لتحميل المقالة : فلسفة الدين عند مارتن هيدجر
تمهيد
اشتهر الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (1889-1976)، بكونه فيلسوف الوجودية الأساسي؛ فهو صاحب التنظير الأول، والأعمق فيها. صحيح أنه قد سبقه سورين كيركجور، وفردرش نيتشه، ولكن هيدجر بلا شك أكثر نسقية بمراحل من الأخيرين، وقد تمتع بصرامة منهجية، وتأصيل مفهومي، بحيث لم يعد بعده من يُشكّك في أصول الفلسفة الوجودية النظرية. ويمكن القول بلا هامش كبير للخطأ إن الفلسفة الوجودية ما كان لها أن تربح موقعها كواحدة من أهم فلسفات القرن العشرين من دون هيدجر. وفي سياق الوجودية نفسها فإننا نجد أنفسنا إزاء ثلاثة اتجاهات من حيث الموقف من الدين: وجودية ملحدة، وهي الأشهر والأكثر تأثيرًا، وفيها أسماء نيتشه، وهيدجر، وسارتر، وسيمون دو بوفوار، وألبير كامو. ووجودية مؤمنة، مثل كيركجور، وجابرييل مارسل، وكارل ياسبرز. ولاهوت وجودي أهم أعلامه هو باول تيليش.
وبرغم كون هيدجر أحد أهم أعلام الاتجاه الملحد في الوجودية، فهو لم يكن ملحدًا، ولا نعرف على وجه التحديد موقفه الديني. ولكن نسقه يخلو من أي دور جوهري للألوهة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى كون هيدجر قد أسس رؤية فلسفية علمانية بحتة، أو بالأحرى أنه أعاد بناء اللاهوت اليهودي-المسيحي على نحو علماني، بلا إله gottlos، في «الكينونة والزمان»، وممن يذهبون إلى هذا الرأي جادامر نفسه.[1] بيد أنه حتى هذه الرؤية، التي لا تجانب الصواب كثيرًا، تقوم أساسًا على قراءة معينة لمصنف هيدجر الأساسي «الكينونة والزمان»، وتغفل المراحل التكوينية لهيدجر، وتحديدًا دراساته المتعلقة بشكل مباشر، أو غير مباشر، بالكتاب المقدس. وفي رأي الكاتب يمكن تقسيم مسيرة هيدجر الفلسفية إلى ثلاث مراحل، وليس إلى مرحلتين كما هو متبع: مرحلة ما قبل الكينونة والزمان، مرحلة الكينونة والزمان، ومرحلة ما بعد الكينونة والزمان.
جدير بالذكر أن التقسيم الشائع لفلسفة هيدجر يلتزم بالقسمين الأخيرين فقط، ويضم نقطة تحول Kehre واحدة. وتضم أعماله المبكرة، قبل الكينونة والزمان، عدة أعمال هامة، لكنها لا يلتفت إليها عادة، بسبب شهرة المرحلة الثانية وتأثيرها، وأهمها «ظاهريات الحياة الدينية» Phänomenologie des religiösen Lebens،[2] و«الأنطولوجيا: هرمنيوطيقا الواقعانية» “Ontologie, Hermeneutik der Faktizität. وقد طرح هيدجر في المصنف الأول أغلب أفكاره في فلسفة الدين، وفي الثاني أهم أفكاره في فلسفة التاريخ؛ حيث يرتبط مبحث الدين بمبحث التاريخ لديه ارتباطًا وثيقًا، كما سنرى.
وأهمية القراءة الحالية أنها تكشف عن الجانب الخفيّ لدى مؤسس الوجودية الملحدة الأول. هو أولاً وجه يندر التعرض إليه، وهو ثانيًا يكشف لنا عن مصادر فلسفته الأصيلة في المرحلة التالية، مرحلة الكينونة والزمان، وكيف يمكن رد هذه الفلسفة الملحدة إلى اللاهوت، وإلى أي حد، وهو ثالثًا يمنحنا رؤية لمعنى الدين عند هيدجر، وعلاقته بالتاريخ، والفلسفة.
أولاً: هرمنيوطيقا النصّ الديني: «ظاهريات الحياة الدينية»، (محاضرات فرايبورج 1918- 1921).
من نافل القول إن المراحل الثلاث الموصوفة في هذا الباب لهرمنيوطيقا هيدجر ليست متمايزة بشكل واضح وحاد، لكنها مع ذلك توضح مسار تطورها بشكل زمني مفهوم. ومن المعلوم أن لهيدجر مرحلة تحول Kehre أساسية هي ما بعد «الكينونة والزمان»، لكننا سنلاحظ هنا، مرحلتين للتحول: إحداهما قبل كتابه الأساسي، والثانية بعده. ويمكن أن نعد المرحلة الهرمنيوطيقية الأولى – مرحلة موضوع هذه المقالة – بمثابة تمهيد، وبلورة، للمفاهيم والأفكار الأساسية، التي سنجدها بعد ذلك في «الكينونة والزمان»، بشكل أوضح وأكثر نسقية. وهي كذلك – المرحلة الأولى – مرحلة سلبية بشكل ما بمعنى كونها نقدية، وتفكيكية بالنسبة لما يليها. وقد استمرت مَهمة التفكيك عند هيدجر حتى مقدمات «الكينونة والزمان»، الذي يمثل المرحلة الثانية، مرحلة النضج والأصالة عند هيدجر. وربما كانت أشهر محاولات ذلك التفكيك في «الكينونة والزمان»، وربما أكثرها أهمية، هي «مهمة تفكيك تاريخ الأنطولوجيا».[3] أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة المتأخرة، والتي ظهرت فيها فلسفته للتقانة، واللغة، والحرية، والسببية.
أ- البِكْر«Ur-» بما هو مَعِيش
لقد حاول هيدجر في مرحلته الهرمنيوطيقية الأولى – موضوع هذا القسم (أولاً) – تقديم تأويل مقتضب لبعض رسائل بولس من وجهة نظر بروتستانتية، حتى ليكاد بولس الرسول يتحول على يديه إلى مصلح بروتستانتي في «ظاهريات الحياة الدينية».[4] وبرغم كونها مرحلة أقل شهرة، فإنها لم تعدم اهتمام بعض المختصين والفلاسفة. يرى جادامر مثلاً أن من أسباب أهمية تلك الكتابات المبكرة أن هيدجر قد اعتُبر من خلالها قادرًا على الإجابة عن الأسئلة الأساسية في اللاهوت البروتستانتي من منظور ظاهرياتي وعلى مستوى راديكالي.[5] من جهة أخرى زادت تلك الكتابات من مجال تأثير هيدجر ليصل إلى علماء اللاهوت، وأشهرهم بولتمان بهذا الصدد.[6] ويمكن قراءتها في سياق محاولات الإصلاح الثقافية فيما بعد الحرب العالمية الأولى، التي شملت الدين والفلسفة والأدب وغيره.[7] وكانت من مهام هيدجر كما رآها لنفسه أن يجد لغة فلسفية للاهوت،[8] مما يعزز فرضية أن فلسفته الأساسية ما هي إلا إعادة بناء للاهوت المسيحي كما ذكرنا.
وقد قام هيدجر بالفعل بتفريغ بعض اصطلاحات اللاهوت من مضمونها المصطلح عليه، وإعادة تأسيسها كمفاهيم فلسفية خالصة مثل الذنب، والضمير، والخشية، ومن ثم إعادة تأسيس نسق خُلُقي جديد.[9] ويرى باحثون آخرون أن اللاهوت من وجهة نظر هيدجر ليس نسقًا من المعارف التي تدور حول طبيعة الله، وعلاقته بالعالم، بل هو النسق الذي من خلاله يمكن فهم طبيعة الوجود الإنساني في علاقته بالله.[10] واعتبر البعض الآخر نظرية هيدجر في توقت «الدازين» قراءة ظاهراتية لتاريخية اللاهوت.[11] من كل ما سبق يمكن قراءة هذه المرحلة قبل «الكينونة والزمان»، بما هي تمهيد عام له.
ولا يمكن الولوج إلى رؤية هيدجر للنصّ الديني إلا بعد فهم فلسفته في الدين أولاً. وسنرى أن فلسفته في الدين لم تنفصل – في هذه المرحلة – عن فلسفته في التاريخ. يقول هيدجر في الفقرة الأولى من الفصل الثاني من «ظاهريات الحياة الدينية»: «إن فلسفة الدين المألوفة اليوم تضع لنفسها الشرطين التاليين، اللذين ليسا واضحين في ذاتهما: 1- الدين هو حالة أو مثال لتشريع سرمدي، 2- الدين يقوم فقط بفهم ما له طبيعة الوعي. […] ولو أن امرأً دعا ما نقوم به بالفهم الظاهرياتي للمسيحية البكرUrchristentum، فإن ذلك يبدو منضبطًا من الناحية اللفظية. ولكن كل وضع لمشكلة يقوم بفهمها بمنأى عن موضوعها يهدر ذلك الموضوع. وفي مقابل ذلك فإن توجُّه الفهم الظاهرياتي هو اختبار الموضوع نفسه على حال أصالته».[12]
هنا يعبّد هيدجر الطريق إلى فلسفة دين جديدة، لا يعد فيها الدين ظاهرة تاريخية محضة، أي كحدث من أحداث التاريخ الماضي، بل موضوعًا للوعي والخبرة المستمرين. والجدل بين هذين المفهومين «الدين كواقعة تاريخية»، و«الدين كخبرة مستمرة»، هو منبع الارتباط بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ عند هيدجر.
ويعتقد هيدجر أن الفهم الظاهرياتي هو المنهج الممكن لفهم هذه الخبرة. إن سابقة «البِكْر» Ur- في تعبير «المسيحية البِكْر» Urchristent لا تشير فقط إلى البعد الزمني-التاريخي للظاهرة، بل إلى مدى الجذرية التي تتغيّاها معالجة هيدجر، والتي يُعد فيها الدين خبرة معيشة، تحدث في «علاقة مع» التاريخ. وهو ما يعني أن غاية هيدجر هي فهم الدين عمومًا بما هو خبرة معيشة، بما هو «بِكْر» دائمًا. ويعني «بِكر» في هذا السياق كلاً من التاريخي (أي بداية تاريخ المسيحية)، والظاهرياتي (أي المسيحية كخبرة أولَى قبل تفاسيرها الرسمية)، يعني كلاً من الواقعي، والأصيل. الفهم الظاهرياتي إذن مدخل منهجي، يفترض أن الخبرة الدينية في أصلها خبرة معيشة واقعية.
أما «الخبرة المعيشة»، فهي ليست خبرة معرفية محضة، بل تعني «الوضع الكلي الإيجابي، والسلبي، للإنسان في العالم».[13] إن الخبرة Erfahrung لدى هيدجر لا تعني مجرد الإدراك، بل الالتقاء بموضوع، ما هو معلِن عن ذاته في صيغة موضوع الخبرة.[14] وأما لفظة «واقعي» faktisch فهي لا تفهَم فحسب في سياق نظرية المعرفة: «لا يعني ما هو واقعي ما هو واقع في الطبيعة، أو ما تقررّه الأسباب، أو ما هو واقعي كشيء».[15] وتمتد دلالة اللفظ عند هيدجر لتشمل «التاريخي»: «إنه [مفهوم الواقعي] لا يفهَم إلا من خلال مفهوم التاريخي.[16] وإذا كانت الخبرة الدينية خبرة معيشة كاشفة – بحسب هيدجر – للوضع الكلي للبشر في العالم، فإنّ «العالم» Welt «ليس موضوعًا. العالم هو ما يمكن للمرء أن يعيش فيه؛ فالمرء لا يمكنه العيش في موضوع».[17] وينحل العالمُ عند هيدجر إلى ثلاثة عوالم متحدة في المركز (الذات)، هي تنازليًا: المُحيط Umwelt، وهو كل ما يقابلنا في الخبرة المعيشة، وعالم المَعيَّة Mitwelt، وهو الآخرون من الناس، الذين نلتقيهم في خبرة معيشة، وعالم الذات Selbstwelt، وهو عالم الأنا نفسه.[18] وهذا النطاق من العوالم عند هيدجر كما نرى لا يسمح بـوجود إله، أو على الأقل لا يتطلب وجوده؛ فإذا فرضنا أن الإله كينونة، أو كائن، أو كيان، فإن الإنسان لن يلتقيه في أي من نطاقات تلك العوالم.[19] وهو الجذر الأساسي للاعتقاد في أن فلسفة هيدجر إلحادية من جهة، ومع ذلك «دينية» بمعنى خاص من جهة أخرى؛ «دينية» بمعنى ذكرناه سابقًا، أي هيكل اللاهوت من دون مضمونه. ولكن على أية حال فهذا التصور الهيدجري هو ما مكنه من محاولة صوغ نسق قيمي إنساني بحت.
والهدف الأساسي لهرمنيوطيقا هيدجر في هذه المرحلة كان التفكيك، ما يمكننا أن ندرجه في سياق هرمنيوطيقا الارتياب Hermeneutik des Verdachts.[20] وكان من الطبيعي أن يستفيد هيدجر هنا بارتيابية نيتشه.[21] وقد وجد هيدجر في تاريخ الأديان نفسه طاقة تفكيكية بسبب تعدد الأديان، ومذاهب الأديان، لكن ذلك لا يسقط عنه واجب التفكيك: «بالرغم من أن تاريخ الدين قد قدم لنا تمهيدًا مهمًا [للتفكيك]، فإن جميع مفاهيم الدين، والنتائج التي انتهى إليها تتطلب منا بالضرورة التفكيك الظاهرياتي».[22] إن التفكيك الظاهرياتي استراتيجية، ليست فقط أساسًا من أسس الهرمنيوطيقا الأساسية عند هيدجر، بل هي كذلك استراتيجية لاختبار الموضوع على حال أصالته اختبارًا مباشرًا: «إن وجهة الفهم الظاهرياتي هي الدخول في خبرة مع الموضوع نفسه على أصالته».[23] ومن خلال التفكيك الظاهرياتي يمكن للتفكيك الهرمنيوطيقي، الذي يكشف عن الظاهرات الخفية وراء النص، أن يتأسس.[24] والمنهجية التفكيكية بصفة عامة عند هيدجر هي التي من خلالها يستطيع المرء أن يتوصل إلى أصول الأفكار، ويكتشف ما جعلها ممكنة أصلاً.[25] إن مَهمة الهرمنيوطيقا بصفة عامة عند هيدجر تستهدف اكتشاف ما هو غير-مقولٍ في النصّ.[26]
هكذا يمكن استنباط العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ: فإن الدين نفسه تاريخ، والتاريخ يتضمن الدين. وإذا كانت الخبرة المعيشة بالدين، البِكْر Ur-، هي نقطة البدء المشروعة عند هيدجر في فلسفة الدين، فإن هذه الخبرة الحية، «الحياة»، كما يعبّر عنها فيما بعد، تصطدم بالوعي التاريخي؛ لأنها ترى نفسها مستشرِفة للتاريخ، لا جزءًا منه في حال المباشَرة، ليست خاضعة له، وليست من طبيعته، ولا تسري عليها قوانينه، وهو ما يلج بنا إلى إشكال «التاريخي» das Historische.
ب- إشكال «التاريخي» أو طرق الكفاح ضد التاريخ
من اللافت للانتباه قوة حضور البُعد التاريخي في فلسفة هيدجر للدين المسيحي في مقابل سيادة البعد اللغوي في فلسفة الدين الإسلامي. هذا الاختلاف العميق يستمد جذوره من حقيقة الاختلاف أصلاً بين الديانَتَين في مسألتي التاريخ واللغة؛ ولهذا عدة أسباب، أتصور أن أهمها لغة الكتاب، وتاريخه. الوحي المسيحي مترجَم بالنسبة للمسيحيين، والوحي الإسلامي عند المسلمين نزل باللفظ والمعنى. وبالتالي لم تعد قضية اللغة بالأهمية نفسها عند المسيحيين، بل المعاني، أما لدى المسلمين فاللغة هي وسيلة التواصل الأساسية عند غالبيتهم – عمليًا – مع السماء. وينضاف إلى هذه النقطة كون الوحي الإسلامي وحيًا لغويًا في الأساس، بخلاف الوحي المسيحي المتجسد في شخص السيد المسيح، والروح القدس، والكنيسة ذاتها، مما جعل اللغة عند المسلمين لا تقتصر على كونها وسيلة التواصل الأساسية مع السماء، بل الوحيدة. كان ما سبق بشأن لغة الكتاب، أما بخصوص تاريخه فالمقصود به التاريخ فيه، المتضمن فيه، لا تاريخ النص. البعد التاريخي، والسردي، والتتابعي، والدرامي، والتفصيلي في الكتاب المقدس مدهِش، إذا ما قورن بنظيره في القرآن؛ فالقرآن أقل تفصيلاً في النواحي التاريخية (القصص، بقدر معتبَر، معتبَر إلى درجة أنه جعل القرآن كتابًا شبه-تزامني، ولذلك قورن بالشعر، ولذلك نفى عن نفسه أن يكون شعرًا، إذا أمكنت مقارنة الكتاب المقدس بالسرد. وسنعود إلى هذه النقطة بتركيز أكبر فيما يلي حين نتحدث عن مركَّب النص-التاريخ).
كان هذا هو السبب في تركيز هيدجر على البعد التاريخي بدرجة أشد من البعد اللغوي في تلك المرحلة. ويعني «التاريخي» das Historische في «ظاهريات الحياة الدينية»، ما هو صائر، ما هو متغيِّر بشكل عام: «يصير الموضوع تاريخيًا، [حين] يحوز صفة الحُدوث، [حين] يتغيَّر».[27] التاريخي إذن هو ما هو مؤقَّت: «ما الذي يعني قولنا إن عملية ما، أو كيانًا ما.. إلخ، “تاريخي”؟ المعنيّ هو أنَّ لكل حدث زمكاني خاصية الوقوع في سياق الزمان، والصيرورة. على أساس هذا يمكن للموضوع أن يكون تاريخيًا».[28] ويفرق هيدجر بوضوح بين «التاريخي» بهذا المعنى، والتاريخي بمعناه في علم التاريخ Geschichtswissenschaftliche das: «نحن نعني بالتاريخي das Historische ما يلاقينا في الحياة، لا في علم التاريخ[29]». وقد قام هيدجر بتطوير هذا المفهوم، مفهوم «التاريخي»، فيما بعد في «الكينونة والزمان»، معبرًا عنه بمرادف غير متوافر في العربية das Geschichtliche، وذلك ليكون das Historische معبرًا عن التاريخ بمعناه في علم التاريخ، ويبقى das Geschichtliche معبرًا عن التاريخ بمعنى الصيرورة السالف أعلاه.[30] ونقترح هنا – كما سنستعمل لاحقًا – أن نترجم das Historische بـ«الرواية التاريخية»، بمعنى رواية الماضي؛ إذ يتعلق التعبير بعلم التاريخ المنحصر في الماضي، لا الصيرورة العامة، وأن نترجم das Geschichtliche بـ«التاريخي»؛ لأنه يتعلق بالصيرورة. وذلك مع الاعتراف بسوء هذه الترجمة؛ لأنها تخالف الترجمة الحرفية بوضوح، لكن هذا يحل جانبًا من الخلط الواقع بسبب عدم توافر مفردة مناسبة كما أسلفنا في العربية للتمييز بين المصطلحين، ومع ذلك لا يزيل كل الإشكال؛ إذ إنّ هيدجر – في المرحلة المبكرة قبل «الكينونة والزمان» – وكما اتضح أعلاه، لم يكن يميز بهذا الوضوح بين التعبيرين، وكان ينسب صفة الصيرورة Werdung إلى «الرواية التاريخية» das Historische كما رأينا. ولكن الرجوع إلى الأصل الإغريقي ἱστορία المشتق من الفعل ῐ̔στορέω بمعنى «أَستفسرُ» قد يسعفنا؛ لأن هذه اللفظة الإغريقية، التي جاءت منها اللفظة اللاتينية historia تعني ضمنًا الرواية، والشهادة على حدَث، والحُكم، والتحقيق.[31]
ويعرض هيدجر لما دعاه «بالطرق الثلاثة لكفاح الحياة ضد الرواية التاريخية» die drei Wege des Kampfes des Lebens gegen das Historische؛ طريق أفلاطون، وطريق اشْبنجلر، وطريق دلتاي. ولا بد بدءًا كي نفهم التالي من أن نفهم أولاً طبيعة الصراع بين الحياة من جهة، والتاريخ كعلم من جهة أخرى عند هيدجر؛ فالتاريخ أقرب إلى نصّ مقدَّس – مجازًا – يقنن الحياة، ويقولبها في تصاميم مكررة بلا خطة، ولا غاية مسبقة إلا بنيانها ذاته. وعندئذٍ يقع التناقض بين الطرفين؛ فالحياة بطبيعتها خلاقة، ومبدعة، وهي تسعى لتأكيد نفسها ضد القولبة. باختصار هي معركة أبدية من أجل الحرية والأصالة. ومن الطبيعي أن ينحاز هيدجر للحياة لمن يفهم فكره. وكل هذا خيط مستمر حتى «الكينونة والزمان»، وستُفصَّل هذه النقاط في موضعها، حين نصل إلى هرمنيوطيقا الواقعانية.
ويقوم طريق أفلاطون على «الفصل بين الحاضر والماضي»؛ فطبقًا لنظريته في المُثُل يعتبَر تاريخ عالمنا – في علم التاريخ – مجرد ظل للحقيقة.[32] ويضع هيدجر هذا الفصل بين التاريخ والحقيقة في سياق نظرية المعرفة الأفلاطونية: فالرواية التاريخية غير مؤكَّدة، وبالتالي غير حقيقية.[33] وهكذا فإن كفاح أفلاطون ضد الرواية كان صادرًا في الأساس عن كفاحه ضد النزعة الشكية؛ أي إنه لم يكن كفاحًا أنطولوجيًا بقدر ما كان إبستيمولوجيًا (وفي الحقيقة لم يكن كفاحه إبستيمولوجيًا بقدر ما كان سياسيًا). على أية حال فالنتيجة المترتبة على هذا الحل الأفلاطوني هي أن الرواية صارت ثانوية مقارنة بالمشاهدة، وأن الماضي صار ثانويًا بالنسبة للحاضر.[34]
وبينما هو طريق أفلاطون (فصل بين الحاضر والماضي)، فإن كلاً من طريقي اشبنجلر ودلتاي يقوم على الوصل بينهما ولكن في اتجاهين متضادين. ويدعو هيدجر طريقَ اشبنجلر بـ«من الحاضر إلى الماضي»؛ إذ يملك الحاضر في الحقيقة مفاتيح التاريخ، ويقوم بصياغته جزئيًا، وهو معنى «من الحاضر إلى الماضي».[35] ونقول «جزئيًا»؛ لأن اشبنجلر كان يرى في الوقت نفسه أن علم التاريخ في حد ذاته علم دقيق، ولكن إسقاط الحاضر على الماضي هو ما أدى إلى إهدار دقته.[36]
أما طريق دالتاي فدعاه هيدجر «من الماضي إلى الحاضر»؛ حيث رأى دالتاي أن أحكام الحقيقة هي في الأصل أحكام قيمة، وأن أحكام القيمة نسبية بشكل عام، وبالتالي فإن التاريخ كعلم، كرواية، أداة تستعمَل دائمًا بشكل نفعي لخدمة غرض تخليق الذات المعاصرة.[37] ولو طالعنا فلسفة هيدجر للزمان في مرحلة «الكينونة والزمان»، فسنجد أن طريق دالتاي كان – من وجهة نظره – الأكثر تقدمًا؛ فالإنسان عند هيدجر كائن مستشرِف للزمان، وبالتالي التاريخ.
وقد ناقش هيدجر الطرق الثلاثة السابقة كما يلي: يرى هيدجر أن الكانطية الجديدة هي الامتداد الشرعي للطريق الأفلاطوني في الفصل بين الحاضر والماضي. ويميز هيدجر بين ثلاثة عوالم لهذه المدرسة: عالم الزمانية (التاريخ)، وعالم الاستشراف فوق-الزمانيّ (الحقيقة)، وأخيرًا عالم المعنَى. هذا بحيث يؤدي عالم المعنى دور الوسيط بين عالمي الزمانية والاستشراف.[38] ويعتقد هيدجر أن ذلك التطوير الترانسندنتالي للطريق الأفلاطوني ما هو إلا إعادة إنتاج لمشكلات الطريق الأفلاطوني؛ إذ يقوم هذا التطوير كذلك على الفصل الماهوي بين الحقيقة والتاريخ: «[إنّ] مشكلات الأفلاطونية تُستَرجَع ولكن بصورة أكثر تنقيحًا».[39] أما رؤيته لطريق اشبنجلر (من الحاضر إلى الماضي)، فتتخلص في أن ذلك الطريق يسلم بواقعية التاريخ الإنساني، ومن هذا المنظور يسعى الإنسان إلى إيجاد ضمانة في مقابل محنة الوجود.[40] وعلى ساقين من المعاناة، والإبداع الخلّاق تَسير الحضارة.[41] وفي مقابل السيادة الجزئية للتاريخ عند اشبنجلر تنعكس الآية عند دلتاي؛ فتملك الأفكار الطاقة المحركة للتاريخ؛ حيث الحياة هي الحقيقة الأساسية، التي تؤكد نفسها في مواجهة التاريخ عن طريق تحولها إلى أفكار.[42] وفي النهاية يستخلص هيدجر أن الحياة تحاول عبر ثلاثة طرق أن تؤكد نفسها ضد التاريخ: إما أن تقف ضده (الطريق الأول)، وإما أن تسير معه (الثاني)، وإما أن تخرج مِنْه (الثالث).[43]
كان هدف هيدجر من المناقشة السابقة إيجاد طريق رابع، هو طريق الخبرة المعيشة الواقعية: «إن طريقنا يبدأ من الحياة الواقعية، التي منها ينشأ مفهوم الزمان. هكذا تتحدد مشكلة التاريخ».[44] هذه – بتكثيف حقيقي – المعادلة، التي يعتقد هيدجر أنها تلخص حل مشكلة التاريخ المؤرِّقة للحياة؛ فمفهوم الزمان نفسه، الذي هو أصل مفهوم التاريخ، ينشأ من الخبرة المعيشة، لا يتعالى عليها، ولا يسبقها. بالتالي فإن التاريخ لا يسيطر على الحياة، ولا ينفصل عنها. ولكن ذلك لا يعني أن هذا الحل نهائي؛ هو فقط «يحدد» لنا طبيعة المشكلة. ولم يطمح هيدجر لحل نهائي في هذه المرحلة، ليس لأنه غير موجود، أو لأنه من غير الممكن معرفته، بل لأنه الموضوع الأساسي لـ«الكينونة والزمان»، في المرحلة التالية من هرمنيوطيقاه. لكن الخطوة البنّاءة الفعلية حتى هذا الحدّ كانت طرحه لإشكال الزمان كتجذير لإشكال التاريخ؛ فالتاريخ تصور لا يقوم من دون تصورنا عن الزمان، وهو الطرح الذي سيتطور بحق في المرحلة الثانية من هرمنيوطيقاه، وأحد الأمثلة الهامة على أنطولوجياه الأساسية.
لقد أعاد هيدجر إركاز إشكال التاريخي كما رأينا على أساس إشكال الزمان؛ وطبقًا لطبيعة تصورنا للزمان يتحدد تصورنا عن التاريخ. فإذا كانت الكينونة الإنسانية فوق الزمان، مستشرفةً إياه، فإنها كذلك مستشرفة للتاريخ. وسوف يحاول هيدجر بالتفصيل فيما بعد، في مرحلة «الكينونة والزمان»، تنظير طبيعة هذا الاستشراف، ولكنْ إذا نجحت هذه المحاولة، فإن الطريق الرابع، طريقه هو، هو الأقصر والأكثر استقامة للهرب من التاريخ، أو للتغلب عليه، من أجل خبرة دينية حية مباشرة «معاصرة دائمًا» للنصّ المقدس. ولكنْ إلى أي مدى يمكن وضع النصّ الديني في سياق الزمان؟
جـ- مركَّب «النص-التاريخ»
بعد هذا العرض المختصر لإشكالية التاريخي عند هيدجر يبدو من المناسب في هذا الموضع أن نوضح موقفنا/ طريقنا الخاص، والذي سوف يوسّع من نطاق السؤال في علاقته بالنص الديني. بالأحرى سنعيد تجذير إشكال التاريخي في اتجاه مختلف. لقد طرح هيدجر سؤال التاريخ في «ظاهريات الحياة الدينية» كظاهرة في الوعي، رغم أن حضور التاريخ في الحياة الدينية متعلق كذلك بحضوره في النص المقدس، وهو موضوعنا الحالي. ويمكننا بشكل عام أن نميِّز بين ثلاثة مستويات من التاريخ في هذه العلاقة فيما ندعوه بمركَّب النص-التاريخ Scripture-History Complex/Schrift-Geschichte Komplex[45]: 1- التاريخ الحامل: أي التاريخ الذي ينقل النصَّ (التاريخ الطبيعي)، 2- والتاريخ المحمول: أي الذي ينقله النصُّ (التاريخ المقدس)، 3- والتاريخ الإنساني: بمعناه في فلسفة التاريخ، أي صيرورة الحضارة البشرية، وقوانينها (فلسفة التاريخ الديني). ويمكن القول إن طرح هيدجر يقتصر على المستوى الثالث، بيد أن هذا المستوى – مستوى التاريخ الإنساني – يتحدد كما سنرى على أساس التمفصل بين المستويين الأول، والثاني. وربما يمكن تحديد مشكلة التاريخ – بالإضافة إلى بعد الزمان الذي حدده هيدجر – بتحديد معاني/مستويات التاريخ نفسه:
- التاريخ الحامل: إن كل نصّ مقدس يُتناقَل بين البشر من خلال التاريخ. ونعني هنا بالتاريخ التاريخ كوقائع مسجلة في ذاكرة الحضارة، أي بمعناه في علم التاريخ. إن وقائع التاريخ محطات لنقل ذلك النص بشكل أو بآخر، بدرجة أو بأخرى، سواءً تبدل النصّ عبر مراحل نقله، أو ثبَتَ. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى التاريخ بما هو علم دراسة محطات نقل النص، وآليات ذلك النقل. ومن الطبيعي أن يعتقد المؤمنون بدين كتابي معين (الإسلام مثلاً)، بمصداقية علم التاريخ بصدد محطات نقله؛ لأن هذا هو ما يبنَى عليه الصدق التاريخي للنصّ. إن «صدَق الله العظيم»، و«صدَق رسول الله صلى الله عليه وسلم»، لا تحملان فقط معنى صدق القائل، بل كذلك صدق الناقل، والناقل هنا هو التاريخ. وهنا يتم التعامل مع «التاريخ» بما هو ذاكرة، وماضٍ.
- التاريخ المحمول: يحمل النصّ المقدس نفسه وقائعَ تاريخيةً معينة بدوره؛ مثل واقعة الطوفان في الأديان الإبراهيمية، والطوفان، وقصص الأنبياء، ووقائع قيام دوَلٍ، وانهيارها.. إلخ. وليست كل تلك الوقائع قابلة للإثبات، أو ربما حتى الفحص، بمناهج البحث التاريخي، ولكنْ إن كانت قابلة لذلك، فإن النص لا يقدمها كما يقدمها علم التاريخ بموضوعية – في حدود الموضوعية الممكنة في العلوم الإنسانية – بل يقدمها بتأويل معين، وربما بانتخاب مواضع تركيز معينة، وربما بإسقاط مواضع أخرى، أو إكمال للناقص منها (مثلاً: الطوفان كعقاب إلهي). وهذا التأويل الأخير للواقعة التاريخية لا يمكن استنباطُه من علم التاريخ. ويتم التعامل مع التاريخ في هذا المستوى كذلك – عدا الوقائع المعاصرة للنص – بما هو ماضٍ. وكلٌّ من المستويين: الحامل، والمحمول تتابعيَّان؛ أي في صورة رواية تاريخية.
- التاريخ الإنساني: وبينما كل من المستويين السابقين تتابعيان، فإن هذا المستوى تزامُني؛ فوق بُعْدَي الزمان والمكان. وبرغم هذا يتضمن هذا المستوى نطاقًا أكبر من مجرد وقائع نقل النص، ووقائع نقلها النص، يتضمن السردية الكبرى لصيرورة الإنسان: نشأة الإنسان، وطبيعة وجوده، ومصيره النهائي. وهو يتضمن دراما مركَّزة، لكنه لا يحكيها كماضٍ، بل كقوانين، وأسباب، ودوافع، ومسار محدد، أي أنه يقدم فلسفة للتاريخ الإنساني. وإذا أمكن – جزئيًا على الأقل – دراسة المستويين السابقين بمناهج البحث التاريخي، فإن هذا المستوى ميتافيزيقي، يخرج من مجال تلك المناهج، ومن مجال علم التاريخ. ويتم التعامل مع التاريخ في هذا المستوى بما هو بنية: ماضٍ، وحاضر، ومستقبَل، في آنٍ واحد. ويمكن القول أيضًا أن هذا المستوى «مكاني» إذا كان المستويان السابقان زمانيين.
وتعمل المستويات الثلاثة معًا في النصّ المقدس: فالمستوى الأول ليس مشكوكًا في محطاته الأساسية على الأقل عند المعتقدين في ذلك النصّ. مما يعني تحوُّلَ تلك الوقائع إلى موضوعات للإيمان، أي عقائد. ولكن هذا المستوى لا يمكنه أن يعمل منفردًا، بل يحتاج دائمًا إلى دعم المستوى الثاني. فكما ذكرنا تنقسم وقائع التاريخ المحمول (المستوى الثاني)، إلى ماضيه، ومعاصرة للنصّ. وحين تتعلق الوقائع المعاصرة للنصّ، المذكورة فيه، بمحطات نقل النص الديني التاريخية، تتحول تلك الوقائع المعاصرة للنص إلى نسق من العقائد بدورها، تدعم بالضرورة وقائع/عقائد المستوى الأول. وهنا ينشأ لدينا ما ندعوه «بالدوْر التاريخي»، الذي فيه يعيد النص المقدس تدوير التاريخ: [تاريخ نقل النص- ينقله النص- لينقلَ تاريخَ نقلِ النص] ويصير النصّ بهذه المعادلة المتغير المستقل الوحيد. بتعبير آخر يمكن القول إنّ قداسة النصّ معتمدة هنا على قداسة تاريخ نقل النصّ، والعكس. وهذا هو التمفصل الأول: بين المستويين الأول والثاني.
أما التمفصل الثاني بين المستوى الثاني والثالث فهو أكثر تركيبًا: فإن الوقائع الماضية في المستوى الثاني تقوم بتأويل التاريخ الإنساني من جهة، وتعمل باستقلال عن علم التاريخ؛ لأنها عقائد في الحقيقة، من جهة أخرى. وهكذا فإن التأويل، والتأريخ، اللذين يقوم بهما المستوى الثاني يعملان ضد الوعي التاريخي. ويعني الوعي التاريخي في هذا السياق الوعي بصيرورة الإنسان ككل، متضمّنًا في ذلك النص المقدس نفسه (إذا أصبح النصّ في صيرورة، فإن التاريخ الإنساني مفتوح على جميع الاحتمالات).
إنّ دور التمفصل السابق بين المستويين الثاني والثالث يكمن في أثره على فلسفة التاريخ. فإن الإنسان يتطلب الوعي التاريخي ليؤسس فلسفته في التاريخ، ولكن حين يقوم المستوى الثاني بتفكيك هذا الوعي فإن فلسفة النصّ في التاريخ هي التي تسود في المقابل، تلك الفلسفة، التي تحدد مسبقًا مسار التاريخ الإنساني من البداية إلى النهاية على هيئة نسق درامي/ميتافيزيقي. وهذه هي خطة خروج النصّ من الزمان إلى ما فوق الزمان، من المستويين الأول والثاني إلى المستوى الثالث. يمكن كذلك القول إنها خطة خروج النصّ من الزمان إلى المكان بحسب طبيعة كل من المستويات السابقة من حيث التتابع والتجاوُر.
هكذا يتحرك النصّ المقدس من المستوى الزماني إلى المستوى فوق-الزماني، من المستويين الأول والثاني للتاريخ إلى الثالث. ذلك بحيث يتحكم النص في التاريخ الإنساني والوعي التاريخي من خلال ثلاث آليات: 1- إعادة تدوير مفاهيم معينة بواسطة «الدور التاريخي»، 2- وفلسفة التاريخ الدينية، التي تقوم على صياغتها أصلاً اتجاهات دينية معينة، 3- وأخيرًا سيطرة المؤسسة الدينية على التأريخ ذاته من منظور معين.
د- تأويل هيدجر لرسائل بولس الرسول
وربما يصلح تأويل هيدجر الظاهرياتي لـ«رسالة إلى أهل غلاطية» Phänomenologische Interpretation des Galaterbriefes، كمثال تطبيقي على تأويل النصّ الديني لديه في هذه المرحلة على الأقل من تطوره الفلسفي. لقد وجد هيدجر في نموذج بولس ما يمكن عليه تطبيق فلسفته للدين البِكْر (Ur-) كخبرة حية معيشة؛ إذ إن الديانة في عهد بولس الرسول لم تكن قد استقرت بعد في هيئتها النظامية المؤسسية. «إنّ الرسالة إلى أهل غلاطية تتضمن بيانًا تاريخيًا من جهة بولس نفسه بشأن قصة تحوله [إلى المسيحية]. إنها الوثيقة الأصلية لتطورِ [بولس] الديني، وبيان تاريخي لمعاناته الروحية هو نفسه».[46] ويضع هيدجر هذه المعاناة الروحية كمشروع إصلاحي مبكر في الحقيقة في مقابل المشروع الإصلاحي اللوثري: «[بينما] يرى لوثرُ بولسَ من خلال نموذج أوغسطين، فإن هناك برغم ذلك علاقة حقيقية بين البروتستانتية وبولس».[47]
ويلخص هيدجر معاناة بولس الروحية المذكورة ككفاح بين الناموس (القانون أو الشريعة) νόμος من جهة، والإيمان من جهة أخرى: «إن علينا أن نرى بولس في ضوء كفاحه ضد معاناته بين عاطفته الدينية، وبين وجوده Existenz كرسول، كفاحه بين القانون والإيمان».[48] هكذا يؤول هيدجر موقف بولس كموقف إيماني أصيل، يشتمل على معاناة معيشة وقرار وجودي: أن يصير رسولاً. وفي تأويله للآيتين (1- 8: 9) يرى أن دور بولس – كما رآه لنفسه – لم يكن خلاص الغلاطيين بقدر ما كان تأسيسَ مسيحية أصيلة، أي معتمدة على خبرة ما هو بِكْر (Ur-): «ليس المقصود خلاص الغلاطيين، بل المقصود تأسيس المسيحية من داخلها».[49]
وبالرغم من أن هيدجر يعتمد جزئيًا هنا على «التاريخ المحمول» لنصّ العهد الجديد، فإنه يتحرّر في التأويل منه، ويتجنب الخوض في مناقشة الصحة التاريخية لوقائعِ النص، وشخصِ المسيح التاريخي: «يريد بولس القول إنه لم يدخل في المسيحية عبر تراث تاريخي، ولكن من خلال خبرة أصيلة. ومما يتصل بذلك نظريةٌ متنازَع عليها في اللاهوت البروتستانتي، تقول بأن بولس لم تكن لديه معرفة بيسوع الناصري، بل وأسسَ ديانة مسيحية جديدة، مسيحية مبكّرة جديدة سادت المستقبلَ: إن الدين البُولُسيّ ليس دين يسوع. ولذلك لا حاجة بالمرء للإشارة إلى المسيح التاريخي. حياة يسوع لا تعنينا على الإطلاق».[50] هكذا نرى أن بولس الهيدجري نفسه مفسِّر، لا فحسب «رسول». على أية حال فإن خطوة تقويس التاريخ، التي يقوم بها هيدجر هنا ضمنًا، أساسية لاكتشاف ظاهرات النصّ.
وهذا التقويس المذكور كذلك مصحوب بتقويس آخَر لساني، يتلخص في أن المفسِّر لا يعتمد على البحث الفيلولوجي، بل على الأثر النفسي للألفاظ والتعابير، الذي يكتشفه، ويقوم بوصفه. هذا وإن كان التقويس التاريخي أوضح لديه في هذا الموضع من التقويس اللساني. ومن أمثلة بحثه – بالمنهجية السابقة – في الألفاظ والتعبيرات تأويله لكل من: «العالَم»، و«المَجْد»، و«المتعصبون»، و«الجوييم» (الآخرون)، وغيرها. يقول مثلاً بصدد «العالَم»: «إن الزمان الحاضر قد لاقى نهايتَه، وبدأ عالَمٌ جديد منذ وفاة المسيح. لقد صار العالَم الحاضر في مقابلة مع عالم الخلود».[51] هكذا يؤول هيدجر العالم، ليس باعتباره مكانًا، بل زمانًا، وهي فكرة أساسية في مرحلة «الكينونة والزمان» فيما بعد؛ أي الزمان كسياق تأويلي للكينونة.
وحين يقول هيدجر: «إن علينا أن نرى بولس في ضوء كفاحه ضد معاناته بين عاطفته الدينية، وبين وجوده Existenz كرسول، كفاحه بين القانون والإيمان»،[52] هل يمكن وضع «القانون» في سياق «السؤال عن التقانة» (مقالة هيدجر الشهيرة في نقد التقانة الحديثة)؟ ألا يمارس «القانون» تحويرًا لماهية الإنسان، ومعنَى الإنسانية، على النحو نفسه؟ أم أن العكس صحيح: هل نظر هيدجر إلى التقانة بما هي «قانون» في السياق السابق، وبالتالي نظر إلى نفسه كبولس جديد، بولس بلا يسوع، وبلا إله؟ وقد سلف ذكر سياق هذه الفرضية السابقة مباشرةً على أية حال، والقائلة بأن مشروع هيدجر في «الكينونة والزمان»، أقرب إلى لاهوت بلا ربّ، بيد أن السؤال السابق يطمح إلى فرضية أكثر جموحًا، ومع ذلك ممكنة، هي أنه حتى فلسفة هيدجر المتأخرة في التقانة كفاح بولُسِي-بروتستانتي رسولي، لا فلسفي-رومانسي فحسب.
ثانيًا: الأنطولوجيا، هرمنيوطيقا الواقعانية[53] (محاضرات فرايبورج للفصل الصيفي عام 1923).
وهي مرحلة متأخرة عن مرحلة «ظاهريات الحياة الدينية»، ونجد فيها إرهاصات التحول الأول لهيدجر من المرحلة المبكرة إلى مرحلة النضج في «الكينونة والزمان». لقد قام هيدجر في هذه المرحلة بصك عدد من أهم مفاهيمه، التي اعتمد عليها في مرحلة النضج، منها على سبيل المثال: ما-في-متناوَل-اليد Vorhandene،[54] الدازين Dasein،[55] المدلولية Bedeutsamkeit،[56] الوجود-في العالم In-der-Welt-sein،[57] الانفتاح Erschlossenheit،[58] وكذلك تحديد مَهمة كل من الظاهريات،[59] والهرمنيوطيقا. [60] كما تعبِّر هذه المرحلة أيضًا عن تحول اهتمام هيدجر من هرمنيوطيقا النص الديني، والحياة الدينية، إلى هرمنيوطيقا التاريخ، والثقافة، ومن ثم تاريخية الدازين.
وما يتعلق بموضوعنا إلى الحدّ الأقصى من هذه المرحلة هي هرمنيوطيقا الدازين في كل من الوعي التاريخي، والوعي الفلسفي؛ فهما الأكثر ارتباطًا بفلسفته في الدين كما سنرى. يمكن القول إن الخبرة الدينية عند هيدجر هي نقطة تقاطع التاريخ مع الفلسفة، الصيرورة مع الاعتقاد. ومن هنا أهمية هذه الفقرة.
أ. هرمنيوطيقا الدازين في الوعي التاريخي
وهي ناحية من هرمنيوطيقا الدازين، تكتسب أهميتها في هذا السياق لارتباطها بإشكال «التاريخي» سابق الذكر. يقول هيدجر: «ينشأ الوعي التاريخيُّ بما هو أساس كل تنوع في الدائم، أي على أساس التحديد المسبَق التعييني للماضي بما هو تعبير عن الكائن».[61] ويعني هذا أن التاريخ ما هو إلا تعبير عن كينونة الكائن بصورة محددة، وتامة. ولهذا يمكن للوعي التاريخي – بالمعنى السابق – أن يضع أنساق الثقافة الإنسانية في صورة مقارَنة، بما هي أنساق متحققة فعلاً. وعن طريق العملية الأخيرة يمكن التعامل مع البشر باعتبارهم «موضوعات».[62] كما يمكن لقاء الدازين، الموجود-هناك، وكأنه «فعلاً-هناك» Schon-da؛ أي في حالة تمام مزيفة. [63] ويسمّي هيدجر تلك الحالة، تلك النظرة إلى الإنسان من خلال الوعي التاريخي، باسم «التلكُّؤ» Verweilen؛ فالتاريخ يصنع للثقافة ما يشبه تباطؤًا، تأخرًا، في التطور.
وحين يلتقي التلكؤ مع الـ «فعلاً-هناك» تنشأ لنا حالة تتميز بالظاهرات التالية: «1- التطلُّع والتمسك باللحظة: أي الظن بقدرتنا على إدراك التطور بنظرة واحدة فوقية، 2- المتابعة والإمداد: أي تمحيص أحداث التاريخ، وإمداده بمورد لا ينقطع من أنساق الكينونة المتعينة، 3- اليقين المستمر والنابع من «التطلع والتمسك باللحظة»، 4- الاعتبارات السابقة بما هي «تلكؤ عند..»، 5- التلكؤ في حالة التحقق، أي المقارنة بين ما يجري هنا وهناك، أو التلكؤ بلا استقرار عند مقرٍّ، حين يتوقف هناك، 6- الـ «عندَ..» الذي للتلكؤ، في طابع الـ «فعلاً-هناك» الذي للكينونة الماضية، 7- حالة الانجذاب Zug، التي تنشأ عن ذلك، تلك التي تُطوِّر التلكؤَ إلى «التلكؤ الضروري»، على أساس الميل للفهم والتسجيل».[64] ويعني السابق أن الوعي التاريخي، عبر مراحل متفصلة كما رأينا، يسبب في الكينونة الإنسانية حالة من التلكؤ في مسار تطور الفرد. ويترتب على ذلك أن يتحول الدازين إلى «مكوِّن» من مكونات التاريخ. هذا التشييء للإنسان، الذي يقوم به التاريخ، نقطة هامة في سياق فلسفة الدين ودراسة النصوص المقدسة، التي – كما رأينا سابقًا في «مركب النص-التاريخ» – تقوم هي نفسها بالتاريخ، بالمعنى الأشمل للكلمة.
ب. هرمنيوطيقا الدازين في الوعي الفلسفي
وهي ذات أهمية – كما سنرى لاحقًا – في بلورة مفهوم «السقوط» Verfallen عند هيدجر؛ فالوعي الفلسفي يمنح الدازين الملجأ الأنطولوجي، ويعصمه من القلق Angst الوجودي. ويحدد هيدجر بدايةً ثلاث خطوات استراتيجية للوعي الفلسفي في هذا الصدد: 1- التوجه نحو الخارج: فالفلسفة تقوم بتجميع عناصر الثقافة، وتصنيفها في فئات معينة، مما يحولها إلى «مُكوِّن» مُتاح بما هو «مادّة»، 2- والتوجه إلى الداخل: فبعد الخطوة السابقة تقوم الفلسفة بإعادة تصنيف عناصر الثقافة، وتخصيص مكان في السياق لكل عنصر من تلك العناصر في رؤية كلية، 3- والإنماء: وهو تطوير السياق الناتج من الخطوة السابقة. [65]ويرى هيدجر أن الخطوة الثالثة هي الأهم، فهي التي تقود الخطوتين الأولى، والثانية، لتحقيق نفسها. وهي تعمل بالضبط عملَ «التطلُّع والتمسك باللحظة» الذي للوعي التاريخي كما سبق ذكره.[66]
وفي تأويله الذاتي لنفسه يقوم الوعي الفلسفي بوضع نفسه في المجال العام للاهتمامات التربوية والتعليمية من خلال أربعة منظورات: 1- بما هو نسق عِلمي موضوعي (الفلسفة العلمية مثل الماركسية): ويظهر في شكل منظور محايد، نسق من الحقائق العلمية، وهو ما يمنح الدازين الملجأ ضد عواصف النسبية، 2- وبما هو منظور للحقيقة، واليقين، وهو يمنح الملجأ ضد الشك، 3- بما هو نسق متعالٍ على الحياة من جهة، ولكن أيضًا بما هو نسق ديناميكي يمتلك خاصية مميزة للحياة نفسها، هي الصيرورة، ولهذا ففيه كل ما يتطلبه الدازين في حياته اليومية كملجأ وجودي، 4- بما هو فلسفة مقاربة للحياة Lebensnah، لكنها ليست ذاتية، بل تقدم نفسها بما هي كونية، ومتعينة، أي تشتمل على المتطلبات «العامة»: البعد عن التخصص الدقيق، وإقصاء النظرة قصيرة المدى في معالجة المشكلات. [67]
باختصار يقدم الوعي الفلسفي للدازين الملجأَ الموضوعيَّ، «المُهَدِّئ» الذي يحتاجه الإنسان (يعبر هيدجر عن ذلك بلفظة beruhigende «مُهَدِّئ»). وهكذا – كما نلاحظ – يمهد هيدجر الطريق إلى فلسفته الخاصة، التي تبحث المشكلات العينية الوجودية، وأوضاعها الأنطولوجية. كما يحاول أن يصف تقاطع الوعي التاريخي مع الوعي الفلسفي؛ بما يمكن تلخيصه بـ«منح الدازين الملجأ التاريخي، والموضوعي، وتشييء الدازين على المستويين التاريخي الديناميكي التعاقبي، والفلسفي البنيوي التجاوُري».[68] ومن هنا بدأ هيدجر فلسفته الأصيلة في الكينونة، أي بدايةً من رؤية التاريخ، والفلسفة، اللذين ينجم الوعي الديني عن تقاطعهما. تعد هذه نقطة بداية تفلسفه الأصيل، حين يرصد ما يقوم به التاريخ، وما تقوم به الفلسفة، من منح الإنسان الملجأ الهادئ وسط أمواج أسئلته الوجودية الأصيلة: ماذا أكون؟ ماذا سأصبح؟ ما الغرض من وجودي؟ ما نهاية وجودي؟ وكيف بدأ؟.. إلخ. وحين تستقر مثل هذه الإجابات فإن الوعي الديني لا يلبث إلا أن يقوم بتحويل الدين إلى تاريخ (الدين كواقعة ماضية)، والتاريخ إلى دين (فلسفة التاريخ التي يقدمها الدين كعقيدة).
خاتمة
حاولنا في هذه المقالة الكشف عن المصادر الدينية-الإصلاحية في فلسفة هيدجر المبكرة، السابقة على نضجه الفلسفي في منتصف العشرينات. وكما نرى فإن وجودية هيدجر تبدأ من أسئلة أصيلة عن العلاقة بين ثلاثة مجالات: الدين، والتاريخ، والفلسفة. وفي مرحلة النضج المعنية استطاع هيدجر في رأي كثير من الباحثين أن يؤسس نسقًا من النظريات، يقوم في الأساس على نقد المفاهيم الدينية التقليدية، ومحاولة إيجاد خبرة حقيقية مباشرة في التعامل مع العالم، ولكنه ظل نسقًا يقوم على هيكل الدين من دون محتواه الخاص. وكما تقدم فإن هذه الفلسفة، التي تقوم بشكل كلي على الإنسان، لا تعني نفي الدين، ولا تأكيده، ولا حتى تقف على الحياد منه. جوهر فلسفة الدين عند هيدجر، وعلاقتها بالدين، أنها محاولة لتقديم الخبرة الأصيلة بالعالم، والتاريخ، والدين نفسه قبل التدين ذاته. بعبارة أخرى: يحاول هيدجر إرساء أساس الخبرة بالوجود ككل قبل الشروع في التدين. وبصفة عامة يعتقد هيدجر أن مفاهيمنا الأساسية عن الحياة هي التي توجه تمذهُبنا الديني، أو الفلسفي، أو السياسي، وأن نسقًا من الأنساق لم يخلُ قط من مفاهيم وجودية مؤسسة، حتى لو غفل عن ذكرها. بالتالي فليس من جانب الصواب القول على نحو الدقة بفلسفة وجودية ملحدة عند هيدجر، بل الأدق «فلسفة قبل-دينية» إنْ جاز مثل هذا التعبير.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] Siehe: Gadamer, Hans-Georg , Heideggers Wege, Gesammelte Werke, Band 3, Neure Philosophie, I, J. C. B. Mohr, Tübingen, 1987, S. 316- 317. Siehe auch: Jäger, Alfred, Gott. Nochmals Martin Heidegger, J. C. B. Mohr, Tübingen, 1978, S. 62. Siehe auch: Kinlaw, Jeffery, „Heidegger, Theology, and the Problem of Normativity“, Jahrbuch für Religionsphilosophie, B 12, 2013, Verlag Karl Alber Freiburg, München, 2014, S. 53
[2] Heidegger, Martin, Phänomenologie des religiösen Lebens, die Gesamtausgabe, Band 60, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 1995. (PRL)
[3] Heidegger, Martin, Sein und Zeit, Max Niemeyer Verlag Tübingen, 19. Auflage, 2006, S. 19.
[4] Vgl. PRL, S. 67-68. (Suz)
[5] Vgl. Gadamer, Hans-Georg, Sein und Zeit, in: Altwegg, Jürg (Hrsg.), Die Heidegger Kontroverse, Athenäum, Frankfurt am Main, 1988, S. 12.
[6] Vgl. Gadamer, Hans-Georg, Heideggers Wege, in: Gesammelte Werke, Band 3, neure Philosophie, I, J. C. B. Mohr, Tübingen, 1987, S. 204.
[7] Vgl. Gadamer, Hans-Georg, Philosophical Hermeneutics, trans. and ed. By David E. Linge, University of California Press, USA, 2008, S. 214-215.
[8] Vgl. Hans-Georg Gadamer, Heideggers Wege, ebd., S. 316-317.
[9] Vgl. Jäger, Alfred, Gott. Nochmals Martin Heidegger, J. C. B. Mohr, Tübingen, 1978, S. 62.
[10] Vgl. Kinlaw, Jeffery, Heidegger, theology, and the problem of normativity, in: Jahrbuch für Religionsphilosophie, B 12, 2013, Verlag Karl Alber Freiburg/München, 2014, p. 53.
[11] Vgl. Prauss, Gerold, Heidegger und die praktische Philosophie, in: Gethmann-Siefert, Annemarie (Hrsg.), Otto Pöggeler (Hrsg.), Heidegger und die praktische Philosophie, Suhrkamp Verlag, Frankfurt am Main, 2. Auflage, 1989, S. 298-299. و«الدازين» هو ما يطلقه هيدجر على الإنسان بوصفه مشروعًا مستمرًا ومجموعة من المستطاعات
[12] PRL, S. 76.
[13] Ebd., S. 11.
[14] Ebd., S. 9.
[15] A. a. o.
[16] A. a. o.
[17] Ebd., S. 11.
[18] A. a. o.
[19] Trawny, Peter, Martin Heideggers Phänomenologie der Welt, Phänomenologie: Kontexte, Band 3, Verlag Karl Alber, Freiburg/München, 1997, S. 105.
[20] Vgl. Farin, Ingo, Heidegger: Transformation of Hermeneutics, in: The Routledge Companion to Hermeneutics, Edited by Jeff Malpas, Hans-Helmuth Gander, Routledge, 2015, p. 111.
[21] Vgl. ebd., S. 113.
[22] PRL, S. 78.
[23] Ebd., S. 76.
[24] Grondin, Jean, die Wiedererweckung der Seinsfrage auf dem Weg einer phänomenologisch-hermeneutischen Destruktion, in: Rentsch, Thomas (Hrsg.), Martin Heidegger, Sein und Zeit, S. 19.
[25] Vgl. Vycinas, Vincent, Earth and Gods, Martinus Nijhoff, Den Haag, Niederlande, 1961, p. 10.
[26] Vgl. Palmer, p. 147.
[27] PRL, S. 32.
[28] Ebd., S. 35.
[29] Ebd., S. 32.
[30] Vgl. Cassin, Barbara (Ed.), Dictionary of Untranslatables, A Philosophical Lexicon, tr. Emily Apter, Jacques Lezra& Michael Wood, Princeton University Press, 2014, p. 392. See: “By the time of BT (Being and Time) Heidegger refers to history in sense 1, the systematic study of past events, as Historie (‘historiology’, or in some contexts ‘the historian’), and reserves Geschichte for the history that happens. Similarly, the adjective historisch pertains to the study of past events, while geschichtlich and Geschichtlichkeit (‘historicality’) pertain to what happens. Heidegger often uses Historie and historisch disparagingly: ‘[…] historiologyendeavours to alienate Dasein from its authentic historicality. Historicality does not necessarily require historiology. Unhistoriological eras need not for that reason be unhistorical’ (BT, 396)” Inwood, Michael, A Heidegger Dictionary, p. 93.
[31] Dwight, Benjamin W., Modern Philology: Its Discoveries, History and Influence, vol. II, Charles Scribner, New York, 1864, p. 506.
[32] Vgl. PRL, S. 39.
[33] A. a. o.
[34] A. a. o.
[35] Vgl. ebd., S. 40-43.
[36] A. a. o.
[37] Vgl. ebd., S. 44-45.
[38] Vgl. ebd., S 49.
[39] A. a. o.
[40] Vgl. ebd., S 49 -50 .
[41] Vgl. ebd., S 50 .
[42] A. a. o.
[43] A. a. o.
[44] Ebd., S. 65.
[45] – لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة يمكن الرجوع إلى: الصياد، كريم: “الهرمنيوطيقا ضد التاريخ- المشروع التأويلي لأوريجن السكندري”، مجلة المبادئ للدراسات المسيحية، (2)-1، 2013، ص 16-33.
[46] PRL, S. 68.
[47] A. a. O.
[48] ebd., S. 68-69.
[49] PRL, S. 69.
[50] A. a. O.
[51] A. a. O.
[52] ebd., S. 68-69.
[53] Faktizitätيعرفها هيدجر في «الكينونة والزمان» بأنها الخاصية التي للواقعة، التي يوجد الدازين على شاكلتها في كل مرة نفكر فيه. ويمكن تبسيط ذلك بأنها طبيعة الوجود الواقعي للدازين، التي تستقر في وعينا كلما فكرنا فيه. انظر: Suz, 56.
[54] Vgl. Heidegger, Martin, Ontologie, Hermeneutik der Faktizität, die Gesamtausgabe, Band 63, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 1988, S. 97-98.
[55] Vgl. ebd., S. 21-33.
[56] Vgl. ebd., S. 93-104.
[57] Vgl. ebd., S.79-84.
[58] Vgl. ebd., S. 97-99.
[59] Vgl. ebd., S. 67-78.
[60] Vgl. ebd., S. 9-20.
[61] Ebd., S. 53.
[62] Vgl. a. a. O.
[63] Vgl. ebd., S. 53-54.
[64] Ebd., S. 54.
[65] Vgl. ebd., S. 61.
[66] Vgl. a. a. O.
[67] ebd., S. 63-64.
[68] Vgl. ebd., S. 65.