهذا السؤال من جواب. وقد تلافى أكثر الفلاسفة هذا السؤال؛ فقد كُتب الكثير عن طبيعة الكون ومكاننا فيه، ولم يكتب خارج النصوص الدينية إلا قليلًا عن علة وجوده ابتداءً.

وأساطير بدء الخليقة في الأديان لا تُحصى، ولكن لا يتناول الوجود الإلهي نفسه إلا قليل منها. حتى حلت القرون الوسطى وتلاقت إمبراطوريتا المسيحية والإسلام فاختلطت الفلسفة باللاهوت لسبر أغوار الوجود على نحو غير مسبوق.

استمد العلماء من الفلسفات القديمة نظريات عقلية لوجود الإله، والغاية من الكون، وقد وُفّقت تلك النظريات مع النصوص الدينية، أو على الأقل لم تكن مناقضة لها. ومن هنا اتسع البحث لاتساع وتعقيد العالم المادي.

وإله إبراهيم الفرد مطلق القوة في قلب هذه المنظومات الفلسفية، مع بقايا أرسطية وأفلاطونية تلوح في الأطر الفكرية، على الرغم من أصولها الوثنية.

وكان الفيلسوف الفارسي ابن سينا من أول من حاول الإجابة عن هذا السؤال الأهم إجابةً شاملة. وقد ابتدأ الفيلسوف من بمبدأ أولي، معروف لنا بالحدس، وهو أن كل شيء حولنا معلول.

فالمقعد الذي تجلس عليه صنعه أناس من مواد خام، وهؤلاء الناس حملتهم أرحام أمهاتهم، والمواد الخام التي صنع منها الكرسي – كالخشب أو البلاستيك أو المعدن – صُنعوا من خلال عمليات طبيعية عبر سنوات كثيرة.

فإذا أخذنا في تتبع سلسلة العلل/الأسباب، سنجد أن ذرات كرسيك قد سُبكت في موقد الكون، ومثلها ذرات أجسام مصممي وصناع الكرسي.

نفهم كيف تسببت الأشياء، ولكن ما الذي سبّبَ كل شيء بالاعتبار الإجمالي؟ فإذا عرفنا إجابة هذا السؤال، اقتربنا من معرفة لِمَ وجد ما وجد ولم يكن معدومًا.

الكرسي موجود، لكن وجوده غير واجب. ونحن قد نكون موجودين وقد لا نكون، والحق أنه لا يصعب تصور حتى عدم وجودنا. فماهيتنا – ما نكون به نحن – منفصل عن وجودنا. فإذا تبين ذلك عاودنا السؤال كيف كان الوجود موجودًا؟

يبين ابن سينا من خلال البرهنة على وجوب وجود واحد، كيف يمكن لكل وأي شيء أن يوجد. ففي هذا التصور «واجب وجود» تقوم به كل «الموجودات».

يسوق الفيلسوف دليله العقلي البارع على أن واجب الوجود هو الله. يبني ابن سينا كلامه بعكس تسلسل السببية لإثبات وجود أصل الوجود – الله – قبل أن يشرع في إثبات صفات الله، وقبل أن يصف كيف أن الله هو مسبب الكون والواقع المتنوع الذي نعيش فيه، وقد سمى حجته «برهان الصدّيقِين».

«حياة ساكنة مع السفرجل، والكرنب، والبطيخ والقثاء» - خوان سانشيز كوتان، حوالي 1602 ( رخصة مشاع إبداعي من ويكيميديا).
«حياة ساكنة مع السفرجل، والكرنب، والبطيخ والقثاء» – خوان سانشيز كوتان، حوالي 1602 ( رخصة مشاع إبداعي من ويكيميديا).

إنّ الإتيان بهذا البرهان يتطلب ذكاء طموحًا، بل وجريئًا، يناسب ابن سينا؛ فهو علامة موسوعي مُكثر من التأليف، وأحد أشد مفكري العالم تأثيرًا.

وكان ابن سينا بالغ التأثير في تطور الفلسفة القروسطية المسيحية في العالم الغربي، حيث يعرف ابن سينا باسم «أڤيسِنا» Avicenna، في الأغلب من خلال ترجمات لمصنفاته التي أُعدت في خلافة قرطبة (في إسبانيا والبرتغال حاليًا).

أعيد تقديم أوروبا لأرسطو من خلال تعرضها للفكر الإسلامي، ومنه «السينوية اللاتينية» التي كانت تيارًا علميًا قويًا في القرن الثاني عشر، ويدين توما الإكويني في جمعه بين الأرسطية واللاهوت المسيحي للإبداعات الفلسفية التي أنشأها ابن سينا.

ولد ابن سينا في أصفهان، قرب بخارى، عاصمة السامانيين الثرية قِبلة العلوم والمعارف الواقعة في طريق الحرير. وطلب العلم في تلك المدينة، وبدأ مسيرته العلمية والعملية طبيبًا وفقيهًا في دوائر مقربة من الأسرة الحاكمة.

وقد أتاح له كونه طبيبًا مقربًا من حاكم المدينة الولوج إلى نفائس خزانة كتب القصر، ومن ضمنها ترجمات لنصوص فلسفية وعلمية يونانية.

نجت تلك النصوص من الضياع وحفظت في مكتبات العالم الإسلامي في أوج الخلافة العباسية، وقد رعى المشروع الفكري الذي شع من بغداد لقرنين قبلها ثقافة مفعمة بالإبداعات الفلسفية والعلمية قبل النهضة الأوروبية.

وقد أنشأ ابن سينا منذ أيام طلبه العلم مصنفات عظيمة، أهمها في الطب والفلسفة، وصنف كذلك في العلوم الطبيعية وعلم النفس، والعقائد والرياضيات، وكان كذلك شاعرًا مُكثرًا ينظم الشعر بالعربية والفارسية.

وأشهر مصنفاته بين القراء في العصر الحديث كتاب «القانون في الطب» وهو موسوعة طبية كانت الأساس الذي بني عليه بواكير الطب الحديث، وكتاب «الشفاء» وهو موسوعة فلسفية وعلمية ضخمة في عدة مجلدات، سعى فيها إلى عرض تفسير قوي ومتكامل لكل شيء.

وقد نأخذ كتاب «الشفاء» مثالًا نرى فيه مقدار ما قد يحققه رجل واحد – وقد سمي الكتاب بهذا الاسم لأنه قصد به أن يجعله شفاء لجهل الأرواح – وهو كتاب عظيم دقيق في أربع أجزاء: المنطق، والعلوم، والرياضيات، وما قبل الطبيعة، دمج فيه استيعابًا العلمَ والفلسفةَ.

كانت الفلسفة التي تعرض لها ابن سينا في الأساس فلسفة أرسطو وشراحه من تلامذته (المعروفين بالمشائين) وكذلك الأفلاطونية المحدثة مثل أفلوطين وفرفوريوس وبرقليس. ويجدر بالذكر أن «تاسوعات» أفلوطين، وهي أهم ما وصلنا من المؤلفات الأفلاطونية المحدثة، نسبت خطأ إلى أرسطو باسم «أثولوجيا أرسطو».

تشكل الأفكار الأرسطية أساس فهم ابن سينا للكون، لكن الأفلاطونية المحدثة هي أساس نظريته عن مكانتنا في الكون، وعلاقتتنا بالإله.

التمييز بين الماهية – ما يكون الشيء به هو هو – والوجود، من أهم خصائص ميراث ابن سينا الفلسفي، وهو ما تجاوز به أرسطو في نظريته عن كل شيء والإله.

«حياة ساكنة مع الخرشوف وطائر الدراج والعنب والسوسن» - خوان سانشيز كوتان، حوالي 1628.
«حياة ساكنة مع الخرشوف وطائر الدراج والعنب والسوسن» – خوان سانشيز كوتان، حوالي 1628.

مفهوم الماهية مستمد من أرسطو، الذي وصفه بأنه «ما به الشيء هو هو». فالماهية لا يمكن نزعها عن شيء من دون أن يتحول عما هو. الماهية هي ما يميز بين الموجودات؛ فماهية الفرس تختلف عن ماهية الإنسان مثلًا.

 ومع ذلك فالماهية لا تقتضي وجود الشيء؛ فمجرد معرفة ماهية الشيء لا يستدل منها على وجوده. ولا نُحصي الأشياء المتصورة في أذهاننا، غير الموجودة في الواقع.

ضرب الفيلسوف مثلًا بالفرس. فلدينا فرس معين [جزئي]، و«فرسية» كلية تجعل الفرس فرسًا، وليس شيئًا آخر. لكن الكلية ليس متضمنة في تعريف الحصانية نفسها، الكلية لازمة «للحصانية».

كتب يقول: «بل الواحدية صفة تقترن إلى الفرسية، فتكون الفرسية مع تلك الصفة واحدة» (الشفاء، الإلهيات، المقالة الخامسة، الفصل الأول).

فالفرس ليس فرسًا من دون «واحدية» الفرسية، ولكن لا الفرسية الكلية، ولا ذاك الفرس الجزئي يوجدان من دون «صفات» الكلية أو الجزئية. وعلى ما يبدو من تنظير أكاديمي في هذا الكلام، إلا أنه ما يؤسس لمنظور ابن سينا الأوسع في الوجود.

فالفرس الجزئي، والفرسية الكلية يجب أن يعتمدا على غيرهما للوجود؛ فلا شيء في ماهية الفرس يقتضي ضرورة وجوده. وقد حدد الفيلسوف ثلاث حالات حول علاقة الماهية بموجودها: الاستحالة، والإمكان، والوجوب.

فالمستحيل ماهيته تنافي وجوده، مثل مثلث له أربعة أضلاع؛ فهو مستحيل من جهة ماهية المثلث أو تعريفه بأن له ثلاثة أضلاع: أي أن المثلث ماهيته أن له ثلاثة أضلاع.

أما الممكنات – مثل الفرس أو الإنسان – فتعتمد في وجودها على أمر آخر. وقد يكون عددٌ من العلل المتسببة في وجود الممكنات، مثل والدة الإنسان. فيقول ابن سينا إن الممكن يكون «واجبًا» بغيره، وكل ما في الكون عند ابن سينا من الممكنات.

فيلزم وجود ماهية تقوم بذاتها لتعلل وجود كل شيء آخر. وهذا يجعلها «وجودًا واجبًا»؛ أي يجب وجودها بالضرورة، والوجوب هو المقتضي لوجوده الذاتي، فيلزم منه قدم وجوده.

انظر حولك. تأمل في كل ما يحوطك. تلك الأشياء يمكن ألا توجد. فإن كان لوجود كل شيء حولنا علة، فما علة وجود كل تلك الأشياء إجمالًا؟

فمجموع تلك الموجودات الممكنة، وهو العالم الذي نعرفه، يجب أن يكون في نفسه ممكنًا. ومعلوم عقلًا أن كل الأشياء يجب أن تكون معلولة لشيء لا علة له، أو قائم بنفسه، وإلا كانت تلك العلة، بأصل ماهيتها، ضمن مجموع تلك الأشياء المعلولة.

وقد يقول قائل إن مجموع كل الأشياء إجمالًا مغاير عن كل شيء إذا أخذ بالاعتبار الفردي. فالمكينة مثلًا إجمالًا مغايرة لأجزائها؛ فهي مجموعة أو وحدة مختلفة عن مجموع أجزائها. فلعل الكون «مجموعة» من نوع ما مغايرة لأجزائها.

لكن هذه الفكرة ما تزال يلزم منها واجبُ وجودٍ، وهي هنا الكون نفسه. لكن ابن سينا يشدد على أن واجب الوجود يجب أن يكون مباينًا في صفاته عن عالم الأشياء.

وهذا يفضي بنا إلى القسم التالي من برهان ابن سينا على وجود الله، حيث يقول بأن من وجوب «وجود» الإله يمكننا فهم «ماهيته».

يجب أن يكون واجب الوجود واجبًا من كل وجه: يجب أن يكون فردًا واحدًا محضًا لا يتصف بصفات الماديات، وهذه هي الصفات الإلهية التي نعرفها من التوحيد.

وواجب الوجود واحد فقط لا غير. لو افترضنا وجود وجودين واجبين مثلًا، فلا بد من وجود فرق بينهما. فواجب الوجود واجب من كل وجه، والفرق اللازم للتمييز بين الوجودين سيكون معللًا، ومن ذلك يبين ابن سينا – عقلًا – بطلان القول بتعدد الآلهة. إذًا فالله واجب الوجود يجب أن يكون واحدًا.

ويجب كذلك عقلًا أن يكون بسيطًا، إذ لو كان مؤلفًا من أجزاء للزم أن يكون كل جزء مغاير للآخر، ويلزم من اختلافها أن تكون معللة. والمعلل لا يكون واجبًا، إذًا فواجب الوجود بسيط فرد واحد.

ونعلم أن كل الأشياء في أصل ماهيتها مكونة من أجزاء. تلك الأجزاء مكونة من أجسام أصغر، لها لون وقوام وشكل. وواجب الوجود لا يتجزأ، ولا يوصف بهذه الأوصاف؛ لأنها كلها معللة. إذًا فواجب الوجود لا يتصف بصفات المادة، وإنما هو عقل محض.

لا يوجد عند ابن سينا ما يستحيل فهمه عن الله بالعقل، وهي فكرة قوية لافتة للنظر مفادها أننا يمكننا أن نعرف الله بالعقل كما نعرفه بالإيمان.

وإثبات هذا الفيلسوف لله قبله كثيرون ورفضه آخرون. رغم زعم ابن سينا أن برهان الصديقين يتفق تمامًا مع صفات الله في القرآن، إلا أن كثير من العلماء والفلاسفة نقد حجته.

فمن ذلك أن برهان الصديقين لا يثبت لله إرادة. فالظاهر أن واجب الوجود بهذا البرهان يلزمه إبقاء الكون، وغياب إثبات الإرادة والقوة مناقض تمامًا لما يُعرف من قوة الله المحيطة وعدله التام.

وقد تأثر ابن سينا بشدة بالأفلاطونية المحدثة في فكرته عن واجب الوجود؛ إذْ تقترب أفكاره من الأفكار الأفلاطونية عن «الواحد» أو «الخير»؛ منبع الوجود الذي سبق آلهة الإغريق والرومان. وهذا ما أثار حفيظة كثير من الشراح الموحدين؛ إذْ نقد المتكلم الكبير الملاحمي مذهب ابن سينا لأنه رأى أنه قد أفسده الفكر الإغريقي المجرّد، وشدد على أن هذه الأفكار منافرة للطابع النبوي للإسلام.

ولكن قد يرد على ذلك بالقول إنّ الأمر لا علاقة له بالفكر المجرد؛ بل بالتدبّر. فالتفكير الإمبريقي هو لب برهان الصديقين عند ابن سينا: وجودنا معروف بداهة ولا يمكن الشك فيه. هذه الحقيقة المسلمة هي حجر الأساس لهذه المنظومة الشاسعة المعقدة، التي استهدفت «شفاء» الجهل، والتنعم بفهم ومعرفة الله.

واجب الوجود هو صياغة لفظية للحدس البشري للإيمان، ويطلب أساس هذا الحدس: الإلهي.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

جميع الاقتباسات من مجلد الإلهيات من كتاب «الشفاء» لابن سينا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى