في الآونة الأخيرة كثرت الأحاديث التي تنتقد الفلسفة بشدة أو تهاجمها، ولاسيما أنها لم تستطع أن تحقق إنجازات كبيرة كالإنجازات التي تمكن العلم من تحقيقها في شتى الميادين، وهذا ما يضع دور الفلسفة المعرفي موضع الشك، ويعرّضها للمساءلة عما إذا كانت تستطيع فعلًا أن تكون سبيلًا حقيقيًا للمنفعة في عملية المعرفة وإنتاج المعارف الموثوقة، أو أداء أي دور بنّاء آخر في حياة الإنسان، وبرأي الكثيرين، الفلسفة فقدت دورها في عالمنا المعاصر، وهي تتراجع، لأن العالم اليوم بما وصل إليه من تقدم في ميادين العلم المختلفة لم يعد بحاجة إلى الفلسفة، التي لا تقدر فعليًا على إنتاج المعرفة، بل وتذهب بعض الآراء المتطرف إلى حد القول بأن كل ما تنتجه الفلسفة هو آراء وتصورات.. وحتى لغو.
هذا الرأي عن تراجع الفلسفة اليوم له بشكل عام بعض المؤيدين حتى في أوساط الفلاسفة أنفسهم، لكن بطبيعة الحال ما يزال أنصار الفلسفة من الفلاسفة وسواهم يدافعون عنها، ويسعون لإثبات أهميتها الدائمة وضرورتها حتى للإنسان المعاصر، ولذا تتعدد الآراء والمواقف من الفلسفة وحول دورها ومصيرها.
تعدد الآراء والمواقف بشأن الفلسفة
ما تتعرّض له الفلسفة الآن من نقد وهجوم ليس جديدًا في تاريخها، فعلى مدى هذا التاريخ تعرّضت لحملات كثيرة مختلفة الجهات والأسباب والغايات، وعن هذا يقول الكاتب والباحث السوري إسماعيل ملحم: «تعرّضت الفلسفة خلال حقبات مختلفة لهجمات شديدة، كانت في أحسن الأحوال تعتمد على حجة أن الفلسفة لا تخدم التقدم وأن الكلام فيها كلام بكلام، ولكنها في ما تعرضت له من هجوم موضع اتهام أنها مصدر إقلاق للمجتمع، وأنها نوع من التخريب الاجتماعي والفكري والغواية، وأنها مصدر خطر على النظم السائدة»([1]).
ويرى الأستاذ ملحم، الذي يعود كلامه إلى أكثر من أربعة عقود، أن الهجوم الراهن الذي تتعرّض له الفلسفة يعود إلى سببين رئيسين، أولهما أنه في الوقت الذي تتنامى فيه العلوم المختلفة وتتطور بشكل مستمر في عالمنا المعاصر، وتتقدم معها وبشكل مرتبط بها وينطبع بطابعها كافة مظاهر حياتنا، فالفلسفة لم تستطع حتى الآن أن تقدم نتائج يقينية قاطعة كما تفعل العلوم، والفلاسفة ما يزالون متناحرين، وثانيهما أن الفلسفة تشهد ركودًا وتسير سير السلحفاة في عصر يشهد ثورات متتالية سريعة في كافة مجالات المعرفة والحياة، كثورة كوبرنيكوس في علم الفلك، والهندسات اللاإقليدية في الرياضيات الحديثة، والنظريات النسبية والتموجية في الفيزياء المعاصرة، وما شابه، ولذا بات الكثيرون ومنهم فلاسفة ينعون الفلسفة، وفق ما يقول([2]).
هذا الحديث عن نعي الفلسفة ليس وليد الساعة، رغم أن الفيزيائي البريطاني المعروف ستيفن هوكينغ قال مؤخرًا إن الفلسفة قد ماتت لأن الفلاسفة لم يجاروا تطورات العلوم الحديثة، والعلماء هم من باتوا يحملون مشعل الاكتشافات في بحثنا عن المعرفة([3])، لكن قبل ذلك بعقود عديدة تحدث الفيلسوف الألماني الشهير إدموند هوسرل بكلام مشابه قال فيه إن «الوضعية قطعت رأس الفلسفة»، معتبرًا بذلك أن العلم أزاح الفلسفة، وبدوره قال الفيلسوف والمربي وعالم النفس الأمريكي جون ديوي كلامًا مشابهًا، إذ قال: «كنت أسعى إلى إطالة عمر الفلسفة، لكنّ كلمتين أصبحتا قريبتين من الناس، وهما العلم والديمقراطية، أسدلتا الستار على مهنة الفيلسوف»([4])، وهكذا يبدو الأمر وكأننا أمام حالة ينطبق عليها القول القائل «وشهد شاهد من أهلها».
والحال اليوم لم يتغير لصالح الفلسفة إن لم يكن العكس هو الذي حدث، وما زالت الآراء السلبية حول الفلسفة تتوالى وتطرح ومن ذلك مثلًا ما تراه كاميل باڠليا، أستاذة العلوم الإنسانية بجامعة الفنون في فيلادلفيا، التي تقول: «إن مجال الفلسفة ليس مزدهرًا في الوقت الحالي. لم يعد التفكير المنهجي يتمتع بالهيبة أو القيمة الثقافية التي كان يتمتع بها من قبل»، ثم تضيف: «الفلاسفة الآن على الهامش. تقلصت سمعة الفلسفة ومكانتها، إنها ممارسة أكاديمية»، وبرأي كاميل باڠليا كانت الوجودية هي آخر حركة مهمة في الفلسفة، أما اليوم فلا أحد يهتم بالفلسفة، ومفهوم الفلسفة دمرته ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة بنسبيتهما الزلقة ([5]).
لكن في الجهة المقابلة هناك العديد من الآراء التي تدافع عن الفلسفة، حيث سبق لعالم النفس وأستاذ الفلسفة الألماني أوزڤالد كولبه قبل أكثر من قرن القول: «إن الأصوات التي نسمعها اليوم معلنة قرب انتهاء الفلسفة أو الزعم بأنها من الأمور الكمالية التي لا نفع فيها إن هي إلا أصوات تصدر عن جهل بماهية الفلسفة ومعناها ورسالتها التي اضطلعت بها في عصورها المختلفة». ([6])([7])
فيما يقول الفيزيائي الإيطالي كارلو روفِللي: «إذا ابتُغي الوصول إلى تركيبة متآلفة جديدة، فأعتقد أنّ التفكير الفلسفي سيكون مرّة أخرى من مكوّناتها… وبصفتي فيزيائيًّا مستغرقًا في هذا العمل المهم ّ فإنني أتمنى على الفلاسفة المهتمين بالمفاهيم العلمية للعالم ألا يحصروا أنفسهم في التعليق على النظريات الفيزيائية الجزئية الحالية أو تلميع هذه النظريات، بل يجازفوا في محاولة النظر إلى الأمام…»([8]).
بين الفلسفة والعلم
كما رأينا أعلاه، هناك آراء تعزو تراجع الفلسفة إلى أن العلم قد حل محلها كسبيل موثوق للوصول إلى المعارف، ما يعني أنه لم يعد هناك ما تستطيع الفلسفة أن تقدمه، ومما لا شك فيه أن الفلسفة اليوم لا يمكنها أن تنافس العلم في الميادين العلمية التخصصية، وهذا ليس مطلوبًا منها ولا جائزًا لها قطعا، لكن هل هذا هو سبب تراجع الفلسفة؟ وهل هو سبب كافٍ لذلك؟
في الماضي لم يكن هناك انفصال بعد بين العلم والفلسفة، لكن هذا الفصل تم في القرن السابع عشر، مع ذلك فرغم هذا الفصل ظهر العديد من الفلاسفة الكبار في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وقدموا إنجازات فلسفية كبيرة، رغم أنهم لم يكونوا علماء، ولم تشتهر فلسفاتهم بسبب احتوائها على معارف من النوع الذي يقدمه العلم اليوم، ومن هؤلاء الفلاسفة الكبار: جون لوك في القرن السابع عشر، وإيمانويل كانط، فولتير، ديفيد هيوم، دينيس ديدرو، مونتسكيو، وماري وولستونكرافت في القرن الثامن عشر، جان جاك روسو، هيغل، لودفيغ فويرباخ، كارل ماركس ،جون ستيوارت مل، سورين كيركيغور (كيركيجارد)، وفريدريك نيتشه في القرن التاسع عشر، وسواهم، وحتى الفلاسفة الذين جمعوا بين الفلسفة والعلم على غرار توماس هوبز (ق. 17 م.) الذي كان عالمًا في الرياضيات إضافة إلى كونه فيلسوفًا، فهو لم يشتهر كفيلسوف لأن فلسفته تضمنت معارف رياضية مميزة في زمانها، وكذلك رينيه ديكارت (ق. 17 م.)، الذي كان أيضًا فيلسوفًا وعالم رياضيات وفيزيائيًا، ولكن نجاحه كفيلسوف لم يرتبط بالرياضيات أو الفيزياء. برزت فلسفته كفلسفة أصيلة بكل ما فيها من ذكاء وإبداع فلسفيين، وليس لأنها ذات محتوى علمي مبتكر.
وحتى في القرن العشرين كان هناك في بداياته فلاسفة كبار منهم لينين، جورجي بليخانوف، ليڤ (ليون) تروتسكي، روزا لوكسمبورغ، بيرتراند راسل، إدوارد برنشتاين، وكارل ياسبرس، ثم ظهر فلاسفة مميزون آخرون عديدون، منهم مارتن هايدغر، هربرت ماركوزه، هانز جورج ڠادامير، جان بول سارتر، إدغار موران، جيل دولوز، ميشيل فوكو وجاك دريدا، بل وظهرت فيه أيضًا فيلسوفات مثل حنة آرنت، سيمون فايل، سيمون دي بوفوار، سيلفي لي بون دي بوفوار، فرجينيا وولف، وجوديت بتلر؛ وكل هذه الأسماء عبارة عن أمثلة مذكورة من قبيل الذكر لا الحصر.
بناء على ذلك يمكن القول إن الربط بين تراجع الفلسفة وتقدم العلمي هو زعم بعيد عن الدقة، يؤكده تاريخ الفلسفة، الذي ظهر فيه فلاسفة كبار وفلسفات كبيرة بالتوازي مع وجود علوم متقدمة، كما كان الحال في القرون 17 و18 و19، وهؤلاء الفلاسفة وفلسفاتهم ما يزالون حتى اليوم موضع تقدير كبير كفلاسفة، هم وكل سابقيهم من فلاسفة العصور السابقة، والعلم لا يدخل في مسألة تقديرهم، وحتى في القرن العشرين، ظهرت أسماء عديدة متميزة، وإن لم يكن التميز فيه بمستوى القرون السابقة.
زعم فقدان الفلسفة لدورها في دائرة النقد
بما أن العلم اليوم يتخذ كذريعة للهجوم على الفلسفة، والقول بانكماشها أو انتهائها، فلكي يكون لهذا الزعم نفسه قيمة علمية، فهو نفسه يجب أن يناقش بمنهجية علمية ويخضع للنقد على ضوء العلم، فماذا سنجد عند قيامنا بذلك؟ ما سنجده عندها ببساطة هو أنه لا يوجد فعليًا دراسات أو أبحاث علمية محْكمة يمكن بناء عليها الجزم بأن الفلسفة فعليًا صارت مجالًا هامشيًا أو عديم النفع، وكل ما هو موجود في هذا السياق هو جدل عمره يبلغ أكثر من قرن، وهذا بحد ذاته يفقد الآراء السلبية بالفلسفة الكثير من صدقيتها، ولا يدخل هذا الجدل إلا الأكاديميون تقريبًا كالفلاسفة الرسميين وبعض المختصين الذين تتقاطع ميادين اختصاصهم مع الفلسفة، وهؤلاء غالبًا ما يدافعون عن الفلسفة ضد خصومها.
ذاك يعني أن كل الآراء التي تقال ضد الفلسفة، وتدعي أنها فقدت دورها بسبب العلم ولصالح العلم، هي نفسها ليست علمية، ولا تقوم على أسس علمية موثوقة. لكن كيف نقيم آراء العلماء فيها؟ بشكل عام، صفة «العالِم» توحي سلفًا بأنه شخص رفيع المستوى ذكائيًا ومعرفيًا بما يجعله قادرًا على طرح الآراء القيّمة في الكثير من الأمور، حتى خارج اختصاصه. لكن عندما نتعامل بمنهجية علمية مع الأمور، فعلينا أن نكون جد حذرين من الانبهار بالأسماء والصفات، فالقدرات العقلية مهما كانت رفيعة المستوى لا تصنع وحدها من صاحبها عالمًا، ولكي يصبح كذلك لا بد له من الكم والكيف الكافيين من المعرفة التخصصية الدقيقة، ذاك يعني أن عالمًا علامة في اللغة الفرنسية مثلًا، لا تجعله صفته هذه قطعًا علامة في اللغة اليونانية، وتقييمه في اللغة اليونانية يجب أن يتم بمعايير التخصص باللغة اليونانية وليس بمعايير التخصص باللغة الفرنسية، وهذه من أبسط بسائط الأمور، فإن كان هذا العلامة لا يعرف اللغة اليونانية، فهو عندها سيقيّم كشخص عادي تمامًا في ميدان اللغة اليونانية.
الكلام نفسه يمكن قوله عن أي عالم يطرح آراء سلبية أو إيجابية في الفلسفة، فهو في ميدان الفلسفة يقيّم وفق معايير ميدان الفلسفة وحسب، أما تخصصه العلمي فيوضع جانبًا، فإن لم يكن لديه معارف في الفلسفة، فعندها لا مفر من اعتباره جاهلًا فلسفيًا، وإن كان لديه معارف عمومية فيها فمن الممكن اعتباره عندها مثقفًا فلسفيًا بقدر ما لديه من هذه المعارف، وإن كان غزير المعرفة فيها فيمكن عندها اعتباره فيلسوفًا بالمعنى الواسع للكلمة. فماذا سنجد إذا نظرنا إلى العلماء الذين يهاجمون الفلسفة أو يعلنون نهايتها؟
في أحسن الأحوال يمكن القول إنّ معارفهم فيها هي من النوع الثقافي العام، وهنا ستكون آراؤهم عبارة عن آراء خاصة لمثقفين عاميين لا أكثر، وهي لا ترقى إلى مستوى النخبة الثقافية أو المستوى الأكاديمي قطعًا.
لكن في بعض الأحوال ربما لا تكون لديهم حتى معارف تذكر في الفلسفة، وعندها تصبح آراؤهم فيها اعتباطية ولا قيمة لها، ولا يشفع لهم فيها كونهم علماء في تخصصات أخرى، فهم في الفلسفة في حالهم هذا لا يكونون علماء بل جهلاء، وآراؤهم فيها تقيم بهذا المقياس. وعليه أي عالم يجهل الفلسفة، مهما كان ضليعًا في ميدان تخصصه، ولا يعرف الفلسفة، ويزعم أن الفلسفة انتهت، فكلامه هذا عديم القيمة بالمعيار العلمي نفسه، ورأيه هذا هو مجرد رأي شخصي مثل رأي أي شخص عادي، وهو ليس برأي عالم كعالم.
ما هي إذن حقيقة تراجع دور الفلسفة؟
بناءً على ما تقدم يمكن القول إن الكلام عن انكماش أو انتهاء الفلسفة لا يقوم فعليًا على أي أساس علمي موثوق، وإنما هو شكل من أشكال الجدل العام، ولكن مع ذلك هذا يدفع إلى السؤال عن سبب هذا الجدل، وعما هو العامل الموضوعي الكامن خلفه، فمن غير الواقعي القول إنّ كل هذا الجدل هو لغوٌ باطل، ولا بد من وجود ما يدل على تراجع الفلسفة على أرض الواقع، وهذا التراجع لا بد وأن يكون قد حدث في القرن العشرين، أما في القرون الثلاث التي سبقته، فقد كانت الفلسفة مزدهرة، وليس منطقيًا الكلام عن تراجعها فيها. فإن كانت الفلسفة قد تراجعت في القرن العشرين، فما هي العلامات الدالة على ذلك؟ هنا قد يكون الجواب أن هذا القرن لم يشهد ظهور فلسفات كبيرة مبتكرة بحجم فلسفات هيغل، وماركس، ونيتشه وسواهم، فما هو السبب؟
هذا صحيح، لم تظهر في القرن العشرين فلسفات بحجم فلسفات القرن التاسع عشر وما سبقه، لكن السبب هو ليس تراجع أو غياب الاهتمام بالفلسفة، أو عدم وجود فلاسفة نوابغ، أو عدم وجود ما تفيد فيه الفلسفة، والسبب الرئيس هو فلسفات القرن التاسع عشر نفسها، فقد تمكنت أفكار الاشتراكية والليبرالية الرأسمالية والقومية، التي نمت بقوة في القرن التاسع عشر، من أن تتحول إلى حركات سياسية طاغية مهيمنة في القرن العشرين، ممثلة بشكل رئيس بالشيوعية، والرأسمالية الليبرالية، والنازية، التي تصارعت صراعًا عنيفًا في ما بينها أسفر في محصلته عن هزيمة النازية في أواخر نصفه الأول، وخسارة الشيوعية في أواخر نصفه الثاني.
وقد كان من مفاعيل هذا الحضور الطاغي لتلك الفلسفات السياسية وصراعها العنيف، أنها طبعت بطابعها القرن العشرين إلى درجة كبيرة، وقلصت كثيرًا من إمكانيات ظهور أو نمو فلسفات أخرى، لكن بالرغم من كل ذلك، وبالرغم من انتشار ثقافة الاستهلاك بشكل واسع في المعسكر الغربي بفعل الرأسمالية، فقد شهد القرن العشرون نشاطات فلسفية مميزة أخرى، فقد تطورت ونمت فيه مذاهب فلسفية سياسية كالديمقراطية الاجتماعية، والاشتركاية الديمقراطية، والليبرالية الاشتراكية، وفلسفات اقتصادية كالنيوليبرالية، واقتصاد السوق الاجتماعي، وفلسفات اجتماعية كالفلسفة النسوية، كما ازدهرت بدرجة ما فيه مدارس فلسفية متميزة كالوجودية، وهذا بالطبع ليس كل شيء، وهناك سواه نماذج أخرى عديدة ظهرت فيها أو شاركت فيها الفلسفة، ومنها مثلًا فلسفات الوضعانية المنطقية، والفلسفة التحليلية، وعلم الظواهر، وما بعد البنيوية وسواها؛ وبالتالي يمكن القول إن القرن العشرين لم يكن قطعًا قرن انكماش أو غياب للفلسفة، بل على العكس من ذلك تمامًا؛ ويخطئ أيضًا من يظن أن القرن الحادي العشرين قد اختلف الحال فيه، ففي الغرب المعاصر ثمّة اليوم منافسة واضحة بين المذاهب الفلسفية السياسية ممثلة بشكل رئيس بالديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية الشعبوية التكنوقراطية (حكم الخبراء)، والإبستقراطية (حكم العارفين) وسواها من المذاهب، وهذا ما فعـّلته بشكل رئيس أزمة عام 2008، التي كان لها أيضًا مفاعيل على الفكر الاقتصادي، وأنعشت الأفكار المؤيدة لقيام الدولة برقابة وضبط السوق، وعدا عن ذلك فالفلسفة النسوية ما تزال نشطة، وأفكار الاشتراكية تعاود الانتعاش، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية تصبح أقوى، وهلم جرّا.
وفي هذا كله تحضر الفلسفة، فمحاضر ومواقع الفلسفة ليست محصورة في المؤسسات الأكاديمية والمنتديات الفكرية والصالونات الثقافية وحسب، وميدانها الأكبر هو الواقع المعاش، وهي فيه يمكنها أن تحضر وتنشط بشكل مباشر أو تتقاطع مع الاجتماع والسياسة والاقتصاد والحقوق والثقافة والفن.. وحتى مع الدين أيضًا وسوى ذلك.
خلاصة
خلاصة الكلام هي أن ما يقال عن نهاية الفلسفة اليوم هو مجرد وجهات نظر لا أكثر، فالفلسفة هي إمكانية جوهرية متأصلة وكامنة في طبيعة الإنسان، لكنها لا تتحول إلى فعل بشكل آلي أو اعتباطي، ولا تنتج عبثًا، فالإنسان يتفلسف عندما تتوفر الحاجة والإمكانية للفلسفة، وهذا ما يختلف بين مجتمع ومجتمع وعصر وعصر، وحتى بين فرد وفرد، والحاجة الرئيسية للفلسفة هي في أنه رغم كل ما بلغه العلم من تطور وتقدم، فهناك دوما مجالات لا يمكن تنظيمها وحل مسائلها بالعلم وحده، ولا يعتقد أن العلم يستطيع وحده فعل كل ذلك إلا «العلميون المتطرفون»، وفي هذه المجالات لا بد من الفلسفة، وعلى سبيل المثال الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بالهندسة الجينية اليوم لا يمكن حلها بالعلم، بل لا بد من الفلسفة، وفهم ظاهرة الحبّ والمواقف منها وفيها هي أيضًا ليست مسألة علم ولكنها مسألة فلسفة، والمواقف والآراء التي يتخذها الإنسان في حياته في أمور كبيرة أو صغيرة كموقفه مثلًا من الاشتراكية أو التكنوقراطية كقضايا كبرى عامة، أو رأيه الخاص بالمختلفين عنه ثقافيًا ومعتقديًا كقضية شخصية خاصة هي أيضًا مسألة فلسفية، وهلم جرا.
وكما نرى فهناك دومًا حاجات متعددة المستويات والمجالات للفلسفة، هذا عن الحاجة، أما عن الإمكانية، فلا جدل بأن إمكانيات الفلسفة التي بلغت اليوم بحد ذاتها مستوى أكاديميًا، هذا عدا عن التطور الهائل في العلم والمعرفة، والغنى المماثل في الفكر والأدب، والثورة الحديثة في التكنولوجيا والاتصالات، هي كلها وسائل جد كافية للتأهيل الفلسفي الرفيع المستوى.
وخاتمة الكلام هي أن الفلسفة باقية، لكن كيفيات ومآلات تطورها المستقبلي سوف تحددها مسارات التطور المستقبلي، التي سيكون تطور الفلسفة جزءًا تكامليًا منها، فاعلًا ومنفعلًا فيها.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
المراجع
[1] – اسماعيل ملحم، محاولة الثورة في الفلسفة، مجلة المعرفة، العدد 209، وزارة الثقافة السورية، يوليو-1979، ص 203.
[2] – المرجع السابق، ص 203-204.
[3] – غراهام هارفن، حول زعم ستيفن هوكينغ أن الفلسفة ماتت، مؤسسة طابة & مبادرة سؤال، ص 5، https://rb.gy/tyzuue.
[4] – أحمد رجب ، فلاسفة متمردون تجرؤوا على المألوف وغيروا تاريخ الفكر البشر، صحيفة العرب، 12 /10/2018، https://rb.gy/vputoh
[5] – Camille Paglia,Ten great female philosophers The thinking woman’s women, 14 July 2005, The Independent , https://rb.gy/gbakzk
[6] -الحسين المحجوبي، قيمة الفلسفة بين الهراء والالتزام بقضايا الوجود الإنساني، الحوار المتمدن، 16\01\2014، https://rb.gy/enomn7
[7] – أوزفالد كولبه، المدخل إلى الفلسفة، ترجمة أبو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف، والترجمة والنشر، القاهرة، 1942، ص (هـ).
[8] – غراهام هارفن، المرجع السابق، ص 7-8.