مقابلات وحوارات

سينما المؤلف | حوار مع محمد ملص

حاورته: بلقيس الأنصاري

لتحميل الحوار :  حوار محمد ملص

1- المخرج السينمائيّ والكاتب القدير محمد ملص، يسعدنا ويشرّفنا استقبالك لإجراء الحوار؛ بدايةً حدّثنا عن الدور الذي لعبه معهد موسكو للأفلام في تجربتك السينمائية، وما الذي دفعك لتتحوّل من دراسة الفلسفة إلى  دراسة السينما؟

أسعدني أن يكون معهد السينما بداية الحوار بيننا؛ لأروي «بوثائقية» اللحظات الأخيرة التي جرَت بيني وبين معلمي «تالانكين»، الذي أعدّني في سنوات المعهد الخمس. يومها كنّا قد خرجنا من صالة السينما، بعد عرض فيلم تخرّجي، وتوقف المعلم مودعًا، وهو يبتسم ابتسامة تشبه أفلامه، وسألني: «أتظن أنّي في هذه السنوات الخمس علّمتك السينما؟». فأجبتُ بدهشةٍ: «بالطبع، ايغور فاسيلفيتش»، فربتَ على كتفي بحنانٍ كبير، وهزّ رأسه قائلاً: «لقد ربّيتك على أن ترى نفسك وتعبِّر عنها».

لقد اختارت لي «صُدف» الحياة وأنا في الثالثة والعشرين من العُمر السفر لدراسة السينما في موسكو، بعد تجربةٍ حياتية غنيّة وطويلة؛ إذ فقدتُ والدي وأنا في السابعة، وبموته لم يترك لي «إلاّ دفء يده» -وهو  يأخذني ليسجلني في المدرسة-، وأمًّا جميلة فقدت الحيلة بموته. ولأنّنا لم نكن نملك أيّ شيء في القنيطرة، غادرناها.

في اليوم الأول لنا في دمشق، قالت أمي لِي ولشقيقي: «عليكما العمل؛ ليكون لدينا خبز!»، ومن لحظتها «وشمَت» حياتي. عملتُ سبعة أعوام بلا انقطاع، في إحدى دكاكين الحيّ الشعبي، قِبالة البيت الذي سكنّاه. أتاح هذا العمل لي بما يتطلّبه، التعرّف على عالم هذا الحيّ المنفتح على الحياة. وكان الراديو مؤنسي الوحيد، في مشاهداتي الصباحية اليومية، حين بنات الحيّ وصبيانه يعبرونَ من أمامي إلى مدارسهم، هذا الصباح الجميل كان يحزّ في نفسي ابتعادي عن المدرسة؛ لذا لم يكن أمامي إلاّ إقناع المعلم بقيامي بكل ما يريد لأجمع بين المدرسة والعمل، وحين حصلتُ على الشهادة المتوسطة؛ التحقتُ بدار المعلمين التي تمنح لطلابها مرتبًا شهريًا. تركتُ العمل والدكان بحزن، وامتلكتُ الحُريّة، والتعرّف على دمشق، وقراءة الصحف والكتب، ومشاهدة الأفلام، ثمّ اكتشفت الكتابة، وصار لي «يوميات».

بعد دار المعلمين وُظفتُ معلمًا في القنيطرة، في المدرسة ذاتها التي سجلني أبي تلميذًا فيها، واستعدتُ المدينة. كانت الصور تتبعثر في داخلي بأشكالٍ مختلفة وغامضة، وأمام الكثير من الإبهام، بدت لي دراسة الفلسفة في الجامعة قد تساعدني في أن أكون كاتبًا، فوجدتُ نفسي في معهد السينما، لأكونَ مخرجًا سينمائيًا.

2- «من حسن حظي أنَّني عندما لا أصوِّر أكتب». في هذا السياق، كيف أثّر تطور الصورة التقنية لسرديات الرواية وأنماط الحكاية الجمالية في انتقال السينما من مفهوم المخرج السينمائي إلى مفهوم سينما المؤلف، ومن ثمّ تأثير ذلك على تقنيات الأدوات التعبيرية لعملية الإخراج بشكلٍ مُجمَل؟

الإنتاج السينمائي السّوري كلّه بيد المؤسسة العامة للسينما. وضئيل العدد، والمنتج الوحيد. وكنّا سينمائيون جُدد لذا نبقى طويلاً أحيانًا لسنوات؛ في انتظار فرصة لتحقيق فيلم. وكان من حسن حظي؛ أنّي أكتب. أستغرقُ في الكتابة؛ طموحًا للسموّ بالكتابة ومنحها مذاقًا بصريًا، ومنح الأفلام التي أريد أن أحقّقها مذاقًا أدبيًا. ويتجلّى ذلك في الأفلام التي حقّقتها فيما بعد، وفي الكتب التي نشرتها أيضًا؛ هذا السبب الأساس لهذه الصرخة آنذاك. فتحقيق أيّ فيلم في تلك الفترة يحتاج لوقتٍ طويل لإنجازه بالصورة الفنية التي يتطلّبها العمل، وهذه قضية تختلف عن سينما المؤلف.

«سينما المؤلف»، مصطلح نتج عن بعض الأفلام لمخرجين قدّموا أفلامًا ذات أهمية خاصّة؛ تحمل ذات الرؤية الذاتية والبُنية الخاصة للمخرج. وبتطوّر هذا النوع من الأفلام أصبح نمطًا وأسلوبًا لأفلامهم. نرى ذلك سِمة للكثير من الأفلام التي حقّقتها قامات سينمائية في العالم.

بالنسبة لي في ما حقّقته من أفلامٍ روائية أو وثائقية، فقد كنتُ أعتبر السينما وسيلة للتعبير عن الواقع؛ كما عشته، وكما أراه روائيًا أو وثائقيًا. السينما بالنسبة لي «الفيلم»، بصرف النظر عن النوع الذي تختاره لنفسك. علاقتي مع الواقع و«وعي» به؛ كان يشعرني أن ثمّة شيئًا غائبًا؛ وأحسّ أنه «مفقود». ليس لديّ من قوةٍ للتصدي له والتعبير عنه، والإيحاء به، ووصفه سواءً كان سياسيًا أو عاطفيًا، «أبًّا»، «أمًا»، امرأة، مدينة.

بعد أحد عشر عامًا من التحاقي بالعمل في السينما السّورية؛ تمكّنتُ من تحقيق فيلمي الروائي الأول، وأخرجته مغمّسًا بأحاسيس الحنين للزمن الذي يتناوله، وبرؤيةٍ ذاتية لحياة عائلة؛ فأُطلق على التجربة: «سينما المؤلف»؛ لذا مضيتُ بمشاريعي التالية نحو سينما المؤلف بالفعل. كتبتُ «الليل» مطوّرًا نفسي بعلاقةٍ إبداعية مع «الصورة»، ومكانتها الوجدانية، والسيطرة على الضوء، بتجريد الزمن الواقعي من واقعيته، سواءً كان ليلاً أو نهارًا، وتنويع الأشكال الداخلية للذاكرة المحكية أو المُعاشة، متخيّلة أو مُشتهاة، في سردٍ بأنماطٍ جمالية مختلفة للحكاية؛ ما قادني إلى مفهوم سينما المؤلف بالفعل.

3- كيف ساهم تحوّل السينما إلى لغة والكاميرا إلى قلم والمخرج إلى مؤلف -كما يرى الناقد الفرنسي ألكسندر أستروك- في التأثير على الجمالية الفنية لمنظور فلسفة المخرج، ومتى يصبح المخرج شريك في النصّ المُنفَّذ حتى وإن لم يكن هو المؤلف له؟

السينما منذ اُعتبرت فنًّا؛ تركت الباب مفتوحًا للمحاولات لتصيغ نفسها بالتجربة. وتاريخ السينما خلال المئة عام التي مرّت حافل بالكثير من التجاذبات المختلفة، إذ قدّمت نفسها كصناعة، أو تجارة، أو أيديولوجيا، وكـ إبداع ذاتي وفنّي. وإذا كان الفلاسفة يعتقدون أنّ «في البدء كانت الكلمة»، فـ كسينمائي أسمح لنفسي بالاعتقاد: أنّ «في البدء كانت الصورة»، ثمّ خلق الله الدنيا على صورته؛ فكانت السينما. لذا فإنّ المخرج سواءً كتب سيناريو الفيلم وحده، أو شاركه كاتب آخر، فإنه بإخراجه للعمل، وصياغته لرؤيته السينمائية، وإحساسه الداخلي في السرد والبناء العام للفيلم، والتعبير عن موقفه، والمقولة التي يقدّمها؛ يحدد «النوع» السينمائي الذي ينتمي إليه الفيلم.

4- كرائد لسينما المؤلف السّورية، برأيك لمَ تطغى موضوعات السيناريو التي تحمل أسلوب سينما المؤلف وتعدّ الأسلوب الأوحد المُمارس في سوريا من جيل المخرجين الكِبار إلى جيل المخرجين الصِغار على رؤية صُنّاع السينما النخبوية المستقلة السّورية؟

القطاع العام السينمائيّ في سوريا تتحكم بإنتاجه الدولة. وفي بداية إنتاج المؤسسة لبعض الأفلام الأولى التي أنتجتها برؤيةٍ نقدية للواقع، كان ردّ فعل الرقابة قاسيًا؛ إذ أحدثت تغييرات في إدارتها، وأخذت تحدّد إرادتها؛ ما دفع بعض السينمائيين إلى الانكفاء، والبحث عن طريقةٍ للخروج من المأزق، فأتّجه البعض منهم إلى البيئة التي نشأ فيها، وللذاكرة. كان هذا مخرَجًا للجميع، فتحقّق بذلك العديد من الأفلام، كلّ مخرج بفهمه، ونظرته، وموقفه. وظهر خلال ذلك عدة أفلام سوريّة جيّدة -التي شكّلت هذه العودة للماضي كمنفذ للخروج من مأزق الإنتاج-، أفلام تحكي عن ما كان سائدًا من قضايا ومشكلات، بعيدًا عن المباشرة السياسية. وانجذب البعض الآخر من المخرجين لحكايا الماضي الساخرة أو المأساوية أو الكوميدية. فيما لاقت بعض الأفلام اهتمام الصحافة التخصصيّة. أمّا بالنسبة لي كان اللجوء للذاكرة وللماضي؛ يشكّل الطريق الذي يجب أن أمضي خلاله، لذا مضيتُ نحوه بخيار سينما المؤلف.

وما يُقال عن «النخبوية»، التي اُتهمت بها بعض الأفلام، فلم يعرض أيّ فيلم سوري، ولم يُستقبل في تلك المرحلة إلاّ بإقبالٍ كبير، ولهفةٍ في أيّ مكانٍ عُرض فيه. لقد أُلحقت «النخبوية» كصفة ببعضها؛ لكسلٍ في التلقّي، بجانب الاستسهال من جيلٍ اعتاد على مشاهدة الأفلام للتسلية، لا ليكون شريكًا في الرؤية والموقف، على الرغم من أنّه يرى «صورته» في الفيلم.

5- ما الذي يفرض هذه العزلة -داخل الوسط السينمائي- التي تؤدي إلى غياب النجاح الجماهيري، الذي يلاحق بعض المخرجين بالرغم من تأثيرهم السينمائيّ على مخرجين آخرين، هل يعود هذا إلى إشكالية تلقّي الكتابة السينمائية المفتوحة ذات المسارات التأويلية المتعددة على الشريحة الأكبر من المشاهِدين؟

السينما تحتاج لتطوّر اجتماعي، ولمجتمعٍ في حالةٍ من الحِراك والفعالية والنشاط الثقافي، وفي الوقت نفسه إلى حدٍّ ما من الحُريّة؛ حينها سيكون التلقّي الجماهيري مرِجعًا لاستقبال وتقييم الفيلم. الأجواء السياسية التحرريّة التي كانت تعيشها سوريا وبعض البلدان العربية في ستينات القرن العشرين؛ دفعت السُّلطة الحاكمة لهذه البلدان للتصدي للإنتاج السينمائي، ولكي تساهم السينما بالنهوض الوطني والاجتماعي، وتحقيق الشعارات السياسية والوطنية التي ترفعها ضاربةً عرض الحائط بما كان يُطلق عليه: «شبّاك التذاكر»، كمرجعية للربح في الإنتاج السينمائي، والسعي لإيجاد سينما جديدة مختلفة عن السائدة، ومنسجمة مع التقدّم والحُريّة والعدالة التي ترفع شعاراتها.

خاصةً أنّ مصر وغيرها من بعض البلدان العربية كانت قد بدأت تسير على النحو ذاته، إذ كشفت بذلك عن مخرجين لديهم المعرفة والرؤية السينمائية، وأخذت تحقّق الأفلام الجيدة التي تدل على فهمٍ عميق للسينما كفن؛ فتأسّست المؤسسة العامة للسينما، التي استطاعت شراء الإمكانيات الأولى والمختبرات لعمليات الصورة والصوت، وكرّست صالة عامة لعرض أفلامها في المدينة، والأفلام الجيدة وغير التجارية في سينما العالم، وأوفدت الشبّان لدراسة السينما. ومع الأيام تخلّق نشاط سينمائي عام وتطوّر؛ وأسَّس لمرحلةٍ جديدة للحياة السينمائية في الواقع الاجتماعي؛ خاصةً وقد رافقتها الكتابة الصحفية حول السينما، بجانب الأفلام المعروضة، والأفلام التي بدأت المؤسسة بإنتاجها في بدايات الطريق.

وحين تصدّى بعض المخرجين السوريين بتحقيق أفلامٍ حملت أحيانًا رؤىً سينمائية تنتقد الواقع، ويرى الإنسان السّوري نفسه في حكاياها، تصدّت العقلية «الرقابية» لذلك واضعةً حدًا لهذا الإنتاج. لكنّ الأحوال السياسية متبدلة، وتختلف شعاراتها مع تبدّلها، وبين فترةٍ وأخرى يبدأ التناقض بين الشعارات المعلنة والواقع؛ ما أدّى إلى تعثّر الإنتاج، ومن ثمّ اضطر العديد في البحث عن طرقٍ جديدة للتعبير. هكذا بقي حال السينما والسينمائيين على مدىً لا يتجاوز أكثر من ثلاثين عامًا؛ حيث يحاول السينمائيون السّوريون بتصوراتٍ فردية تارة، وتصوراتٍ مشتركة تارة أخرى أن يحقّقوا العديد من الأفلام السّورية التي لقيت صدىً سينمائيًا جيّدًا في المهرجانات، وفي النقد السينمائي العربي والدولي، ولقيت استقبالاً جيدًا من الجمهور.

في عام 2011 وما حصل خلاله وبعده من تناثر لحمة المجتمع السّوري -وظهور شعارات سياسية تصف حدود السينما بين سينمائيّ «الداخل»، وسينمائيّ «الخارج»، أو شعار: «الموالاة والمعارضة»-؛ فرض العزلة داخل الوسط السينمائي.

6- «أنا أعتقد أنَّنا كلنا ننتمي بذاكرتنا السينمائية إلى الأفلام التي يطلق عليها النقاد اسم: الواقعية الجديدة». كيف أثّرت الذاكرة الوجدانية الداخلية العميقة لسينما الشارع في أفلامك، وما مدى أن يكون هذا الخروج رؤية فكرية ذاتية مرتبطة بأعمالك؟

الواقعية الجديدة الإيطالية أثّرت بشكلٍ كبير، في ذاكرة وسينما بلدانٍ عديدة ومختلفة، ومنها البلدان العربية؛ وهذا الأثر يتجلّى في العديد من الأفلام لمدىً ليس بالقصير. كما كان للنقلة النوعية التي أحدثتها الواقعية الجديدة بالخروج بالكاميرا إلى الشارع أن لعبت دورًا هامًا في نشوء وتطور السينما في بلدانٍ عربية أخرى، خاصةً وأنها نشأت بعد الحرب العالمية الثانية؛ ما تصادف مع استقلال العديد من هذه البلدان وتحرّرها من الاستعمار، وانغماس جيل كبير من الآباء في بناء دولةٍ مستقلة ومتحرّرة منفتحة على العصر. كان لأفلام الواقعية الجديدة بحكاياها وغِناها وتنوعها في الحديث عن الجوانب المختلفة لقضايا المجتمع الإيطالي بعد الحرب تأثيرًا عميقًا على الوجدان؛ إذ غدت لمحاتها وطرائفها وجديتها على ألسن ذاك الجيل؛ ما أثّر بعمقٍ على وجدان وذاكرة جيل الآباء والأبناء. كما أنّ الجيل الأول من السينمائيين العرب -الذين كانت السينما بالنسبة لهم قضية الثقافة الوطنية- نشأ عمليًا على أفلامها. لذا نلاحظ أنّ أحد أفلام السينمائي الإيراني محسن مخملباف، كان بعنوان: «سارق الدراجة»، كما عنوان أحد أفلام هذه الواقعية. ثمّ ليس غريبًا أن تكون الواقعية الأصيلة للمخرج المصري صلاح أبو سيف لا تُخفي مدى ما شكّلته الواقعية الإيطالية الجديدة في سينماه. إنّ أفلامها محفورة داخلي وفي ذاكرتي، وذاكرة البعض من السينمائيين السّوريين؛ الذين تلقّوا علومهم في المعاهد الأكاديمية، إذ كانت محطة من المحطات التي تتلمذنا عليها.

في الحقيقة الذاكرة الوجدانية لتجربتي الحياتية هي في الأساس «شارعية». وأدرك تمامًا أنّنا بلدًا ليس غنيًا، وأنّ السينما التي نسعى لتحقيقها تتناول قضايا هذا الشعب؛ لذا بقيَ الشارع مرجعنا في موضوعه، ومكان تصويره، وأعتقد أنّ ما عشناه صاغ رؤيتنا الفنية.

7- «الذاكرة البصرية عبر البحث المفعم عن الزمن الضائع». استنادًا على ذلك، كيف استلهمتَ في أعمالك صورًا شاعرية وحميمية من خلال طريقة النظر إلى الماضي والحاضر وجعلها ذاكرة حقيقية؟

الذاكرة البصرية المفعمة بالبحث عن «الغائب» في الحياة، و«المفقود» في الشارع؛ صنعت ما حقّقته من أفلام. والبحث عن «الذات» المفقودة للإنسان السّوري، مشروعي الذي أريد أن أتوّج به السينما التي أنتمي إليها -إذا تمكّنت من تحقيقه-. إنّ العيش الطويل في واقعٍ غنيّ بقضاياه، واحتياجاته، وفي جوٍّ دائم من الصمت؛ لم يترك لي شيئًا سوى «البصر»، لأبحث عن الغائب. قد أدعوه أحيانًا (الأب)، وقد أتخيّله تارةً (الأم)، وفي لحظاتٍ أخرى أراه (مكانًا) مفقودًا فأسكنه.

في عام 79 كتبتُ رواية بعنوان: «إعلانات عن مدينةٍ كانت تعيش قبل الحرب». بنيتُ القنيطرة التي دمّرتها إسرائيل على الورق. إنّ البحث المفعم للمفقود لا يُستعاد إلاّ بالشوق، وشحن الوجدان حنينًا له، ثمّ تجسّده سينما مغمّسة بالمشاعر والأحاسيس. إنّ المعايشة الدؤوبة لما أفتقده، تدفع به أيضًا للمنامات اليومية، فيتجلّى لي المنام بمعالجةٍ ذاتية للزمان والمكان الواقعيين بأشكالٍ خاصة تلهمني بالصور الحميمية فيما أكتبه، وما أصوّره سينمائيًا. لقد حقّقتُ فيلمي الروائي الأول بعد أحد عشر عامًا من تخرّجي، وسبقه العديد من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة، مثلاً: الروائي القصير «قنيطرة 74»، والوثائقي «فرات»؛ كانا «بروفة» لعالمي البصري، وفهمي «الدرامي» لما هوَ مفقود.

8- «أحلام المدينة». إلى ماذا يعود هذا الحضور الرمزي الكثيف للأحلام في لغتك السينمائية، هل هو محاولة للدخول إلى وجدان الذين عانوا في سبيل النظر إلى المستقبل وتحقيق أحلام الحكايات الفردية التي تجاوزت حكايات المدن؟  

تحقيق «أحلام المدينة»؛ يعود لمحاولة الخروج من المأزق الذي تعرّضت له المؤسسة العامة للسينما، بإنتاجها أفلامًا ذات رؤية نقدية تمسّ الواقع السياسي؛ فكان الحلّ بالنسبة لي العودة إلى الذاكرة الأولى للقائي مع دمشق. فتألّقت في داخلي صورًا لا حدود لها، لما عشته ورأيته في هذا الحيّ الدمشقي، بجانب الحياة والشخصيات التي تعيش السياسة في الحيّ، والأفراح والزينات التي غطت الشوارع والأماكن، لقيام الوحدة بين سوريا ومصر. أدرك أنّي الآن في العام 83 أصيغ ذاكرة الخمسينات، بعد أكثر من عشرين عامًا من انهيار الحدث الجميل. إذن بين الحدث وانهياره كنتُ أحسّ أنّي عثرتُ على «الفترة» التي  أتناولها، فبدأتُ البحث في داخلي عن ذاكرة السنوات الأولى في دمشق، وقرأتُ الكثير ممّا كُتب عنها وعن المرحلة، فبدا لي أنّ «المفقود» اليوم، هو الشارع الذي يعجّ بالحياة؛ فاتخذته محورًا في معانيه ودلالاته، واتخذتُ من الذاكرة الشخصية مرجعًا لإغناء شخصيات الفيلم: الأم – الجد – الشقيق. وبدا لي واضحًا الشبه بين «الخدعة» التي تعرّضت لها الأم، و«الخدعة» التي تعرّضت لها البلد بالانفصال. هذا الارتسام لمسار الفيلم، والبُنية العامة للشخصيات، كانت صورًا لشخصيات تلك المرحلة القوية والحاضرة؛ كما الأمس مُستعادة المشاعر والأحاسيس في أحلامها وتفارقها: الأم وصِباها الجميل، والشقيق الغائب. استعدتُ أيضًا الدكان التي عملت فيها لأكثر من سبع سنوات.

لا يمكن للصور أن تملك قوتها ودلالاتها؛ إلاّ بالأثر الوجداني العميق؛ لقوتها ومعناها في داخلي، بجانب القدرة في التلاعب مع الصور وتسخيرها للإيحاء. كيف تخرج هذه الصور التي عشتها من الداخل الوجداني، مبلّلة بالإحساس، ومعشّقة بالرائحة، تنتظر العقل أن يقول موقفه. ثمّ ينتهي الفيلم بالشوارع المليئة بالزينات، والأضواء، واللافتات الوطنية، والأعلام، وأغاني الوحدة؛ فالشارع خاوٍ من الناس.

9- ما المنهج الأساس الذي تقوم عليه صورك الداخلية التي تُغني عالمك الجمالي والتاريخي والأخلاقي بسينما جمالية تملك لغة حيويّة مستمدة من ثنائية الذاكرة والرؤية والمعاني السردية الإبداعية بجانب الحبكة غير المنظورة؟

لا منهج إلاّ منهج «الروح» التي عاشت الشيء الذي تحكيه. وتصيغ منه فيلمًا، استنادًا إلى الهدف «الأسمى» الذي تريد أن تنقله لمشاعر المُتلقّي. البناء الذي تكوّن في معهد السينما، وتجربة الحياة المُعاشة، والحاجة الداخلية للتعبير، والرأيّ بغلاوة (أهمية) «المفقود»، والموقف من فقدانه. كل ذلك يشكّل الصياغة الخفية بشعورٍ من الكبرياء، والكرامة في التعبير. أحسّ أنّ الفيلم أشبه بدعوة المُشاهِد لزيارة «غرفتي» الخاصة؛ لعلّه يشاركني الموقف الفكري. إنّي محكوم بالندرة لعدم وجود الإنتاج. فما أكتبه أضعه في الأدراج أو أنشره، وفي أدراجي العديد من السيناريوهات، التي لم يعد لها الحظ لتحقيقها، إذ لها أدبيتها للنشر.

10- «الإنتاج هو مشكلتي الوحيدة». كيف تقارن غياب التقنيات الحديثة في السينما بجانب الدراسة النظرية التي باتت سهلة ومتاحة لمن يخوض المجال السينمائيّ، بالمشكلات التي يواجهها المخرج السينمائيّ المحترف الذي يودّ أن يعمل خارج إطار ميزانيات الأفلام الضخمة وتحقيق أفكار المنتج؟   

الإنتاج مشكلتي الوحيدة فعلاً؛ «الرقابة» السياسية عائقًا. لم أكن معنيًا كثيرًا بغياب التقنيات الحديثة؛ ربما لأنّ جعبتي الداخلية ليس فيها رحلة إلى القمر. وما أن تتاح لي الفرصة لتحقيق فيلم، أكون على استعدادٍ لمواجهة أيّ صعوبات، والتعامل مع أيّ عقبات وتجاوزها، لأحقّق الصورة كما أهوى. التطورات التقنية الحديثة بالنسبة لمشروعاتي ساهمت بتخفيف الأعباء المالية لإنتاج الأفلام، وسهّلت لي العديد من الاحتياجات الإنتاجية. أمّا العمل في ما بعد التصوير فإنها أتاحت أمام المخرج إمكانيات بلا حدود، في الوصول بمهاراتٍ عالية لما يريده.

11- «إنّ علاقتي بالإخراج هي نوعٌ من العذاب». من هذا المنطلق، هل هناك مشروع سينمائي خاصّ تطمح إلى تحقيقه بهدف الخلاَص من عذابات السينما، ومتى تتحوّل علاقتك بالسينما إلى علاقةٍ وديّة ماتعة بالفعل؟ 

علاقتي بالسينما كانت وبقيت علاقة وديّة للغاية وممتعة. أمّا «العذاب»، فهو يعود إلى الحالة الخاصة للسينما في سوريا. فالفيلم السّوري يواجه عذابًا ما في كلّ مرحلةٍ وعلى كلّ صعيد؛ في رقابة وتقييم السيناريو، في الإنتاج والميزانية، في الصيغة التي تدير الإنتاج، وأخيرًا في الفهم والموقف الرقابي من الفيلم، بجانب المصائر التي تنتهي عندها هذه الأفلام. وإذا تمكّن البعض من السينمائيين من تحقيق فيلمٍ ما؛ فهذا يعود للجهود الذاتية للسينمائيّ لتحقّقه. فقد كان لديَّ مشروعٌ سينمائي لتحقيق ثلاثية ترسم «بورتريه تاريخي» لسوريا، في النصف الثاني من القرن العشرين. بدأته بفيلم «أحلام المدينة» والشارع المفقود. وثـنّيته بفيلم «الليل» والمكان المفقود. والختام بمشروعٍ عن «الذات» المفقودة في سيناريو «سينما الدنيا» لم يتحقّق. هذا كان قُبيل عام 2011.

12- «لم أكن يومًا مهتمًا بعامل الوقت، بقدر اهتمامي بالفكرة». كيف أثّرت الرقابة وقلّة الإمكانيات أثناء وبعد الحرب على مشاريعك السينمائية، وكيف أثّرت بشكلٍ بانورامي على السينما السّورية؟ 

لا يُمكن أبدًا تجاهل تأثير الرقابة على ضآلة الإنتاج ونوعيته للمؤسسة العامة للسينما؛ لذا كان الطريق بالنسبة لي، وللبعض من السينمائيين عبارةٍ عن الحذر المُسبق فيما نطرحه من مشاريع، وما نحتاجه من وقتٍ للعثور على الفكرة والمرحلة، وإيجاد اللغة التي تمكّننا من العبور بالمشروع من بين أسنان الرقابة؛ فكان هذا ما يجعلنا لا نهتم بالوقت، بقدر اهتمامنا بالسينما كفن. أمّا الحال السينمائية أثناء وبعد الحرب، وما جرى بعد ذلك، فقد أدّى لنشوء مفاهيم وشعارات سينمائية مختلفة؛ لذا ازدادت «الصعوبات» إلى حدٍّ الاستحالة.

المشروع الأخير الذي كتبته بعد عام 2018، بعنوان: «حين فقدنا الرضا»، والذي أرغب أن أتوّج به تجربتي السينمائية قبل الرحيل، بقيَ حتى اليوم مشروعًا على الورق. حاليًا ما تزال مؤسسة السينما تعمل وتنتج كل سنة عددًا من الأفلام، ربما لتستكمل تاريخها، وتاريخ البعض من السينمائيين المخضرمين والجُدد.

13- «مشروعي السينمائي ليس مهنتي فحسب؛ بل هو حياتي التي أعيش من أجلها». في سبيل تحقيق أعمالك ما نسبة التحدي في ابتعادك عن المؤسسة، بجانب المزيد من التنازلات الفكرية والرقابية التي تقترح إبداعًا من زاويةٍ ورؤيةٍ محددة؟ 

مشروعي السينمائي ليس مهنتي فحسب؛ هو حياتي التي أعيش من أجلها. والتحدي أولاً وأخيرًا في اللجوء إلى الإنتاج بعيدًا عن المؤسسة، وأن لا أخون المشروع؛ بأن يبقى في إطار السينما السّورية كما بدأتُ به. هذا بالنسبة لي تحدٍ لا يمكن المساومة عليه، لا شكلاً ولا قالبًا. ربما يبدو ذلك مبالغة، لكن أنا بهذا أشبه «حِرفيّ» في الصناعة اليدوية. مثلاً، لقد حدث مرّة أن تبنّى أحد المنتجين الفرنسيين سيناريو روائي طويل لي، بعنوان: «يا بابور قلّي رايح على فين؟»، فطلب منّي أن أصوّر المشاهد الداخلية للفيلم في فرنسا؛ ليحصل على عونٍ في إنتاجه، فرفضتُ بحجة أنّي في التصوير أحتاج «للهواء» الدمشقي. فتعجب لرفض سينمائيّ «أبله» مثلي؛ لذا طار إنتاج هذا المشروع كلّه. كنتُ هكذا على الدوام في مشاريعي الروائية أو الوثائقية. أمّا بعد التصوير فلا مانع، كما في «الليل»، و«باب المقام»، فإنّي مع التقنيات الأفضل، لكن غير ذلك لا تنازلات أبدًا.

14- «بدّي حُريّة». في هذا النصّ الصارخ ما نسبة قولبة الأنا، وكيف ساهم السرد الفني والإبداعي لفيلمك «الليل»، في القفز بالسينما السّورية من المحلية إلى العالمية، ما العلاقة الجذرية بين غياب الحُريّة وغياب المبدع في المجال السينمائي؟ 

لا إبداع بلا حُريّة إطلاقًا. حقيقة بديهية يدركها المبدعون بدرجاتٍ مختلفة، ويواجهونها بأشكالٍ متعددة وطرقٍ متفاوتة؛ وفق البلدان التي يعيشون فيها. في السينما السّورية ساهم السرد الفني والإبداعي، بأشكالٍ مختلفة من الاحتيال الرقابي؛ فتمكّن من الوصول إلى أشكالٍ فنية من التعبير. وفي البُنية البصرية الإيحائية، والسرد بدلالاتٍ فكرية، التي جعلت الرقابة تقبل أحيانًا على مضضٍ، وبلا ترحيب، بجانب التضييق على العرض.

يفاجئني شخصيًا أنّ فيلم «الليل»، بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا؛ ما يزال يلقى الاهتمامات الجامعية، والأراشيف الدولية، والعروض الاستعادية الدولية. كما أنّ النقاد السينمائيين العرب، كانوا قد صنّفوا فيلم «أحلام المدينة»، كواحد من أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية. وفيلم «الليل»، كواحد من أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما العربية.

15- «يجب علينا النظر إلى العصر الجديد بشكلٍ مختلف». قياسًا على قولك هذا، ما مدى اختلاف السينما اليوم عن السينما في الماضي، وكيف أثّر الثراء البصري في خلق مشاهدٍ بعيدة عن محور السينما واستيعاب اللغة السينمائية البصرية؟

من الصعب أن نصنّف الوضع الحالي للسينما العربية بأحكامٍ ومفاهيمٍ ثابتة وقطعية، والأكثر صعوبة أن يكون ذلك مهمة سينمائيّ يعمل في إطارها ويتعايش مع تحوّلاتها. بتبسيطٍ أوضح فإنّ السينما كفنّ ومنذ بدايات القرن العشرين، قامت على يد قاماتٍ سينمائية مبدعة بتحقيق أفلام عديدة، أسَّست لهذا الفن لغته وبنيانه وملامحه؛ وظهرت نتيجة لذلك مدارس واتجاهات عديدة، ليتحوّل هذا الفن إلى صناعة، وتجارة، وصالات منتشرة في كلّ أصقاع العالم تحاول جذب الفيلم للمتلقّي، ثمّ كان للتطور التقني أن أحدث نقلة نوعية في هذه الصناعة وآلية عرضها، كما أحدثها في اختلاف آلية ووسائل تحقيقه؛ فقد تحوّلت «الصورة» إلى رقم، ما أدّى إلى انتشارها الواسع بثًّا ومشاهدة، وأتاح لها أن تكون في متناول الجميع، واليوم بعد مرور السنوات أصبح الناس يعيشون مع «الصورة». إنّ هذا الثراء البصري تدريجيًا بدأنا كمخرجين نجد أنفسنا أمام متلقٍ مزوّدٍ بهذا الثراء والإمكانية بمشاهدة كلّ شيء حتى لحظة حدوثه واختزاله لمن يريد؛ لذا كان علينا أن ندرك تطوير مفاهيمنا السينمائية ولغتنا التعبيرية، للتجاوب مع المتلقّي المعاصر.

16- «الطوفان قد حدث». ما الدور الكبير الذي لعبه المخرج عمر أميرالاي في الفكر السينمائي لأعمالك، ومتى يمكننا القول بأنّ السينما العربية تنتمي إلى لغة العصر السينمائية، وما السينما العربية التي تملك أهمّ متحف عربي سينمائي؟

لم يكن المخرج السينمائي عمر أميرالاي بائع أفكار، ولستُ باحثًا عنها؛ كنّا سينمائيين. يطيب لي الحديث عن عمر أميرالاي والصداقة العميقة التي ربطت بيننا لمدى أكثر من خمسٍ وعشرين سنة، وستبقى صداقة خاصة ومميزة، نسيجها المودة والتقدير السينمائي المتبادل؛ تجسّد في تعاون كلّ منّا مع الأخر بلا حدود، وتبادل الخبرات المختلفة الحياتية والسينمائية، فنحن متقارِبا العُمر، ونكاد نتشابه في التجربة الحياتية لكلّ منّا. وهو «وثائقي»، وأنا «روائي»، ونعتقد معًا أنّ السينما روائية أو وثائقية ستظلّ هي «السينما». ولدى كلّ منّا طموحه وأفكاره وأوهامه وحريّته؛ إذ لم ينتمِ أيّ منّا إلا لنفسه. نظن أنّنا جزء من «طليعةٍ» فكرية؛ وسيلتها السينما للتعبير عن نفسها وموقفها السياسي والفكري. ولعلَّ ما حقّقناه من أفلامٍ معًا بجانب ما حقّقه كلّ منّا يشير لتأثير أحدنا بالآخر، وتشاركنا دون المساس برؤية كلّ منّا لإخراجه فيلمه، وحين توصلنا إلى ضرورة مشروع أفلام بعنوان: «الوصايا العشر»، مثلًا، حقّقنا معًا فيلم «نور وظلال»، و«فاتح المدرس». وحين شاءت ظروف كل منّا أن يحقّق عمر فيلم عن «سعدالله ونوس»، وأن أحقّق أنا فيلم «حلب مقامات المسرّة»، لم يخرج أيّ منّا عن فكرة المشروع ككلّ.

لقد كنتُ أرى عمر بذاته «شخصية روائية»؛ كأنها لتَوّها خرجت من الشاشة. وعلى الرغم من نزعته وخياره الوثائقي، فقد حاولتُ كثيرًا جذبه نحو الروائية التي كنتُ واثقًا من تألّقه حيالها. وليس سيناريو «القرامطة» الذي كتبناه، وسيناريو «أسمهان» الذي اشتغلنا كثيرًا في التوثيق والتحضير له إلاّ نتاجًا لهذا الجذب للتجربة الروائية، لكن المشروعين للأسف لم ينفذّا وبقيا على الورق، كما الكثير غيرهما.

يصعب التكهن متى؟ فالأفلام التي حقّقناها؛ نعتقد أنها تنتمي إلى اللغة السينمائية للعصر الذي حُقّقت خلاله. واليوم أحاول بكلّ طاقتي التجديد مع نفسي بالمشاريع التي أسعى لتحقيقها؛ بالوصول إلى اللغة التي تطورت لها السينما، وهذا ما يحاوله العديد من المخرجين العرب أيضًا.

ليس هناك أيّ متحف عربي يستحقّ اعتباره «متحفًا»، لكن الجزائر استطاعت أن تؤسّس قبيل سنوات عديدة «سينماتيك» للأفلام العربية المؤسَّسة بالمتطلبات البيئية، والشروط التقنية والفنية لأرشفة الأفلام. ويضمّ أكبر عدد من الأفلام العربية، بالإضافة لعددٍ لا بأس به من  الروائع في تاريخ السينما. ثمّ أخذت تظهر محاولات جزئية في العديد من البلدان العربية للاحتفاظ بأفلامها الخاصّة في بلدانها.

17- «السينما السّورية، إنها سينما في حالة الاحتضار». كيف أثّر غياب الجماليات الفنية في نسيج السرد السينمائي السّوري مؤخرًا؟

التشاؤم والأسف يطغيان على الرؤية، إذ تميل إلى نظرة «الاحتضار» بالمعنى العلمي؛ فالتيار السينمائي الذي قدّم للسينما السّورية أفلامًا يُمكن أن يُقال إنّها تمثّل الوجود الفعلي لهذه السينما، -بجانب دور المؤسسة العامة للسينما-، الذي تحقّق على أيد العديد من السينمائيين العرب والسوريين، أمثال: (المصري توفيق صالح – اللبناني برهان علوية – العراقي قيس الزبيدي – السّوري خالد حمادة)، أسَّس لوجود وتطور هذه السينما للجيل السينمائي الذي أتى فيما بعد، والصراع التاريخي مع الفهم المحدود للسينما لدى الإدارة العامة للمؤسسة والرقابة؛ أثّر بقوةٍ على الحضور النوعي والكمّي، وتدريجيًا تغلّبت فيه السُّلطة والرقابة كمًّا ونوعًا، وغدا الفيلم السّوري يواجه الكثير على صعيد الجماليات الفنية قبل أن يصل إلى الجمهور.

إنّ بقاء هذا الإنتاج رهين كلّ ذلك، وما حدث في عام 2011 وما بعده، -الحرب وآثامها-؛ أدّى بالبعض من السينمائيين للصمت، أو المغادرة أو الرحيل. إنّ ذلك كلّه يمكن أن يدعو إلى التشاؤم ولصرخة «الاحتضار».

18- بالأساس أنا سينمائيّ، لا لأقصّ على الناس الأفلام التي أريد، بل لأحقّق هذه الأفلام؛ فالأفلام تُرى ولا تُحكى». عن عوالم الطفولة، كأبرز المحاوِر في السينما الخاصة بك، هل هذا التقاطع ما هو إلاّ جزء أو جانب من جوانب تصوير عمرك الشخصي، حيث تصبح الحكاية الشخصية مدخلاً لفهم ما يحدث؟

الوضع الاجتماعي والاقتصادي، واقع موضوعي للمرحلة التي يتصدى الفيلم لتناولها، دون الحاجة للمبالغة أو التجاهل. وبالنسبة لي ليس هذا الواقع هو المحور الدرامي في بُنية الحكاية؛ إذ هو الفضاء في رسم المرحلة الزمنية. ولا بدّ من تبيّن أثرها على عالم الطفولة، ضمن الهدف الأسمى للفيلم الأبعد عن ذلك بكثير. منذ أن بدأتُ التعبير عن نفسي في الكتابة أو السينما، كانت مواجهة الواقع الاقتصادي والاجتماعي، يختلف بالنسبة لي في السينما عنه في الكتابة. حين أتصدى للتعبير عن نفسي ألجأ للكتابة، أمّا في السينما لا يمكن أن أحقّق الفيلم بلا إنتاج وبلا رقابة.

التقاطع في ما تريد التعبير عنه لمرحلةٍ زمنيةٍ ما، والأفكار المُستمدة من التجربة الذاتية المُعاشة، مع وعيك بحياة الشخصيات؛ يتحوّل إبداعيًا إلى حياة، لا لاستعراض حياتك الشخصية، لكن التجربة الذاتية هي التي تمنح العلاقة مع الصورة، والأحاسيس هي التي تهبها جمالياتها الفرِحة أو ألمها، ومن ثمّ موقفي من الأحداث العامة أو التاريخية، بـ آثامها أو تألّقها، بالمعنى الشخصي أو العام.

19- كلمة أخيرة لمعنى، وما التطلّعات السينمائية والأدبية التي سنرى نتاجها قريبًا؟ 

أودُّ أن أعبّر عن تقديري لجهودكم في البحث عن «المعنى»، في الثقافة العربية. وآمل أن يكون عرضي للتجربة الذاتية للعمل الثقافي السينمائيّ في سوريا، يساهم في رؤية المعوقات، التي تحول دون قدرة وفعالية الثقافة السائدة، وتعثّرها في القيام بدورها في تطوّر البلدان.

وأتطلّع لأنّ أتوِّج ما حقّقته، بمشروعي السينمائيّ حول «الذات» المفقودة، في المجتمع السّوري اليوم؛ وقد كتبتُ السيناريو بعنوانٍ مؤقت: «حين فقدنا الرضا»، ويتناول حياة كاتبة روائية عاشت حياتها ممتلئة بالحُبّ والحياة، وفجأة تجد نفسها وحيدة تعيش أوهام حياة مُنتظرة لا تأتي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى