غير مصنف

نظريات المؤامرة: الجهل الجديد | محمد الفوزان

مقدمة

من الطبيعي بمكان أن يشعر الإنسان بتوجسٍ معين إزاء بعض المواقف أو السيناريوهات الحياتية التي قد تتسبب في إحداث ضررٍ معينٍ عليه (ضررٌ محددٌ واضح المعالم والقرائن)، كخوفه من الإدارة الجديدة التي أعلنت عن نيتها بتقليص عدد الموظفين في الشركة بعد هبوط نسبة أرباحها بشكل حاد، أو من غضبة مدير، أو وشاية زميل، أو خيانة صديق، أو من شخص غريب يسترق النظر لمحفظته، أو حتى من تربص عدو يعمل على الإضرار بمصالحه بشكل مباشر أو غير مباشر، فهذه قد تكون مخاوف صحية ومفهومة ومنطقية من عواقب واضحة ومحددة المعالم ولها حلول دائمة أو مؤقتة قابلة للنقاش والتنفيذ في حدود المعقول والممكن. لكن أن يظن شخصٌ مغمورٌ أن مخابرات دولة عظمى ترقبه، أو تتتبع مشترياته عبر البطاقة الائتمانية، أو تسعى إلى غسل دماغه أو تجنيده بإحدى طرق الخيال العلمي، أو أن هناك اجتماعات سرية بين صناع القرار في العالم (أو بين جماعةٍ خفيةٍ تحكمُ صنّاع القرار أولئك) لرصد تحركاته، أو لزرع شريحة داخل جسده، أو قطع نسله، أو حتى السعي إلى قتله بفيروسٍ مسربٍ من المعامل (أو بلقاحٍ تم صنعه في المعامل ضد الفيروس الذي سربوه من المعامل) وسط دوامة من مخاوف أنانية داخل مخاوف شيزوفرنية غير محددة بنطاق، ولا واضحة بقرائن (قرائن سليمة، لا مغالطات تفكيرية Thinking Fallacies)، فيبدو أن تلك نماذجٌ داخلة في نطاق نظرية المؤامرة التي انتشرت وتعددت أنواعها، ولها أتباع يتزايدون باستمرار لعدد من الأسباب أبرزها حسابات تتبناها موجودة في فضاء الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي (أو إعلام كوريا الشمالية وأرشيف الاتحاد السوفييتي).

ماهي نظرية المؤامرة؟

هي مصطلحٌ عام ذو طابع وصفي «سلبي» يشير إلى التفسير المؤامراتي لموضوعٍ أو حدثٍ أو موقفٍ أو سياسةٍ أو ظاهرةٍ ما استنادً على مخاوف وعواطف مستثارة ومبالغ فيها بشكل يتناقض والفهم المنطقي، ويخلو من قرائن، ويقع في مغالطات، مع غياب تقديم حلولٍ سليمة وقابلةٍ للتطبيق، وتكاد تكون الحلول المقدَّمة انعزالية وغالباً ما تحجم المؤمنين بها من التفاعل الإيجابي في مجتمعاتهم، وتصب في المصلحة الشخصية لمتزعمي تلك النظريات فقط. وبشكل عام، لا يستخدم هذا المصطلح «نظرية المؤامرة» من يتأثر بتلك النظريات ولا يحبذون أن يتم وصفهم به نظراً لوقعه السلبي أو الانتقاصي في تعريفه ووصفه.

وُجدت نظريات المؤامرة منذ وجود التاريخ وقبل وجود المصطلح نفسه، كنظريات المؤامرة التي تم نسجها مثلاً حول المغول والحشاشين في التاريخ الإسلامي، أو فرسان الهيكل وساحرات العصور الوسطى في أوروبا، أو المؤامرات المعادية للسامية التي حازت على نصيب الأسد من التداول قديماً وحديثاً. أما في الوقت الحاضر، يكاد الجميع تلقى بشكل أو بآخر، على أكثر من صعيد أو مجال، أو في أكثر من محفلٍ أو محضرٍ، مقامٍ أو مقالٍ أو كتابٍ أو برنامجٍ أو بودكاست (إذاعة رقمية) في فضاء الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي، أنواعاً متعددة من نظريات المؤامرة الجديدة التي تطورت وتعقدت بالاتساق مع تطورات وتعقيدات العصر الحالي: فهناك، بالإضافة إلى مؤامرات اليهود وحكماء صهيون، مؤامرات المخلوقات الفضائية المتحولة، والشركات الطبية، والحكومات الخفية، والجماعات الإسلامية، والتيارات اليسارية، والصين وروسيا، والملكة إليزابيث، وجوليان أسانج، وبرنارد هينري ليفي، ومارك زوكربيرغ، وبيل جيتس، وآنتوني فاوتشي، وحيتان الأسهم والعملات الرقمية.

كل نظرية من نظريات المؤامرة تلك، وإن اختلفت في الظاهر، فهي تحتوي على نفس العناصر في التكوين: مخاوف درامية مبالغ فيها من أهداف شيطانية مبالغ فيها، تفاصيلها مرتبطة بمغالطات تفكيرية Thinking Fallacies تفتقر إلى التحليل والنقد، وتخلو من حلول منطقية إيجابية وقابلة للتطبيق، بل تدعو (أو تؤدي) إلى الشك والانكفاء والانعزال، وأحياناً التسليم والاستسلام وتبرير الفشل والانهزام، أو حتى التطرف في الرأي وإقصاء المخالف وتعزيز الاستقطاب والانقسام.

نظريات المؤامرة باعتبارها تحريفات إدراكية

بالإضافة إلى المحدودية المعرفية، قد يعزو تشكل نظريات المؤامرة إلى أحد العوامل المهمة التي ساهمت في تكوينها وانتشارها: وهي عدم إجادة التعامل مع المعلومة المتلقاة أو الأحداث والظواهر نتيجة الوقوع تحت تأثير مغالطات تفكيرية أو تحريفات إدراكية شائعة Common Thinking/Cognitive Errors، وقد تكون أحد أبرز المغالطات التفكيرية المساهمة في ذلك هي: مغالطة الوهم العنقودي Clustering Illusion والانحياز التأكيدي (الانتقاء المتحيز) Confirmation Bias. وكلاهما مغالطات تفكيرية متداخلة ببعضها تنهك الدماغ وتستنزف طاقته بأنماط تفكير خاطئة حال التعامل مع الأحداث، موديةً بصاحبها نتيجة لذلك إلى عالم مفصول عن الواقع، ومتسببةً بقرارات حياتية (وأحياناً: مصيرية) غير صائبة.

مغالطة الوهم العنقودي هي باختصار قراءة حدث ما أو معلومة ما، وربطها بعدد من المعلومات المتفرقة أو الأحداث العشوائية غير المترابطة أساساً ووضعها في إطار تسلسلي وترابط تشعيبي غير حقيقي أو مبالغ فيه بشكل كبير Highly Exaggerated Claims، تماماً كقراءة أنماط معينة في السحب أو الصخور أو الأشجار، ولكن في أحداث أو أخبار أو مواقف ومن ثم يتم نسج نظرية المؤامرة فيها، وتسويق ذلك على جمهورٍ لديه القابلية لاحتضان هذه المغالطة وتقبلها، مثال: تخطيط الماسونية العمالية لأحداث الحرب العالمية الأولى بهدف التخلص من طبقة النبلاء والملكيات في أوروبا والقضاء على الدين وتمكين الشيوعية والإلحاد والداروينية، أو التخطيط لكلا الحربين العالميتين وصعود النازية و«افتعال» الهولوكوست في مطبخ المحافل الماسونية أو صالون عائلة روتشيلد بهدف زرع وطن لليهود في فلسطين. أو قيام الولايات المتحدة بـ«خلق» فيروس كورونا لضرب اقتصاد الصين (أو العكس!)، أو دور بيل غيتس -الذي ساهمت منظمته غير الربحية في توزيع أدوات الجنس الآمن وتنظيم النسل في أفريقيا للحماية من فيروس الإيدز- في صناعة لقاح كورونا (الفيروس المصنع في المعامل) وذلك بهدف قطع النسل والتسبب في عقم جماعي للبشرية. فالفيروس عندهم مؤامرة، واللقاح كذلك مؤامرة، والحربان العالميتان مؤامرة، وأطرافها شركاء في المؤامرة، ونتائجها كذلك مؤامرة، وهكذا.

أما الانحياز التأكيدي (الانتقاء الانحيازي) Confirmation Bias فهو تسخير المعلومات أو فهم الأحداث لخدمة رأي أو اعتقاد معين وعدم قبول سوى التفسيرات التي تخدم التفسير المؤامراتي، والإعراض عما عداها من معلومات أو حقائق تثبت عكس ذلك. يقع في هذا الكثير ممن يؤمن بنظريات المؤامرة من الجماعات والتيارات المتطرفة -مثلاً-، التي تقبل أي تفسير أو تحليل يخدم تآمر العالم على هذه الجماعة أو التيار حتى وإن لم يكن واقعياً أو حقيقياً، وتتجاهل كل المعلومات أو الحقائق التي توضح عوامل فشلها أو سقوطها وعدم قدرتها على الاستمرار، وتستميت في تسخير أي معلومة أو حدث وتحميلها مالا يحتمل من تفسيرات يغلب عليها المظلومية والانعزال وإقصاء المخالف أو إقصاء الذات.

ويبدو أن هذين النمطين وغيرها من أنماط التفكير الخاطئ قد أحدث لنا منذ العقدين الماضيين، مع تطور وسائل التواصل وانتشار مصادر تلقي نظريات المؤامرة نوعاً مطوراً من تلك النظريات يمكن تسميته بنظريات المؤامرة المركبة أو المتداخلة Complex/Intersective Conspiracy Theories: نظرية مؤامرة داخلة في/ أو متقاطعة مع نظرية مؤامرة أخرى، والتسليم بها جميعاً في نفس الوقت، وتفسير المؤامرة بمؤامرة أخرى. نجد ذلك جلياً في بعض القراءات غير الحقيقية للتطورات المتعلقة بفيروس كورونا كما أشير لذلك سابقاً، أو الرحلات الفضائية (نظرية الأرض المسطحة وكذبة الهبوط على القمر)، أو أحداث ١١ سبتمبر أو غزو العراق، أو الأحداث المرتبطة حالياً بالأزمة الأوكرانية بكل ما تحتويه من معلومات صحيحة أو مبالغ فيها أو حتى مفبركة ومن نسج الخيال، يستخدمها متزعمي تلك النظريات للسيطرة على جمهور عريض يسهل استغلاله وتوجيهه من قبل بعض الأصوات الدوغمائية الحديثة التي تخاطب البيئة الحاضنة لتلك النظريات بلغة غوغائية وبسيطة، وذلك بقصد الرغبة في كسب الأتباع أو المال أو الشهرة أو رفع نسب المشاهدات أو لعوامل أخرى نفسية أو مصلحية نفعية.

وتحظى تلك التفسيرات المؤامراتية بالقبول بين الحواضن التي يغلب عليها محدودية التعليم، والتأثر بالعواطف، وعدم القدرة على مواكبة المتغيرات المتسارعة، أو الافتقار إلى مهارات التحليل والتفكير الناقد وأبجديات تمييز الخاطئ والصحيح والأصح من الكم الهائل من المعلومات والآراء والتحليلات و«المؤامرات» التي تطفح في وسائل التواصل الاجتماعي وفضاء الإنترنت والإعلام. وتستقطب تلك النظريات هذه الشريحة من المتلقين، وفي أحيان كثيرة أخرى، هم من يبحث عنها لعوامل عاطفية ونفسية نظراً للغتها البسيطة وإطارها الدرامي الذي يخاطب العواطف ويشوقها بالحديث عن جوانب غامضة خفية (أو مخفية) تستدعي المخاطرة وكشف الغطاء عنها وإعلانها على الملأ، ويبحثون فيها عن ضالتهم من الإجابات أو السلوان والعزاء قصير الأمد الذي يواسي فيها تهربهم من حمل المسؤوليات المناطة بهم في محيطهم مع أسرهم ومجتمعاتهم وأوطانهم. وقد لعبت منابر الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصة يوتيوب دوراً كبيراً في انتشار النظريات تلك، والتي ما كانت لتحظى بهذا الانتشار لولاها، وقد يكون ذلك أيضاً مؤشراً من مؤشرات شح القراءة وعدم تلقي المعلومة داخل سياقها المعرفي السليم لدى قطاع عريض من الجمهور في الوقت الراهن.

خاتمة

نظريات المؤامرة بعد تحولها إلى ظاهرة منتشرة في الفضاء المعلوماتي قد تغدو مسألة ذات أبعاد مرتبطة بالأمن الثقافي والمعلوماتي. وعلى المتلقي أن يتحمل مسؤولياته في تمييز ومعالجة ما يستقبله من معلومات في هذا الفضاء الواسع، خاصة وإن كان مرتبطاً بقرارات مهمة ومصيرية له ولأسرته ومجتمعه، وما المؤامرات التي نسجت حول جائحة كورونا واللقاحات المضادة للفيروس وكاد تأثيرها أن يصبح خطراً يستهدف الأمن الصحي للمجتمعات استدعى تدخل النخب المسؤولة بالقوة لتبديد هذا الجهل الجديد من منطلقات أمنية ووطنية وصحية (وأخلاقية أيضاً) إلا مثالاً واضحاً لا ينبغي أن يمر مرور الكرام ويلزم عمل دراسة جادة نخرج منها بأفضل الحلول وأكثرها فاعلية ليس للمنع، فالمنع والتقييد قد يتسبب بنتائج عكسية، وسيتم استغلاله من قبل مروجي نظريات المؤامرة على أنها محاولة لتكميم الأفواه ومحاربة نشر الحقيقة (وقد تم استغلال ذلك بالفعل مع مروجي نظريات المؤامرة المؤيدة لبعض التيارات السياسية أو المناوئة للقاح والإجراءات الوقائية ضد الجائحة) بل لنشر التوعية والثقافة المعلوماتية Information Literacy لتفكيك خطاب هذا النوع من الجهل الجديد، وللحيلولة دون الاستعانة به كمصدر معرفي لاتخاذ قرارات فردية قد يكون لها أبعاداً غير حميدة على الفرد بالرغم من توفر المصادر المعلوماتية المتخصصة والمعتمدة و«الصحيحة» في متناول اليد وبنقرة زر أو ثنايا كتاب، وإلا لماذا يتم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير لولا أنه جهلٌ يستدعي تبديده بـتجريده وكشف تهافته.

وللمتلقي العزيز أقول: دورة التاريخ والأحداث واضحة، وحتميتها ثابتة كمعادلة رياضية لا تحابي أحداً. اقرأ الأحداث وتعامل معها كما هي دونما تهوينٍ مقل أو تهويلٍ مخل. امتلك واقعك واحذر من خداعك والتلاعب بك من قبل أشخاص يبحثون عن أمجادهم النرجسية في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي بتسويقهم لنظريات المؤامرة عليك بقوالب مختلفة على حساب مصلحتك وسلامة منطقك. لا تكن رقماً في حساباتهم، ولا تسمح لهم باستخدامك. افعل هذا لأجلك ولأجل أسرتك ومجتمعك، ومن أجل طريقة أفضل في التعامل مع التحديات.

المصادر والقراءات الإضافية

• نظرية المؤامرة. (2023, February 21). In Wikipedia. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A9
• Dobelli, R. (2013). The Art of Thinking Clearly. Harper.
• المحمود, محمد. (٢٠٢١, ديسمبر ١٣). نظرية المؤامرة والجمهور الغبي. الحرة. https://www.alhurra.com/different-angle/2021/12/13/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A8%D9%8A
• سالم, صلاح. (٢٠١٢, سبتمبر). تجليات نظرية “المؤامرة” في تيارات الوعي الثقافي العربي. مجلة العربي: https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/314

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى