إن «أوبنهايمر» -وهو كناية عن القنبلة الذرية- ليس سؤالًا فيزيائيًا، ولا موضوعًا في السرد السينمائي والنقد الفني، ولا مسألة في التأريخ وكتابة الأدبيات؛ «أوبنهايمر» في الحقيقة معضلة عتيقة في ميدان الفلسفة الأخلاقية: هل يجوز التضحية ببعض الناس من أجل باقي الناس؟
الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بموقعك في فلسفة الأخلاق: إن كنت ممن ينتمون للمذهب النفعي على غرار جيرمي بنثام أو جون ستيوارت مِل، فإن أخلاقية الفعل معقودة بعواقبه النهائية، فإن غلبت الفائدة النهائية على الضرر المؤقت فإن الفعل جائز أخلاقيًا؛ أما إن كنت كانطيًا من مدرسة الواجب الأخلاقي، فإن التضحية بالبشر فعل شنيع، لأن حياة الإنسان، وكرامته، غاية في ذاتها ولا ينبغي أبدًا أن تكون وسيلة.
تسويق مبالغ فيه!
لا أظن أن فيلمًا روّجته آلة التسويق الأمريكية الجبارة، منذ بداية الألفية الثالثة، ومهدت الطريق لنفاد تذاكره، ورفعت من توقعات استقباله لدى الجمهور إلى هذا المدى – مثلما هو حال فيلم أوبنهايمر (Oppenheimer)، للمخرج الأمريكي- البريطاني كريستوفر نولان، الذي يعد العمل الثاني عشر في مسيرته الإخراجية.
فقد روّجت الدعاية للفيلم بوصفه عملًا ملحميًا، لم يسبق له مثيل، وأنه خالٍ تمامًا من تقنيات المؤثرات البصرية الحاسوبية (CGI)، بل وصل الأمر إلى أن وصفه بعض النقاد المخضرمين، كالناقد بول شريدر (Paul Schrader)، بأنه أهمّ عمل في الألفية الثالثة حتى الآن!
ليس هذا غريبًا بالنظر إلى مخرج بحجم نولان، الذي ينتظر جمهوره -ومن ضمنهم كاتب هذه السطور- أفلامه بشغف بالغ مفعم بالحماس، ويقدّرون تجربته الإخراجية حق التقدير، بل ويضفون عليها هالة من التقديس الفني. غير أن هذا لا ينبغي أن يعطل مَلكات المرء النقدية، التي تظل في أوقات كثيرة أسيرة تلك الهالة (اعتبرها فالتر بنيامين جدارًا يَحول بين المُتلقي واتخاذ موقف نقدي مع العمل الفني).
بروميثيوس أمريكا
فيلم كريستوفر نولان (أوبنهايمر) من أفلام السِيَر، إذ يقوم في جانب منه على السيرة غير الذاتية للعالم الأمريكي يوليوس روبرت أوبنهايمر (1904 – 1967م) التي حررها كاي بيرد ومارتن شيرون في حوالي سبعمائة صفحة، واستغرقت منهما نحو ربع قرن، في تجميع أطنان من المواد الأرشيفية ومن ثمّ تحريرها، لتكوين صورة دقيقة وأنيقة من قطع الأحجية، التي تمثّل حياة أبي القنبلة الذرية.
جاء عنوان الكتاب: «بروميثيوس أمريكا» (American Prometheus)، من اقتراح المؤرخ والصحفي الأمريكي رونالد ستيل (Ronald Steel)، الذي وافته المنية في مايو الماضي، قبل أن يشاهد الفيلم في عرضه الأول.
لكن لماذا بروميثيوس؟
بروميثيوس في الأساطير الإغريقية هو أحد الجبابرة، الذين تحدوا آلهة الأولمب؛ حين سرق النار التي كانت سِرًا من أسرار قوة الآلهة وقدمها للجنس البشري، الذي كان يعطف عليه، ومن ثمّ فإنه يُدعى أحيانًا بربّ النار. قد يبدو للوهلة الأولى أن المقارنة هنا بين ربّ النار وربّ القنبلة الذرية، ولكن المعنى الذي قصده المؤرخ الأمريكي ربما كان أعمق من ذلك. بروميثيوس في الأساطير اليونانية ليس رمزًا للشر والتدمير، بل على العكس هو مثال للتضحية (فقد عاقبته الآلهة أشد العقاب على سرقته للنار وإهدائها للبشر) والذكاء والعلم والمعرفة (الجذر اللغوي لبروميثيوس يعني المتأمل في عواقب الأمور -وسنأتي لهذه الجزئية لاحقًا)، بل وكان رمزًا للتقنية؛ فلولا النار التي اصطلاها من الآلة ومنحها للبشر، ما كان لهذه المخلوقات الصلصالية الضعيفة أن تحرز أي صناعة ومن ثمّ أي حضارة. النار إذن مثل الطاقة النووية: سلاح ذو حدين. وهنا مفتاح فهم السيرة الذاتية، والفيلم الذي بُنِيَ عليها.
ولكن السؤال: هل بروميثيوس مسؤول عن الشر الذي اجترحه البشر بالنار؟ إجابة هذا السؤال إشكالية، لكنها على علاقة وثيقة بموضوع هذه المقالة.
حيرة مُشاهد
في الواقع خلّفت تجربة مشاهدتي لعمل نولان جانبًا كبيرًا من الحيرة؛ منبعها الشعور بعدم الارتياح بعد تجربة المشاهدة، رغم المستوى الفني البارع -وربما المثالي- لمعظم مكوّنات العمل: تمثيل، ومونتاج، وموسيقى تصويرية، وتصوير، إضافة إلى لغة سينمائية خاصّة يتميز بها نولان عمَّن سواه.
كان هذا الشعور مُربكًا، ومع ذلك كنت على يقين من أن أسبابه لا تعود، من جهة أخرى، إلى المسارات الزمنية المُتعددة للفيلم (التي بالمناسبة يمكن إسقاط أحدها دون أن يحدث خللًا جسيمًا في البنية الرئيسة للسرد من منظور أوبنهايمر)، أو كم المعلومات المُبالغ فيه المُتدفق على لسان الشخصيات -كعادة نولان في الأفلام ذات الصبغة العلمية، إلى حد وصف أحد النقاد الفيلم بأنه أشبه بصفحات داخل موسوعة- أو حتى تسطيح الشخصيات دون الالتفات إلى بنائها بطريقة تُضفي بعضًا من المنطقية على تصرُّفاتها -كل أعمال نولان تقريبًا تتبع هذا النهج؛ فجميع تلك الأمور قد اعتدناها في أعمال نولان وتصالحنا معها بمرور الوقت.
كخطوة أولى حاولت في البداية أن أتخلص من تلك الهَالة التي خلقها الفيلم، ومن التأثير المؤرق للحملة الدعائية التي روّجت له، وأتلمس الأسباب لأصل إلى مباعث تلك الحيرة، التي اكتشفت بعد بعض تأمل أنها تعود إلى ما يمكن تسميته بـ«التوجُّه العام للفيلم». ومع ذلك أزعم أن المسألة لم تُحسم بشكل كامل بداخلي، حتى كتابة تلك السطور.
أطروحة سياسية
يروي الفيلم حياة أوبنهايمر، عالم الفيزياء الذي تولَّى مسؤولية مشروع مانهاتن الشهير، وأشرف على تطوير القنبلة الذرية التي دمرت هيروشيما وناغازاكي. وعلى الرغم من أن أوبنهايمر دعا في البداية إلى استخدام الأسلحة الذرية واحتفل بقصف اليابان، إلا أنه غيّر موقفه فيما بعد وكرّس حياته للدعوة إلى تنظيم الأسلحة الذرية، كما طالب بنظام عالمي من الضوابط والتدابير، حتى لا يقع العالَم فريسة للحرب النووية؛ ما عرّضه لحملة تشكيك في ولائه للولايات المتحدة الأمريكية، واتهاماته بالانتماء للشيوعية في عصر كانت المكارثية في أوجّ انتشارها الوبائي. هذه هي قصة الفيلم باختصار، لا جديد فيها عما هو متداول!
وخلافًا لما اعتاد عليه نولان في أفلامه السابقة، ربما باستثناء دونكيرك، فالسياسة هنا حاضرة بقوة جوار الفن والتاريخ؛ ولن يخطئ أحد في أن يدرك أن الفيلم، الذي يمتد لثلاث ساعات، ويفترض أنه سيرة ذاتية لعالم فيزيائي كبير، ما هو إلا أطروحة سياسية شديدة الوضوح، وفي الوقت نفسه شديدة الإرباك؛ لأنك تستطيع أن تقرأها بأكثر من طريقة. وربما هذا هو السبب الرئيس لانعدام الراحة، الذي قد يخرج به المشاهد للفيلم.
لكن قبل أن أتطرق إلى أطروحة نولان (التي قد تكشف جانبًا مجهولًا منه لم يتضح في أعماله السابقة)، أودّ الإشارة إلى أن التضامن الأيديولوجي مع الغرب قد تأثر بشكل كبير بمجاز «نهاية الأيديولوجيا»، الذي دفع به فرانسيس فوكوياما في نهاية الحرب الباردة، ومؤدَّاه: إن نهاية الحرب الباردة كانت «نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وعالمية الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل النهائي للحكومة البشرية».
بعبارة أخرى، لا يحتاج البشر، أو لا يوجد مجال لمزيد من «التقدم» الفكري؛ لأن الديمقراطية الليبرالية تشير إلى «الشكل النهائي» للحكومة البشرية. إحدى نتائج هذا اليقين هي أنه لا أحد من المفترض أن ينظر خلف الشاشات لمعرفة من ولماذا يحدث التلاعب بالمشاهدين في رواية القصص والسرديات.
البطل المأساوي
دعونا نعود إلى أوبنهايمر. في الواقع لا يهتم عمل نولان بمناقشة القناعات السياسية كالليبرالية والنازية والشيوعية. وعلى الرغم من أن الانتماءات الشيوعية لأوبنهايمر محورية في السرد، إلا أنه بذل كل ما في وسعه لإظهار أن بطل الرواية ليس مقيّدًا بالعقيدة الماركسية، ولكن بالمسارات الطبيعية للفكر الفردي، بحيث تؤطر الميول الشيوعية لأوبنهايمر، بشكل أساسي، بخلفيته العلمية العالمية. في هذه النقطة تحديدًا، عدم الوقوع في شرك الإدانة لأي عقيدة سياسية، نجح نولان في إدارة المسألة باحترافية كبيرة.
أوبنهايمر (كليان مورفي في دور سيُخلَّد في التاريخ)، يصوّره نولان، منذ البداية، كبطل مأساوي يثير تعاطفك بشكل لا إرادي. هذا المدخل النفسي للشخصية الذي أثار تعاطفنا منذ المشاهد الأولى، سيبني عليه نولان سرديته طوال العمل. من جهة أخرى أخرج لنا نولان في «ملحمته» شخصًا غير عادي؛ أوبنهايمر الذي يهتم بالعالَم بأسره بطريقته الخاصة، ويتبنى قضايا مثل: الحرب الأهلية الإسبانية، وتكوين نقابات للعمال، ويظهر اهتمامه بكتابة كارل ماركس. وهو يجيد عدة لغات، ولديه قدرة فذّة على تعلُّم المزيد منها في زمن قياسي؛ فمن المعروف أنه تعلَّم اللغة الهولندية في ستة أسابيع فقط؛ ليُلقي بها محاضرات حول ميكانيكا الكمّ، في هولندا!
وقد نجح نولان بجدارة في إظهار ارتباك شخصية أوبنهايمر ورصد صراعه الداخلي المليء بالتناقضات، فهو مستعد لارتكاب إبادة جماعية (كان على بيّنة من البداية بكل النتائج المُتوقعة من إشرافه على مشروع مختبر لوس ألاموس)، ومع ذلك يظهر الندم على أفعاله؛ وهو منفتح على الأفكار الشيوعية، لكنه لم يصبح عضوًا مُخلصًا في الحزب. وبينما يكن لزوجته الكثير من الحب والتقدير، لا يمكنه أن يلزم نفسه بأن يكون مُخلصًا لها حقًا. لقد بدأ أوبنهايمر مدمرًا للعوالم (كما وصف نفسه)، لكنه انتهى مُدافعًا ضدّ سباق التسلُّح النووي!
لعبة نولان المفضلة
إن فهمنا للأحداث وتداعيات القرارات التي نتخذها هو نتيجة لتفاعل الذاكرة والوعي. في الواقع تُثير البنية السردية اللاخطية للسرد أسئلة فلسفية حول الذاكرة والوعي، ودورهما المتواصل في مراجعة الذات والتفكير في عواقب الأمور. من هذه الزاوية، نجح عمل نولان كثيرًا في دمج الاثنين وتجسيدهما بعبقرية في الخط الزمني الخاص بأوبنهايمر (الرواية من منظوره الخاص في المشاهد المُلونة)، حيث هذا الصراع الداخلي الرهيب، الذي جسّده مورفي بشكل مثالي لا يمكن نسيانه أبدًا. لذا جاء هذا الخط الزمني في شكلٍ أيقونيّ كأهم مسار للقصة، وهو يُؤسس لعمل فني مستقل بصرف النظر عن المسارات الأخرى.
يتخطّى نولان في فيلمه عالَم السيرة النموذجية، متجاوزًا الحقائق التاريخية للتعمُّق في الأبعاد الفكرية والنفسية لحياة أوبنهايمر، وهو يقسّم البناء السرديّ الزمنيّ إلى ثلاثة مسارات، وفي كل مسار تتكشّف العديد من المُعضلات الأخلاقية العميقة التي تنشأ وليدة أسباب مختلفة تعود جميعها إلى الشرّ المتأصل في الطبيعة الإنسانية.
كما يتحدث الفيلم في عدة مواضع عن أحد مبادئ فيزياء الكم العجيبة، والتي تفيد أن مجرد مُراقبة الظواهر الكموميّة كافية إلى تغيير نتائجها، وهو ما لم يقبله آينشتاين وثبت أنه مخطئ لاحقًا. يوضّح المونتاج هذه الحقيقة الكمومية من خلال إعادة صياغة تصوُّرنا للحدث باستمرار لتغيير معناه، ويقوم السرد بذلك عن طريق إضافة معلومات جديدة تُقوّض أو تتناقض أو تُوسّع إحساسنا بسبب قيام الشخصية بشيء ما، أو معرفتنا سبب قيامها بذلك.
بطل أم مجرم؟
لكن بصرف النظر عن المعالجة الفنية للفيلم، والتي أتركها لآلاف المراجعات الأخرى التي ستتناولها حتمًا، ما يهمني هنا هو الإشارة إلى أن الأطروحة السياسية لنولان تتجاوز مساءلة الانتماءات الأيديولوجية، وأن المأزق الحقيقي الذي وضعنا فيه يتمثل في أنه صرف النظر عن الإدانة الحقيقية لأوبنهايمر عن طريق خلق حالة تعاطف حقيقية معه.
لقد جعلنا جميعًا وبلا وعي، نتمنى أن تنتهي جلسات التحقيق معه بإثبات ولائه وعدم سحب رخصته الأمنية، رغم أن هذه ليست هي المشكلة الحقيقية هنا؛ ما خلق حالة تعاطف مع مُجرم في جُرْم شنيع ارتكبه، يمكنك أن تدفع الناس للتعاطف معه إذا أشعرتهم بظُلم فادح واقع عليه. هذا كفيل لأن يصرف الأنظار عن الجريمة الأساسية أو أن يدفع البعض إلى التفكير بمنطق: «لقد دفع ثمن ما اقترفه من آثام»؛ فتصل بهم إلى حالة من التسوية المُرضية عاطفيًا. لكن الحقيقة الثابتة هنا أن جُرْم التسبب في كارثة بهذا الحجم لا يمكن تطهيره بجلسات تحقيق سرّية أو بندمٍ لن يُعيد الضحايا إلى الحياة مرّة أخرى. إن الأمرَين لا يستويان أبدًا.
قد يسأل سائل وماذا كان بمقدور نولان أن يفعل؟ أليس هذا ما ما ورد في السيرة غير الذاتية لأوبنهايمر؟ في الواقع قد يحتج هذا السائل نفسه في موقف آخر بأن العمل الفني ليس وثيقة تاريخية وأن المخرج من حقه معالجة ما يراه من وقائع تاريخية ليخدم للتماشى مع مشروعة الفكري ورؤيته الفلسفية. ومع ذلك فليست المشكلة بالتأكيد في تجسيد الحدث نفسه، بل في طريقة تقديمه للمشاهد بطريقة يُتلاعب فيها بمشاعره.
وفي ظلّ عدم وجود صور صريحة لأهوال هيروشيما وناغازاكي، يدفع نولان الجمهور إلى التعامل مع المآزق الأخلاقية للفيلم من خلال التأثير المُتخيل لأوبنهايمر على المارة الأبرياء، لكن هذه الصور الباهتة لم تكن مُعبرة أبدًا عن حقيقة الفاجعة ولا تأتي في حجم كارثة راح ضحيّتها مئات الآلاف من الأبرياء دون مُبرر حقيقيّ لذلك.
من الأمور اللافتة أن التبريرات التي يلقيها نولان على امتداد العمل، والتي توحي ببعض المشروعية الزائفة للمأساة (لو لم نفعلها لفعلها الألمان- لنخلق عالمًا بلا سلاح نووي لابد أن يتجرع العالم ويلاته أولًا… إلخ)، لا تصمد أمام أي تحليل أخلاقي سليم، ومع ذلك يتركها نولان مُعلقة في فضاء العمل دون تفنيد أو رد!
حتى استخدامه للموسيقى لا يفهم إلا أنه وظفّها لخلق شعور إيجابي لدى المُشاهد تجاه اللحظات الحاسمة (تجنيد العلماء- مراحل صنع القنبلة- وقوع المأساة…). من ناحية أخرى لم يُرجّح الفيلم ما بات مَعروفًا من أن الحرب كانت قد انتهت تقريبًا، وأن اليابان كانت على شفا الاستسلام، وأن الهجمات الذرية التي قتلت عشرات الآلاف من المدنيين كانت مُجرد إثبات للقوّة التدميرية الغاشمة، والغطرسة الأمريكية المتوحشة.
الإدانة الأخلاقية
السؤال الأخلاقي هنا ماذا لو رفض أوبنهايمر الإشراف على مختبر لوس آلاموس؟ قد تأتي الإجابة عن هذا السؤال بأنه من المؤكد أن آخرين كانوا سيقبلون وأن النتيجة لم تكن لتختلف كثيرًا. لكن في الواقع هذه إجابة لا علاقة لها بالسؤال، ففيلم نولان بأكمله يركز على فكرة حدود المسؤولية الفردية ويسعى لتأطيرها، ليرسم حدودًا بينها وبين المسؤولية السياسية. وفي حين أنه يدين الثانية بشكل صريح، إلا أنه حاول أن يُبرئ الأولى، ويطهرها من خطايا قراراتها.
قد تكون الإجابة المباشرة عن السؤال وببساطة: إذا رفض أوبنهايمر المشاركة في هذا المشروع لما كان يمكن تحميله خطايا عقباته. حتى لو سلمنا بمشروعية الإجابة الأولى لما اختلفت النتيجة كثيرًا؛ فإن الفيزياء التي يهيم بها نولان تقول لنا إن التغييرات البسيطة جدًا قد تُحدث أثرًا كليًّا بمرور الوقت لا يمكن التنبؤ به أبدًا: أثر الفراشة. إذن بمنطق الاحتمالات نفسه يمكننا الإجابة بأنه ربما كان من الممكن تفادي هذه الكارثة التي أودت بحياة مئتيّ ألف بريء!
نعم، أوبنهايمر مجرم! ومهما كان قَدْر الندم الذي أبداه فإنه لن يصلح أي شيء مما أفسده، وخطيئة نولان في عمله أنه مارس تمويهًا على هذا الأمر، حتى لو أكد في المقابل على إجرام رجال السياسة وعلى الاستخدام اللاأخلاقي للعلم.
نحن لا نتصالح في الغالب مع السياسيين الذين ارتكبوا مجازر يندى لها جبين التاريخ، مهما حاولوا التكفير عنها. فماذا لو خلع العالم معطفه وارتدى الزي العسكري أو بزّة السياسي؟ هذا ما حدث حرفيًا في أحد مشاهد الفيلم.
إذن، لماذا كان هذا السعي الدؤوب من نولان للوصول بالمشاهد إلى حالة من التسوية المحايدة عاطفيًا تجاه أوبنهايمر؟ قد تكون الإجابة الأقرب إلى المنطق هنا أنها محاولة من نولان لتطهير أمريكا من خطيئتها الكبرى، وأن إبداء الندم، لا أكثر، كافٍ ومناسب لحجم الجريمة!
هذا لا يعني أننا نطالب نولان بالحياد، فليس مطلوبًا من المبدع أن يكون محايدًا -فالعين المحايدة هي العين الميتة، كما يقول سارتر- لكن حسبنا من الحياد ما ينادي به الفيلسوف والناقد السلوفيني الماركسي سلافوي جيجيك، الذي يقول إن لا فائدة من ادعاء الحياد أو توخيه؛ فالحياد المطلق وهم؛ لأن جميع الناس وعلى رأسهم الباحثون والمثقفون والصحفيون والفنانون لا يخلون من مختلف صنوف التحيز، وإنما الحياد في رأيه هو أن يعترف المرء بتحيزاته بنزاهة وشفافية ويعرضها للنقد والتحليل. وهو ما لم ينجح فيه نولان في الغالب.
الجحيم النووي
لكن على صعيد آخر، يُظهر فيلم «أوبنهايمر» كيف غيّرت القنبلة الذرية فهمنا للموت؛ قبل القنبلة، غالبًا ما كان يُنظر إلى الموت على أنه جزء طبيعي من الحياة. ومع ذلك، جعلت القنبلة الموت يبدو أكثر عشوائية وتعسّفية: بضغطة زر تُستأصل مدن بأكملها. أحلام، وتطلعات، وحيوات تتلاشى وتنصهر! فما معنى الحياة؟ وما قيمة الوجود؟
الجانب المضيء في العمل هو تركيزه على دور الفرد -لا سيما العلماء- في تشكيل التاريخ وحدود مسؤولياته. عندما وجهت انتقادات عديدة لفكرة الحرية المطلقة التي نادى بها سارتر في صياغته الأولى لها، ربطها بالمسؤولية ليقيد تلك الحرية ويؤطرها بفكرة عواقب الأمور وما تؤول إليه، ببساطة «إذا كنت حرًّا في قراراتك فحريتك لا بُد أن تكون مسؤولة، فأنت لا تختار لنفسك فقط بل تختار للآخرين أيضًا»؛ فما بالنا إذا كان قرارك سيترتب عليه مصير العالم بأكمله.
ربما أراد نولان أن يقول لنا إن المسائل الأخلاقية ليست دائمًا أبيض وأسود، فهناك ظلال رمادية ينبغي أن نراعيها وننظر لها. وكما أن للعلم جانبه المُضيء فإنه يحمل إمكانات مأساوية. لكن هذا المعنى الذي أراد نولان ترسيخه في أذهاننا، يتضاءل كثيرًا أمام المأساة التي حدثت. في النهاية لن تخرج من الفيلم بإدانة صريحة وواضحة لمأساة اليابان، لأن الفيلم يُربكك ويفتح مسارات فرعية عديدة تضيع فيها القضية الرئيسة.
مفارقة بروميثيوس
حتى أوجز ما سبق، أعود لأمسك بلحظة الحيرة التي تركني فيها الفيلم -والتي بدأت بها مراجعتي-، حيث يمكنني القول إن عمل نولان -الذي سُوِّق له بمُبالغة- يُقلّل من شأن المعاناة الهائلة وخسائر الأرواح التي سببها تفجير القنبلة. وفي المقابل يجسّد لنا أوبنهايمر وأمريكا ككيانات نبيلة، بينما يُلقي باللوم على السياسيين والمستغلين الذين أساءوا التصرف. فكأن نهاية الأيديولوجيا هنا هي نهاية لتاريخ المهزومين، وأن البشر يمكن أن يكونوا وسيلة، ولا عزاء لواجب كانط الأخلاقي.
أما إذا أحسنت الظن بالعمل، فربما يمكنني القول إن أفضل ما خرجت به منه هو التأكيد على هذه الحقيقة: لقد أحرزت البشرية تقدمًا علميًا وتكنولوجيًا كبيرًا -منذ أن سرق لها بروميثيوس النار-، لكنها استخدمت التقدم أسوأ استغلال في الحروب العظمى بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين أيضًا، كما أن من الصعب التسويق للحجة القائلة بأنها أحرزت تقدمًا أخلاقيًا موازيًا؛ إذ كل ما فعلته في هذا السياق هو زيادة كفاءة قتل الناس. وهنا مفارقة بروميثيوس: الناظر في العواقب لكنه لا يحسب لها حساب!
وفي النهاية، لا يسعني إلا أن أختم بما ورد في كتاب: «ديالكتيك التنوير»، لأدورنو وهوركهيامر: «إن تاريخ البشرية هو تاريخ الانتقال من استخدام المقلاع إلى القنبلة النووية».