مقالات

في قلبِ كل كاتب يقبع مترجم

لو شئنا أن «نترجم» هذه الجلسة*، التي تسمح لي، باعتباري مترجِمًا، بأن أجالس أمامكم المؤلف عبد الفتاح كيليطو، لو شئنا أن ننقلها إلى لغة النشر، وبمناسبة معرض الكتاب والنشر، لقلنا إنها أشبه بـ «المنشورات مزدوجة اللغة»، تلك المنشورات التي تضع النص أمام ترجمته، تضعهما، مثلما نحن عليه الآن، الواحد بجانب الآخر.

لا أخفيكم أن هذه المنشورات، التي كانت معروفة كثيرًا في النشر الأوروبي، وخاصة في الكتب التي كانت تنشر كلاسيكيات الأدب الإغريقي واللاتيني، والتي يظهر أن التقليد الألماني حافظ عليها، لا أخفيكم أنها تحيّرني كلما حاولت أن أتساءل عن الفلسفة الكامنة وراءها: فلمن تتوجه يا ترى؟ هل تتوجه لمن يتقن اللغة الأصلية؟  إلا أنه في غنىً عنها، وربما في غنىً حتى عن الترجمة، أم أنها تتوجه إلى من لا يتقن إلا اللغة الناقلة، وفي هذه الحال، فلن يهمّه الأصل.

وعلى رغم ذلك، فهناك أمرٌ أساس يبدو أن هذه المنشورات تسلّم به، وهو أن الترجمة لا تفي، ولا يمكنها أن تفي بالغرض، وأنها تَعلَق بالنص الأصلي، وتحنّ إليه، كما أنها لا تغني عنه. لا يعني ذلك أنها تظل دومًا دونه، وإنما أنها لا يمكن أن تكون من دونه. لكن هذه المنشورات، تسلم كذلك، بأن الأصل لا يُغني عن ترجماته، وأن كلا من النصين مدين للآخر. نذكر ما كتبه جاك دريدا بهذا الصدد: «إن المترجم مَدين… ومهمته أن يسدّد ما في عهدته». إلا أن صاحب التفكيك سرعان ما يدقق عبارته لينزع المسؤولية عن كل طابع أخلاقي فيؤكد أن المدين في هذه الحالة ليس هو المترجم. فالديْن لا يلزم المترجم إزاء المؤلف، وإنما يُلزم نصًّا إزاء آخر، ولغة نحو أخرى. لكن من الذي يدين للآخر، أو على الأصح ما الذي يدين للآخر؟

سيجيب المتسرعون من غير تردّد إن النسخ مدينة لأصولها، والترجمات للنصّ الأصلي. ولكن بما أن النص يطلب ترجمته ويحنّ إليها، بما أن لديه، كما يقول بنيامين: «حنينا إلى ما يتمم لغته ويكمل نقصها»، فهو أيضًا يكون مدينا لترجماته. لذا يضيف دريدا: الأصل «هو أول مدين، أول مطالَب، إنه يأخذ في التعبير عن حاجته إلى الترجمة وفي التباكي من أجلها». هذه العلاقة المتبادلة، هذا الديْن المتبادل، هذه الحاجة المتبادلة لا بد وأن تجرنا، شئنا أم أبينا، إلى العودة إلى الأصل حينما نكون في الترجمات، وإلى الخروج إلى الترجمات حينما نكون في النص.

على هذا النحو تبدو المنشورات مزدوجة اللغة، حيث يسكن النص المترجم بجوار الأصل، وحيث يتواجه النصان، ويقف أحدهما أمام الآخر ويرى نفسه في مرآته، تبدو، لا نشرًا للنص ولا نشرًا لترجمته، وإنما نشرًا لحركة انتقال لا تنتهي بين «أصل» ونسخة. كأنها تتوجه لمتلقٍّ تطلب نجدته. إنها نداء إلى المتلقي ليساهم بدوره في الترجمة، أو على الأقل ليكملها، ويكشف نقائصها. فهي إذن، لا تتوجه نحو قارئ لا يحسن اللغة الأصل، ولا نحو ذاك الذي يجهلها، وإنما نحو قارئ يُفترض فيه لا أقول إتقان، وإنما على الأقل استعمال لغتين يكون مدعوًا لأن يقرأ النصّ بينهما، قارئ لا ينشغل بمدى تطابق النسخة مع الأصل، وإنما قارئ مهموم بإذكاء حدة الاختلاف حتى بين ما بدا متطابقا، قارئ غير مولع بخلق القرابة، وإنما بتكريس الغرابة، قارئ يبذل جهده لأن يولّد نصًا ثالثًا بعقد قران بين النصين وبين اللغتين. فكما لو أن المعاني هي في حركة الانتقال trans-lation، وفي لعبة الاختلاف بين النصوص وبين اللغات.

وعلى رغم ذلك، فيبدو أننا، عندما شبهنا جلستنا بالمنشورات مزدوجة اللغة، يبدو أننا تسرّعنا شيئًا ما. ذلك أن الترجمة أساسًا علاقة بين لغتين، وبين فضاءين ثقافيين. إنها علاقة بين نصّين قبل أن تكون علاقة بين شخصين واسمين. فهي لا تجمع بين مؤلف ومترجم، وإنما بين نصّ وترجمته، إذ إن المؤلفَ نفسه قد يكون هو المترجم. وسنتبين أنه مترجم من بين مترجمين. وهذه، على أيّ حال، هي حال عبد الفتاح، عاشق اللسانين. لو حصرنا المسألة في شخصَي المؤلف والمترجم، لتغافلنا عن أمرٍ أساس، وهو أن المؤلف ليس، هو كذلك، في وضعية مريحة، وأكاد أقول، إنه هو أيضًا، يمكن أن يُتّهم بالخيانة على غرار المترجم، أو على الأقل بـ«الإخلال بالمعاني» إن أردنا أن نستعمل عبارة التوحيدي. فهو لا يتملّك معانيَ ما كتبه، ولا السيطرة على نصّه. إذ إن كل نصّ ينطوي على كثافة سيميولوجية تجعل، حتى صاحبَه، عاجزًا أن يحصرها من غير انفلات «بقايا لا يقدر عليها»، كما كتب التوحيدي أيضًا. الكتابة ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل النصّ يفلت من قبضة صاحبه، وتجعل المعنى ينفلت ويمتدّ في اختلافه عن ذاته، لا يحضر إلا مبتعدًا عنها مباينًا لها على حد تعبير جاك دريدا. حتى المؤلفُ نفسُه لا يتمكّن من بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكّم في المتلقّي مهما تنوّعت مشاربه اللغوية والثقافية. وهو يتأكد من ذلك كلما حاول، هو نفسه، نقل أحد نصوصه إلى لغة أخرى، إذ سرعان ما يصطدم بالصعوبات التي يطرحها نصّه، فيتبين اشتراك ألفاظه، ولبس معانيه، وتعدّد تأويلاته. والغريب أنّه يُحسّ أنه لم يكن ليتبين هذه الصعوبات، ولا ليدرك ذلك الاشتراك واللبس، لولا سعيه إلى نقله إلى لغة أخرى. فكأنّ عملية الترجمة هي التي تسلّط الأضواء على النصّ الأصلي، فتكشف، حتى للمؤلف نفسه، ما تضمره اللغة الأصلية، بل إنّها تُبِين في بعض الأحيان عن نواقص الأصل. فكأن كشف خصائص الأصل لم يكن له أن يتمّ لولا الترجمة، وكأن اللغة، بفعل الترجمة، لا تكتفي بأن «تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها»، كما كتب جاحظنا، وإنما تسعى أيضًا لأن «تفضحها». لا ينبغي أن نفهم الفضح هنا على أنّه دائمًا فضح عورات وعيوب، بقدر ما هو كشف وتعرية une mise à nu.

كتب أومبرتو إيكو متحدثًا عن علاقته كمؤلف بما تُرجم له من نصوص: «كنت أشعر أن النصّ يكشف، في حضن لغة أخرى، عن طاقات تأويلية ظلت غائبة عني، كما كنت أشعر أن بإمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان»

الشخصان معًا، المؤلف والمترجم، لا يمتلكان حيلة أمام ما كتبه أحدهما وما نقله الثاني. لا تتأتى الإشكالات التي تطرح بصدد الترجمة إذن من تدخل طرف أجنبي دخيل على النصّ الأصلي، وإنما من عامل يتجاوز المؤلف والمترجم معا، إنه تفاعل أكثر من لغة في النصّ الأصلي ذاته. الإشكالات المطروحة هنا متولدة عما يمكن أن نطلق عليه «عملَ الترجمة»  Le travail de la traduction في كل نص (بالمعنى الذي يتحدث فيه هيجل عن «عمل السلب» Le travail du négatif )، وعن الازدواجية اللغوية التي تتحكم في كل كتابة، والتي تجعل الترجمة تتخلل الكتابة بما هي كذلك. هذه الازدواجية تضع الكاتب دائما في وضعية ترجمة. لأن هناك على الدوام حركة انتقال وترجمة بين لغتين، وحوارًا خفيًا بينهما لا يمكن لا رصده ولا فهمه.

يتساءل عبد الفتاح كيليطو في «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية»: هل يأخذ الذين يكتبون بغير اللغة العربية مسافة فعلية مع هذه اللغة؟ فيجيب: «المفارقة أن بعض من يكتبون باللغة الأجنبية، يكونون تحت تأثير اللغة العربية أكثر من أولئك الذين يستعملون العربية». قد يقال، لا معنى لما نقوله هنا عن الابتعاد والاقتراب إلا إذا افترضنا أن اختيار اللغة التي نكتب بها شيء متاح، فهل يختار المرء اللغة التي يكتب بها؟ «ذلك أن اختياره ما أن يقع على لغة حتى يتبين أخرى مضمرة في ثناياها. فلو أنه كتب باللغة العربية سرعان ما يجد نفسه مستعملا لغة أجنبية. بهذا المعنى، فحتى الذين يكتبون باللغة العربية، هم مزدوجوّ اللسان، ليس فحسب لأنهم يتمكنون من اللغة الأجنبية إن قليلًا أو كثيرًا، ولأن بعض تعابير هاته اللغة ولطائفها تتسرّب إلى نصوصهم، وإنما خصوصا لأن نماذجهم الأدبية هي نماذج أجنبية في جزء منها».

في هذا السياق، يذهب كيليطو في حديثه عن أحد الكتاب المغاربة الذين لا يكتبون إلا بالفرنسية، وهو أحمد الصفريوي، إلى أن الازدواجية سرعان ما تتسرب إلى كتابات هذا الكاتب الذي ينعت بالفرنكفوني فيتساءل: «هل يكتب الكاتب المغربي بلغة واحدة؟ فيجيب لا أعتقد، حتى ولو كان النصّ يقدم نفسه كليًا بالفرنسية أو بالعربية». بل إن كيليطو يذهب في تحليله لصندوق العجب للكاتب نفسه حتى القول: «إن الصفريوي يكتب بلسانين، ومن غير الصواب القول إنه من كتاب اللغة الفرنسية. كما من غير الصواب الجزم، دون تحفظ، بأن الصفريوي يتوجه نحو قارئ فرنسي أو ناطق بالفرنسية».

في كتابها في امتداح الترجمة تلخّص الفيلسوفة الفرنسية بربارا كاسان رأي هومبولت حول هذه المسألة فتقول: «في الواقع لا يتكلم المرء لغته جيدًا إلا بمقارنتها بلغةٍ أخرى، فنحن لا ندرك نظام اشتغال اللغة إلا عندما نقارنها بنمط اشتغال لغة أخرى». ثم تعقّب: «وهذا ما أعنيه بالترجمة». لا تشتغل اللغة إلا مقارنة بأخرى وفي اقتران معها. لذا نلاحظ أن من الكتاب من تبدأ عندهم الكتابة بلغة لتنتهي بأخرى. فهي لا تُنجز، لا أقول إلا بعد أن تترجَم، وإنما تُنجز في/ بــ حركة ترجمة. تُنجز في خضم ترجمة. وهذه هي حال عبد الفتاح كما نعلم.

في هذا المعنى كتب عبد الكبير الخطيبي: لا يعني هذا «أن الازدواجية اللغوية، أن تعدّد اللغات هو مجرد علائق خارجية بين لغة وأخرى-بين اللغة المصدر وبين الهدف على حد قول اللسانيين-، وإنما هي عناصر تدخل ضمن النسيج البنيوي لكل فعل كتابة، لكل غزو للمجهول تعبّر عنه الكلمات. في كل كلمة، وفي كل اسم أو لقب، ترتسم دوما كلمات أخرى، كتابتها الضيفة. في كل كلمة كلمات أخرى، في كل لغة تقيم لغات أخرى». الكاتب في وضعية ترجمة لا تتوقّف. في كل كتابة تكمن ترجمة بل ترجمات. في قلب كل كاتب يسكن مترجم، بل مترجمون. على هذا النحو تغدو كل ترجمة إعادة ترجمة، وما بالك بنصوص عبد الفتاح التي هي دومًا من الثقافة العربية وعنها حتى إن كتبت باللغة الفرنسية، فلا يتبقى لمُتَرجِمِها، والحالة هذه، إلا أن ينقّب عن اللغة الثاوية خلف لغة النص، أو خلف لغاته بالأحرى، لا يتبقى عليه إلا أن يعمل على إعادة النص إلى لغته. فإلى أي حدّ يتوفق في ذلك، خصوصًا وأن النص يتحول عبر هذه الانتقالات Trans-lation؟  سأترك الجواب عن هذا السؤال للمؤلف نفسه.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

*لقاء عقد يوم 06/03/ 2022، بمناسبة معرض الكتاب بمدينة الرباطـ تحت عنوان: «مؤلف ومترجمه»،  جمعني بالمؤلف عبد الفتاح كيليطو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى