بقلم تيم كريدر
إن الرغبة في أن يكون للإنسان سيطرة على الآخرين أمر غريب تمامًا بالنسبة لي، لا أفهم الأمر مثلما لا أفهم لماذا يرغب أي شخص في إنجاب الأطفال أو لعب لعبة Settlers of Catan، حتى التخيلات الرومانسية القائمة على ديناميكيات السيطرة لا تروق لي بشكل خاص، لماذا قد أرغب في أن أكون رئيسًا على الآخرين؟ ماذا سأجعلهم يفعلون؟ ربما تسديد ضرائبي؟ يبدو الأمر بلا داعٍ، وكأنه يُشَكِّلُ عناءً كبيرًا، أنا لا أحب حتى أن أُنتَظَرَ من قِبَلِ الأشخاص الذين أُفَضِّلُ تناول الطعام معهم، فلا أحب حتى أن يكون لدي حتى ولو سيطرة ضئيلة (وهمية في الغالب) على طلابي كون الدرجات بيدي.
ومع ذلك، كانت إحدى أولوياتي الرئيسية في مرحلة البلوغ القيام بما أريد، وعدم إجباري على القيام بأشياء لا أريد القيام بها، وهو المبدأ الذي بنيت عليه حياتي.
أُعرِّفُ السيطرة بأنها القدرة على جعل الآخرين يفعلون ما تريد، والحرية هي القدرة على فعل ما تريد، يشبه الأمر الجاذبية والتسارع، فهاتان قوتان تبدوان مختلفتين ولكنهما في الواقع قوة واحدة. الحرية هي الشكل الدفاعي أو الوقائي للسيطرة الضرورية لمقاومة الأنواع كلها التي يحاول العالم ممارستها علينا منذ اليوم الأول، وهذه القوة هائلة ومنتشرة لدرجة أنها تتطلب قوة مضادة كبيرة فقط لاستعادة الاستقلال الذاتي والحفاظ عليه، فمن كان الأقوى في نهاية المطاف: الإسكندر الفاتح، الذي حكم العالم المعروف، أم الفيلسوف ديوجانس، الذي لم يستطع الإسكندر أن يعرض عليه أي شيء أو يهدده بأي شيء؟ (يُقال إن الإسكندر قال إنه لو لم يكن الإسكندر، لكان يريد أن يكون ديوجانس، وقال ديوجانس إنه إذا لم يكن ديوجانس، لكان يريد أن يكون ديوجانس أيضًا).
إن الطموح إلى أكثر الأشكال وضوحًا ومللًا من السيطرة –أي السيطرة السياسية والمالية– قد لا يكون نابعًا من الشر، ولكن قد تكون له آثارٌ جانبية مؤسفة في شكل الفقر، والعمل القسري، والمذابح، والتقدم الإقليمي غير المُرَحَّب به. طموحي الخاص يتخذ شكلًا بسيطًا من الطموح الفني (المخلوط حتمًا بالعديد من الشوائب، الرغبة في الحصول على التقدير من قِبَلِ الآخرين، والمكانة المرموقة، والحصول على ما يكفي من المال، وأن أحظى بحب امرأة)، على الرغم من أنه لكي نكون صادقين، فحتى هذا الشكل من الطموح الذي يبدو غير ضار يخدم رغبة دكتاتورية ماكرة، وهي تغيير ما يعتقده الآخرون ونظرتهم للأمور.
كمعظم الفنانين، فإن أهم هدف لي في الحياة هو أن أُترك وشأني؛ إذ أحلم بإمبراطورية بحجم شقتي، وذلك أمر شبه مستحيل، منذ أن كنت مراهقًا، كانت قدوتي الفنية الأساسية المخرج السينمائي ستانلي كوبريك، الذي كان يتمتع بعبقرية فنية نادرة ومميزة في قدرته على تأمين المساحة اللازمة لكي تعمل تلك العبقرية بأقصى إمكانياتها من خلال استقلال مالي ودرجة من السيطرة لم يُسمع بها من قبل في النظام الوحشي لهوليوود. إن الاستقلالية والسيطرة عاملان لا غنى عنهما لأي فنان، ولأنني أفتقر إلى الذكاء التجاري الشديد أو الكاريزما النابليونية التي يتمتع بها ستانلي كوبريك، فقد حاولت حل هذه المشكلة عن طريق إبقاء مساعيَ الفنية منخفضة التكلفة، ودون متعاونين، وخالية من التدخل التحريري قدر الإمكان.
وبالتأكيد، كما هو مكتوب في الملصق الموجود على السيارة، فإن الحرية لا تأتي دون ثمن، لذلك قررت منذ فترة طويلة أن الحرية الأعظم هي حرية التحكم في وقتي الخاص، ولتحقيق هذه الغاية خسرت راتبي المنتظم، وملكية المنزل، وخطة التقاعد، وأي تصنيف ائتماني على الإطلاق، كما أنني اضطررت للتعامل مع القيود العائلية الطفيفة، وشعرت في معظم الأيام أن الأمر يستحق هذا العناء كله.
لذا فإن الحرية هي نوع من السيطرة، لكن يوجد نوع معين من الحرية يأتي أيضًا مع العجز. لم أكن فنانًا أكثر حرية مما كنت عليه عندما كنت أرسم كاريكاتيرًا لصحيفة أسبوعية بديلة، وهي وظيفة كان راتبها يصل إلى 20 دولارًا في الأسبوع بحدٍّ أقصى، ولأن أحدًا لم ينتبه إلى ما فعلته، فقد كان بوسعي أن أسمي الكذبة “كذبة” حين كانت بقية الصحافة لا تزال تغامر مبدئيًّا بمصطلح “مضلَّل”، يمكنني رسم رجل يستخدم البوريتو كدمية، وبمجرد أن بدأت في نشر المقالات في واحدة من الصحف المرموقة الأكثر شعبية في العالم، بدا فجأة وجود العديد من الأشياء الواضحة والحقيقية التي لم يعد بإمكاني كتابتها، ولا داعي للقول إنه لم يوجد المزيد من البوريتو.
وكلما كانت لديك سيطرة أكبر، أصبحت تلك السيطرة مقيدة أكثر. لطالما اعتقدتُ إلى حد ما أنه لا بد من أن أحد أقل الأشخاص حرية على وجه الأرض هو رئيس الولايات المتحدة، وهو منصب لا يمكن لأحد أن يصل إليه دون أن يصبح مدينًا بالفضل لمانحي الحملات الانتخابية وجماعات الضغط وقادة الأحزاب وغيرهم من المتدخلين غير المرئيين، والذين تقتصر خياراتهم السياسية على الشق الضيق من الطيف السياسي الأمريكي. يمكن لأي سائق سيارة أجرة أو حلاق أو متصيد عبر الإنترنت أن يتحدث عن فرضياته الغريبة، ولكن إذا تَفَوَّهَ الرئيس عن غير قصد بفكرة صريحة غير خاضعة للرقابة، فإن ذلك يُسمى “زلة” ويكلفه نقاط الموافقة.
إلا أن الحرية الأكثر أهمية التي يجب تأمينها هي القدرة على التحرك بحرية داخل حدود جمجمتك، ففعل ما تريد يعتمد على معرفة ما تريد. إن السيطرة الأكثر خبثًا في العالم هي تلك التي تتسلل إلى دماغك، مما يؤدي إلى تضييق وتشويه ما هو مسموح بالتفكير فيه، ويكاد يكون من المستحيل الخروج من تحت وطأة الإجماع الثقافي، والأيديولوجية، والدعاية، والحكمة التقليدية، والثرثرة التي تصم الآذان لآراء الآخرين، وإيواء أفكارك الخاصة، وكما تصف فيرجينيا وولف إحدى الفنانات في روايتها To the Lighthouse، فإنها “تجابه عوائق هائلة للحفاظ على شجاعتها؛ وتقول: ولكن هذا ما أراه، هذا ما أراه”، وهكذا تضم بعض البقايا البائسة من رؤيتها إلى صدرها، والتي بذلت ألف قوة قصارى جهدها لانتزاعها منها”.
ما يكمن وراء السعي المثير للشفقة للحصول على السيطرة كلها هو الخوف: الخوف من الموت. يبني بعض الأغنياء مركبات فاخرة للبقاء على قيد الحياة، ويُمَوِّلون برامج الأبحاث الفرانكنشتاينية للتغلب على التدهور الجيني والموت. ما يمكن قوله كله تقريبًا عن غرور هذا الطموح –الغرور بمعنى الأنانية والعبث– قاله بيرسي شيلي في قصيدة Ozymandias، إن الأمل في أن يتذكرك الناس من خلال كتابة اسمك على كتاب، أو حجر أساس، أو مرض، أو نوع، أو معادلة، أو نجمة، ليس أقل إثارة للشفقة وسخافة من أي حيلة أخرى للتغلب على الفَناء، بدءًا من إنجاب الأطفال وحتى غزو الأمم، كما قال وودي آلن: “لا أريد أن أعيش في قلوب مواطني بلدي، بل أريد أن أعيش في شقتي”.
أعتقد أن أعقل الناس هم أولئك السعداء الذين لا يتأثرون بالطموح –سواء فيما يتعلق بالسيطرة أو الثروة أو الشهرة أو الإنجاز– والذين يريدون فقط العمل في وظيفة مفيدة، وحب شخص ما، والعيش في مكان جميل وسط أجواء عليلة على الشرفة، وربما بالقرب من منصة إطعام الطيور. ذات مرة، كان لدى إحدى صديقاتي، وهي كاتبة زميلة، شعور بالهلوسة، أدركت فيه أن طموحها كان مجرد شغف مهمل للمودة والاستحسان، لحب الغرباء، والذي لم تعد تشعر به بعد أن أصبحت لديها الآن عائلة محبة، لكن تلك الرغبة المضللة أوصلتها لمسمى الكاتبة، وهذا ما ستظل عليه حتى الآن بعد أن أصبح دافعها الأصلي باليًا، تمامًا كما صمد معبد البارثينون بعد هلاك الإيمان الذي أدى إلى بنائه.
قادني الطموح إلى قضاء عشرين عامًا من حياتي في مدينة صاخبة قذرة لا أستطيع تحمل تكاليفها، وإلى تكريس قدر كبير من الاهتمام لأعمال الترويج الذاتي التي تنهك روحي. مثل الكثير من الفنانين في نيويورك، أتخيل دائمًا أن هذا سيكون عامي الأخير هنا، أحلم بترك هذا كله ورائي والمضي قدمًا، أن أعود إلى الريف، وأقرأ كثيرًا، وأكتب شيئًا فقط عندما أشعر برغبة في ذلك، أطمح أن أكون –يومًا ما، إذا كانت لدي الشجاعة لذلك– أقل طموحًا.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة نيويورك تايمز).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.