علينا أن نَخْبُرَ التِّمْبِييَتُّو في روما بكلّ جِسْمِنا: الوجود في مَبْنَى | ديفيد كارمون
ترجمة: فادي حنّا - تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري

يُذكِّرُنا أحد أعظم بِنايات عَصرِ النهضة أنّ المبَاني تُشيَّد؛ لكي تُستَكشَف، وتُشَمَّ حتَّى إنّها تُذَاق.
يحتلُّ التِّمْبِييَتُّو (Tempietto) -الذي يرجع إلى القرن السادس عشر من تصاميم المِعماري دوناتو برامانتي (Donato Bramante)، في روما-، منزلةَ القلب في تاريخ فن العِمارة الغربية. يتوافق مُخطَّطه الحدقيّ (عين الثور) بدوائره مُتحدة المركز التي تشعُّ من نقطةٍ واحدة، بصورةٍ تامّة مع المكانة المركزية التي يحتلّها ذلك «المَعْبَد الصغير» في تاريخ العِمارة. كثيرًا ما يذهب مُؤرِخوّ العِمارة إلى أنَّ التِّمْبِييَتُّو بمثابة استعارة هندسية وافية «للرجل الفيتروفي» (Vitruvian Man)، وهي دراسة لنسب الجسد الإنسانيّ، من أعمال ليوناردو دافنشي (١٤٩٠)؛ إذ إنّ التصميمين كليهما يمجِّدان شكل الإنسان بتثبيته في مَركَزِ كَوْنٍ يسيرُ على أحكَم صور النظام.
مع ذلك، فإنّ مقارنة هاتين الصورتين تحثُّنا على التفكير في التِّمْبِييَتُّو من جهة كونه نمطًا مُجرَّدًا -لا مُجسَّدًا- من الأشكال المرئية، بدلًا من التفكير فيه بصفته بيئةً فيزيقيةً مُنَصَّبَةً؛ لكي تَحوي أجسادًا بشريّة دينامية حيَّة. وقد بيَّن المعماري الفنلندي جوهاني بالاسما (Juhani Pallasmaa)، في بيانه الكلاسيكي: “أعين الجِلْدِ” (The Eyes of the Skin) (١٩٩٦)، أنَّ الخبرةَ التي تُقدِّمُها لنا العِمارة، خبرة مُجسَّدة ثريّة لا تشركُ العينَ وحدها بل حواسّنا كلها معًا.
إنَّ تأكيدنا على الجوانب المرئية من التصميم المِعماري تُغفلُ حقيقةَ أننا نعتمدُ على حواسِّنا كافة؛ لكي نَفهَم المبانيَ ونعرفها، ومن ذلك الرُّؤية، والسّمع، والشّم، والتّذوق، واللّمس، وكذا الحواسّ الجسدية كحاسة إدراك الحركة المُتعلقة بالاتزان والتحرُّك.
أودّ هنا إعادة النظر في التِّمْبِييَتُّو بأن أَصرِف الانتباهَ عن المَنظور العينيّ الأخّاذ، والنَّظر في الكيفية التي قامت بها مجموعة مُتنوعة مُعقدة من الخبرات الحسِّية بتحديد لِقاءِ زائريّ التِّمْبِييَتُّو في القرن السادس عشر.
حظيَ التِّمْبِييَتُّو بإعادة إحياءٍ لافتة للنظر؛ ففي رسالته: الأسفار الأربعة في العِمارة (١٥٧٠)، ضمّ أندريا بالاديو (Andrea Palladio) التِّمْبِييَتُّو -الذي اكتمل بناؤه في ١٥٠٢- ضمن أعظم آثار روما القديمة، وقد برَّر اختياره ذلك بالتأكيد على أنَّ مُصمّمه برامانتي «كان أوّل مَن أخرج العِمارة الجيدة والجميلة التي كانت قد توارت عن الأعين منذ زمان القدماء حتى وقتنا الحاضر». رأى بالاديو أنَّ التِّمْبِييَتُّو يُطابِقُ الأعمال العظيمة القديمة، وهو ما يُشير إلى عودةٍ غالِبةٍ إلى لُغة العِمارة الكلاسيكية «الجيدة، والجميلة» التي تناساها البنَّاؤون القروسطيُّون.
على الرغم مِن وقوفه متواريًا في فِنَاءِ كنيسة سان بيترو في مونتوريو، فإنَّ التِّمْبِييَتُّو قد دخل إلى العالمية؛ بأن اختاره برامانتي نموذجًا لإعادة تصميمه لكاتدرائية القديس بطرس التي بدَأ العمل عليها في ١٥٠٦. وقُبّة كاتدرائية القديس بطرس الهائلة -التي اكتمل بناؤها بعد قرنٍ من الزمان- هي تمبييتو مُضخم، لا يزال إلى اليوم يُهيمِنُ على روما، وهو رَمزٌ انتصاريٌّ للتطلُّعات البابويّة والكنسية العالمية. إنَّ مظهرها المُتدرج المُذهل الذي يُحلِّقُ عاليًا فوق المنظر الحضري، قد ألهَم تصميم العديد من المعالِم الدينية والدنيوية حول العالَم: من كاتدرائية القديس بولس في لندن، إلى مبنى الكابيتول الأمريكي في واشنطن.
مع ذلك، حتى إذا أدركنا على الفور صورة ظلّ التِّمْبِييَتُّو، فإنّ هذه المعرفة المرئية لا تُعادل الخبرةَ المُعقدة، التي نخبرها حين نشغل حيِّزًا داخل بِناءٍ كهذا، ونتحرّك فيه. يمكن للمَبْنَى أن يشكِّلَ مجموعةً لا حصرَ لَها من الخبرات؛ فهو لا يستثيرُ حاسّةَ الرُّؤيةِ فحسب، بل يستثيرُ كيفيّة وماهيّة ما نسمع، ونشُمّ، ونتذوّق، ونَلمس. إذا ما نظرنا إلى الخبرات الحسِّية باعتبارها ظاهرةً متموضعةً تاريخيًّا وثقافيًّا، فإنَّ السؤال يغدو أكثر تعقيدًا: فهل يمكنُ تعيين شيء من الانطباعات التي خلَّفها ذلك المَبْنَى لدى من شَاهده وقت بنائه؟
التِّمْبِييَتُّو يرتبط برباطٍ لا فكاك منه بتطور المَنظور الخطِّي
حتى إذا افترضنا أننا اليوم نملك تقريبًا فسيولوجية الإنسان ذاتها، مثل أولئك الذين عاشوا في القرن السادس عشر في روما، فإنَّ كلّاً منّا يفسِّر خبراته من خلال عدساتٍ يُشكِّلها زماننا ومكاننا الذي نحيَا فيه. يمكن قراءة التِّمْبِييَتُّو بوصفه موضوعًا فيزيقيًّا بالغَ التعقيد، صُمِّم لإثارة الحواسّ بطرائِقَ شتَّى، وخَلَق مجموعة كاملة من الخبرات التي قد تتفقُ مع توقعاتنا الخاصة أم لا. إنما بإعادة بناء طرائق أخرى لمعرفة هذه العِمارة؛ حتى يَسعنا أن نُدرك أوّلًا كيف تعرضُ أيقونة مرئيّة كالتِّمْبِييَتُّو ما هو أكثر من لَذةٍ لأعينِ الرَّائي، بل يمكنها أن تخلقَ مجموعةً لا حصرَ لَها من التفاعلات الحيَّة.
لِمَ نُعلي تلقائيًّا من شأن حاسَّة الإبصار حينما نُفكر في التِّمْبِييَتُّو؟ يكمنُ أحد الأسباب في أنَّ التِّمْبِييَتُّو يرتبطُ برباطٍ لا فكاك منه بتطوُّر المَنظور الخطِّي، وأنَّ المُشاهدات المُطلَّة على البناء المَبنية مِحوريًّا تُظهِرُه من منظورٍ صارم أحاديّ النقطة؛ مما يُعزِّزُ الانطباعَ المُوحي بأنَّ الاعتبارات المَنظورية تلعبُ دورًا عظيم الأهمية في مُخطّط بنائه. تشتق الكلمة اللاتينية: perspectiv من الفعل: perspicere، الذي يعني: «الرُّؤية بوضوح، والنَّظر إلى، والرؤية مِن»، وكانت ترادف في الواقع البصريات (optics). ينزع مُؤرِخوّ العِمارة إلى النَّظر إلى الوضوح الجليّ الذي يُميّز تصميم التِّمْبِييَتُّو -كما يظهر ليس فقط في أناقة تخطيطه المركزي، ولكن أيضًا في تفاصيله المِعمارية الدقيقة-؛ بوصفه علامة مُميزة لعِمارة عَصر النهضة [الرينيسانس].
بالنَّظر إلى الخصائص التي يغلب عليها الطَّابع البصري، والتي يسبغها مُؤرِخوّ العِمارة على التِّمْبِييَتُّو، فليس من المُستغرب أن تطغى القراءات البصريّة للبناءِ على القراءات الأخرى؛ ذلك أنَّ تاريخ فن عِمارة عَصر النهضة ذاته يحثُّنا على اتباع ذلك المسلك إزاء المَبنى. بيدَ أنَّ تأكيدنا المُتواصل على الجانب البصريّ؛ يُصعِّبُ علينا معرفةَ مدى قدرتنا على التفاعل مع التِّمْبِييَتُّو بطرائق مُباينة.
هل كان المقصد أن يُقدَّرَ التِّمْبِييَتُّو بالأعين فحسب؟ يمكن أن تُعيننا المصادر التاريخية على استعادة القراءات الأخرى الأكثر تعقيدًا لهذه البنايات والفضاءات، فقد أدَّى تشبُّثنا بحاسَّة البصر إلى تجاهُلها.
فلنبدأ بالنَّظر إلى مقطعٍ من رسالةٍ مِعماريّة لڤينتشنزو سكاموزي (Vincenzo Scamozzi): «حول فكرة العِمارة الكليّة (١٦١٥)، (L’idea dell’architettura universale)، حيث يُقدِّم وصفًا عميقًا مُذهلًا لأهمية المعرفة مُتعددة الحواسّ لأولئك الذين يعملونَ في مواقعَ بناءٍ كالتِّمْبِييَتُّو. تدعونا هذه المُناقشة إلى النَّظر في الكيفية التي طبَّق بها البناؤون مجموعةً مختلفةً من الطرق للتمييز بين مُختلف أنواع المواد الخام -إلى درجة مُعاينتها بألسنتهم-، في مقابل تفاعلاتنا ذات الانفصال الأكثر، علاوةً على كونها غير مُجسَّدة، مع مواد البناء في وقتنا الحاضر: «تُعرَفُ الأحجارُ بالحواسّ؛ إذ يسهل تمييز ما إذا كانت أصلب وأخشن بالعين؛ إذ يكون لها لمعان وفي بعض الأحيان وميض بلوراتٍ ملحيّة. أمَّا الأذن، فهي تصدرُ صوتًا مُمتلئًا عميقًا، لا سيَّما في حالة الكُتل الكبيرة منها. ومِن ناحية الشَّم، فهي تعبقُ برائحةِ الكبريت، متى طُرِقَتْ بمطرقةٍ مُسنَّنة، أو كُشِطَتْ بشفرةٍ حديديّة، فإنَّ بعضها من ناحية التذوّق أقلّ حُسْنًا وطَعمًا من بعضها الآخر، ومثال ذلك: الحجارة التي تتألّف من الماء أكثر من التراب، وأخيرًا من جهة مَلمسها، فإنَّ بعضها أكثر كثافة وثقلًا من بعض. ونستطيع من خلال أنفاسنا أيضًا تمييز الحجارة الأصلب والأكثف من الأخرى؛ إذ إنَّ الحجارة الأكثف تكشِفُ فورًا رُطوبة النَّفَسِ على سطحها، لا سيَّما إذا صُقِلت وشُذبت، بينما تمتصُّ الحجارة الأقلّ كثافة النَّفَسَ بداخلها؛ بسبب طبيعتها المَسَاميّة».
إذا كان مُؤرِخوّ العِمارة ينزعون إلى الإعلاء من شأن خِبرة الإبصار في دراستهم لِمباني عَصر النهضة، فإنَّ سكاموزي يقول لنا شيئًا مختلفًا جدًّا، فعلى النقيض من ذلك، إنه يَعي بوضوح الطرائق التي تَستدخلُ بها موادُ البناءِ عدة ضُروب حسيّةً مختلفة. في كتابه: الحواسّ الخمسة (٢٠١٦)، يفترض الفيلسوف مايكل سيريس (Michel Serres) أنَّ الحواسَّ كلّها تنويعاتٌ في النهاية لِحاسة اللَّمس، وإني أزعم أنَّ الفقرة المُقتبسة من سكاموزي يتخلَّلها حضور المَلمس؛ إذ يسهل تخيّل انقباض قبضة البنّاء حول مقبض الإزميل قبيل ضرب كتلة من الأحجار، أو الكيفية التي يُدفئ بها النَّفَسُ للحظةٍ قصيرة كتلةً أرضيّةً باردةً، أو حتى كيف يمكن أن يكتشف المرءُ طعمًا معدنيًّا غريبًا بأن يَلمس سطحَ حجرٍ بلسانه. يسهلُ تخيُّله يُمرِّرُ راحة يده تقديرًا لأسطحِ أعمدته الجرانيتيّة الدوريّة.
يدعونا سكاموزي إلى أن نُقرِّبَ عناصر العِمارة كلّها منّا، ونتفحصها من كل الزوايا؛ من أجل فهمها فهمًا أفضل، ومن ثَمَّ نتلاعب بها تلاعبًا أفضل. وبمعزلٍ عن الموضوع الثابت الساكن المُدرَك بالأعين، فإنَّ سكاموزي يؤكّد على أنَّ البنائين في عَصر النهضة قد عرفوا مواد البناء والمباني عمومًا، عن طريق توظيف حواسهم كلّها؛ إذ إنهم قد اكتسبوا هذه المعرفة الحسية المُتخصصة من خلال خبراتٍ مُعاشة مُستمرة داخل مواقع البناء. ولم تُمكّن تلك المعرفة أولئك البنّائين من الحكم على كيفيات مُحدَّدة تُعزى إلى وحدات البناء المُفردة فحسب، وإنما تخيّل سيناريوهات مُختلفة، حيث يمكن الاستفادة من هذه الكيفيات وتحقيق أقصى إمكاناتها. بينما يُركِّزُ سكاموزي على الحَجَرِ بصفةٍ خاصة؛ بوصفه مادة البناء المُميّزة لعِمارة عَصر النهضة، فإنَّ بنّائِيّ ذلك العصر قد حكموا أيضًا على موادٍ أخرى -كـ: الخشب، والحديد، والزجاج، والطّوب، والجصّ-، بالاستناد إلى مجموعةٍ شديدة التنوع من المعرفة الحسِّية. ثمّ إنَّ احتراف مهنة التجارة -كما يرى سكاموزي- يتطلّب معرفة تلك الصفات والخصائص المادية المُحددة؛ إذ يمكن أن تصير تلك الخبرات الحسِّية المُتراكمة أسلوبًا غريزيًّا في الاستجابة إلى العالَم والتفكير فيه.
ما الذي يَعنيه ذلك من جِهة الطُرق التي قد تختلف بها خبرة زائر التِّمْبِييَتُّو الحسِّية في القرن السادس عشر عن خبرتنا؟ لقد كشف نصّ سكاموزي عن معرفة البنّائين المُتخصصة في المواد، وهي المعرفة التي اكتسبوها بتعرُّضهم المباشر لموقع بناءٍ مُفعم بالحياة، وكذا المهارات الحسِّية التي تمكّنهم من جلبها إلى المَبْنَى. فإذا كان قليل منّا يزعم اليوم أنَّ لديه مثل ذلك النوع من المعرفة أو المهارات، إلا أنَّ بإمكاننا أن نرى كيف شحذت الخبرةُ مَلكاتِ البنّائين الحسِّية شحذًا دقيقًا في تمييز الكيفيات المادية الدقيقة. وإذا عرفنا أنَّ بالاديو قد تدرَّب بوصفه بنّاءً، وتحوّل بعد ذلك إلى مُهندسٍ معماري، فإننا عندئذ نُدرك أن ثناءه الجاد على استعادة برامانتي لأسلوب القدماء في البناء له ثقل خاص. من المؤكد أنَّ بالاديو قد زار التِّمْبِييَتُّو، ورغم أنه لا يحتمل أن يكون قد ذهب إلى حدّ تذوُّق أسطح التِّمْبِييَتُّو، إلا أنه يسهلُ تخيُّله يلمسُ المَظْهَرَ الجانبيَّ لِطَرْفِ قاعدةِ عَمُودٍ بأنامله، أو يُمرِّرُ راحة يده تقديرًا لأسطحِ أعمدته الجرانيتيّة الدوريّة. إنَّ تنوّع الخبرة الشديد الذي يخلقه لنا المَبنى، قد يؤثِّر فينا بطرائق مُتعددة، من الناحيتَينِ الفيزيقية والفكرية، بِوَعيٍّ وبغير وَعيٍّ.
تُخلّدُ خطة التِّمْبِييَتُّو المركزية الموضعَ الدقيقَ الذي اُعتُقِدَ أنَّ القديس بطرس قد صُلِبَ فيه، والذي صوَّره كارافاجيو [مايكل أنجلو]، في لوحةٍ بكنيسة سانتا ماريا ديل بوبولو، بروما أيضًا، وترجع اللوحة إلى عام ١٦٠١. إنّ الوضوح الهندسي الشديد لتصميم التِّمْبِييَتُّو واتساقه يتوافق مع تصميم مَجمَع الشهداء المسيحي المُبكر، وهو عبارة عن هيكلٍ يُبنى لتمييز موضع دفن أحد القديسين. يتألّف المَبنى من كنيستين صغيرتين، إحداهما علويّة أسفل القبّة، موضوعة فوق كنيسة القبو بالأسفل، حيث المكان المقدس. وكثيرًا ما لاحظ المؤرخون المعماريون أنَّ دوائر مخطّط برامانتي متحدة المركز توجِّهُ انتباهنا بطريقةٍ لا محيص عنها نحو النقطة الوحيدة الواقعة في مركزه المُطلَق.
إذا أخذنا في الاعتبار وظيفة التِّمْبِييَتُّو بوصفه وِجهة دينية للحج، فإنّ بوسعنا أن نستعيد بعض الخبرات الحسِّية التي منحها الموقع لزوّاره في عَصر النهضة؛ إذ إنّه رغم مكانته البارزة في تاريخ عِمارة الرينيسانس، فإنَّ التِّمْبِييَتُّو ذاته ليس الوِجهة النهائية لأولئك الحجاج الذين يجيئون لزيارة موقع صَلب القديس بطرس، بل هدفهم الأساس هو المَثوَى الذي يقع أسفل الهيكل، الموضِع الذي جرَّ فيه مُضطهدوّ القديس بطرس المَصْلُوبِ. وقد صعّبت علينا التعديلاتُ اللّاحقة للتِّمْبِييَتُّو تمييزَ الطريقة التي تقابلَ بها الحجاج مع الموقع في الأصل.
بوسعنا أن نحدِّقَ -في وقتنا الحاضر- من خلال شبكةٍ موضوعة على ثغرةٍ دائرية في أرضية الكنيسة العلويّة في التِّمْبِييَتُّو؛ مما يسمح لنا بالنظر إلى أرضية الكنيسة داخل القبو، حيث توجد ثغرة دائرية في الأرض تُحدد أسفلها بدقةٍ موضع التقاء المصلوب بالأرض. مع ذلك، فإنَّ الثغرة التي ننظر من خلالها من الكنيسة العلوية قُدِّمت أوّل مرة في ١٦٢٨، عقب بعض الإصلاحات؛ وقبل هذه التدخلات في القرن السابع عشر لم يكن الزوّار بوسعهم أن يروا النقطة المركزية من تصميم التِّمْبِييَتُّو ولا غاية وجوده، دون دخول كنيسة القبو. في الواقع؛ فإنَّ بنية التِّمْبِييَتُّو الفوقيّة أعلى كنيسة القبو؛ قد حالت دون الحجاج التّواقينَ إلى الاتصال بهذه الأرض المُقدسة.
أمّا اليوم، فثمَّة سُلَّم مُزدوج في الجزء الخلفي من التِّمْبِييَتُّو يُؤدي إلى موضعٍ غائرٍ للنزول، ومن هنا ثمَّة مجموعة أخرى من الدَّرَج الهابط تؤدي إلى كنيسة القبو. رغم أنَّ ثمَّة قضبانًا حديدية تمنعنا من الدخول، فإنَّ مكان النزول يمنحنا رؤية واضحة للمساحة الداخلية؛ إذ بوسعنا أن نرَى بسهولةٍ كلًّا من الثغرة الدائرية الموضوعة على مركز المعبد، والتي تحدِّدُ موضع صلب القديس بطرس، والمذبح الذي يقع خلفها مباشرة. وقد كان المدخل الوحيد لكنيسة القبو قبل عام ١٦٢٨، يمرُّ عبر مدخل يقع في جدار التِّمْبِييَتُّو الخلفي، أعلى منطقة النزول، وفي مُستوى صفّ الأعمدة. ولا تزال هذه الثغرة إلى يومنا هذا، وهي في مقابل المدخل الأمامي للكنيسة الرئيسة مباشرة، ورغم أنها تمثّلُ الآن نافذة علويّة تطلُّ على الكنيسة الصغيرة بالقبو، فإنَّ الزائرين في الأصل كانوا يمرُّون عبر هذه الثغرة، فينزلون عبر سُلَّم طويل مُستقيم يقود إلى الكنيسة التي بالقبو.
بالنظر إلى غياب أيّ نافذة أخرى، فقد تطلَّب الأمر من الحجاج استعمال مصباح أو مشعال، والنزول عبر السُّلَّم إلى الظلام. وقد صار النزول أكثر خطورة بفضل غياب أيّ درابزين للاتكاء عليه، والحفاظ على توازنهم. ثمّ إننا نعلم أيضًا أنَّ كنيسة القبو كانت تعاني من الرطوبة الكبيرة؛ فبعد أقلّ من قرن من بناء التِّمْبِييَتُّو تسبَّب تسرّب المياه في تآكلٍ شديد إلى الحدّ الذي أوجب استبدال كثير من الحجارة التي تكسو الجدران؛ ممَّا جعل الحجاج الذين كانوا يدخلون كنيسة القبو قبل ترميمات ١٦٢٨، يَهوون إلى هوّةٍ رطبة زلقة. وفي سبيل تحسين هذه الظروف وُضِعَت ألواح خشبية على أرضية القبو؛ لكي تمتصّ بعض الرطوبة، لكنَّ هذه الألواح تشير إلى أنَّ الحجاج قد واجهتهم أسفل أقدامهم ظروف غير عادية، إن لم تكن خطرة.
لقد دفعَ التصميمُ المِعماريُّ للتمبييتو الحجاجَ -من أجل الظفر بلقاء مدفن القديس بطرس- إلى القيام برحلةٍ جسدية خطرة، تتضمن العديد من المُثيرات الحسِّية القوية. لنا أن نتخيّل ضوء المصابيح المُتقلِّب والمُتردد عند المَنْزَلِ، ورائحة الدخان والأبخرة التي تصدرها النيران الوامضة، وصدى الأصوات والأجساد التي ترتدّ أمام أسطح البناء الرطبة. ونقل التوازن بحرصٍ من قدَمٍ إلى أخرى بينما يهبط الحجاج الدَرَج، وهُم غير قادرين على الاعتماد على درابزين لتدعيم أنفسهم، بل يتحسَّسون الطريق بأقدامهم. وتنسلُّ رائحةُ الرطوبة النفاذة والعفنُ إلى فتحات أنوفهم وأفواههم، وتغمرُ رطوبة الهواء الجوفيّ الباردة أبدانهم. في تناقُضٍ صارخٍ مع توكيد طويل الأمد لمُؤرِخيّ العِمارة على التِّمْبِييَتُّو بوصفه خبرةً بصريةً برّاقةً، يتضح أنَّ ثمَّة حواسًا أخرى غير البصر قد أفادت تجربة حجاج عَصر النهضة، من خلال رحلتهم إلى كنيسة القبو، بمنابِعَ تعادل أهمية حاسَّة البصر، إن لم تكن تفوقها.
بدءًا من القرن الخامس عشر، تولَّى الرهبان الفرنسيسكان مسؤولية التِّمْبِييَتُّو بوصفه جزءًا من دير سان بيترو في مونتوريو. وجهود الفرنسيسكان المُبتكرة في إعادة إِحياء الأسرار المسيحية معروفة؛ فلا يُنسب إلى القديس فرانسيس أنه ابتكر أوّل مشهد لمغارة الميلاد في القرن الثالث عشر فحسب، بل إنَّ الفرنسيسكان بدءًا من القرن الخامس عشر قد شيَّدوا سلسلة من المزَارات الدينية التي تُجسد ديورامات كاملة ثُلاثية الأبعاد، مثل: ساكرو مونتي [الجبل المقدس] الدقيق في فارالو؛ حيث يُعفَى الحجاج من أهوال الرحلة الشاقة إلى الأراضي المُقدسة، بزيارة الساكري مونتي أو تلك «الجبال المقدسة»، والدخول -بدلًا من ذلك- في مُحاكاةٍ (simulacrum) لأماكن حياة المسيح. لقد قصد الفرنسيسكان بتشييد هذه الأحداث الإنجيلية بعنايةٍ شديدة؛ تثبيتَ الروايات الإنجيلية في أفئدة الحجاج وأبدانهم، عبر تجسيد القصة المألوفة وتحويلها إلى مجموعة خبراتٍ جسدية تفيضُ بالحياة.
ومثلما فعل الرهبان الفرنسيسكان في ساكري مونتي، فمن المُرجّح أنَّ الفرنسيسكان المسؤولين عن التِّمْبِييَتُّو قد وجدوا عِبرةً ما في خَلق مثل تلك الخبرات الحسِّية الجيّاشة في نُفوس الحجاج الوافدين. إنَّ الجوّ الثقيل، بل الخانق الذي يُميّز كنيسة القبو قد فاقم هَولَ التجربة، وأجبر الحجاجَ على التفكُّر في حادث استشهاد القديس بطرس المُروّع. وأيضًا فإنَّ الارتياح الذي شعروا به حين خرجوا في النهاية من غُرفة المقبرة المَطمورة قد قوّاه شعورُ الطمأنينة والسكينة الذي يبعثه هيكل التِّمْبِييَتُّو النَّاظر إلى السماء، كاستبشارٍ مَهيبٍ بالظَّفر النهائيّ المُتمثّل في القيامة. وقد حوَّلتِ التَّجديداتُ ما كان بالأمسِ تجربة حيَّة إلى مُجرَّد تجربة بصريَّة أصلًا.
إنَّ الترميمات اللاحقة لكنيسة القبو التي حوَّلتها إلى مكانٍ جيّد التهوية، لها تبعات جوهريّة على خبرتنا الحسِّية بأقدس المواضع داخل التِّمْبِييَتُّو؛ ذلك أنَّ تلك التعديلات تُعلي من شأن التفاعل المرئيّ وحده مع الموقع، وتُقلِّل من مغزى حاستيّ الشَّمِّ واللَّمسِ. فقد حسَّنت الترميمات الجديدة من تدوير الهواء، وحدَّتْ من استنشاق الدخان والرطوبة، وعمَلت على توجيه نظرة الزائر فورًا إلى أهمّ المواضع الرئيسة.
كان السُّلَّم الأصليّ ذو المُنحدر الواحد يلامسُ مركز القبو، ومن ثمّ فإنَّ إعادة بناء سُلَّمٍ خارج كنيسة القبو قد أتاحت منفذًا لرؤية هذه الأرض المقدسة بلا معوقات، و(وُضِعَتْ نافذة ذات شبكة حديدية على الثّغرة؛ لمنع الحجاج من مُلامسة الأرض نفسها). حتى إنَّ تصميم السُّلم المُزدوج يبدو أنَّ الغرض منه إنما كان تقليل احتمالات حدوث اتصالٍ جسميّ؛ بحيث يُغادر الحجاج القبو باستعمال سُلَّمٍ مُختلفٍ عن ذلك الذي استعملوه عند الدخول، وهو ما يُقلِّلُ من احتماليّة أن يدفعَ بعضهم بعضًا بغير قصد حين يَلتفون حول ذلك الموضع الضّيق.
قد أحدثت هذه التحولات حدوثًا فارقة، حين استجلب القديس إغناطيوس دي لويولا (St Ignatius of Loyola) -وغيره من المصلحين- قوى الحواسّ لتثبيت دعائم الإيمان عند المؤمنين. وكان إغناطيوس في تمريناته الروحية عام ١٥٢٠، لا يحثُّ أتباعه على أن يروا بُعْدَ الجحيم وعُمْقَهُ فحسب، بل سماع صرير أسنان ساكنيه أيضًا، وتذوّق مرارة بكائهم، وشمّ رائحة النار والكبريت، ولَمس النار المُتقدة. وتضمَّنت التجديدات التي أقامها جالياتسو أليسي (Galeazzo Alessi)، عام ١٥٦٠، في ساكرو مونتي بفارالو تنصيب جدران وفواصل جديدة؛ لمنع الزوّار من الدخول إلى تمثيلات الأماكن المُقدسة، وهو ما حوَّل ما كان بالأمسِ تجربة حيَّة إلى مُجرَّد تجربة بصريَّة أصلًا.
إذا كان الهدف الأصلي لساكرو مونتي هو حَثّ الحجاج على المُشاركة في أحداث الكتاب المقدس بأجسادهم، فإنَّ صورته الجديدة قد دفعتهم إلى استعمال أعينهم لتخيُّل هذه الترابُطات. وبطريقةٍ مُماثلة عزّزت تطويرات ١٦٢٨، في كنيسة القبو داخل التِّمْبِييَتُّو الاتصالَ البصريَّ بغية التركيز على التعبُّدِ الروحيِّ بدلًا من التجربة الحيَّة. إنَّ مثل هذه التدخُّلات قد حدَّتْ من التفاعلات الحسِّية مع العالَمِ، وقلَّصتها إلى نطاق المُمارسات التي وافقت عليها كنيسة الإصلاح المُضاد (Counter-Reformation Church)، وهو ما أقصى الإلهاءات المُمكنة، وأيَّد صُورًا من العبادة أكثر التزامًا.
لقد أشرتُ -في مستهلّ هذا المقال- إلى أنَّ المؤرِخين قد حازوا أمدًا طويلًا فهمًا خاصًّا للتِّمْبِييَتُّو يربطه برسم ليوناردو؛ حيث يُزوِّدنا تصميم المَبنى باستعارةٍ هندسيّةٍ تمجِّد الجسد الإنساني. لكن كما بيّن مُؤرِخ الفن جاك فرايبرج (Jack Freiberg)، فإنَّ إعلان التِّمْبِييَتُّو بوصفه مكانًا مقدسًا عام ١٥٠٢، كان يتوافقُ مع الذكرى العاشرة لِغَزوِ مملكة غرناطة النصريَّة بقيادة رعاته الملك فرناندو [ملك إسبانيا] والملكة إيزابيلا، وأوّل موجة لاستعمار العالَم الجديد [الأمريكتين]. وإنّا لطالما بَجَّلْنَا التِّمْبِييَتُّو بوصفه رمزًا لكرامة الإنسانية، في حين أنَّ بناءه قد توافق مع التوسُّع الاستعماري الأوروبي المَهول، وظهور أيديولوجيات العنصرية الحديثة التي ما زلنا نُصارعها إلى يومنا هذا.
لقد اعتدنا تأويل التِّمْبِييَتُّو من جِهة المُثُل الإنسانية، ولكن وضع جسد ذكر أبيض في مَركز الكَون، في رسم ليوناردو له مغزىً مرير في مثل هذا السياق. إذا كانت السرديّة المُتفق عليها عند مؤرِخيّ فن العِمارة، تقول: «إنَّ التِّمْبِييَتُّو قد رفع من شأن حاسَّة البصر على سائر الحواسّ»، فإنَّ توكيدنا على المُثُلِ الإنسانية إنما يُخفي الطريقة التي يتقاطعُ بها ذلك المَبنى مع صعود الهيمنة الاستعمارية الأوروبية. إنَّ التحوُّل التكتوني الذي يجري الآن في استجابةٍ مُهمةٍ لحركة حياة السُّود مهمة (Black Lives Matter)؛ قد غيَّر مجرى فهمنا لدراسة تاريخ العِمارة نفسه ومُمارسته، ويُذكِّرنا بالقيمة الجوهرية للسرديات الأخرى التي سَهُلَ قمعُها أو نسيانُها.
ما نوع الاستجابة الغريزية مُتعددة الحواسّ التي قد يُثيرها التِّمْبِييَتُّو في نفوس أبناء العُبوديّة الذين وَفدوا إلى روما عن طريق إسبانيا، وجعل عملهم القسريّ ذلك «المعبد الصغير» مُمكنًا؟ إنَّ الاعتبار العِرقي في دراسة تاريخ العِمارة يتلاقى مع مبحث العِمارة والحواسّ، ويحثّنا على أن نأخذ في اعتبارنا نطاقًا واسعًا من الدلالات والخبرات، التي أصبحت الآن أكثر وضوحًا، كأحد أبواب تاريخ فن العِمارة، الذي لا يزال في طَوْرِ التَّدوين.
الهوامش
* ديفيد كارمون (David Karmon)، أستاذ تاريخ الفن والعِمارة، ورئيس برنامج الدراسات المِعمارية في كليّة هولي كروس في ماساتشوستس. ألَّف كتابيّ: حطام المدينة الأبدية (٢٠١١)، العمارة والحواسّ في عصر النهضة الإيطالية (٢٠٢١).
1- المصلوب هنا إشارة إلى القديس بطرس الذي صُلب في عهد الإمبراطور الروماني نيرون المعروف بكرهه الشديد واضطهاده للمسيحيين. ويُذكر أنَّ القديس بطرس رَغِبَ في أن يُصلب بالمقلوب، أيّ: بوضع رأسه أسفل وقدميه لأعلى (كما هو موضّح في اللوحة التي صوَّرها مايكل أنجلو)؛ وذلك لكي لا يتشبَّه بالسيّد المسيح (المترجم).
2- الديوراما (diorama)، هي نسخة طبق الأصل، أو نموذج ثلاثيّ الأبعاد لمحاكاة شيء أو مكان ما، في هذه الحال كان الرهبان الفرنسيسكان يحاكون أماكن أحداث الكتاب المقدس (المترجم).
3- إِمَارَةُ غرناطة، هي آخرُ دولة إسلامية قامت في الأندلس، ويُشير الكاتب إلى اتحاد مملكتيّ ليون وقشتالة مع مملكة أرغون، وغزوّ الملك فرناندو والملكة إيزابيلا للمدن الأيبيرية حتى سقوط غرناطة، ونهاية الخلافة الإسلامية في الأندلس (المترجم).
4- يحملُ الكاتب هنا على تصوير ليوناردو دافنشي في لوحة الرجل الفيتروفي. ونقد مُنجزات وإسهامات الأوروبيين الحضارية والتقليل من أهميتها العالمية، سلعة رائجة هذه الأيام لها أسبابها الأيديولوجية والتاريخية، فالكاتبُ يرى الرجل الفيتروفي جسمًا لذكرٍ أبيض، وهو من ثمّ علامة على الهيمنة والمركزية الأوروبية. في حين أنَّ ليوناردو دافنشي -كعالِمٍ وفنانٍ من طرازٍ رفيع- كان يحرِصُ أوّلًا على تعيين النّسبِ الهندسية للجسم البشري عامةً. وإذا كان الرجل الفيتروفي «رجلًا أبيض»؛ فذلك لأنَّ دافينشي لم يكن إفريقيًّا، ولم يسكن جبال الهيمالايا. ويستطرد الكاتب من هنا حديثه بصورةٍ مؤدلجة واضحة، ما سيوقعه في إشاراتٍ وتلميحاتٍ عِرقيّة لا داعيَ لها (المترجم).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.