حاوره: طامي السميري
- باموق يُعد من الكُتّاب الذين وظفوا بوضوح تقنيات الرواية الغربية في رواياته، ولكن على الرغم من حداثة أسلوبه، إلا أن باموق يستلهم بعض العناصر من الأدب التركي التقليدي. فهل هذه المعطيات جعلت رواياته يغلب عليها طابع الهجين الروائي؟
في الحقيقة أشكرك على هذا الاستنتاج الذكي، ولكن يمكن إضافة مؤثر آخر إلى جانب هذين المؤثرين، ألا وهو المؤثر الشرقي، حيث استلهام باموق من ألف ليلة وليلة، وملحمة الشاهنامة للفردوسي، والكتابات الصوفية. الرواية الواحدة لدى باموق تجمع في داخلها عناصر عديدة شرقية وغربية، وتقليدية كلاسيكية، وحداثيةـ، حيث تأثره بأورهان كمال. لكن يبقى لباموق خصوصيته، فجعل نصه باموقيًّا بهذه التوليفة العجيبة التي لا يقدر عليها سوى باموق، فعلى الرغم من المرويات التي يرويها في إطار معاصر، إلى أن رواياته تضرب في جذور التاريخ، وتستحضره في أزمنته المتعدّدة، وهو همّ خاص بباموق مبعثه انشغاله بالهُوية التركية.
- هل تختلف قراءات باموق بين الجمهور التركي والجمهور العالمي؟ وهل يمكن اعتباره جزءًا من الأدب العالمي، أم أنه كاتب يعبر عن خصوصية تركية بحتة؟
لباموق شعبية جارفة داخل تركيا (حتى وإن أنكرها البعض) بما في ذلك المعسكر المضادّ للعلمانية، هو الآخر ينحاز إلى أسلوب باموق على حساب مواطنته أليف شفق. هذه الجماهيرية جعلته أشبه بكاتب بيست سيلر مع الفارق، فما إن يعلن ناشره (دار يابي كريدي للنشر) عن موعد صدور عمل جديد لباموق (أي كان: رواية، أو عمل نثري كذكريات، أو شهادة)، حتى يقف القراء في طوابير طويلة في انتظار شراء عمل باموق الجديد. من الممكن أن أحيلك إلى عدّاد النسخ في الغلاف الخلفي (وهو شيء مميز في النشر التركي) لنسخة من إحدى رواياته، ستجد أن الرقم كبير جدًّا، بما في ذلك إعادة الطبعات (فمثلا الطبعة التاسعة من رواية “المرأة ذات الشعر الأحمر” بلغ عدد النسخ المباعة بمجرد صدور الطبعة التاسعة إلى 19 ألف نسخة، في أيام قليلة من طرحها في السوق، وهذا الأمر – في ظني – لا ترى مثيله في بلداننا، وهي مسألة تؤكد قوة جماهير باموق من جانب، وعلى القوة القرائية – من جانب ثانٍ – التي يتمتع بها الشعب التركي على خلاف ما هو سائد. فالطبعة الأولى مثلا من رواية “ليالي الطاعون” التي صدرت عام 2021، جاءت في 250 ألف نسخة، وهذا رقم كبير جدًّا.
بالنسبة للجزئية الثانية، لا يمكن بأية حال من الأحوال فصل باموق عن الأدب العالمي، لأسباب عدّة، أولها، بحكم نوبل التي اقتنصها عام 2006، فأكسبته مقروئية عالمية، وثانيها، بحكم دعواته المتكرّرة من جامعات الغرب لإلقاء محاضرات عن أسلوبية الرواية، أو ما يعرف بمنهج “الكتابة الأدبية” وهو ما أثمر عنه كتاب “الروائي الساذج والحساس” 2010، فقد حاضر في نفس المكان الذي حاضر فيه كالفينو، وميلان كونديرا، وإدوارد سعيد، والروائي الكيني نغوغي واثيونغو، وغيرهم ممن حاضروا في جامعات الغرب، وشاركوا الطلاب تجاربهم الروائية، وقدموا نصائحهم للكتاب الشباب.
بلا شك الخصوصية التركيّة تمثّل سمة أساسية في روايات باموق (وغيره من الكتاب الأتراك)، حيث جميع ثيمات رواياته من الواقع والتاريخ التركيين القديم والحديث، وإن كانت تشغل تركيا المعاصرة بصراعتها السياسية وانقساماتها الأيديولوجية، محورًا مهمًا في كتاباته، فهذه الخصوصيّة هي التي جعلت أعماله رائجة في بلاد العرب والغرب على حدٍّ سواء، خاصة بعد وصول الإسلاميين للحكم منذ عام 2003، فصار الغرب مولع بالبحث عن الإشكالية المعقّدة بين المعسكرين الإسلامي والليبرالي (القومي المعتدّ بالمبادئ الكماليّة)، وهو ما عبّر عنه باموق في رائعتيه “ثلج” 2002، و”غرابة في عقلي” 2014. في رواية “ثلج” أدار الصّراع بين المعسكرين باحترافية، دون أن ينحاز راويه العائد على باموق نفسه لأي المعسكرين، وجعل من مسرح الشعب ميدانًا لتنافس القوى المتصارعة / والمتنافسة بكافة انتماءاتها وتحزباتها، بل كان بطله الصحافي والشاعر “كا” يدين العنف الصادر من قبل أفراد المعسكرين، وهو ما يعكس شخصية باموق، على عكس ما هو رائج عنه بأنه علماني يُحارب الإسلام، أو معه خصومة معهم يسعى للانتصار عليهم بأبطال رواياته.
- كيف يعبّر باموق عن نظرته للعالم الأوروبي من خلال رواياته؟
الطبيعة الجغرافية لتركيا، بموقعها الاستراتيجي بين قارتين، واعتبارها ملتقى لثقافات متعدّدة، وتحديدًا إسطنبول التي يقع جزءٌ منها في المحيط الأوروبي، كل هذا لم يغب عن باموق وهو يروي مروياته، كما إن النظرة الغربية لتركيا، خاصة في مجال حقوق حرية التعبير، التي يرفض باموق أن تكون مقيدة بالوجدان القومي، أو الحساسيات الأخلاقية، فهو يعتبرها من الحريات الكونية، وموقف الغرب من الحريات المقيّدة جعل من باموق في حاليْن؛ الأول هو الحزن لمثل هذه النظرة الدونية، خاصة في ظل محاولات تعقبه هو أيضًا، وإلصاق اتهامات له، الثاني أن باموقًا لم ينبهر بالغرب الذي عاش فيه باعتباره مواطنًا إسطنبوليًّا، ويقضي معظم وقته هناك (مع الأسرة، أو للمحاضرات)، ومع هذا لم يعش الحُلم الأوروبي الذي ولع به الكثيرون، بل على العكس يدين سياسات الغرب للشرق، بالإضافة إلى مقته لسياسات القهر والظلم التي تمارسها الإمبريالية الغربية، ويحمّلها مسؤولية ما يحدث في الشرق من عُنف غير مبّرر في فلسطين، والإبادة التي تعرّض لها الشعب العربي في العراق على يد جورج بوش، بالأحرى ليس درويشًا لهم، ومروّج لسياسات أقطابها، بل يشعر بالاستياء من مواطنيه الذين يتشبثون بثقافة الغرب ويسعون إلى تطبيقها في حياتهم المعيشية، ولكَ أن تراجع موقفه في رواية “متحف البراءة” من افتخار الفتيات القادمات من أوروبا بسبب الدراسة، بالأخلاق الجنسيّة، باعتبارها الأسلوب المتبع في أوروبا، نراه ناقمًا عليهن، ورافض لشيوع مثل هذه الثقافة الغربية في بلاده، وأطلق عليهن “فتيات السوربون“، الشيء الآخر الذي يظهر نقمته هو شيوع الثقافة الغربية في موائد الطعام ، وفنون العمارة، وفي رواية ثلج لا يسعى إلى تبرير محاولات ما وصفهم بالإرهابين، وهم يسيئون للنساء، فتشعر كأنه ينتقد فكرة تحميل الإسلاميين ما يحدث، دون النظر لمبررات الفعل. هو يدين نظرة الغرب للشرق، ورفضهم لفهم غضب هؤلاء الغاضبين، وهو ما عبر عنه في مقالة بعنوان “غضب الملعونين” في كتابه النثري “ألوان أخرى” 2000، الذي يضم مقالات متعدّدة، وقطوف من سيرته الذاتية، وعلاقته بأبيه، وقراءاته لأعمال آخرين، ويضم الكتاب في قسم منه مقالات ينتقد فيها سياسة أوروبا، والمثير حقًا أننا نراه ساخطًا لنظرة أندريه جيد العنصرية لإسطنبول في مذكراته عن رحلته لها وللبلقان، فتراه يدافع عن حضارة بلاده التي أنكرها جيد، على عكس مواطنه الكاتب أحمد حمدي تانبينار المولع بأندريه جيد.
وعلى خلاف كُتّاب كثيرين فباموق انشغل بمقاومة التغريب -أو ما يمكن تسميته بـ”عصر الاستهلاك” أو التغريب المادي – الذي روّجت له صحف تركية يسارية وكُتّاب صارت كتاباتهم من كلاسيكيات الأدب التركي، وقد صار اتجاهًا قوميًّا بعد إعلان الجمهورية، وقضى على الهُوية التركيّة المحافظة؛ لذا جاءت روايته الأولى “جودت بيك وأبناؤه” 1982 كمحاولة لمقاومة التغريب الذي كان قد استشرى في الطبقة المتوسطة التي تنتمي إليها عائلته. وعلى نفس النهج استمر في مهاجمته للرأسمالية الغربية التي غزت عبر سلعها -الاستهلاكية وماركاتها العالمية – أسواق تركيا في روايته “الحياة الجديدة” 1995، ففيها استنكار من إمبريالية الرأسمالية العالمية التي غزت الأسواق، وقضت على الإنتاج المحليّ، وقد غدا مفهوم التحضّر الذي يتعلّق به المواطن عبر أشياء تافهة – في نظر باموق – انمساخ، وخضوع للغزو الرأسمالي. الغريب أن باموق في إشارته إلى مدى تأثّر الغازي مصطفى كمال بآراء أندريه جيد في رحلته إلى إسطنبول، وقد مُرّرت له عبر كاتبه المقرّب “يحيى كمال”، واستهجانه من ثقافة الملابس التي تنتمي إلى الحضارة التركية التي سخر منها جيد، لدرجة أنه ردَّ ضعف تركيا وفقرها يعود إلى انتمائها لتقاليدها، وثقافتها القديمة. وفي فعل مضاد راح يرصد التغيرات التي حلّت في أفكار الكثيرين ممن كانوا يعتبرون الجنة في أوروبا، فبدأت أفكارهم تتحلل، ويرون أوروبا لا تختلف عن بلادهم، فيتحدثون عن شرور الغرب، وعن أشكال التعذيب فيها ومعاناة الأقليات وغيرها من ظواهر لم يلتفتوا إليها من قبل بسبب رومانسيتهم، لكن الغلالة رفعت عن عيونهم، إلا إن الشيء الوحيد الذي يتمنى أن يسود في بلاده هو حرية التعبير التي تمثّل غُصّة له عندما يسأله أحد ما المحظورات التي تودُّ قولها في رواياتك، ما عدا ذلك، فهو لم ينشغل بمسألة توتر علاقة الشرق والغرب أو حتى التطلع إلى تقليد الثقافة الغربية في أنماط الحياة اليوميّة، بل تشعر أنه محافظ بتدبر، فهذه المسألة (الصراع بين الشرق والغرب، أو صدام الحضارات ) يعتبرها مجرد صيغة شريرة اخترعت وفرضت من جانب الغرب، ولا تخدم إلا السياسيين، وأن قضية الشرق والغرب تدور – فقط- حول الثروة والفقر، وحول السلام.
- في أسلوبه السردي، هل هو الحكّاء التقليدي أم الروائي التقني؟
يعترف باموق بأنه خالف الكتاب الأتراك الذين كانوا مولعين بالكاتب الأمريكي شتاينبك، والروسي مكسيم جوركي؛ حيث كان متأثرًا بالكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف، وإن كنت أضيف أنه متأثر بتولستوي، والوقوف على تفاصيل المشاهد الدقيقة، رغم أنه لم يذكره ضمن المؤثرين فيه، إضافة إلى تأثره بالتراث الشرقي كما سبق أن ذكرت، لكن مع هذا فقد خلق لنفسه طريقته، وأسلوبه الخاصين، فهو من جانب حكاء كبير، يتتبع شخصياته، وينسج عوالم خاصة بهم ينفرد بها لوحده، كما أن حضور المروي عليه / القارئ، يمثل ملمحًا مهمًا في بنية الرواية، فهو دائمًا يحاوره، ويفسّر له بعض أفعال الشخصيات، بالإضافة إلى الزمن عنده، هو زمن ينتمي إلى زمن يولسيس لجيمس جويس، فمن الممكن أن يسرد شريحة زمنية تمتد إلى أكثر من عقدين، في مشهد واحد، والبطل ما زال يحتسي كأس الشاي، أو يُشاهد مباراة كرة قدم بين فريقي جلطة سراي، وفنار بهجة. باموق ليس من نوعية أصحاب الكتابة التلقائية، وإنما هو من نوعية أصحاب الكتابة المدروسة، والواعية بواسطة العقل، وربما راجع هذا لتأثّره بمقالة شيلر عن “الشاعر الساذج والشاعر الحساس”. فباموق يعي جيدًا أن كتابة الرواية عنده هي بمثابة تقديم دراسة إنثربولوجية للمجتمع والثقافة، بل إن الرواية تتجاوز وظيفة “النص الإشاري” الذي هو نص وصفي تسجيلي يشير إلى الأحداث التي تقع في لحظة ظهور النص إلى “النص الشرطي” الذي هو “نصّ استشرافيّ استكشافي يحاول دومًا أن يغيِّر ويكسر حدود اللحظة التاريخيّة التي يوجد فيها” كما عند ريموند وليامز، فحادثة الفتيات المنتحرات على اختلاف الأسباب
المتأمّل لروايته “متحف البراءة” يكتشف كيف صاغ من حكاية بسيطة، مروية مهمّة تصوغ مفاهيم وجودية عن الحب والسعادة، حارى الشعراء والفلاسفة والكتاب في وصفها، باموق عبّر عنها بأسلوب سهل، بعيد عن حوادث الانتحار والخيانة، فقط الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، معتمدًا على تقنيات حديثة، جاعلاً من أشياء ربما مهملة بالنسبة لنا كقرّاء، مؤثرة وصانعة لأحداث جوهرية على مستوى علاقة الشخصيات ببعضها، وتحديدًا علاقة الحب بين كمال وفيسون، وبين التقاليد المجتمعية والأفكار الثورية التي يتبناها الجيل الجديد. وهو ما تكرر في مرويته “غرابة في عقلي” 2014، حيث يحكي حكاية “مولود قرة طاش” ورحلته من قريته في وسط الأناضول إلى إسطنبول، راسمًا التغيرات التي طرأت على المكان، عبر شخصية “مولود” بائع شراب البوظة واللبن في الحواري، ومع وجود الحكاية التقليدية، إلا أنها مصاغة بتقنيات حداثية، يكشف فيها عن خيبات الصداقة والأحلام، وبالمثل في رواية “البيت الصامت” بنية الرواية معتمدة على تعدّد الأصوات، وهي تقنية حداثية بامتياز. على الجملة باموق حكّاء بمواصفات الحكائين الكبار، وتَقني باستثماره تقنيات الرواية الحديثة، روايته “اسمي أحمر” التي نشرها عام 1991، رواية عن المنمنمات العثمانية والإيرانية، والرسم، مكتوب بأسلوب بوليسي مشوّق، لم يستعمله باموق سوى في كار حيث رحلة الصحفي (كا) إلى مدينة قارس، حيث انتحار الفتيات، إلا أن الرحلة تكشف عن أوجه العنف في المجتمع التركي، وحالة التوتر بين أطياف فاعلة في المجتمع، وكأنه يقدم صورة مصغّرة لواقع مشحون، ويوشك على الانفجار فكانت الانتخابات هي المتنفّس الذي أخرج ما تحت الرماد.
- يرى كثير من قرّائه أنه يعيد طرح مواضيعه وأفكاره القديمة، ولكن دون نفس الحيوية، بينما يعتقد البعض أنه عانى من الإرهاق الإبداعي بعد تحقيقه قممًا كبرى، ولم يكتب روايات بمستوى اسمي أحمر وثلج. ما مدى صحة هذا الرأي؟
لو صحّ هذا الكلام، فما قولك في روايته الأخيرة “ليالي الوباء” 2021، التي كان يكتبها أثناء انتشار كوفيد 21، وهي من المصادفات، أن فكرة الرواية تدور في عام حدث فيه وباء، حاصر جزيرة منيغر في اليونان. وهو ما يؤكد أن رؤية الكاتب ربما قد تسبق الواقع، فباموق لا نقول تنبأ بالجائحة، فهذا غير صحيح، لكن الحسّ الروائي عنده، جعله يذهب إلى زمن حدث فيه وباء مشابه، وراح ينسج مرويته، التي نُشرت أثناء الحصار الوباء للعالم في عام 2021. وليس الأمر لأنه المروية تنبأت بالوباء كما ردد البعض، ولكن بنية الرواية، وقراءته للتاريخ التركي، والمعنى الأصح هو مراجعته، ومحاكمته، فالشخصيات التي ذكرها في الرواية، بقدر ما لها مرجعية تاريخية، تكسبها حصانة، إلا أن باموقًا وفقًا للتخييل الروائي، أعاد صياغتها وفقًا لرؤيته هو، وفهمه لما صنعته، ومن ثم جردها من قداستها. وهو انعكس بالسلب على باموق نفسه من حرّاس القوميّة.
قد يبدو لقارئ باموق المتعجّل هذه النظرة، وأنه يكرّر نفسه، ومرجع هذا عندي، لسبيبن؛ الأول هو تركيزه على مدينة إسطنبول، وتاريخها، وهويتها، والتحولات التي أصابتها على مختلف العقود؛ خلافة، وجمهورية، وإسلامية، ورأسمالية، والسبب الثاني، هو مرجعيته التاريخية، فباموق يلحُّ كثيرًا على فترة الثمانينيات وما حاقها من انقلابات عسكرية، ولكن في كل مرة يُقدّم جديدًا ويفتح خزائن المدينة العتيقة.
- لماذا لا نجد في أعمال أورهان باموق شخصيات روائية عظيمة مقارنة بكُتّاب آخرين مثل دوستويفسكي، ماركيز، أو نجيب محفوظ؟ هل يعود ذلك إلى أسلوبه السردي، وهويته الأدبية، أم إلى طريقته في التعامل مع الشخصيات داخل نصوصه؟ وهل يمكن القول إنه كاتب أفكار أكثر منه كاتب شخصيات؟
أتفق مع حضرتك في بعض ما طرحته، وتفسير هذا عندي؛ لأن باموقًا مولع بالمكان، وخاصة إسطنبول، فمعظم روايته تدور في إسطنبول، وما خرج عن دائرة إسطنبول كروايتي: “ثلج، وليالي الوباء”، حيث تدور الأولى في مدينة قارص، والثانية في جزيرة في اليونان، إلا أن بداية حركة الشخصيات فيهما بدأت من إسطنبول. وذكريات المدينة حاضرة في المدن الجديدة، ومع هذا فهناك شخصيات خالدة مثل شخصيتي “كمال” و”فسون” في رواية “متحف البراءة” والقزم رجب الابن غير الشرعي لرب الأسرة، والجدة فاطمة في “البيت الصامت” 1991، وشخصية الشاعر “كا” في رواية “ثلج”، ومولود ورائحة في “غرابة في عقلي“، كل هذه الشخصيات يمكن اعتبارها شخصيات نمط على غرار شخصيات: سي السيد وأمينة، وجبلاوي، أو كامل رؤبة لاظ، وغيرها لنجيب محفوظ، أو شخصية “آنا كارنينا” لتولستوي، وراسكولنيكوف بطل “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي، لكن نظرًا لتشابك حكاية الأشخاص بالمكان يطغي المكان، ويصبح هو محور الرواية، دعني أحيلك إلى ملحمة الحرب والسلام لتولستوي، لم تُعْرَف باسم بطلها “بيير بيزوكوف” الذي استطاع أن يجد السلام داخل نفسه، ومنحه للآخرين، وإنما انداحت هذه الشخصيات في أحداث الرواية. في المطلق باموق لا يكتب رواية شخصيات، وإن كان يجيد رسم المعمار الخارجي والنفسي لشخصياته، هو يكتب رواية مكان، على عكس صباح الدين عليّ الذي يكتب رواية شخصية، كما هو ظاهر في شخصية رائف أفندي في رواية “مادونا صاحبة معطف الفرو“، أو “يوسف القويوجاقلي “، أو “إنجه مميد“ ليشار كمال، باموق غارق في التحولات التي عصفت بالمكان، والتغير الديموغرافي للسكان سواء قديمًا، أو حديثًا بسبب السياسات الرأسماليّة، وتغيير هوية المكان عبر ما عرف بالاستبدال الطبقي أو الاستطباق، وهو ما يعارضه باموق بشدة، وهو جزء من معارضته للرأسمالية الغربية بصفة عامة.
- عند توغّله في العوالم الفلسفية والتأملية، هل نجح أورهان باموق في تحقيق التوازن بين الفكر والسرد، أم أن رواياته أقرب إلى نص فكري منها إلى قصة؟
يمكن وصف أعمال باموق بأنها تطرح أفكارًا عبر حكايات، أي أنه لا يطرح الأفكار كنظريات قارّة، مفهوم الرواية عند باموق كما حدّده في “الروائي الساذج والحساس” 2010، مفهوم شاعري “فالروايات حياة ثانية، مثل الأحلام التي تحدّث عنها الشاعر الفرنسي جيرارد نيرفال، فهي تكشف لنا الألوان والتعقيدات في حياتنا، وهي مليئة بالناس، الوجوه والأشياء التي نشعر بأننا نعرفها من قبل”. وهو ما طبّقه عمليًّا في أعماله التي تجسّد صراعات الحياة اليوميّة بكافة صوّرها؛ البحث عن الأب، البحث عن السعادة، الأمان، الحب، السلام، الاستقرار، وكذلك عنف المعتقدات الأيديولوجية أيا كان مصدرها، وسطوة الحياة الاستهلاكية، وتوغُّل (أو شره) الرأسماليّة العالميّة، في المجمل هو مشغول بالبحث عن تركيا المعاصرة وسط كم المتغيرات (الداخلية والخارجية) التي جرفتها إلى عالم آخر لا يحبه. من خلال قراءتي للكثير من نتاج باموق الروائي، والفكري، يمكنني أن أقول باطمئنان، إن المشاهد التي تمتد إلى صفحات طويلة، وغارقة في تفاصيل دقيقة، حتى تلك التي يتخيّل القارئ أنها لا تحتاج إلى مثل هذه المساحة من السرد، لكنه يعالجها بأسلوب الفنان الذي يلتقط زاوية معينة ليبرز جمال لوحته، وهو متأثر بطبيعته كرسام؛ كل هذه التفاصيل التي تُنْسج بها الأحداث تُحاك بدقةٍ ووعي شديدين. جميعها تعكس أفكارًا وفلسفة باموق في الحياة والسياسة، وهي خلاصة تجربته التي اكتسبها من توتر حياته العائلية، وقراءاته المعمقّة، والصراعات السياسية في تركيا الثمانينيات، والأهم ملاحظاته وهو يقرأ الوجوه والناس في الشوارع أثناء تجواله.
- على الرغم من أن أورهان باموق لا يشتهر بشخصيات روائية عظيمة، إلا أن بعض شخصياته تمتلك حضورًا لافتًا. هل تتذكر شخصيات تركت أثرًا داخلك أثناء قراءتك لأعماله؟
سبق أن ألمحت إلى هذا في سياق الإجابة عن سؤال سابق، وبشكل أوضح أقول بالطبع هناك شخصية كمال في “متحف البراءة”، وشخصية الصحفي كاتب العمود “جلال صاليك”، ونصائحه إلى القراءـ وبالمثل شخصية الشاعر “كا” في رواية “ثلج“، وجام شيلك بطل “المرأة ذات الشعر الأحمر“، والأخير ما زال يطاردني شعوره بالرغبة في قتل الأب، ومن شدة تأثري بشخصيته، كتبت دراسة عن قتل الأب في الأدب نُشرت في بستان الكتب في أخبار الأدب، وما زالت الفكرة تستهويني، ولو اتيحت لي الفرصة سأطوّرها.
- تظهر الأم في بعض رواياته، لكنها غالبًا ما تكون شخصية ثانوية غير مؤثرة في قرارات الأبطال، بينما يلعب الأب دورًا محوريًا. ما دلالة هذا التفاوت في رسم الشخصيات؟
لو قرأت خطاب الفوز بنوبل والذي حمل عنوان “حقيبة أبي” ستجد تأثير الأب طاغيًّا، لدرجة أنه لم يتحدث عن نفسه كأديب فائز بنوبل، الكل ينتظر تقديم تجربته الإبداعية، بقدر ما تحدث عن موهبة أبيه، وتأثيره فيه. هو خطاب ولاء للأب عكس ما فعل كافكا في رسالته للأب، وسعى فيها إلى قتل الأب. البحث عن الأب بارز في روايات باموق، انظر بطل “المرأة ذات الشعر الأحمر” جام شيلك، وإن كان في ظني هو يقصد البحث عن الأم الغائبة عن البيت، وكانت دائما غاضبة، لو قرأت ما كتبه في سيرته “إسطنبول: الذكريات والمدينة“، ستعرف أسباب التهميش وعدم التأثير. في فصل عنونه بـ: “أبي وأمي واختفاءات متنوعة” سرد ذكرياته عن الأم بصورة سلبية، لم يكن متعاطفًا معها، بل كان يلومها على تصرفاتها. فعلاقته بأمه التي كان يعيش معها، بعد انفصالها عن أبيه، علاقة يحكمها الجفاء، حيث كانت تسخر منه لكونه كاتبًا، ودوما تُحبطه بقولها: “إن الكتابة لن توصلك إلى نتيحة“. بصفة عامة صورة الأم في كتاباته هي انعكاس لمخزونها في ذاكرة الطفل الذي كان، وما زالت يقظة (وحادة) أثناء الكتابة.
- على الرغم من أن بعض رواياته تتناول العلاقات الرومانسية، إلا أنه لا يمنحها الدفء العاطفي. فهل هذا يعني أنه روائي لا يجيد كتابة الحب، أم أنه يأخذ الحب إلى أبعاد أخرى تتعلق بالهوية والصراع الطبقي المجتمعي؟
فكرة افتقاد الدفء العاطفي، هي العنوان الأبرز لشخصيات باموق، الحب غير مكتمل، مهما كان ملتهبًا، كأن باموق يعكس الواقع، فمعظم قصص الحب الكبرى تنتهي بإخفاق، فمثلا الرواية الكاملة التي تدور عن الحب هي “متحف البراءة“، لكن هو حب من طرف واحدـ، ومن ثمّ سعى كمال بطل الرواية إلى جمع المقتنيات الخاصة بحبيبته فسون ابنة عمه الفقيرة، وعمل بها متحفًا، ليصنع تاريخًا مشتركًا بينهما، في ظل غياب التاريخ الحقيقي (المفترض)، وأيضًا استعان بكاتب يكتب له قصتها. في إشارة إلى العجز عن فهم سبب الإخفاق في الحب، وهو سؤال محير لم يجب عنه أحد بما في ذلك الفلاسفة، حتى إن (إيفا لوز) تساءلتْ في استنكار: “لماذا يجرح الحب؟”. وبطل رواية “الحياة الجديدة” المهندس عثمان عاكف، الذي يسير وراء طيف كتاب قرأهُ وغيّر حياته، يفقد حبه وشغفه لصديقته جانان، فلا يجد بديلاً غير البحث عنها، ويذهب إلى أهلها. لكنها لم يدرك الحقيقة الموجعة أنها تكن تحبه، فقط شاركته قراءة الكتاب، رحلتْ وتزوجت من طبيب ألماني، وظلّ المحب يعيش على طيف ذكرياتها منذ التقاها في الجامعة.
رحلة فقد الحبيبة متكرّرة، ففي رواية “الكتاب الأسود” أعطي باموق مساحة لغالب ورؤيا لتنامي مشاعرهما منذ الطفولة، لكن في النهاية هربت رؤيا وراح يبحث عنها، و”كا” بطل ثلج كان ثمة علاقة حب مبتورة واكتشف أن حبيبته “إيبيك” على علاقة مع آخر “كحلي”. ومولود الذي وقع في حب الفتاة القروية منذ أن نظر إلى عينيها، وأخذ يكتب لها الرسائل، مستفيدًا من كتب الجيب والقواميس، اكتشف أن صديقه سليمان خدعه، والفتاة (رائحة) التي تزوجها، ليست حبيبته (سميحة) التي وقع أسير عيونها، الغريب أن مولودًا يعود ويتزوج من حبيبته سميحة بعد وفاة أختها، ويخبرها أنه كان يكتب الرسائل لها، عودته لحبيبته الأصلية سيناريو كتبه القدر بوفاة زوجته، لولا هذا لكان عاش وهو يجتر مأساة ضياع حبيبته بصمت. عدم اكتمال الحب هو نتيجة طبيعة لانعكاسات الواقع الذي يقهر أشخاصه بصفة عامة، فما بالك بالمحبين، الذين هم أكثر الناس قهرًا بسبب ظروف الحياة الاقتصادية، والطبقية وغيرها؛ فغياب الدفء العاطفي في علاقاته نتيجة طبيعية لتوتر شخصياته وشعورها بالقلق وهو ما ظهر في شخصية حسن في رواية البيت الصامت، العاشق التعيس، في النهاية يؤمن باموق” أننا نقع في الحب بعمقٍ أكبر عندما نكون تعساء “.
- يستخدم باموق الرواية كوسيلة للتأمل في القضايا السياسية والاجتماعية. فهل هو منظّر سياسي جيد من خلال سردياته الروائيّة؟
لا نستطيع أن نصف روائيًا بأنه منظر سياسي، ولا ننتظر منه هذا الدور، فلكلّ دوره الذي يجيده. الروائي – بطبيعة الحال – يقدّم رؤيته الخاصّة المتصلة بأيديولوجيته وقناعاته وموقفه مما يحدث، وقد تكون مضادّة لرؤية السياسي، فبكل تأكيد هو شاهد على أحداث ومسارات مهمة في بلده، ومن ثمّ يصوغ رؤيته في صورة غير مباشرة، فلا يُقدّم خطابات السياسيين أو وجهات نظرهم، وإنما يُقدّم نتائج السياسة، وأثرها على المجتمع، بإيجابياتها وإخفاقاتها حتى تولستوي الذي قدّم رائعته الحرب والسلام، أو الألماني إريك ماريا ريماك، الذي كانت جميع أعماله مناهضة للحرب التي اشترك فيها وقدّم روائعه مثل: “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية، والرفاق الثلاثة، وللحب وقت وللموت وقت“، وغيرهما من كتاب لم يطلق عليهم هذا الوصف. الروائي يقدّم وجهة النظر الأخرى، ربما تلك التي لا تكشف عنها الوثائق والمراسلات، بمعنى الجانب الخفي – أو المظلم – للسياسة، لكن لا أنكر أن ثمة خيطًا رفيعًا غير مباشر في كتابات باموق يكشف عن توجهه السياسي، ورفضه للكثير من المواقف السياسية سواء للعلمانيين الذين ينتمي إليهم، أو الإسلاميين، أو حتى الفصائل الأخرى المعارضة كالأكراد، أو الأقليات كالأرمن، أو الانقلابات التي أجهضت حلم تركيا في النهوض لسنوات طويلة، لكن ليس بمباشرة، كتابة عمل سياسي صريح كان في “ثلج”، ثم في “ليالي الوباء” ولكن بدون خطابيّة.
- لدى أورهان باموق نوع من الحياد الارتيابي تجاه القضايا التي يطرحها. فهل يجعل ذلك من الصعب تحديد موقفه من القضايا التركية أو من صراع الهوية بين الشرق والغرب؟
على العكس تمامًا، وهو ما سبّب له مشكلات سياسيّة، وتهديدات بالقتل وحرق لكتبه، وملاحقات أمنية، بل تمّ الحكم عليه بالسجن عام 2005 في تهم تتعلق بإهانة مؤسسات الدولة، والهُوية التركية، بسبب تصريحات صحافية أظهرت تعاطفه مع ما حدث مع الأقليات في بلاده، وما تعرضوا له أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم تمّ تبرئته في نهاية الأمر، وقد أثارت روايته الأخيرة “ليالي الطاعون” 2021 عاصفة من الاحتجاجات ضده من القوميين لاتهامه بالسخرية وإهانة الرمز التركي، وهو ما يستوجب محاكمته على هذا العبث كما طالب صحافيون قوميون.
- هل استطاع باموق أن يمنح إسطنبول في رواياته العمق الفني الذي تمتلكه بطرسبرغ في الروايات الروسية؟ وهل نجح في ذلك؟
بلا شك. إسطنبول مدينة ذات طبيعة مختلفة تمامًا، فهي تقع بين عالميْن، وشديدة التعقيد، فهي مزيج من مدينة إسلامية تقليدية، ومدينة أوروبية ليبرالية، وصفها فيليب فانسيل بأنها “المدينة التي اشتهاها العالم“، على كل حال هي متجذرة في كتابات باموق، وغير باموق من الكتاب، وكذلك حاضرة في كتابات كُتّاب أجانب، فقد كتب عنها جوزيف كانون روايته “ممر إسطنبول“، وغيره، لكن بصفة عامة إسطنبول مختلفة عند باموق، فهي روحه.
حضور إسطنبول في كثير من أعماله أشبه بمرثية للمدينة القديمة التي يفتقدها باموق ويبحث عنها (وما زال)، فنراه غاضبًا ممّن يُسيء إليها على نحو غضبته مما كتبه أندريه جيد في مذكراته عنها. وقد عبّر باموق جيدًا عن علاقته الحميمة مع المدينة في سيرته الذاتية “إسطنبول الذكريات والمدينة“، ومن شدة تعلّقه بالمدينة وُصِف باموق بأنه “الباحث عن روح المدينة الحزينة والسوداوية”، ففي كل عمل من أعماله يمنح قارئه سرّا (أو مفتاحًا) من أسرار المدينة العتيقة، وكأنه يسعى إلى اكتشاف المدينة القديمة. فمع تعدد رواياته التي تدور أحداثها في إسطنبول، إلا أنها المدينة تظهر بوجوه متعددة، بكل طبقاتها؛ البرجوازيين والأثرياء، والمقلدين لعادات الغرب، والهاربين من قراهم، أصناف ووجوه متعددة، تحدّث عن كوزومباليتها حيث احتضانها الثقافات والشعوب والأعراق، وما اشتملت عليه من نقائض وغرائب لا يمكن تصورها كافتخار الفتيات الدارسات في باريس بإقامة علاقة قبل الزواج، وعادات ذبح الأضاحي في العيد التي جاء بها القرويون، ومستوى الثقافة لساكني الأبراج الجديدة، حتى النخبة المثقفة، فهناك العلمانيون، والإسلاميون، والأصوليون، والقوميون، واليساريون، وغيرهم. في ظني المدخل إلى إسطنبول هو باموق، بالأحرى هو راوي المدينة، على نحو ما كان نجيب محفوظ “راوي القاهرة”، فهو العالم بأسرارها والمكتشف طبقاتها الديموغرافية، وما حلّ عليها مِن تغيرات على مدار تاريخها من صراعات تاريخيّة، وانقلابات، وزحف سكاني، وهو ما أكسبها تعددية وفي الوقت ذاته حيوية بصراعات طبقية غير متوقعة بين سكان محليين ينتمون إلى جغرافيا المكان، لكن يختلفون ثقافيا عن بعضهم البعض. لو قلت لك إن مدينة باموق -المشتهاة – والتي يبحث عنها في ارتحالاته الروائيّة فحسب قوله “لم أعد أعرف من ملامح إسطنبول سوى البوسفور ومساجدها ومعالمها الأثرية” هذه المدينة التي يُشكِّلها بكتابتها مدينة لا تُرضي البرجوازية التركيّة الطموحة، ولا اليسار التركي، فقط هي ترضي باموق وهذا يكفيه.
———————–
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المحاور والضيف فقط.