حين اتُّهِمَتْ مربية الأطفال البريطانية لويز وودورد بهزِّ رضيع حتى الموت في مدينة نيوتن بولاية ماساتشوستس، لم تكتفِ بإعلان براءتها لهيئة المحلِّفين، بل قررت اللجوء أيضًا إلى كاشف الكذب «لتُثبت» ذلك.
في أواخر تسعينات القرن الماضي مات ماثيو إيبن ذو الثمانية أشهر متأثرًا بإصاباته، وكان منها كسر الجمجمة ونزيف داخلي التي دلَّت على متلازمة الرضيع المهزوز.
اتهمت وودورد مربية إيبن بالقتل، وهي بنت ثمانية عشر عامًا، وبعد ذلك نجحت في اختبار كشف الكذب الذي أصرت فيه على أنها لم تؤذِ الرضيع، لكنَّ ليونارد ساكس الشاهد الخبير في القضية وعالم النفس الاجتماعي والبروفيسور في جامعة برانديز، أدلى بشهادة مفادها أنَّ النتيجة لا يُعتدُّ بها؛ فرغم أنه لم يجزم -ولا يستطيع- بما حدث للرضيع -وقد حُكِم فيما بعد بأنَّ وودورد مذنبة- إلا أنه متأكد من شيء واحد أنَّ اختبار كشف الكذب لا يشير إلى الحقيقة.
اختبار كشف الكذب -كما يُعرف- مقياس للتوتُّر، إذ يُوصَّل الأشخاص بآلة تقيس مؤشراتهم الحيوية -كضغط الدم ونسبة التنفُّس والنبض- أثناء طرح مجموعة من الأسئلة عليهم.
تُقارن إجابات «الأسئلة المنضبطة» بالأسئلة «ذات العلاقة» فإذا كانت الأسئلة الأولى غير واضحة وتتعلق بالماضي وفيها مجال للشك (مثل: هل سبق لك خيانة شريكك؟)، فإنَّ الثانية تطرح أسئلةً مباشرةً عمَّا حدث في قضية محددة (هل أطلقتَ النار على زوجتك في الساعة الثالثة مساءً في الخامس والعشرين من مايو؟).
الفكرة أنَّ البريء سيجيب عن الأسئلة المنضبطة بمستويات مرتفعة من التوتر -حيث إنَّ «الحقيقة» صعبة التعريف في هذه الأسئلة وغالبًا ما تكون مشوشة- مقارنةً بإجابة سؤال متعلق بجريمة أو ذنب يعرف قطعًا أنه لم يرتكبه.
بينما سيجيب المذنب عن السؤال المتصل بالقضية بمستويات مرتفعة من التوتر؛ فإن كان حقًّا أطلق النار على زوجته وصدَّق أنَّ كاشف الكذب يمكنه كشف كذبه، فسيرتفع ضغطه وتتسارع نبضاته. أو هكذا يُعتَقد.
لكنَّ كواشف الكذب -من حيث المبدأ- ينبغي ألَّا يُعوَّل عليها؛ إذ إنه يمكن تدريب شخص خبير للنجاح في الاختبار حتى لو كان مذنبًا، كما أنَّ القلق بطبيعته سيُظهِر درجات توتر عالية بسبب الاستجواب ولو كان بريئًا، وفي قضية وودورد كان استجواب الشرطة المطرد لها قبل المُحاكمة قد جعلها تعتاد الاستجواب.
يقول ساكس: «وقت اختبارها من المحتمل أنها أجابت عن الأسئلة المتعلقة بالرضيع آلاف المرات؛ فأرى أنَّها -من الناحية النفسية- اعتادت على كل الانفعالات المتعلقة بالقضية».
ثم إنَّ جوهر الفرضية التي يقوم عليها كاشف الكذب معيوبة، وفي الحياة الواقعية -خلاف قصة الأطفال بينوكيو- حيث ينمو أنف الولد الصغير كلما كذب- ليس ثَمَّ ردود فعل جسدية مميزة للكذب أو الخداع.
جانب من المشكلة أنَّ عملية الكذب معقدة؛ إذ يقوم المجتمع على كثير من الكذبات البيضاء التي تُشكِّل حياتنا اليومية، فإذا ذهبنا إلى حفلة عشاء وكان الطعام رديئًا، نخبر المضيف أنه لذيذ. ولا أحد يجيب عن سؤال: «هل أبدو سمينًا في هذا الملبس؟» بنعم.
إذا نظرنا إلى أنَّ هذه الكذبات إنما صُنعت لصالح الآخرين، فإنها لا ترتبط بمستويات توتر مرتفعة. خذ هذا خطوةً أبعد، ولن يصعب عليك فهم سبب كذب بعض القادة بكل يسر، ربما يشعر الساسة الذين يكذبون -ويؤمنون بأن هذا لمصلحة مسيرتهم المهنية أو حزبهم أو وطنهم- بشعور إيجابي -لا بالقلق- تجاه الكذب، وربما أيضًا يقنعون أنفسهم أنَّ الشيء المخالف للواقع حقيقي إذا كان لمصلحتهم.
يقول ساكس: «من المشكلة أنَّ الذي يكذب ربما يعتقد أنه لا يكذب مطلقًا، أو أنه صار يصدق الكذبة بسبب تكرارها مرات عديدة؛ فكيف [تقيس شيئًا] لم يعد فيه؟!».
في أمريكا لم تعد كواشف الكذب مقبولة في المحاكم، كما أنَّ استعمالها غير قانوني في أكثر المؤسسات والشركات الخاصة، لكنها ما زالت تُستعمل في استجوابات الشرطة، ويستخدمها مكتب التحقيقات الفيدرالي في تصفية المرشحين، لكنَّ المشكلة الأكبر أنها تُستخدم أحيانًا كأداة لتقييم فرصة رجوع مرتكبي الجرائم الجنسية إلى السجن أثناء فترة إخلاء السبيل المشروط.
لماذا؟ لأنه كله مجرد عرض؛ فربما يساعد كاشف الكذب في استخراج اعتراف أو يردع جرائم مستقبلية. يقول ساكس: «خلاصة الاختبار هي إقناع المختبَر أنَّ كاشف الكذب يستطيع حقًّا أن يكتشف ما إذا كان يقول الحقيقة أم لا. ويفشل كل شيء حين تعي أنَّ كاشف الكذب لا يؤدي وظيفته».
تكمن جاذبية كاشف الكذب للمحققين -في مُفارقة لجهاز يدَّعي كشف الحقيقة- في شعبية التصوُّر الخاطئ أنه يعمل.
هذا من أسباب استحواذ كاشف الكذب على مخيلتنا الجماعية مقتحمًا الثقافة الشعبية بدءًا من مسلسلات الجريمة حتى برامج المواعدة. في إحدى برامج تلفزيون الواقع مثلًا، استخدم المُنتِجون كاشف كذب لفحص مشاعر الأفراد «الحقيقية» تجاه نصفهم الآخر؛ لكي يُثيروا الدراما والفوضى التي تزدهر عليها هذه البرامج.
بالنظر إلى كل هذا، من الجدير معرفة أصول كاشف الكذب، فقد ابتكر خريج هارفرد وعالم النفس والمحامي ويليام مارستن نموذجًا منه في بدايات القرن العشرين، وادَّعى أنَّ دقة جهازه تصل إلى 97 بالمئة.
من اللافت أيضًا أنَّ مارستن هو مؤلِّف: «وندر وومن» في القصص المصورة، وقد خلق عالمًا خياليًّا يتغلَّب فيه الخير على الشرَّ دائمًا، ومن الأشياء التي ساعدت وندر وومن هو «وَهَق الحقيقة»، وهو سلاح تستعمله؛ لتجبر أعداءها على قول الحقيقة.
يذكر جيوفري بَن -وهو مؤلف كتاب: «آلة الحقيقة: تاريخ اجتماعي لكاشف الكذب» أنَّ كواشف الكذب كانت «خرافة، ولا زالت. فوَهَق الحقيقة وكاشف الكذب كلاهما شيئان خُرافيان، والأكاذيب لا تكتشف».
الأكثر من ذلك أنَّ كاشف الكذب وليد عصره؛ حيث نشأ على يد «مروجي أخبار الإثارة والإجرام في الصحف، ومن آمال تقدُّم العلم في ذلك العصر، ومن خلال تحوُّل جهاز الشرطة الأمريكية إلى قوة احترافية»، وكلها أرادت توظيف العلم في حل الجرائم، وإن اعتراه القصور.
إذن لقد وُلد من الحاجة الإنسانية لعالم عادل ومُنصف، يُعاقب فيه المجرمون، وينجو فيه البريئون. عالم تصير فيه «الحقيقة» موضوعية ملموسة، وتطارد فيه «الأكاذيب» ويُعاقب عليها.
لكنَّ وَهَق الحقيقة لوندر وومن خيالي، ويقول بَن: إننا لن نستطيع أن نصنع آلة تشابهه؛ «لأننا غالبًا ما نكذب على أنفسنا، وكثيرًا ما نكون غير واعين بالأكاذيب التي نعيشها». وكما يقول: «حياة الإنسان يميزها الإبهام واللَبس»، وهو شيء لا يراعيه كاشف الكذب.