إيون

غَشَاوَةُ الحُزْنِ | أبريل ريس

ترجمة: فادي حنّا – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري

يؤثِّرُ الحُزنُ على الجسد، والمُخّ، والشُّعور بالذّات، وذلك ما لا تُفسِّره نظرية مراحل الحُزنِ الخمس. إنَّما الحلُّ أن تَصْبِرَ على مَا أصابك.

حين اتصلتْ بي مُمرضةُ رعاية المُحتَضِرينَ صباح اليوم الثاني من أبريل؛ لتخبرني أنَّ والدي قد وافته المنيّة في تمام الساعة ٧:٣٨ ص، بعد يومين فقط من خُروجه من المَشفى وبعد سَبع ساعات منذ أن وصلت إلى المدينة حتى أتمكّن من رؤيته، بَدَا العالَم غريبًا فجأة، وغير كامل؛ كنت أعرفُ الأشياء، لكن أُعاني حتى أفهم ما أرَاه. لم أكن أعي كَمْ كان والدي سَنَدًا لِي إلاّ عندما غاب؛ إذ كان أبي حاضرًا دائمًا مُنذ ولادتي، حتى ولو على بُعد ٢٠٠٠ ميلًا؛ فهو يقطن ولاية ماريلاند، بينما أُقيم في نيومكسيكو، أمَّا اليوم فلم يعد موجودًا. إذا كان جانِبي العقلانيّ يدرك أنَّ ذلك حقيقةً، فإنَّ بقيّتي ترى ذلك مستحيلًا.

بقيت هادئة في ظاهري، بينما أخوضُ بِسَكينةٍ غمارَ المَهامِ غير المَرغوبة المُلقاة على عاتق ابنة الفقيد البِكْر من إخبار أفراد العائلة، واتخاذ الترتيبات اللّازمة، وإشعار الأجهزة الحكومية، والشركات، والمُنظمات، والجامعة التي كان يعمل والدي أمينًا لمكتبتها لمدة ٣٣ عامًا. لكنَّ مشاعرَ مُضطرمة كانت تعصِفُ بنفسي. مشاعر الحزن، والتّيه، والغضب، وعدم التّصديق، والخوف، والندم، والذنب. وقد كنت أتنفس بصعوبةٍ -أحيانًا- في  الساعات، والأيام، والأسابيع الأُوَل من مماتِهِ. لم يكن بوسعي التركيز؛ فكنت أنسى الأشياء. وكنت مُرهقة إرهاقًا مطردًا مهما طالت ساعات نَومي. وقد أدركت ما كانت تعنيه جوان ديديون (Joan Didion) في كتابها: عام التّفكير السّحري (٢٠٠٥) (The Year of Magical Thinking)؛ حيث تُسجِّل حزنها على فُقدانِ زَوجها، عندما كتبت: «لقد أدركت أنني اليوم لا أئتمِنُ نفسي على مواجهة العالَم بِوَجهٍ مُتماسكٍ».

وقد تبيَّن أنَّ غشاوةَ الحُزنِ هذه شائِعةٌ بقدر الحُزن ذاته. عندما فَقَدَتْ عالِمَةُ الأعصابِ ليزا شولمان ( Lisa Shulman) زَوْجَها المريضَ بالسرطان قبل تسع سنوات، ذكرت أنّه «كان ثمّة حزنٌ عميقٌ، لكن هذه لم تكن المُشكلة الأساسية». «لقد كان الشُّعورَ بالفَقْدِ. لقد شعرتُ كأنني أستيقظ في عالَمٍ غريبٍ تمامًا؛ ذلك أنَّ الأساسَ الذي تقومُ عليه حياتي اليوميّة كاملة قد اختفى اختفاءً تامًّا».

فهي تذكر أنّها وجدت نفسها تائهة في الزمن، وينتهي بها الحال في أماكن تعّهدها، لكن دون معرفة كيف ذهبت إلى هناك، تقول: «لا تتعلّق المسألة باختصار بِشُعور عدم الارتياح أو القلق، بل إنه شُعورٌ بالذُّعْرِ». «ذلك أنَّك تشعر -كما قالت ديديون منذ عهدٍ بعيد- أنَّك ستفقدُ رُشْدَكَ».

ولا تُجدي فكرة المراحل الخمس للحُزن الشّائعة في الغرب، أيَّ نفعٍ؛ فقد صار المرورُ عبر هذه المراحل -من الإنكار، إلى الغضب، ثمّ المُساومة، ثمّ الاكتئاب، وأخيرًا التقبُّل- جُزءًا من روح العصر. قدَّمت الطبيبة النفسانية كيوبلر روس إليزابيث (Elisabeth Kübler-Ross)، هذه المراحل الخمس للحُزن أوّلًا في كتابها: الموت والاحتضار (١٩٦٩) (On Death and Dying)، بوصفها طريقة لِوَصْفِ خبرة المرضى الذين يعانون مرضًا عضالًا، ثمّ وسَّعت الفكرة لاحقًا مع خبير الموت والاحتضار ديفيد كيسلر (David Kessler)، لتفسير ردة فعل الثّاكِلِ على خسارة فَقيدِهِ في كتابهما: عن الحزن والاغتمام (٢٠٠٥) (On Grief and Grieving). لكنَّ علماء النَفس والأعصاب أدركوا في السنوات الأخيرة، أنَّ الحزن أعقد من ذلك بكثير، وأكثر فرديّةً؛ ذلك أنَّ بلايا الحزن كثيرة ومُتنوعة. يحزن الفَاقِدُ قطعًا، ولكنه قد يشعر أيضًا بالغضب، والاهتياج، والإعياء، والخمول، والاستياء، بل قد يشعر بالانزعاج من الضوضاء انزعاجًا أكثر من المُعتاد. وقد يشكِّكون -مثل شولمان عالمة الأعصاب في كلية الطب بجامعة ماريلاند- في هُويّتهم ومكانتهم في العالَم.

وقد تبيّن أنَّ نظريةَ مراحل الحُزن الخمس ليست طريقة مُفيدة بحدّ ذاتها في التفكير في الفَقْدِ. إنَّها في الواقع قد تكون ضارّة؛ إذ لو كان شعورنا لا يناسب إطار النظريّة، فقد نذهب إلى أنَّ ثمَّة شيئًا يتعلَّق بنا -أو بمن حولنا- لا يسير على ما يُرام. «الأهمّ من ذلك أننا قد نُولي ظهورنا إلى الأشياء التي تطمئننا مُعتقدين أنَّ ثمَّة طرائق صحيحة وأخرى خاطئة نسلك بحسبها». تكتبُ شولمان في كتابها: قبل الفقد وبعده (٢٠١٨): «لكنّ خبرتنا بالفَقْدِ شخصيّة وقريبة منّا، فهي لا تخضع للتعميم بصورةٍ جيّدة. إنها فريدة مثلنا».

كشفت دراسةُ الفَقْدِ كيف تبدو خبرات الحُزن المُتنوعة، وكذا بعض أنماطها المُثيرة للاهتمام، في دراسةٍ هامَّة عن الاكتئاب عند الشخص الفاقد، مَنشورة في مجلة الأبحاث النفسيّة عام ٢٠١٥، حيث لاحظ الباحثون حوالي ٢٥١٢، من الذين فقدوا زوجًا أو طفلًا، مرّة قبل الفقدِ وثلاث مرّات بعده، على امتداد ١٨ عامًا. وقد وجدوا أنَّ منهم ٧% يعانون من اكتئابٍ مُزمنٍ استمرّ طوال فترة الدراسة، إلا أنَّ مُعظم المُشاركين -حوالي ٦٨%- لم يُعانوا سوى اكتئاب ضئيل أو لم يعانوا على الإطلاق. وفي الآن نفسه،  أخبر ١١% منهم أنّهم وَاجَهوا الاكتئاب قُبيل الوفاة، لكنّه أخذ يتلاشى تدريجيًّا في نهاية المطاف بمرور الوقت، وقد خبرَ ١٣% حُزنًا مُزمنًا، ناقوس خطرِ الاكتئابِ بعد الوفاة.

ألهَمت خبرة شولمان -التي تدرس مرض باركنسون- النظر في علم أعصاب الحُزن بوصفه طريقةً لِفَهمِ ما كان يحدث لها. في كتابها -حيث تدمج قصة حزنها مع عِلمِ الفقْدِ- تُلاحظ أنَّ الحُزنَ خبرةٌ إنسانيةٌ عالميةٌ تطوّرت أدمغتنا للتصديّ لَها، وقد طوّر المُخُّ -كما تقولُ عالمة النَفس ناتاليا سكريتسكايا (Natalia Skritskaya)- على مدار آلاف السنين من الخسارة الجمعية، خطةً مُعقدةً تُساعدنا على تحمُّل الفَقدِ، وأن نشفَى منه في النهاية، تقول: إنَّ «الحزنَ ردّة فعل طبيعية»، «فمهما كانت ردود الأفعال تلك مُضطربة، ومَهما بدَت غريبة، فإنَّ ثمَّة أسبابًا وَجيهة لها».

وقد تعلَّمت أنَّ للحُزنِ أثرًا كبيرًا علينا، فهو يُعيدُ توصيلَ روابط المُخّ؛ إذ يتولَّى الجهاز الحوفيّ ( limbic system) زمامَ الأمور، وهو جزء أساسيّ من تركيب المُخّ يتحكّم في المشاعر والسلوكيات التي تضمنُ بقاءنا، في حين يتراجع دور قشرة الفصّ الجبهيّ (prefrontal cortex)، مركز التفكير وصِناعة القرار.

تقولُ شولمان: إنَّنا «من وِجهة نَظرٍ تطوريّة، مُلزمون بالإجابة عمَّا  يهددنا». «إننا -في كثيرٍ من الأحيان- لا نفكِّر في فقدان مَحبوبٍ باعتباره تَهديدًا بهذه الصورة، لكن المُخّ يُدرك الأمر على هذه الصورة حرفيًّا». لأنّي مُمرضة حازِمة تفرِضُ راحةً سريريّةً، فإنّي أرى أنَّ المُخَّ يقمعُ  مراكِزَ التحكُّم في صِناعة القرار والتخطيط.

 يَعني إدراكُ ذاك التّهديد انبجاسَ ردّة فعل البقاء الغريزيّة -«واجِهْ أو اهربْ»- ويتدفّقُ الكورتيزول -هرمون التوتر- في الجسم. وجدت عالمة الأعصاب ماري فرانسيس أوكونور (Mary-Frances O’Connor)، في جامعة أريزونا في عملها مع آخرين، أنَّ ثمَّة مستويات مُرتفعة من هرمون التوتر عند الفَاقِد.

وبينما يتدفّق الكورتيزول بسرعةٍ في الجسم، فإنَّ المُخَّ يُعيدُ صُنعَ ذاته على الأقلِّ وقتيًّا؛ لكي يُساعِدنا على تحمّل صدمة الحزن. وفي الأسابيع التي تَلِي الفَقْدِ يعملُ المُخّ كممرضة حازمة تفرضُ على ذاتها راحةً مُؤقتة في الفراش، فهو يقمعُ مراكز تحكُّم الوظائف العُليا، كمراكز صِناعة القرار والتخطيط. وتقول شولمان: “إنَّ المناطق المسؤولة عن العاطفة والذاكرة تعملُ -في آنٍ واحد- بكدٍّ للتحكُّم في طريقَيّ المشاعر والذكريات كليهما إلى المُخّ. يُظهِرُ مسح مُخ الفاقدِ أنَّ الحزن يُفعِّلُ مناطقَ من الجهاز الحُوفيّ التي يُشار إليها أحيانًا باسم «المُخّ العاطفي». ومن بين المناطق الحوفيّة المُتأثِّرة منطقة اللّوزة [الأميجدالا]، التي تتحكَّم في شدّة العاطفة، وإدراك التّهديد. والقشرة الحزاميّة (cingulate cortex)، التي تدخل في التفاعل بين العاطفة والذاكرة. ومنطقة المهاد [الثالاموس]، وهو نوع من محطة البثّ التي تنقلُ إشارات حسيّة إلى القشرة المُخّيَّة مركز مُعالجة المعلومات في الدماغ.

تكتبُ شولمان في كتابها: «للحفاظ على وظيفته وبقائه، يعملُ المُخُّ كمُنقٍ؛ إذ إنّه يستشعرُ عتبة العواطف والذكريات التي لا نستطيع تحمُّلها». وتضيف أنّه لا يَسعنا أن نفعل غير القليل لتغيير ردّة الفعل هذه، رغم أنّه قد لا يتحتّم علينا فعل ذلك؛ إذ إنَّ ذلك ضروريٌّ للتأقلُمِ مع الفَقْدِ. تقول شولمان: «إنَّنا واقعون تحت رحمة هذه السَّيرورة بِرُمَّتها أصلًا».

لذا؛ فإنّه -كما تطمئنني سكريتسكايا- لا داعي للقلق من عدم قُدرتي على الإتيانِ بِجُمَلٍ مُترابطة، أو تذكُّري لِمَ قد فتحت ثلاجتي؛ فإنَّ مُخّي -باختصار- قد أضعف تفكيري؛ لكي يُمكِّنني من تحمُّلِ الفَقْدِ. والإدراك الضبابيّ هو ما تتقاضاه مُقابل ذلك، وهو ما وصفته لأصدقائي بأنّه «المُخّ الحزين».

تقولُ شولمان في كتابها: «يشغل الحزن نطاقًا واسعًا في المُخّ»، «والتصرفات الغريبة وعدم الاتساق توابعُ مُتوقَعة لردود فعلِ المُخّ الوقائيّة، التي تتبعُ صدمةً عاطفيّة».

وكما يعلمُ الجسمُ ما يجب فعله؛ لكي يلتئم جُرحه، فكذلك يعرفُ الدّماغُ ما ينبغي فعله؛ ليشفيَ نفسه بعد فقدٍ، لكنَّ ذلك الإِشْفَاء يستغرِقُ وقتًا، «ويتطلّب أن تَعطِفَ، وتَحنوَ على نفسك»، على حدّ قول سكريتسكايا.

تختلفُ مُدّةُ بقاء الحُزن من شخصٍ لآخر، فبعض الناس قد يستغرِقُ ألمَ الفَقْدِ بضعة أسابيع أو أشهر، بينما بعضهم قد يتملَّكهم الأسَى العميق بعد مرور عام

تذهبُ الأبحاثُ الحديثةُ إلى أنّ الحُزنَ إذا كان شديدًا للغاية، واستغرق مُدة طويلة، فإنه قد يغدو مُشكلة. يعتقد كثير من علماء النفس اليوم أنَّ ألم الفَقدِ إذا استمرّ أكثر من عام، فإنَّ ذلك يستوجب تدخُّلًا لمساعدة الفاقِد على استجماع نفسه. وتندرج هذه الحالة التي تُسمَّى بـ : “اضطراب الحُزن طويل الأمد”، أو الحزن المُعقد، في المجلد الأخير من الدليل التشخيصيّ الإحصائيّ للاضطرابات العقليّة (DSM-5)، الذي يرجع إليه علماء النَفس والأطباء النفسيُّون لتشخيص مرضاهم.

لا يَعني ذلك أنّه إذا حزن أحدهم بعُمقٍ بعد مرور ٣٦٦ يومًا من فُقدان محبوبه، فإنَّ فقده قد صار فجأة اضطرابًا عقليًّا؛ إذ تقول سكريتسكايا -وهي أيضًا باحثة في مَركز الحُزنِ المُعقد في جامعة كولومبيا في نيويورك-: «إنّ ثمّة بعض الاعتباط فيما يخصّ تحديد تلك اللحظة الزمنيّة [العام الواحد]».

«إنّه توازنٌ بين التأكُّدِ من كوننا لا  نتهمّ لرَدودَ الأفعالِ السَّويّة بالمرض، وبين أن نولِي أيضًا الانتباهَ لأولئك الذين يجهدون ويحتاجون إلى مُساعدة، أيّ: الذين يُعانون في خبرتهم بصورةٍ بالغة»

يتأرجح معظم الفاقدين [الثَّكالَى] بين الأسَى الشديد، والانشغال بواجبات الحياة اليوميَّة

كشفت دراسة باحثِينَ في هولندا والولايات المتحدة عام ٢٠١٩، أنَّ أولئك الذين فقدوا أحبّاءهم ضحايا للعنف، أو كانت تربطهم آصرة قوية بالفقيد يكونون أضعف وأكثر عرضة لاضطراب الحزن المعقّد. وإذا كان يسهل افتراض أنَّ الحزن المعقد هو مُجرّد شكل من أشكال الاكتئاب، ويمكن مُعاملته بالطريقة عينها، إلا أنَّ الأمر ليس كذلك. تُشيرُ الدراسة نفسها إلى أنَّ الحزن المُعقد يتميّز عن الاكتئاب، وعن اضطراب ما بعد الصدمة أو القلق، بالرّغم من تداخل بعض الأعراض، مثل: تضاؤل الشعور بالذات، والعُزلة الاجتماعية. وجدت أبحاث أخرى أنَّ النكوص الإدراكيّ أكثر جلاءً لدى المُصابين باضطراب الحزن المعقد.

برغم ذلك، ، فإنّ حالات اضطراب الحزن المُعقد نادرة وفق دراسة باحثين، في جامعة آرهوس، في الدنمارك عام ٢٠١٨، إذ يُصاب ١٠% فقط من الفاقدين بذلك الاضطراب، ويتأرجح معظم الفاقدين [الثَّكالى] بين الأسَى الشديد، والانشغال بواجبات الحياة اليومية مع بعض التّظاهُرِ بأنّهم أسوياء.

إنَّ ذلك التأرجح بين الحزن والحالة العاديّة هو ما يطبع تجربتي. فحين كنت أكتب هذا المقال مثلًا، كانت تنتابني -أحيانًا- حالات من الاسترسال في الكتابة -فترات طويلة من الكتابة المُركّزة، وبغير قَيد- مثلما اعتدت قبل وفاة والدي. لكن في أحيانٍ أخرى -وغالبًا في توقيتٍ مماثل- كان يغلبني اليأس ووعيّ حاد بغياب والدي عن العالَم، زوالٌ يستعصيّ على الفَهمِ. حينما كانت تطفو أفكار تتعلّق به، فإما أن تشقَّ سبيلَها إلى وعييّ من تلقائها أو بحافز، كرسالة بريديّة من أحد الأصدقاء أو الأقرباء، أو إذا خطرت ببالي ذكرى عفويّة، أو حتى إذا جاءني خطابٌ من مركز الرعاية، لم يكن عندئذ بوسعي سوَى الاستسلام للبكاء.

الأمر كما لو أنَّ دماغي البدائيّ يعلمُ تمامًا ما أحتاج إليه، ويحرصُ على تلبيته

في الواقع يُدرك الباحثون الآن أنَّ تبدُّلاتِ الحُزنِ -مهما كانت غير سارَّة-، هي طريقةٌ لِمُساعدة المُخّ، والذّهن، والجسد للتأقلم مع الفَقْدِ، والتكيُّف -في نهاية المطاف- مع واقع الحياة الجديد بدون المَحبوب.

تقول جوديث موراي (Judith Murray)، عالمة النَفس في جامعة كوينزلاند، في أستراليا: إنكتدريجيًّا «ستتصالح -في معالجة الفَقْدِ- مع ذلك العالَم الذي لا تريد أن تحيَا فيه»؛ إذ يصير الحزن مكوّنًا في حياة الفَاقِد اليوميَّة عوضًا عن كونِهِ قوةً تُخيِّمُ عليها. ثمّ تقول: «تلكم هي قوّة الشِّفاء من الحُزنِ المُذهلة»، «فكرتنا أنّك تجتازُ حُزنَك، وإن صار جُزءًا منك».

إنّما يمكن للعقل قضاء وقت أطول في تأمُّلِ فَقْدِهِ وعلاقته بالمَحبوب المفقود، بعودة القشرة المُخيَّة لتولّي زمام الأمور، وبعودة مستويات التفكير العُليا، وقد يُؤدي التلاحم مع مضمون كل ذلك إلى نُموٍ إيجابيٍّ. تقولُ شولمان في كتابها: “إنَّ الفَقْدَ من المُمكن أن يُلهِمَ الناسَ باختبار حياتهم بِصُورةٍ أعمق من ذِي قبل، ورَفع وعيهم بِمدَى هشاشتِهم الخاصّة، وإحساس أقوى بغايتهم. وهي تُشير إلى دراسةٍ أُجريت عام ٢٠٠٤، ووجدت أنَّ الفَقْدَ يمكن أن يُؤدي إلى نُموٍ إيجابيٍّ بطرائِقَ شتّى؛ قد يؤدي مثلًا إلى شُعورٍ جديد بالأولويّات، وتقديرٍ أكبر للحياة، وعلاقاتٍ أفضل، وشُعور بالقوّة، والمَيل إلى الإمكانات الجديدة، والتطوُّر الروحيّ. وقد وجدت شولمان في حياتها الخاصّة أنَّ تدوين اليوميات (journalling)، قد أفادها في تعامُلها مع حُزنها؛ ففي التأمُّل في فَقْدِها، قد وقعتْ على معنًى فيه.

بالرّغم من ذلك، فإنّه لا يخبرُ الجميعُ مثل ذلك النموّ عقب خسارة عظيمة؛ فبعضهم يمكن أن تدمر العاقبة صحتهم الخاصّة، بل إنها قد تُعجّل هلاكهم. أشار أوكونور في مجلة الطب النَّفْسَجِسْمِيّ (Psychosomatic Medicine) عام ٢٠١٩، إلى عدة دراسات وجدت معدّلات أعلى للوفيات بين الأشخاص الثَّكالى. ربما كان والدي مِثالًا حزينًا آخر على ذلك الحزن الذي يعجّل من الموت المُبكر؛ ذلك أنَّ زوجته قد توفيت قبل وفاته بأربعة شهور، وقد تدهورتْ صحته. ولمَّا ذهب إلى المشفَى أخيرًا شخّص الأطباءُ في النهايةِ مصدرَ الألمِ الذي جعله طريح الفراش؛ فقد أُصيب والدي بِقُرحةٍ شديدةٍ في المعدة. لا يسعني التيقن من ذلك، لكنَّ مُحادثاتي الأخيرة معه في الشهور التي سبقت وفاته نمَّت لدي الشّكَ في أنَّ حزنه ووحدته قد أسهما في تعجيل موته.

حتى إنَّ أولئك الذين يتحرّكون على حوافِهِ دون السقوط في هاويتِهِ، فإنَّ الحزنَ لا يُبارحهم؛ في دراسةٍ أُجريت عام ١٩٩٥، وجدت أنَّ الذين فقدوا طفلًا أو زوجًا، قد صرَّحوا بانخفاض مُستوى رضاهم العام عن حياتهم، لكن ازدادت مهاراتهم في التأقلم بعد، ما بين عامين إلى خمسة عشر عامًا من وقوع المصاب.

إنَّ فَهمَ الأساس العصبيّ الذي ينطوي عليه حُزني والنُّمو الذي غالبًا ما يتبعه، لَهو شيءٌ مُطمئن؛ فرغم أنني أعلم أنَّ أيَّ إنماءٍ سأجنيه من وفاة والدي هو أمرٌ بعيد المنال في الوقت الحالي، فإنّي أميل إلى المشاعر التي تنبجس وقتما يحلو لها، وبدون حكم منيّ ( غالبًا)، وأسعى إلى تلقّي المواساة من أصدقائي المؤازرين، والاستغراق في تأمُّل غابات أشجار بونديروسا الصنوبرية القريبة مِن منزلي.

تلقيت يومًا رسالة من أقدَم صديقٍ لوالدي؛ فقد عرفه مُدة قدرها ٧٠ عامًا، من عُمره الذي يبلغ ٧٩ عامًا، يحثّني على أن آمل في مُستقبلٍ، حيث تقلُّ وطأةُ تلك الخسارة التي لا تُعوَّض، أيّ: حينما تُعيد مسَاراتي العصبيّة تنظيم نفسها مرّة أخرى، ويسلِّم «مُخّي الحزين» بواقعٍ جديد، وطريقةٍ جديدة للتذكُّر.

كتب لي: «عندما نفقدُ صديقًا، يصيبُنا حُزنٌ تُصاحبه ذكرياتٌ جميلةٌ… وعاجِلًا أم آجِلًا، ستُزيحُ الذكرياتُ الجميلةُ الحُزنَ؛ فتحلّ محلَّهُ. حزينًا أنتظر، ولكن بِجَلَدٍ».

الهوامش

 1- يقول الكنديّ فيلسوف العرب في حَدِّ الحزن: «إنَّ الحُزن ألمٌ نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوَت المطلوبات. فإذن قد تبينت أيضًا أسباب الحزن ممَّا قد قيل: إذ هو عارضٌ لفقدِ محبوبٍ، أو لفوتِ مطلوبٍ». ويقول أيضًا: «فإصلاح النفس وإشفاؤها من أسقامها أوجبُ شديدًا علينا من إصلاح أجسامنا: فإنّا بأنفسنا نحنُ ما نحنُ، لا بأجسامنا، لأنّ الجسم مشترك لكلّ ذي جسم؛ فأمّا حيوانية كل واحد من الحيّة فبنفسه، وأنفسنا ذاتية لنا، ومصلحة ذاتنا أوجب علينا من مصلحة الأشياء الغريبة منّا. وأجسامنا آلاتٌ لأنفسنا تظهر بها أفعالها: فإصلاح ذواتنا أولَى بنا شديدًا من إصلاح آلاتنا». انظر: رسالة الكندي في الحيلة لدفع الأحزان، رسائل فلسفية للكندي والفارابي وابن باجة وابن عدي. تحقيق: عبد الرحمن بدوي، دار الأندلس، بيروت، ١٩٩٧م، ص٦، و11.

المصدر

(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).

تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى