أعلن تيموثي ليري، عام ١٩٦٣، أنّ المؤلِف الألماني هيرمان هيسَّه: “شاعر الرحلة الداخلية“. توفي هيسَّه قبل ذلك بعام عن عُمرٍ ناهزَ الخمسة والثمانون عامًا. لكنّ الروايات التي خلَّفها وراءه -كما أعلن ليري في (ذا سايكدليك ريڤيو)-، كانت “دليلاً لا يُقدر بثمنٍ“، لاستخدام العقار الحمضي (LSD).
يمتلئ الأدب بالنهايات الغريبة. توفي فرانز كافكا عام ١٩٢٤، معتقدًا أنّ كتاباته ستُحرق، كان موبي ديك ١٨٥١، لهرمان ملفيل في البدء عملاً خافتًا، لكنّ احتضان هيسَّه في الستينيات من القرن الماضي يصنَّف من أغربهم جميعًا. لم يَزر الولايات المتحدة قطّ، ولم يتحدث الإنجليزية، وكان مخدّره الوحيد هو النبيذ الأحمر، وبحلول عام ١٩٦٨ -كما لاحظ موقع دير شبيجل-، أخرجَ الهيبيّون هذا الكاتب المَنسيّ “من حالة الركود“؛ ليتحوّل هيسَّه إلى المؤلِف الألماني الأكثر مبيعًا في القرن العشرين -متبعًا في تلك المكانة لـ الأخوين جريم، وكارل ماركس-، كأكثر كاتب ألماني مُترَجم في العقود الأخيرة.
كان عمل هيسَّه منسجمًا مع ثقافة الشباب التي تحرّكها رغبة عارمة للانعتاق وتحديدًا لأنّ هذه الرغبة استحوذت عليه طوال حياته. كثير منّا يعرف هذه الرغبة فهي تُخيّل لكل شاب تقريبًا بطريقةٍ أو بأخرى. ولإدارة هذه الرغبة بحكمة، تُشكّل حياة هيسَّه وعمله مادةً دراسية لتنقلات المرء بين عوالِمهِ الداخلية.
وُلِد هيرمان كارل هيسَّه عام ١٨٧٧، في المدينة الجميلة “كالو” الواقعة على حافَّة الغابة السوداء في ألمانيا. كانت عائلته من أتباع التقوى المخلِصين، المكرَّسين لدراسة الكتاب المقدس والحياة المسيحية. نشر والده كُتُبًا بعناوين مثل: نحنُ والوثنيون The Heathens and Us.
كانت سنوات بلوغ هيسَّه قاتمة. اعتبرت والدته قصائده المبكرة “سامَّة”؛ لاعتقادها بأنّها أظهرت اهتمامًا بعالم الذنوبِ بدلاً من الله. كان أساتذته، الذين حكَموا عليه بأنّه “مليء بالأفكار الحموية والمشاعر المفرطة” قاسيين. استمرّ بالهروب من المدرسة وبدأ يهدد بالعثور على مسدسٍ ليطلق الرصاص على نفسه. أُودِع في سِنّ الرابعة عشرة في مَصحةٍ نفسية، ولذا سيرافقه كُره المؤسسات بالإضافة إلى الاضطراب العاطفي العميق طوال حياته.
“وطالما أنَّك لَم تختبر هذا:
أن تموت وأن تبلُغ؛
أنت مُجرد ضيفٌ مضطرب،
على الأرض المُظلِمة”.
هكذا كتب يوهان وولفجانج فون جوته المُصنّف بـ: “ويليام شكسبير” الألمان وأوّل قدوة أدبية لهيسَّه، الذي انجذب كمؤلف شابّ إلى تركيز جوته على الحياة الداخلية وتركيز الرومانسية على “منابع الروح السِريّة“. لقد كان أيضًا “مفتونًا بنيتشه” ومفهومه عن الإنسان الأعلى الكائن الذي يمكن أن يحتضن موت الله ويزدهر بتلقاء نفسه. تنبأ هيسَّه بالهيبيين وتساءل عمّا إذا كان التجديد الروحي قد ينبثق من ضباب الشرق القديم. لقد تأمّل في تشريح بوذا للوعي البشري وحكمة لاوتزه. وصل هيسَّه بحلول عام ١٩٠٠، في سِنّ الثلاث وعشرون عامًا إلى ما اعتبره طريقًا إلى الازدهار النفسي: “عمقٌ أكبر من خلال الوعيّ الداخلي”.
أزمات الحياة ليست موجودة لتُحلَّ بصورةٍ نهائية
التقى هيسَّه عام ١٩١٦ -بعد تجنّب خنادق الحرب العالمية الأولى؛ بفضل ضعف بصَرِه- جوزيف برنارد لانغ، المحلِّل النفسي والمتحمِّس لكارل يونغ. كان لانغ غريب الأطوار مع مشاكل نفسية عميقة ومَيل إلى علم الغيب والتنجيم ومع ذلك أصبح الرجلين صديقين. كتبوا على مدى العقود التالية عددًا لا يُحصى من الرسائل لبعضهم البعض. انتقل هيسَّه من خلال لانغ إلى نظريات يونغ على الفور. لقد أحبَّ تركيز يونغ على شبكةٍ من الرموز الداخلية التي تتشكَّل في الطفولة وفكرته عن عالَمٍ مغمور من الذات يُسمَّى: “الظِلّ”. بعد فترة وجيزة من اكتشاف يونغ في رسالةٍ كرَّر هيسَّه نظرته للحياة: “اهتمامي الوحيد بالداخل”.
تشترك تأثيرات هيسَّه في الإيمان بقوة الذاتويّة؛ ما منحه تركيزًا فريدًا لا يتزعزع ظلّ دون تغيير على مدى عقودٍ من الروايات وهو الذات، بتعبيرٍ أدقّ ذات هيرمان هيسَّه. كان المؤلِف يحبّ أن يشير إلى رواياته على أنّها “سِير ذاتية”. لقد أعلن أنّ الكتابة كانت طريقًا “طويلاً ومتنوعًا ومتعرِجًا، هدفه هو التعبير عن شخصية الفنّان الذاتية”، إلى أن تصبح تلك الذات “في نهاية المطاف غير مغلّفة ومكشوفة، تُنهب وتُستهلك بالكامل”.
يَعني موضوع هيسَّه الجوهري الثابت أنّ رواياته لها نمط متكرِر. كلّ منها يتميّز ببطل رواية “ذكر” تتعارض ذاته الفائضة مع توقّعات الحياة اليومية للمجتمع السائد. جميعهم واجهوا حكيمًا واحدًا أو أكثر. يصبحون معزولين ويشرعون في رحلات اكتشافٍ ذاتية، الرحلات التي تتطلّب منهم مواجهة الصراعات المتأصِلة في أعماق ذواتهم. تتقوّى القوى التي تُصارع هذه الصراعات دائمًا بالنماذج البدائية لليونغيّة. في ذئب البراري، عام ١٩٢٧ -إحدى روايات هيسَّه الأكثر قراءة-، تتأرجح الحياة الداخلية لبطل الرواية، كما يحدث للجميع ليس بين قطبين مثل الجسد أو الروح والقديس أو العاصي فحسب، بل بين الآلاف.
خضع هيسَّه، عام ١٩٢١، لنوعين من العلاج مع يونغ نفسه. سجَّل في مذكراته بعض النصائح التي قدَّمها له المحلِّل الشهير. وأوضح يونغ أنّ أزمات الحياة ليست موجودة لتُحلَّ بصورةٍ نهائية. كل واحد منها “زوج من الأضداد، ينتج بينهما توتر يُسمَّى الحياة”. هذه الحكمة المُغرية والمراوغة هي ما يكتشفه جميع أبطال هيسَّه في محاولتِهم للاندماج. بتركيزهِم على عوالمهم الداخلية بشكلٍ مكثَّف ولفترةٍ كافية، فإنهم يتحرّكون نحو الأرض المُوعودة لما يُسمَّى: “تحقيق الذات”. في رواية هيسَّه السابقة ديميان، عام ١٩١٩، يمكنهم أخيرًا إدراك ذوَاتهم؛ ونتيجة لذلك فهُم يفهمون كيف يعيشون.
حتى لو لم تقرأ مطلقًا أيّ كلمة من رواياته، فإنّ جاذبية هيسَّه لقرّاء الستينيات يجب أن تكون واضحة. كان يكره المعلّمين وسباق الفئران، ويحبّ العُريّ والأشجار. لكنّ الأمر أكثر من ذلك: بالنسبة لهيسَّه كما كتب الباحث إنغو كورنيلز، فإنّ “الذات الفردية”، كانت “مستودع الإله والمؤسَّسة الوحيدة التي نتحمّل مسؤوليتها”. تعد روايات هيسَّه في الستينيات من القرن الماضي أنّه من خلال نبذ الأوامر الاجتماعية وتكريس أنفسنا للاستكشافات الداخلية الحيَّة؛ يمكننا أن نُولد مُجددًا. غالبًا ما تصِل حبكات رواياته إلى ذروتها في مُعاناة بطل الرواية من تحوّلٍ حادّ ومسبِّب للهلوسة تمامًا مثل تلك التي أراد ليري توسيعها لتشمل جميع الأمريكيين، عبر استخدام عقارات الهلوسة.
تحكي رواية ديميان قصة الشاب إميل سينكلير، الذي انسحب من مجتمعهِ المُعتاد، فيما يحاول التخلّص من القِيم البرجوازية، واكتشاف طريقه لتحقيق الذات، مستوحيًا هذا من التأمّلات الغامضة لماكس ديميان. يأخذه بحثه عبر أشكال مختلفة من التصوّف النفسي. ظهرت نسخة حديثة من دار بينغوين لـ ديميان، بتقديم المُمثل جيمس فرانكو، الذي يتذكَّر تركه للجامعة وهو في التاسعة عشرة من عُمره؛ ليحقَّق حلمه بالتمثيل. أكّد ديميان لفرانكو وسط تساؤلات أنّه اتخذ “خطوة أخرى بعيدًا عن الحياة التقليدية”، ونحو “حياة تنسجم مع مُثُلهِ العُليا”.
على مدى عقود، كان لـ ديميان تأثير متحرّك مُماثل على عددٍ لا يُحصى من القرّاء الآخرين. استوحى ديميان سينكلير من رفض “غريزة القطيع”، وأن يكون “مُخلِصًا تمامًا لبذور الطبيعة بداخله”. يتطلّب الحفاظ على هذا الإيمان أن يرفض سنكلير كل ما جاء مِن قبل، وأن يسحب شيئًا نيتشويًّا جديدًا مبهرًا. كل عقل فنّي عظيم يتأثَّر بهذه الرغبة. من السَهل معرفة سبب اعتبار العديد من أبطال الثقافة المُضادة (بما في ذلك عازف الجيتار كارلوس سانتانا)، لرواية ديميان على أنّها بيان.
عدت رواية سدهارتا، عام ١٩٢٢، واحدة من أشهر الروايات التي كُتبت عن البوذيّة على الإطلاق؛ حيث يسعى بطل الرواية الذي يحمل نفس الاسم إلى أسلوب حياةٍ مُستنير. يتجوّل في الهند القديمة، ويختبر كلّ من الزهد المتقشِّف ومذهب المُتعة المرفّه. يجد في النهاية الحكمة الروحية أثناء تفكيره في جريانِ نهرٍ عظيم. سدهارتا ألطف من ديميان لكنّه يحمِل نفس الروح. في السعيّ وراء التنوير، لا يستطيع سدهارتا حتى الخضوع لتعاليم بوذا نفسه. يقول: “الحكمة لا تنتقل”؛ يُمكن إدراكها فقط. ويُعلن أنّه “لا يُمكن للباحث الحقيقي قبول أيّ تعاليم”. ينتهي سَعي سدهارتا المُضني عندما يكشف له جريان النهر أنّ خلف سِتار المايا -وراء الطبيعة الوهميّة لجميع الثنائيات- توجد “وِحدة كلّ شيء”.
أرسل سدهارتا عددًا غير معلوم من الرحّالة إلى الهند. أتذكَّر جيدًا الفصول الأخيرة من الرواية فيما يتلاشي غروب الشمس على شاطئ ولاية كيرالا. كان البعوض يلدغني ولكنّي كنت بحاجةٍ إلى معرفة كيف فعل سدهارتا ذلك. (لقد أحببتُ فكرة أنّ مَذهب المُتعة يمكن أن يكون تنويريًّا ولم أكن حريصًا على الزهد)، بالكاد في مراهقتي امتلكتُ دافع الثقافة المُضادة: للكشف عن الحقيقة المُتعالية والمصوّرة بأن الجميع كانوا غير مُهتمين بها، والتي أوقدَت روحي.
في أعماق ينابيع الوعيّ الغريبة، نحن فقط مَن يستطيع الخوض في ذواتِنا
هيسَّه ليس مُصمِمًا بارعًا. نَثره واضح ورواياته ثقيلة ومخططة بشكلٍ رقيق، وغالبًا ما تكون تعليمية، وأحيانًا مُبتذلة وخالية تمامًا من الدعابة. لكن لا شيء من هذا مُهم حقًا؛ لأنّ ما جذب عقودًا من القرّاء إلى هيسَّه ليس كتاباته، بل دفاعه عن مشروع تحقيق الذات. لطالما كانت فكرة أنّ كتب هيسَّه دليل للاكتشاف الداخلي -جوهر جاذبيتها-، وهي نداء يَعني أنّ رواياته تستمرّ مناصفةً بين الأدب والمساعدة الذاتية. نعم، لا تزال تجد كتب هيسَّه على رفوف العديد من المكتبات الراقية، صفّ أو صفّان أسفل بطلِه جوته. لكنك ستجده أيضًا مختلطًا مع باولو كويلو وجبران خليل جبران، في تلك المكتبات الصغيرة، حيث تصدم بحالمينَ أثناء محاولتك العثور على بعض النقود في جيبك.
تحتوي روايات هيسَّه في أفضل لحظاتها على لمحاتٍ من الحكمة الحقيقية. على سبيل المثال: لقد أدرك بدقةٍ أنّ معظمنا يتعثّر منذ فترة المراهقة إلى مرحلة البلوغ في حيازة ذوَاتٍ نصف مكوّنة وغير مفحوصة وتهزمها رياح العالَم. على الرغم من أنّ التحليل اليونغيّ في الوقت الحاضر يحمل نفحة مِن العلوم الزائفة، إلاّ أنّ الغرف الداخلية للذات تظلّ مكانًا حيث يبدأ ضوء البحث العلميّ في التعتيم والتلاشي. في أعماق ينابيع الوعيّ الغريبة، نحن فقط مَن يستطيع الخوض في ذواتِنا. نقل هيسَّه بوضوح قيمة شحذ قوّتنا في الإدراك الذاتي. حَرّضهُ التزامه الراسخ بالعقل الفردي ولَعن جميع أشكال الجماعية، ضد “مهووس الوطنية” في الحرب العالمية الأولى: “المَعتوه هتلر”.
يظلّ انشغال هيسَّه قبل كل شيء بالظلّ ذا قيمة. ينجذب بطل الرواية هاري هالر في ذئب البراري، إلى وسائل الراحة للوجود البرجوازي. لكنه يكره أيضًا “تفاؤل الطبقات الوسطى، هذا الحضنة السمينه والمزدهرة من الرداءة”. بدأ هالر بعيدًا عن المجتمع ومكتئبًا انتحاريًا في قبول تلك الأجزاء مِن نفسه، والتي لم يكن قادرًا على اختبارها في السابق. بدأت مرارته تتلاشى عاكسةً أنّ هذه الرحلة رحلة جميع أبطال هيسَّه. كلما تمكَّنوا من الانعتاق ذهنيًا من هذا الظلّ، فإنهم يواجهون تلكَ الزوايا المُظلمة والمُخزية والقاسية في كيانهم.
يعود جزء كبير من تحسين الذات الحديث إلى أشكالٍ مختلفة من الترفيه، لكن روايات هيسَّه تذكّرنا بأنّ العمل الحقيقي هو في الأجزاء الصغيرة مِن أنفسنا التي نريد تجاهلها. قارئًا سطرًا في رواية ديميان: “عندما نكره شخصًا ما؛ فإننا نكره شيئًا ما داخل أنفسنا على صورته”. يتعلّم كل بطل من أبطال هيسَّه حقيقة أنّ معرفة نفسك يمكن أن تَلسَع.
ومع ذلك، فإنّ إرث احترام هيسَّه للذات الذي لا يتزعزع، يكشف عن ذات الشيء الذي كرَّست شخصياته حياتهم لِهدمه: الازدواجيّة. هناك جدل طويل ودائِر حول ما إذا كان يمكن فصلَ أفكار الشخص عن الطريقة التي عاشَ بها. بالنسبة لمعظم القرّاء غير الأكاديميين، لا يمكنهم ذلك أو على الأقلّ ليس بشكلٍ كامل. من المُهم أنّ جان جاك روسو حاول تعليم القرّاء عن التعاطف، بعد أن تخلَّى عن أطفاله الخمسة في دار للأيتام. من المُهم أنّ جورج أورويل كتب عن مخاطر الشمولية، ثمّ ذهب إلى إسبانيا لمحاربة الفاشية بيديه. وفي حالة المؤلف الذي كرَّس حياته المِهنية لكتابة سلسلةٍ من “السِيَر الذاتية للروح“، يبدو مِن المعقول أنّ نسأل: هل أسفَرت آلاف الساعات من التدقيق الذاتي المكثَّف عن التغيير المُهم في الحياة الحقيقية لذلك المؤلِف؟”.
لسوء الحظّ ما وصفه كاتب سيرة هيسَّه جونار ديكر بأنّ “أنانية المؤلِف اللامحدودة” لم تتضاءل أبدًا. نسبة كبيرة من رسائل هيسَّه مشغولة بتأملاتٍ معنوَنة وبقُصرٍ مزاجيّ هائل. وفقًا لديكر في Hesse: The Wanderer and His Shadow (2018)، غالبًا ما كان هيسَّه “غير قادر على تحمّل أيّ شخص بالقرب منه”. في أيّ وقت كان مطلوبًا منه شيئًا عمليًا، يُسجل لدى هيسَّه باعتباره فرضًا من عالمٍ رديء يحاول إلى الأبد إحباط المُهمة المُلِحّة المتمثِّلة في تحقيقه لذاته. ذهب هيسَّه “للراحة” لأسابيع كل عام، بغضّ النَظر عمَّا إذا كان الناس في حياته قد استفادوا منه في شيء. انتقد الماديّة لكنّه استغلَّ باستمرارٍ رُعاته السويسريين لمساعدته في دفع الفواتير.
كانت معاملة هيسَّه للأشخاص الذين اهتمّوا به قاسية على الدوام. بعد أسابيع قليلة من ولادة ابنه الثالث، كان على متن سفينة رُكابٍ مُتجِهة نحو الشرق؛ لمتابعة تحقيق الذات، فيما كانت زوجته المُجهدة والمكتئبة تعتني بالمولود الجديد. كان هيسَّه منزعجًا دائمًا من زوجته الثالثة لدرجة أنهم تواصلوا عبر “الرسائل البريدية”؛ لكي لا يزعجوا هدوءه التأليفيّ. ساعد غضب هيسَّه المُستمر وصمته ومزاجيته في دفعها نحو اكتئابٍ انتحاري.
أمطرَ هيسَّه ناشره بيتر سوركامب بشكاوى -في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي- نتيجة التأخير. كان لدى سوركامب عذر لائق للتأخير: بعد عشرةَ أشهر في معسكرات الاعتقال، كان يُعاني من شلَلٍ مُتكرِر في كلتا ساقيه، ومن نوباتٍ متكرِرة من الالتهاب الرئويّ. لكن في حديثه عن التساؤلات الفنيّة التي كانت تعصف به في زاويته الريفية في سويسرا بعيدًا عن الحرب، أخبر هيسَّه سوركامب أنّه “لا يمكنك معرفة الجحيم الذي كنتُ أعيش فيه”.
كان نموّ هيسَّه شبيهًا بالمرآة، إذ لم يَهتم أبدًا بإشراك العالمَ الأوسع
أعلم أنّه يمكن أن يعتبر من غير اللائق إلى حدٍّ ما الحديث عن سلوك الرجل بعد فترة طويلة من وفاته. لا يُقصد بهذا أن يكون وسيلة استدعاء رخيصة. هيسَّه ليس أوّل فنان يُدان بالنرجسية أو عدم النضج. إنّه بالتأكيد ليس الرجل الأوّل الذي يُسيء معاملة النساء في حياته. ومن المُحتمل أنّه يمتلك ما نصنّفه اليوم على أنّه شكل من أشكال الاضطراب ثنائيّ القطب.
لكن سِجل سلوك هيسَّه في العالَم يطرح السؤال: ما الغرض من كل هذا؟ أجيال من القرّاء اشتعلت بسبب اقتناعه بأننا بحاجةٍ إلى فحص ذواتنا الداخلية والتطور والتحوّل. ومع ذلك، يبدو أنّ هيسَّه ظلّ دون تغيير ملحوظ طوال حياته البالغة. رجل مهووس بذاته، عام ١٩٠٠، وبقيَ محتقن مهووس بذاته، عام ١٩٦٠ أيضًا، يمكن لأيّ شخص أن يكون كما يشاء، لكن هذا المؤلِف كان له موضوع واحد أساسي: النموّ الذاتي.
بالنسبة لهيسَّه لا يبدو أنّ هذا النموّ قد حمَله على تحمل أيّ مسؤوليات للعالَم الأوسع. في الواقع، على الرغم من أنّ نزعته الفردية كانت تَحمي عقله من جاذبية الفكر الجماعي النازي، إلاّ أنها لم تلهمه أيضًا لأيّة أعمال مقاومة. طور هيسَّه خلال سنوات الذبح “سياسة الانفصال“. قدّم بعض البوادر الحذرة مثل استذكار المؤلِّفين اليهود. لكنّ أفعاله كانت خجولة بما يكفي؛ لدرجة أنّ رواياته أفلتت من رقابة الرايخ حتى عام ١٩٤٣. أدانه زملاؤه المؤلِفون الألمان؛ لرفضه انتقاد النازيين علانية، ولإدارته للحرب في “العزلة الأرستقراطية“، في ريف سويسرا. وصف جورج برنارد محرِّر إحدى الصحف المُعارضة للنازيّة البارزة في فرنسا، هيسَّه بأنّه “ورقة توت للرايخ الثالث”.
هل كنت سأكون أكثر شجاعة؟ أودّ أن أعتقد ذلك، على الرغم من أنني لا أستطيع أن أعرِف على وجه اليقين. النقطة المهمة هي أن كل نموّ هيسَّه كان شبيهًا بالمرآة، إذ لم يهتم أبدًا بإشراك العالم الأوسع. أراد هيسَّه قبل كل شيء أن يُترك وشأنه. عام ١٩٤٣، كان يعمل على لعبة الكريات الزجاجية، وهي رواية خيال عِلمي هادئة وطوباويّة تُبجِّل فن التطوير الذاتي. في ذلك العام، مع وجود مسلَخًا في أوروبا أخبرَ ابنه أنّ الرواية قيد التنفيذ قدَّمت له “عالمًا نقيًّا تمامًا يمكنه العيش فيه، وخالٍ من جميع المخاوف المباشرة”.
كتب إيكيو، شاعر زنّ من القرن الخامس عشر: “كوآن واحد فقط مُهم”: “أنت”. يبدو أنّ هيسَّه سيوافق على ذلك لا سيَّما أنّ حياته وعمله قدَّموا لنا دراسة لتقدير الذات المتفانية. إلى حدٍّ ما، إيكيو على حقّ. إذا بقيتَ غامضًا على ذاتك فسوف تلفّ وتدور خلال الحياة دون أيّ إحساس بكيف أنّ الشيء الذي تسمّيه ذاتك قد صنعَ حياتك. كان هيسَّه مُدافعا شرسًا عن الفحص الذاتي ولهذا لا يزال عمله ذا قيمة.
سنعمل جميعًا لإقناع ظلّنا محاولينَ إثارة أيّ كيمياء داخلية في ذواتِنا. اعتقد الهيبيون أنّ هناك شيئًا ما بداخلهم متلألئًا ينتظر إطلاقه. وجدوا روحًا عشيرة في هيسَّه. جذبني أيضًا، عندما كان عمري تسعة عشرَ عامًا وتأخرت في حفلة الهيبيز حينَ اعتقدت أنّ المزيج الصحيح من المعزوفات المنفردة على الجيتار، والفِطر السِّحري، والمذكرات الجادة ستندمج في أيّ لحظةٍ في التعويذة الكبرى، ولن يكون هناك المزيد من الأسرار ولا الساعات الموقوتة.
عدّت حياة هيسَّة -في نهاية المطاف- وعمله بمثابة تحذير أيضًا؛ إذ توضّح كيف يمكن أن يُصبح اجترار إمكانية تحقيق الذات أشبه بالرمال الذهنية المتحركة. من الخطر أن تتوقف عن معايرة التأثير الذي تحدثه في العالَم خارج جمجمتك. من السَهل جدًا الخلط بين الاجترار والنموّ نفسه. صنعَ/ويصنع العديد من الهيبيين رغم صدقهم نسخة من ذات الخطأ. في مرحلةٍ ما يجب أن يكون تطوير الذات وسيلة وليس غاية.
تبدو رواياته وكأنها شخص يتاجر بجحيم الآخرين من أجل إثارته العقلية
النرجسيّة النفسيّة لا تزال نرجسيّة، النرجسيّة الروحيّة لا تزال نرجسيّة. نرى هذا مع هيسَّه الذي تأثَّرت مشاعره في حياته وخياله. أعتقد أنّ هذا هو سبب استمراره اليوم كواحد من هؤلاء المؤلِفين الذين يكون معظم معجبيهم من الشباب بشكلٍ حصري تقريبًا. في “سيرته الذاتية للروح”، لا يبدو أنّ هيسَّه يفلت أبدًا من هذا الانطباع الذي تفوح منه رائحة المراهقة، لدرجة أنّ مشاعر المرء فريدة بقوةٍ من حيث الشكل والحجم. جذاب بلا هوادة حول قدرة المرء على التعاطف؛ اليأس بلا هوادة من قدرة المرء على اليأس.
أعرب هيسَّه، عام ١٩٥٥، عن انزعاجه “من قراءة تلاميذ المدارس -وإثارة حماسهم- لـ ذئب البراري؛ الحقيقة هي أنني كتبت هذا الكتاب قبل وقت قصير من عيد ميلادي الخمسين”. ولكن مثل جميع رواياته فإنّ الجوهر العاطفي لـ ذئب البراري، يناسب تلميذ أكثر من رجل في منتصف العُمر. الشعور بأنّ المرء مرفوض من قِبل العالَم أجمع؛ أن تصوّره للأشياء أكثر وضوحًا من تصوّر أيّ شخص آخر، وعليه يشعر بالوحدة هذا هو مزاج الانغماس في نفوس الشباب القلق. هناك شيء جميل وصحيح في هذه المرحلة من الوجود؛ لكنها تمتلك نوعًا خاصًا من الانغماس في الذات يتعلّم الناضجون في النهاية احتواءه. جميع أبطال هيسَّه في صورة منشئهم، منغمسون في أنفسهم بشكلٍ مذهل. كانت السنوات التي استمتعت فيها كثيرًا بهيسَّه هي السنوات التي كنت خلالها في أقصى درجات الانغماس في نفسي.
أخبرني مارك هارمان مترجم رسائل هيسَّه، أنّه “على الرغم من تمرد هيسَّه ضد والديه المتدينيين، إلا أنّه احتفظ ببعض قِيَمِهما الأساسية”. وفوق كل شيء، لم يخرج هيسَّه أبدًا من تحت بديهية “التقوى” أنّ الأشياء الموجودة هُنا فاسدة منذ البدء على عكس السماويّة. هذه هي الطريقة الرئيسة التي أخطأ بها الهيبيّون، الذين لم يكن لديهم أيّ تأنيّ عن ملذات الحواسّ في قراءة هيسَّه. في نهج هيسَّه للكتابة والحياة، أعاد تلخيص الفكرة الدينية القديمة: العقل أسمَى من المادة. يصف اكتشافه للكتابة في طفولته -ببهجة- بأنّها مكّنته من الشعور بأنّه “منعزل عن العالَم ونقيّ”. بالنسبة له، كانت الكتابة شرنقة من اللامادية المباركة. كانت ذاته كهف يتسلّق إليه ويَحتمي فيه بعيدًا عن ضوء النهار، وحرص على أن يُبقي مسافة بينه وبين العالَم الخارجي. أمضى سنواته الأخيرة في كوخه الهادئ يكتب مئة وخمسون صفحة من الرسائل إلى الغرباء كل يوم، فيما كانت لافتة معلَّقة على بوابته الأمامية، تقول: “لا زوَّار من فضلِكم”.
في النهاية، يجبرنا بحث هيسَّه عن الحكمة على مواجهة سؤال حاسم: هل تفضّل روحك أو العالَم؟ تقول إحدى الشخصيات في لعبة الكريات الزجاجية: “لنوجّه نظرنا إلى الداخل، ثمّ سنكتشف الكون المتجسِّد”. تبدو رواياته وكأنها شخص يتاجر بجحيم الآخرين من أجل إثارته العقلية. ربما تعتقد مثل هيسَّه أنّ معرفة الذات تكون أكثر قيمة عندما تدّعي نقاءً فكريًا. أعطني صمتي وعُزلتي ونصوصي. لكن هناك وِجهة نَظر معاكسة: تُعاش الحياة في تناغمٍ مع الأرواح الأخرى؛ وإلاّ فإنها ستتحوّل خرابًا. تتحسَّن من خلال المحبَّة؛ وإلاّ ستخسر.
تحتوي روايات مثل: ديميان، وسدهارتا، وذئب البراري، ولعبة الكريات الزجاجية، على رؤىً حقيقية. حاول جميع الحكماء مثل هيسَّه الحفرَ في شخصياتهم. ولكن إذا نظرنا إليها ككلّ فإنّ عمل هيسَّه وحياته يثبتان أنّ الفحص الذاتي عبارة عن أزمة. يمكننا أخذ كتابات هيسَّه ونرى بأنفسنا ما يمكننا أن نجد في رحلات استكشاف الذات هذه. ولكن إذا كان العالَم المُضطرب والفوضويّ للأرواح الأخرى مُهِمًّا بالنسبة لك، فاسبح عائدًا إلى السطح؛ ففي هذهِ الحياة، ستأخذك النظرة الداخلية إلى منتصف الطريق فحسب.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.