اختار المخرج التونسي لطفي عاشور الطفل علي حليلي لأداء دور البطولة في فيلمه “الذراري الحُمر” 2024، وحصد به جائزة الأداء في مهرجان فانكوفر السينمائي العالمي، وهو الفيلم الذي حصد عددًا من الجوائز في مهرجانات عالمية، وآخرها جائزتين من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الرابعة الأولى جائزة اليسر الذهبية لأفضل فيلم طويل، والثانية لأحسن إخراج حصدها لطفي عاشور، وقد وفّق المخرج باختيار الطفل علي الذي قام بدور أشرف، فوجهه الذي تصدّر بوستر الفيلم بنظرته المترقبة، وشرود عينيه، وسقوط سنه، وبلوفره الأحمر، فهذا البلوفر يَعد برحلة لا تقل خطورة عن رحلة ليلى ذات الرداء الأحمر، وترقب الذئب المتربص دوما، فما الذي يعدنا به لطفي عاشور؟
غياب الذئب
عندما اتُّهم الذئب في قصة نبي الله يوسف كان مظلوما، وحضر الذئب في مشهد الحدث بدم مزوّر لنعجة على قميص يوسف، فصدق القميص، وكذب الدم، واتُّهم الذئب زورا وبهتانا، ولكن أي ذئب ظفر بهذه الشهرة الباطلة؟
انتخب لطفي عاشور اسم “الذراري الحمر” لفيلمه، فمنح الفيلم محلية للمكان انطلاقا من الاسم الذي يعني الأطفال بالدارجة التونسية، وألزم أطفاله مهنة تتجاوز أعمارهم، وهي مهنة الرعي بخراف بين الجبال.
لحظات سعيدة يبدأ بها الفيلم، ولأن دوام الحال من المحال، انتقل بصدمة تنكث السعادة التي تم تقديمها، نعم “التغير أكثر أصالة مما عسى أن يظن المرء في الوهلة الأولى” كما يقول هنري برجسون في كتابه التطور الخالق، والتغير أو المفاجأة سمة محببة في السينما تلعب على إلقاء الخطاف للمشاهد من الدقائق الأولى، وتصعيد أنفاسه مبكرا، وأثناء الوهلة الأولى قبل أن تفوت، وبسرعة خاطفة! أثناء الوهلة الأولى تعرفنا على طفلين أو فتيين أولهما نزار الذي يبدو أكبر من قريبه أشرف، حيث يسير أشرف بتوجيهات نزار، ويسبحان في نبع ماء، ويعبثان بإدخال رأسيهما في الماء؛ غير مدركين ما ينتظرهما!
لا يظهر ذئب في المشهد، وعادة ما يتربص الذئب بالنعاج، ويغيب الكلب أيضا عن الحراسة، فكأنما خرج الطفلان في طريق لا ندرك لونه، ويشير إليه المخرج لطفي عاشور في ترجمته الإنجليزية ” RED PATH ” المسار الأحمر، وهذا ما حدث بانقلاب لون المسار بصدمة في الوهلة الأولى!
الأحمر كبير عليك
يغيب الاثنان: (نزار وأشرف) عن الوعي، وتخرج الصورة وكأنها في سياق حلم، وتغيب صورة من يحيط بنزار وأشرف، في تغييب قسري للذئب المتهم الذي ادخر جريمته منذ قرون لهذا اليوم، وتبدأ الصدمة دون مقدمات!
رأس نزار خارج جسده، ويُعطى الرأس لأشرف في حقيبة قماشية لا تقي من تلطخها بدماء حمراء، وكأن اللون الأحمر قدر أشرف في لباسه ومساره الافتراضي، والحقيبة الملطخة بالحُمرة، والأحمر دال رمزي محيّر مرتبط بالدم والحب والغضب.
يتراوح الفيلم ما بين بداية تشبه الحلم وليس بحلم، وواقع أشبه بحلم، ويسير الفيلم بأحداثه المتوترة بقسوته، فوجه أشرف بسنه الساقطة نذير مصيبة كان علينا أن ندركها منذ البوستر، فعن شريك بن أبي نمر فيما أورده السيوطي في المحاضرات والمحاورات قال: قلت لسعيد بن المسيب -وهو من هو في تأويل الرؤى والأحلام- : “رأيت في النوم كأنّ أسناني سقطت في يدي ثم دفنتها، فقال: إن صدقت رؤياك دفنت أسنانك من أهل بيتك”، وأسناني الأولى في النص أي ضروسي، وأسنانك الثانية أي الأكبر منك سنًا، فكان الأمر في الفيلم بقضية يحملها أشرف وهي دفن نزار برأسه وجسده، وحضور الرأس دون الجسد، أليس هذا الأمر كبير على أشرف ابن الثالثة عشرة؟
أكثر من فقد السن
فقد السن ليس مجرد حدث فيسيولوجي ينتهي بسقوطه! فالأصل أن ينبت بدلا عنه عند الأطفال، ولكن من هو في عمر أشرف لا أمل في بديل، فلم يعد طفلا، ولم يبلغ الرجولة، فليت هذا الفقد جاء متقدما، فهو ما زال صغيرا/كبيرا، ومع ذلك كان الحمل ثقيلا على مثله. فقد السن، فقد الصديق القريب، فقد السعادة بالخروج واللهو؛ ليصبح الأمر بعدها مختزلا في “كيف ينقل الرأس؟”، ولأن المصائب والمهام لا تأتي فُرادى، توالت لتكون مهمته إيصال أهل نزار لجسده، وإطلاق كلبي نزار اللذين ادخرهما في الرحلة؛ ليخرجا بحثا عنه، وكأن رمزية الفقد ابتدأت بالسن، وفقد جزء من الجسد، وتخرج لفقد صديق وقريب، وتتعملق لفقد الأمان والاطمئنان، وخاصة بعد لوم أشرف لنفسه بعد قلة حيلته أمام الحدث الذي قدمه عاشور شيئا فشيئا، فعملية الكشف تدرجت بلغة سينمائية محفزة، كاشفة العلاقات ما بين أطراف الحكاية: أشرف والفتاة التي يحبها نزار دون أن تحبه، وبناء سردي ما بينهما بلباس أحمر، وعلاقة أشرف وأمه بخالتهم التي فقدت ابنها بينما سَلِم أشرف، فهل تفرحان الخالتان أم تحزنان؟ يتعقد الأمر حين تقف عاجزا ما بين الفرح على السلامة، والحزن على الفقد.
التعويض المنقوص
لم يعتنِ أشرف بشيء بعد فقد نزار، بمقدار عنايته بالفتاة التي أحبها صديقه، فالصدمة أنها لم تنظر لنزار بهذا القدر من الانتظار، ولأن التغيير هو جوهر الحياة وسنتها، وطبيعة الفقد أن يُسهم في إعادة ترتيب أنفسنا، كان على أشرف والأحداث أن تتطور بشكل درامتيكي، ورحلات متقابلة مبنية على حدث حقيقي؛ نجح عاشور مخرجا ومشاركا في الكتابة مع دُرية عاشور وسيلفين كاتينوي، ونتاشا دي بونتشارا، تعاون جميعهم في إظهار حجم بشاعة الحدث ابتداء بفقد السن صُدفة أو اختيارا.
إن فقد السن جزء من فقد النفس، ومع ذلك لا يعني أن نكتسب جزءًا جديدًا بالضرورة، فَقَدْ فَقَدَ أشرف سنّه دون أن يعوضه، وكما فقد صديقه -ومن مات لا يعود!- ؛ غير أن أشرف اكتسب صديقة جديدة، يمنحها ما حفظه من دروس، ويعينها على درسها، ويجد فيها سلوة بعد نزار، لأن فقد الصديق خسارة كبرى لا تُعوّض، وفقدان جزء أثير في النفس لا يُمكن إدراكه، لولا المعالجة الإخراجية باستدعاء عاشور لنزار طوال الفيلم، وكأنه يريد للمشاهد أن يكتشف الوجود في هذا العالم الذي عاقب نزار بسكين الجماعات الإرهابية التي لم يمنحها عاشور شرف الظهور بوجهها، واكتفى بقبح فعلها، فهذا الوجه كثير عليه أن يظهر أمام طُهر هذه الأسرة، بل كثير على الجهاز الحكومي -الذي تأخر عن المساعدة، وحضر بعد الخراب- أن يحظى بشرف إعلامي وقت دفن نزار.
ظل التعويض في علاقة الطفلين، انطلاقا من تسمية الفتاة بالدارجة التونسية بـ (طفلة)، فهل ينقلب اللون الأحمر إلى عواطف، ويستدرك أشرف ما فوته نزار؟
التنويب في الموت والحب
يناقش سارتر في كتابه الوجود والعدم مفهوم هيدجر في شخصانية الموت الفرد، إذ أن الموت ” الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن ينوب غيري عني فيه ” كما جاء مقتبسا في كتاب الوجود والعدم، مواصلا سارتر نقاش مفهوم هيدجر، من منطلق الكوجيتو الديكارتي لإثبات الحقائق بالرهان، والتفكير في الأمر مقاربا الموت بالحب، “إذ لا يمكن أن ينوب عني أحد في الحب”، مستفيضا في الإيثار بتقديم سعادة المحبوب على النفس، من منطلق ما جاء في كلمات سعود بن بندر التي عرفناها بشجن طلال مداح
“منهو حبيبك غايتي بس أهنيه
على حُسن حظه عشانه حبيبك
أنا أشهد إن الله يحبه ومعطيه”
فهل ينوب أشرف عن نزار؟ ويكون المحبوب الذي يغبط حبيبته عليه؟ ويصبح موته نبيلا من أجل قضية نبيلة وضعها سارتر في الشهادة للوطن، وصارت في الفيلم بكسر سطوة الإرهابيين وعدم خوف نزارمنهم باقتحام منطقتهم؟ أو أن نزار كان جاسوسا وعميلا تخلصوا منه؟
استحضرت نقاش سارتر من أجل ما ينطلق به الفيلم من موت الأول محبا للفتاة التي سيأتي البطل من أجل إبلاغها عن هذا الحب، وليكون هو معها بثياب حمر في نهاية الفيلم مقتربين على شفى فراق، وبنهاية تستحق الأسئلة، وبقضية لا تزال سخونتها بحضور مثل هذه الجماعات وسط الأطفال الحُمر قدرا لا اختيارا.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.