«إذا عشتَ لفترةٍ أطول، ستدرك أنّ كل الانتصارات تصبح هزائمًا». – سيمون دي بوفوار
تعدّ رواية «الصبية والسيجارة»، للروائي الفرنسي بونوا ديتيرتر من أهمّ الأعمال السرديّة المعاصرة التي تناولت المدينة الفاسدة التي تقف على النقيض من المدن الفاضلة التي تناولها الفلاسفة والحكماء بآرائهم عبر العصور. سردت الرواية الانتهاكات الاجتماعية أو الإكراهات التي يجد المرء ذاته مضطرة لتقبّلها أحيانًا في الحياة اليومية، ومواجهتها في أحيانٍ أخرى، حتى وإن حاول المرء تفاديها، كأن يخلق فقاعة من العادات التي تشبهه، أو كما يُعبّر عن ذلك على لسان الشخصية الرئيسية، واصفة حياتها القائمة على المتعة:
«كان أبيقور يؤكد على الحياة من أجل المتعة؛ ولا شيء حسب رأيه يجلب لنا متعة أكبر من كوب ماءٍ وقليلٍ من أشعة الشمس. على هذا المبدأ تقوم منذ ثلاث سنوات، حياتنا الزوجية المكرّسة لممارسة الحبّ، والقراءة، وتذوّق أطباقٍ صغيرة رائعة، وقضاء بضعة أيامٍ في فندقٍ جميل على شاطئ البحر، وملاقاة أصدقائنا [قليليّ العدد وبلا أطفال]، وحضور العروض الموسيقية، والذهاب إلى السينما، والنوم، وتعهّد حديقتنا».
تحيَا الحياة يا ديزيري جونسون
تدور القصة حول رجلٍ عاديّ غير مميز البتّة، يعمل بوظيفة مكتبية في الحيّ الإداري بمبنى البلدية، وربما العنوان الأساسي لحياته هو «الهباء»؛ إذ لا يطمح لأيّ شيء ولا يريد شيئًا من الحياة غير بعض المُتع الصغيرة والروتين الذي اعتاد عليه، كما يتّضح في الاقتباس السابق عن فهمه لفلسفة أبيقور؛ إذ نجده يقول: «لا أحد غيري يسمع صوتي، ولكن ذلك يريحني». وكأنه بأسلوب حياته هذا يبني جدرانًا بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، فلا يحاول أن يقلق خواطرهم بما يخصّه، كما لا يشغل باله بقضايا الرأي العام، بالإضافة إلى تجنّبه لمعاشرة الآخرين، باستثناء حبيبته لطيفة، وقلّة من الأصدقاء. عمومًا، يمكن تلخيص تكوين الشخصية الرئيسية للرواية بكونها متمردة ومغتربة في المدينة، لا تشعر بالانتماء إلى هذا المجتمع وأفراده، ولا قضاياه وهمومه.
يمكن استشفاف هذا التمرّد في الشخصية الرئيسية من خلال ثلاث قضايا مجتمعية، قد تكون بعضها سخيفة جدًا مقارنة بالأخرى، لكن لا يمكن نكران أنّ الروائي – صانع هذا العالم – قد أبدع في استخدام هذه القضايا الثلاث، وصياغتها كرمزيّاتٍ لما هو أعمق في تكوين الشخصية الرئيسية، والعالم الذي تعيش فيه. القضية الأولى كانت حول الأطفال والغرض من الإنجاب، ثمّ هناك الرأي العام حول التدخين والمضايقات والتهكمات المتبادلة بين المدخنين وغير المدخنين في العصر الحديث، وأخيرًا، هناك الرأي العام حول قضية ديزيري جونسون، المحكوم عليه بالإعدام، بسبب ارتكابه لجريمة قتلٍ عن عمد.
يقول الروائي في افتتاحيته عن هذا العالم: «يبدو كلاً من النصّين غير قابلين للنقاش، لكنهما يقودان إلى نتائجَ متعاكسة. فحسب قانون الولاية كان المُدان ديزيري جونسون، يستند إلى حقِّه كاملًا في استحضاره للفصل ال 47 من قانون العقوبات الذي يخوِّل له أن يُشعِل سيجارة أخيرة قبل أن ينفذّ فيه حكم الإعدام. ومن جهته، كان السيد كوام لاوو شنغ، مدير المنشأة السجنية، يحجّر على السيد جونسون إشعال هذه السيجارة، في تطبيقه بصرامةٍ للفقرة 176 من النظام الداخلي. وهي الفقرة التي تمنع استهلاك التبغ داخل السجن، أُضيفت منذ سنة خلَت تحت ضغط جماعات الدفاع عن الصحة العامة. وبالطبع، فكرة الدفاع عن صحة شخصٍ محكوم عليه بالإعدام، قد تبعث على الحيرة، إلاّ إذا رأينا فيها تخفيفًا لوطأة الفظاعة. ولكن تدبيرًا من هذا القبيل مكفول، ما دام في صالح العدد الأكبر من الناس. ومن وجهة نظرٍ أخرى، فإن الفصل 47 – بالرغم من عدم العمل به – يسمح بلا شك للسجين، بأنّ يسحب من سيجارةٍ ما بضعة أنفاسٍ يزفر معها رغبته النهائية».
تعتبر قصة ديزيري جونسون في الرواية قصة ثانوية، تدور حول محكومٍ عليه بالإعدام، استغل ثغرة في القانون ساعدته في تأجيل تنفيذ حكم الإعدام لبضعة أشهر؛ لطلبه بتدخين سيجارةٍ أخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام، في منشأةٍ خالية من التدخين. ضجّ الإعلام بترويجٍ من شركات التبغ متعددة الجنسيات التي جلبت القضية للرأيّ العام. وتعاملت شركات التبغ العالمية مع قضية ديزيري جونسون بأنها مجرد وسيلة أخرى للترويج لبضاعتها، حتى أنها تعهّدت بتجهيز المنصة المناسبة للتدخين في حدود السجن. وأضاف المُدعى عليه لمسته الدرامية إلى مشهد التدخين قبل الإعدام الذي ينتظره العامّة، يصف بونوا ديتيرتر المشهد: «يستقيم جسم جونسون الضخم أخيرًا، يلتفت وجهه المسترخي نحو عدسة الكاميرا، ثمّ ينحني جانبًا فاسحًا المجال للأحرف النباتية الموضوعة على الطاولة البيضاء، لتظهر هذه الجملة القصيرة المؤلفة من السيقان والبتلات، كلمتان مهداتان إلى ملايين المشاهدين: “تحيَا الحياة!”. وبعد برهةٍ من الصمت، استأنف صوت ميشا: “أنتم تكتشفون هذه الجملة معنا في الوقت نفسه. جونسون المذهل! مرّة أخرى يربك الجميع بعدم قوله: “أنا بريء”. لا، إنّ المعنى أعمّ بكثير».
بلا شك، استفادت شركات التبغ العالمية من هذه القضية التي جلبت الرأي العام لفترةٍ من الزمن، من ناحيةٍ أولى فإنّ «إدارة السجن لا تستطيع قانونيًا إجراء تنفيذ حكم الإعدام خاصةً بالمدخنين، إلاّ إذا أوكلت المهمة إلى أحد المتعهدين»، كما يصف بونوا ديتيرتر: «ولقاء خدماتها، حصلت مؤسسة السجائر على الحقوق السمعية والبصرية المتعلقة بالحدث، ولكن كان عليها أن تلتزم بألاّ تقوم خلال البث بأيّ فعل يمكن أن يكون ذا صلة بالدعاية لماركاتِ السجائر التابعة لها». وبالرغم من أنّ شركات التبغ العالمية قد تفاجأت من حيلة المُدعى عليه لتأجيل تنفيذ الحكم، استغلّت الحدث في صالحها، بسبب التضييق التشريعي على حملات التسويق للتبغ:
«كان مسؤولوّ الشركة متعددوّ الجنسيات الملاحقون مند سنواتٍ بسبب نشاطهم في المتاجرة بالموت، قد اكتشفوا مبكرًا وقبل 48 ساعة التأجيل المذهل لإعدام ديزيري جونسون. وقد بدا لهم هذا الحدث شبيهًا بالمعجزة؛ الإشارة الموجبة التي انقطع انتظارهم لها، وعلى الرغم من تعلّق الأمر بمجرمٍ مدانٍ بالعقوبة القصوى، إلاّ أن التحوّل القضائي المذهل المعلَن من قبل الصحف قد قرنَ لأول مرّةٍ التدخين بالحياة، وذلك ما لم ترتق إليه أيّ دعاية من قبل ولا اهتدت إلى القيام به. لقد وقع للتَو إنقاذ شخص بواسطة التبغ لبضعة أيامٍ على الأقلّ [في انتظار قرار المحكمة] […] إنه بصيص من الأمل يظهر فجأة لسلسلةٍ اقتصادية مهددة برمتها. إذ بعد تأجيل تنفيذ حكم الإعدام مباشرة، قامت مارين بإبلاغ الصحف، وفي بضع ساعات، انتشر خبر القضية كبقعة زيت، وعند منتصف النهار كانت وسائل الإعلام قد اجتمعت أمام السجن لنقل الحدث».
مدينة الأطفال الفاسدة
تعتبر الرواية أحد أهمّ الأعمال الأدبية المعاصرة في أدب المدينة الفاسدة أو «الديستوبيا». مجتمعات المدينة الفاسدة من أهمّ فروع الخيال العلمي، التي تقف في المدينة على الجهة المناقضة من «اليوتوبيا» أو المدينة الفاضلة. إذ لطالما كان مفهوم المدينة الفاضلة ملازمًا لعددٍ من الفلاسفة والفنانين والحكماء، وربما أدلى بعضهم في الموضوع بدَلْوِه، وتطوّر معه مفهوم الخير لنموذج المدينة وخدماتها، وتباعًا لهذا ظلّ مفهوم المدينة الفاسدة ممثّلًا لجانب الشَّر من المعادلة، وهو نموذج من مساوئ المدينة وما يجب الحذر منه أو مقاومته.
يصف بونوا ديتيرتر، في روايته هذه المدينة الفاسدة تقديسها للأطفال: «العجرفة التي فهموا من خلالها أننا سنكون من هنا فصاعدًا في ديارهم». ويقول كذلك: «كل هذا كان يبدو لي بمثابة إهانة متواصلة». منح ذلك للأطفال حقوقًا وامتيازاتٍ لا تُمنح لغيرهم من البالغين، يقول الراوي عن بيئة العمل وحياته الوظيفية: «وإذا كان طاقم الموظفين يُجهد نفسه في احترامٍ لبعض قواعد العيش المشترك، فإنّ الأطفال يسمحون لأنفسهم بفعل ما يريدون، وقتما يريدون، وأينما يريدون. وليس من النادر عندما أتوجه إلى دورة المياه أن أجد الممرّ تسدّه مقابلة في لعب الكُجّة أو الحجلة. ولكن عليّ أن لا أضايق الملائكة بتاتًا، وإلاّ اغتنموا الفرصة للشكوى إلى مساعديّ التربية».
قد تتمثّل هذه الامتيازات الممنوحة للأطفال في الرواية بمواقف جانبية في الحياة اليومية مثل تمسّك الأطفال بمقاعدهم في القطار، بينما يقف كبار السِّن محاولين التشبث بحواجز العربة، بينما تقف المرشدتان المصاحبتان لمجموعة الأطفال بسكينةٍ تجاه الموقف: «وما دامتا معيّنتين لحماية الصغار فإنهما لا تريان موجبًا لمراعاة من هم أكبر سنًا في الانتفاع بالأماكن المخصَّصة للجلوس، هل أنا الوحيد الذي يتذكر تلك العهود البعيدة حين كان يتعيّن على الأطفال احترام الكبار؟». أو كما يصف مواقفًا جانبية في بيئة العمل، كأن يكون لعناصر الأمن في الحيّ الإداري، «التربية الحنون على الكتف لمن هم دون الثانية عشرة سنة، والنبرة الكريهة والمطالبة بالشارة بالنسبة إلى الموظفين». في هذه المدينة تجرّم الإساءة إلى الأطفال بأيّ شكلٍ من الأشكال: «المسار هو نفسه دائمًا؛ أيّ موقف معادٍ تجاه الأطفال ينتهي بأن يُلتقط ثم يتم التبليغ عنه لدى مصلحة الموظفين المشغولة بإزاحة أيّ خطر محتمل على الناشئة! ففي غضون ستة أشهر وقع على سبيل الوقاية نقل عشرة من المشتبه بهم إلى مكاتب خارجية، لأنّ البلدية تعتزم حماية رعيتها الفتية قبل كل شيء. بإيجاز، هذا هو الجحيم الذي آمل الإفلات منه كل مساء عندما أخرج من الحيّ الإداري لأعود إلى بيتي. لهذا السبب كان مشهد الحافلة عديم الأهمية، يبدو لي غير قابل للاحتمال وكأنّ سرب الذباب الذي أفسد نهاري، يواصل ملاحقتي على الدرَج، وفي الشارع، وفي الحافلة، وفي كل مكان؛ لكأن الشَّر ينتشر إلى درجةٍ يستحيل معها الإفلات منه. إذ من الآن وصاعدًا في هذا البلد، الأطفال هم الذين يمثّلون القانون».
بينما كانت الشخصية الرئيسية في الرواية منزعجة من هذا الحضور الطاغي للأطفال، ومن ثمّ فهي معارِضة لقرار الإنجاب؛ لأنها تعيش من أجل المتعة، ولكن بالرغم من ذلك، لا زالت تطوف فكرة الإنجاب في العلاقة الحميمة بينها وبين الحبيبة لطيفة، خصوصًا مع تقدّمهما في العُمر؛ فبينما كان رده على سؤال الإنجاب: «ما الداعي إلى إنجاب طفل؟ لنمسح مؤخرته؟ أم لتربية ناكر للجميل؟ أليس هذا ضد خيارنا أن نعيش معًا؟»، كان جواب لطيفة: «سيكون الأمر متأخرًا جدًا بالنسبة إليّ، ولا أريد أن أندم على ذلك في يومٍ من الأيام». لكن في النهاية كانت هذه الشخصية الأساسية تمقت حياة العائلة، ولا ترى بأنها تناسبها إطلاقًا، «بيتي الصغير المزهِر، وحبّي الحنون، وحتى طرقات المدينة الآسنة، كل هذا المعِيش اليومي يبدو لي مفضّلًا على حياة العائلة».
لم يكتفِ ديتيرتر في روايته بتشكيل شخصيةٍ رئيسية سطحية، فانزعاجاته من الأطفال لم تكن وليدة الفراغ، بل تلك الشخصية كانت مستشعرة بشدةٍ لكل ما يحصل في المدينة الفاسدة والجنون السائد فيها، أو كما يعبّر عن ذلك: «منذ سنوات وأنا أكافح كي أفلت من الجنون السائد، من قوى العصر المستبدة؛ لم أكن أملك سيارة، لم أرزق بأطفال، لم أكن أشاهد التلفاز إلاّ قليلًا. كنت أتجاهل أولئك الذين يريدون حمايتي كُرَهًا. منذ سنوات وأنا أبذل قصارى جهدي لنسيان هذه الإكراهات؛ كي أتفرّغ لعملي، لحبيبتي، لحياتنا العذبة المطمئنة». فضلًا عن كونه هو الآخر مدخنًا، وبالرغم من أنه لم يكن مدخنًا شرهًا، لكنه كان مدخنًا للدرجةٍ التي تمكّنه من التسلّل من العمل حينًا بعد آخر لتدخين سيجارةٍ في دورات المياه، مستشعرًا محاولات كبت المجتمع لعادته السيئة هذه – بتقنين أماكن غير مريحة مخصَّصة للمدخنين أو سعالات الآخرين المصطنعة وتعليقاتهم السخيفة – كأن يخبره أحدهم في اجتماع عملٍ: «قبل أن تشغل بالك بتلوّث المدينة وبيئات المواطنين، ابدأ بالانقطاع عن التدخين في دورات المياه!».
عمومًا، لم تكن هذه المضايقات المجتمعية حافزًا – ولو ضئيلًا – للامتناع عن التدخين، كما يتصوّر غير المدخنين؛ فالممنوعات موجودة منذ بدء التاريخ بمختلف أشكالها وأنواعها، «ولكن يوجد أيضًا الابتكار البشري، ولا أحد يقدر على منعي من تدخين هذه السيجارة في مأمنٍ وراء بابٍ موصد»، كما صرّحت الشخصية الرئيسية، «المعركة ليست متكافئة، ولكني ما أزال أُجيد القتال». ربما يكون موضوع السجائر من الثيمات الأساسية في الرواية، لكن مبتغاها لم يكن سوى الإشارة إلى المعايير المزدوجة، فبينما ينال القاتل ديزيري جونسون شهرته وتعاطف العامة بسبب سيجارته الأخيرة، تضع الحبكة ثقلها على الشخصية الرئيسية بسبب تدخينه للسجائر في دورة المياه؛ ففي لحظة نشوةٍ بأحد تلك السجائر المسروقة نسي أن يوصد باب دورة المياه، ما تسبّب في الحبكة الأساسية للرواية بعد أن فتحت صبيّة ما تُسمّى أماندين الباب عليه وهو في تلك الوضعية الغريبة، وتطوّر الأمر إلى اتهامه بجريمةٍ ضد الطفولة وفقدانه لكل شيء.
معركة غير متكافئة
تدور الحبكة بين الادعاء العام الذي يتعامل مع الشخصية الرئيسية وفق قاعدة مطلَقة: «الأطفال لا يكذبون مطلقًا». مدفوعين برغبتهم في حماية الطفولة من أيّ شرٍّ أو احتمالية للخطر، وبين عاطفة والدة أماندين في حماية ابنتها، التي تجرّه إلى قضيةٍ أكبر، فقد «كانت أم أماندين تلمّح في شهادتها إلى أنّ آخرين يمكن أن يكونوا قد سقطوا ضحايا لملامساتي، كتلك التي تشير إليها كوابيس ابنتها»، تجد الشخصية الرئيسية نفسها في مأزقٍ يعصف بحياتها الهادئة التافهة التي صنعتها لنفسها؛ من الإيقاف عن العمل إلى الحبس بين أعتى مجرميّ المدينة.
لم يكن لأحدٍ في المدينة الفاسدة أن يرجّح كفّة أقوال المُدعى عليه، وهو رجل في الأربعين من عمره، مقابل أقوال أماندي، التي تحمل عقدًا من السنوات في حياتها، ودفاع والدتها العاطفي عنها، وبالطبع لم تجرؤ شركات التبغ العالمية على رعاية الدفاع عن الشخصية الرئيسية، لارتباطه بجريمةٍ ضد الأطفال، وهي السمعة التي تسعى تلك الشركات للابتعاد عنها، فقضية جونسون بالنسبة إليهم كانت مختلفة تمامًا؛ لأنها وضعت السيجارة في معادلة الموت والحياة. ويظهر ذلك في نقاش المحامية مارين، مع شركات التبغ العالمية، حين أرادت مارين أن تبيّن سيطرتها على الوضع:
– لهذا أنا لا أقبل سوى ملفات صغيرة لا أهمية لها، وبمناسبة ذكر الملفات، هل تلقيت رسالتي الإلكترونية بشأن ذلك الرجل المسكين المتهم بارتكاب جريمةٍ ضد الطفولة، عقب تدخينه لسيجارةٍ في دورة المياه بالحيّ الإداري؟
– حقيقة لسنا معنيين. وسواءً فعل هذا الرجل ذلك أو لم يفعل، فإننا لا نقترب من الجرائم ضد الطفولة، إنه أمرٌ مقرف إلى أبعد الحدود.
أمّن ديزيري العائد من قاعة التدخين، على هذا الكلام كمن يعلم حقائق الأمور:
– ممنوع المسّ بالأطفال، أنت على صواب! ممنوع المسّ بالحياة!
القضية بالنسبة إلى الرأيّ العام مسألة تعاطف، لذا لم يكن لأحدٍ أن يفضّل رجلًا عاديًا في سنّ الأربعين على فتاةٍ في مقتبل العمر. التعاطف هو عملية شعورية قد لا يملك الإنسان حيلة أمامها، الأمر يشبه الاختيار بين متسوّلين أحدهما فتاة صغيرة بشعرها المجعد وأقدامها الحافية، وبين متسولٍ آخر بملابسه الرثّة يبلغ أشده وقد يكون عائلًا أيضًا لأربعة أطفال لكن المُعطي سيتعاطف مع الأولى بالضرورة على الثاني؛ فالتعاطف ما يزال يفضّل صغار السِّن. وربما تشير الرواية إلى هذه القضية في الحوار التالي:
– «إذا كنت بريئًا فعلاً، فما الداعي إلى تسليم نفسك رهينة؟
– لأنّ الفرصة لم تُترك لي ولو للحظة واحدة لإثبات هذه البراءة!
– كان في مقدورك انتظار المحاكمة.
– كانت ستُجرى في سريّةٍ تامة تجنبًا في تعريض الصبيّة للصدمة. وقد اقتنعت محاميتي بانقطاع كل أمل لي في النجاة باستثناء هذه الفرصة، ولنقل إنني أفعل هذا من أجل الشرف!
– ما يزال بإمكانك التراجع عن قرارك.
– مهما يكن من أمرٍ، فقد خسرت كل شيء. ثمّ .. إن لي مهربًا وراء ذلك يتعلّق بقضية جونسون كما تعلم بلا شك، عندما كتب: “تحيَا الحياة”، بواسطة باقة أزهارٍ اقتطفها.
– كان ذلك بارعًا -لاحظ الكاهن- لقد غدا مشهورًا. وبشيء من حسن الطالع ستقع تبرئته قريبًا، وسينال تعويضات فوق ذلك.
– طوبى له. على كل حال، أردت أن أرد على نظريته: “أبدًا لن أُسيء إلى شيخٍ أو امرأةٍ أو طفل ..”.
– “.. ولا إلى ذوي الإعاقة”، نعم، تذكرت. إنه مبدأ عتيق، أنت تعرف: “الأطفال والنساء أوّلًا”.
– أتفق معك، ولكن في هذا العالم المشغول إلى درجةٍ كبيرة بالدفاع عن الضعفاء، ماذا عن الرجل، الرجل العادي ذي الأربعين عامًا أو الخمسين، ألا يستحق قليلًا من الشفقة؟».
الحق أنّ ديتيرتر قد أبدع في رسم حبكةٍ من الإكراهات التي تضطر الشخصية الرئيسية للتعامل معها خلال سرد الرواية، حتى تجد نفسها في موقفٍ عصيب وخارج عن السيطرة، ما أنتج حالة من العجز والأمل الضعيف بكل ما يمكن أن يصنع فارقًا، «إنني في هذه الظروف الاجتماعية والمادية والنفسية المؤقتة، أنتظر يومًا بعد يوم أخبارًا من محاميتي، وخاصةً من لطيفة التي تواصل في الخارج حركاتها لإنقاذي». تصف الشخصية الرئيسية المحاولات الضعيفة والمستميتة للخروج من هذا المأزق والاضطهاد العام لها، حتى في حدود السجن، وبين المجرمين الآخرين المتهمين بجرائم أكثر شناعة: «وحدها غريزة البقاء منعتني من الانهيار. موضوعيًا، كانت حالتي مروّعة؛ أن أتحوّل فورًا من منزلة إطار سامٍ، كمثقف غربي ميسور، وبالغ حرّ في حركته إلى منزلة مُدّعى عليه محبوس من قبل العدالة؛ أن أُحرم فجأة من حقوقي الأولية خاضعًا لتوقيتٍ مضبوط، ولمجموعةٍ من القواعد، مجردًا من ضوء النهار، ومهددًا بالعنف والإساءة إليّ من قبل شركائي في الاعتقال، وأن أرى نفسي أمام إفلاس محتمل كي أدفع أجور المحامين وتعويضات الضحايا. إنها وضعية يفقد فيها البعض عقولهم أو يستسلمون للموت، لا سيما حين تجدك، في صميم طبقة الخارجين عن القانون، مصنّفًا ضمن الفئة الأفقر لمجرّد أن ملفّك يذكر أفظع الآثام؛ جريمة ضد الطفولة. في هذه الحال ما من شكلٍ من أشكال التعاطف يمكن أن يُمارس لصالحك».
التعاطف البشريّ تحت المجهر
تتعامل الراوية مع عدة قضايا اجتماعية حساسة، مثل التدخين، والتحرش، والإرهاب بطريقةٍ ساخرة لأبعد حدّ، دون أن تؤثر سلبًا على تشويق السرد والحكاية؛ فتستمر الرواية بسخريتها من الأحداث في المدينة الفاسدة، مثل ادعاء والدة الطفلة أماندين بأنّ المتهم قد اعتدى على أطفالٍ آخرين، والتي تحولت من كونها ادعاءً غير مثبت واستنتاجًا من الأم ذاتها، إلى أن تُصبح حقيقة يجب على المتهم الدفاع عن نفسه ضدها في مواجهة حكم شديد بالإدانة، فأصبح بذلك متهمًا بالإساءة إلى خمسة عشر طفلًا، لا يحمل بينهم – غير أماندين – اسمًا ووجهًا.
تتجلّى حالة العجز التي رسمها ديتيرتر في عدة مواقف، ولم يوجد إلا جانب وحيد للحياة المناسبة للشخصية الرئيسية، وهو في العلاقة الخفيفة الخالية من الالتزامات مع الحبيبه لطيفة، إلاّ أن هذا النوع من العلاقات يجد ذاته في عدة مآزق؛ بعضها بسيط كأنّ تُمنع لطيفة من حضور جلسات الاستماع للقضية أو متابعة سير أحداث المحاكمة؛ لأنها قانونيًا ليست زوجته، ولا تربطهما أيّ وثيقة رسمية، أو مواقف أكثر تعقيدًا في شهادتها للدفاع عنه حين أجابت عمّا إذا كانت ما تزال تتمنى أنّ تنجب طفلًا من المتهم، فأجابت بعدم إمكانية ذلك بعد الآن، نظرًا لحال المتهم.
المتهم لم يفقد كل شيء في حياته فحسب، بل لم يستحق التعاطف العام مع حالته، بالرغم من أنه بريء حقًا، الكل بدا مترقبًا لوقوع العقوبة عليه في قضيةٍ لم يملك أن يدافع عن نفسه فيها، بينما ينال مجرم حقيقي مثل ديزيري جونسون شهرته وكامل حقوقه، بسبب عرضه الاستعراضي بالسيجارة الأخيرة. الأمر الذي يضع الشخصية الرئيسية في موقفٍ يتخلّى فيه عن كامل لباقته أمام المحكمة إذ لم يعد يخشى الموت كما يصرّح، مدركًا بأنه خسر كل شيء، وأن حياته لن تعود أبدًا كما كانت: «كل ما لديّ لأقوله لكم، هو أنني لم أكن قادرًا البتّة على لمسِ هذه البلهاء الصغيرة أماندين، ولا الأربعة عشر الآخرين، لأنني لا أعرف شيئًا أقلّ أهمية من طفل. فأنتم بالنسبة إليّ لم ترتقوا بعد إلى منزلة الكائنات البشرية، إنما ما تزالون حيواناتٍ صغيرة لا أريد الإساءة إليها مطلقًا، طالما تظلّ في زرائبها ولا تفسد عليّ حياة البالغين التي أحيَاها، وهي أصعب وأثرى وأعقد من حياتكم إلى أبعد الحدود. وحتى حين تكون حياة فاشلة، فهي أجمل في مأساويتها من جميع إيماءات الرضع لديكم. بالنسبة إليّ أنتم غير موجودين، الزغاليل الأربعة عشر لا وجود لهم، أماندين لا وجود لها. باختصار ليس لديّ ما أفعله بهذه الحمقاء الصغيرة».
ربما يكون تخلّي الشخصية الرئيسية عن رغبتها في الحياة مدفوعة بشعورها تجاه المدينة الفاسدة أيضًا؛ حيث وضعته الأحداث في موقفٍ يستطيع فيه فهم خفاياها، فحتى البيئة الآمنة التي صنعها من العادات اليومية التي يحب قضاء وقته فيها، والمتمثّلة في الحياة العبثية التي كان يحياها مع حبيبته، لم تعد ممكنة هي الأخرى. بل إنّ المدينة تفقد هويتها في رحلتها لتقبّل الحداثة، لتكون نسخة مكررة من المدن الحديثة الاستهلاكية التي «تظن نفسها إحدى عواصم الدنيا»، على حد وصفه، يقول: «لو فكّرت مليًا لا انتبهت إلى أنه ما عاد يتملكني الحنين وأنا أعود إلى هذه المنطقة. يبدو أن كل ما أحببته في هذه المدينة حين دخلتها أول مرّة، قد اختفى اليوم […] فكلّ ما كان من دكاكين الألبان، والسمّاكين، وورشات الحرفيين، وحانات الليل ومطاعم الصبح، والطرقات المسدودة، ودكاكين الخردة المغبرة، وقاعات سينما الحيّ .. أكاد لا أرى في مكانها إلاّ محلات الملابس ومحلات الملابس ومحلات الملابس. تصفّف المدينة بزهو أشد الاختصاصات ابتذالًا في ما يمكن أن نراه على كوكبنا من أدناه إلى أقصاه: مطاعم الأكلات السريعة للفقراء، والأشد فقرًا [الأكلة السريعة المرتدية قناع الطبخ التقليدي]، أما نسق الحياة خاضع كليًا لنهايات الأسبوع ومواقيت العمل: غلقٌ عام للحانات بعد منتصف الليل، منع التدخين في كل مكان، تعاظم لحقوق الطفل في كل مكان [أمام المدرسة القريبة من بيتي، تم تركيز ما لا يقلّ عن ثمانية أضواء حمراء في هذا المفترق الخالي من السيارات]. باختصار، إنه الرخاء الحذر لبلدةٍ ريفية أُلحِقت عسفًا بمدينة تظن نفسها إحدى عواصم الدنيا. أرقب ذلك من زنزانتي المتنقلة قائلًا في نفسي إنني في الأصل لا أخسر شيئًا ذا بالٍ، كل ما عليّ هو أن أتحلّى بالشجاعة».
إنّ رواية «الصبية والسيجارة» أحدُ الأعمال السردية الأهمّ في العصر الحديث، التي تتناول عددًا من القضايا الاجتماعية الحساسة بطريقةٍ ساخرة، تمثّل في أحداثها كبسولة من المشاعر المتناقضة، والمواقف المثيرة للاشمئزاز أحيانًا؛ في محاولةٍ لفهم التعاطف البشريّ، وحدود الحريّة الفردية للإنسان المعاصر.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الاقتباسات الواردة في المقالة من هذه النسخة للرواية:
- بونوا ديتيرتر (2005)، الصبيّة والسيجارة، (ترجمة: زهير بوحولي)، الجمهورية التونسية، دار مسكيلياني للنشر والتوزيع.