تحويل الأفكار إلى كلمات | إيلي ألشانيتسكي

ترجمة: جوزف بوشرعه – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
هذه مفارقة التعبير: هل تكشف أثناء تكلّمك عن أفكارٍ موجودةٍ أساسًا أم تتولَّد أفكارك أثناء التكلّم؟
«اكتشفت هذه الفكرة على الطريق، فقبضت على الكلمات الضعيفة التي كانت أقرب إلى ذهني؛ لأثبتها خشيةً أن تفلت منّي. والآن ماتت الفكرة بسبب هذه الكلمات القاحلة وأصبحت تهتزّ فيها، ولم أعد أعرف عندما أفكر فيها: كيف تمكّنت من الشعور بالسعادة عند اصطيادي لهذا الطائر». – ما وراء الخير والشر (1886)، لفريدريك نيتشه.
«ما الذي أجده مزعجًا في هذا المقترح؟»، يغلي الاعتراض في نفسي عندما أقرأ مقالاً يصف تدابير الحكومة المحليَّة. عادةً ما أتخذ وقتي في تكوين موقفٍ إزاء هذه الأمور، ولكنّ هذه المسألة مختلفة. لقد صدمني ظلم هذا المقترح. ولم تكن ردّة فعلي فكريّةً فحسب بل عاطفيّةً أيضًا. إذ تجيّشت مشاعري، واستنفرت مخيّلتي، فيما تخيّلت هذا المقترح مطبّقًا في موضع التنفيذ، فبدا لي هذا الصنف البارز من صنوف الظلم وكأنّه يقفز من كل كلمةٍ في الصفحة.
قرّرت أنْ أحلّ مشكلتي المتعلّقة بالمقترح بالكتابة إلى زميلي الذي أرسل لي المقال. وبُحتُ باستياءٍ عمَّا أزعجني فيه، بقولي: «إنّه لمقترحٌ جائرٌ!»، لكنّ هذه العبارة شائعة حتّى كادت تكون فارغةً. «إنّه جائر، استبداديٌّ، مؤذٍ حتمًا». سرعان ما خطرت كلماتٌ على ذهني بعد بضع بداياتٍ غير موفّقة، فاستعدت ثقتي بنفسي، ثمّ أكملت صياغة الجملة. عدَّلت بعض الكلمات، وصوّبت بعض الأخطاء بوضعها في الترتيب الصحيح. وعند مطالعتي ما كتبته لاحظت أنّ هذه الكلمات تعبِّر بدقّةٍ عن موقفي على الرغم من وجود المجال أمام مزيدٍ من التوضيح عن أفكاري. فقد وجدتُ الكلمات المطلوبة للتعبير عن فكري.
تواجهنا جميعًا الفجوة الواسعة القائمة بين أفكارنا المُنفردة والكلمات التي تنقلها إلى الآخرين. إذ قد تكون الأفكار التي نعاني في التعبير عنها على نفس القدر من أهمية لحظة الاستدراك الأخلاقيّ التحوّلي، أو قد تكون عاديّةً، كالخواطر حول فيلمٍ شاهدناه أو كتصرّفٍ مؤذٍ ارتكبه صديق. وقد تبدو باعثة على الأمل أو مثيرة للقلق، تافهة أو جديّةً، قد تقودنا إلى اكتشاف قيمة في بعض الأشياء أو القلق من أشياء أخرى. قد تكون أفكارًا لطالما حملناها ولم نعبِّر عنها أبدًا، أو خواطرَ وليدة اللحظة عندما مرَّ على ذهننا شيءٌ جديدٌ وغير مألوفٍ فجأةً. في حالاتٍ كثيرةٍ نعبِّر عن هذه الأفكار لنستوضح ماهيتها، إذ لن نكلّف أنفسنا عناء بذل المجهود لو كانت هذه الأفكار واضحة لنا بالفعل.
لم تنل خبرة توضيح الفكرة بمعونة اللغة قدرًا كبيرًا من التمحيص، مما يثير الدهشة. فقد انصَّب تركيز فلاسفة المعرفة المتأثّرين برينيه ديكارت «Rene Descartes»، بشكلٍ حصريّ تقريبًا على الحالات التي تكون فيها معرفتنا بأفكارنا مباشرة وسهلة. مثلاً، عندما أدير المفتاح فإنني أظن في نفسي أنّ الباب مغلق، وفور اكتسابي هذه الفكرة أدرك إنّني أفكّر فيها. وبينما قد أكون مخطئًا بشأن اعتقادي المتعلّق بالباب (فقد يكون القفل مكسورًا)، فلن يستطيع نفرٌ من علماء الأعصاب أن يزعزع ثقتي بوجود هذه الفكرة لديّ. لقد سعى الفلاسفة، المتأثرون بالثقة الخاصة في معرفتنا بأفكارنا في مثل هذه الحالات، إلى فهم هذه القناعة واستخدامها لإرساء الأساس لمعرفتنا كلّها. أمّا الحالات الصعبة التي علينا أن نجهد فيها لتوضيح أفكارنا المُبهمة، فلم تنل اهتمامًا كبيرًا.
وكذلك، أُهملت هذه الحالات في المجالات الأخرى. فاللغويّون الذين درسوا قواعد النحو والمعاني المجرَّدة التي تتيح لنا فهم عددٍ غير محدودٍ من الأفكار الجديدة تجنَّبوا على نحوٍ موحد دراسة الطريقة التي نطبّق بوساطتها هذه القواعد لتكوين العبارات. وقد كتب نعوم تشومسكي الذي أحدث ثورةً في مجال دراسة الأُسس الكامنة في كفايتنا النحويّة «grammatical competence»، سنة 1986: «في ما يخصّ الجانب الأكثر إبهامًا في التَّوليد، من الصعب تجنّب الخلاصة التي تفيد بوجود مشكلاتٍ خطيرةٍ فيه، ولعلَّها تكون من الألغاز الغامضة التي يستحيل على الذهن البشريّ فهمها».أمّا الذين تجرّأوا على تفحّص عملية تحويل الفكر إلى خطاب، مثل عالِم اللغويات النفسية «psycholinguist»، ويليم ليفيلت، في كتابه الرائد: «التكلّم: من المقصد إلى التعبير» «Speaking: From Intention to Articulation» (1989)، فقد فعلوا ذلك من خلال تحليل زلاّت اللسان الشائعة في الحالات التي يكون فيها التعبير سريعًا ومفرغًا من أيّ دليلٍ لاكتشاف معناها (مثلاً: «يسارًا» عوضًا عن «يمينًا»، و«بقرة» عوضًا عن «بشرة»). لذا لم تنشأ احتمالية دراسة الحالات الصعبة لغياب منهجيّةٍ مقارنةٍ لاستقصائها.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الإقدام على تفحّص تلك الحالات من شأنه أن ينير أصعب التحدّيات التي نواجهها في التعبير، وأن يغيّر تصوّرنا عن أنفسنا وعن علاقتنا بأفكارنا، كما يساعدنا على تطوير أفكارنا في مساعٍ إبداعيّةٍ أخرى. وعلى الرغم من كون هذه الحالات مألوفة، إلا أنها تثير بعض الأسئلة الأساسية، مثل: ما الذي يجعل الفكرة واضحة؟ وما الذي جعل الفكرة الأوّليّة لدينا مبهمة؟ وكيف يمكننا توضيح الفكرة بالمعنى المناسب لها؟ تتطرَّق هذه الأسئلة إلى مسائل أساسية حول العلاقة بين الفكر واللغة وبين الذهن اللاّواعي والذهن الواعي. وتبدأ معالجتنا لهذه الأسئلة بملاحظتين تبدوان متناقضتين.
يجب علينا إزالة الصياغات غير الدقيقة فيما نحترز من الكلمات التي تشوِّش على ما نفكر فيه
تفيد الملاحظة الأولى أنّ التعبير عن أفكارنا في الحالات الصعبة هو طريقتنا في اكتشاف ما نفكر فيه. اقتبس الفيلسوف دانيال دينيت «Daniel Dennett»، عام 1991، قولاً طريفًا لإي أم فورستر «E. M. Forster»: “كيف أعرف ما أفكر فيه حتّى أرى ما أقوله؟»، مؤكدًا على «أنّنا غالبًا نكتشف ما نفكر فيه، من خلال التفكّر فيما نجد أنفسنا نقوله»، سواءً أوجدت عيبًا حقيقيًا في مَثَل الإجراء الحكوميّ -المذكور أعلاه- أم لا، أشعر أنني اكتسبت بعض الأفكار فيما يتعلَّق بالسبب الذي أزعجني في الأساس.
أمَّا الملاحظة الثانية المتناقضة على نحوٍ مشابه فهي التعبير عن أفكارنا في الحالات الصعبة هو نشاطٌ مُتعمَد لا ينحصر ببساطةٍ في توليد الكلمات آليًّا، دون تفكير. إنّ الكلمات التي تصدر عنَّا مباشرةً عند اصطدامنا بأفكارنا (مثلاً: «يا له من أمرٍ معيب!»، «يا لها من فوضى!») قلَّما تعكس ما نفكّر فيه بأيّ شكلٍ من الأشكال. فقد تأتينا الأفكار بحكم العادة، أو بحكم تكرارها من خلال متحدثين آخرين، أو بفعل أُنسنا بأصواتها. وقد أشار جورج أورويل في مقاله: «السياسة واللغة الإنكليزية Politics and the English Language» (1946، إلى مخاطر الانزلاق الأعمى في هذه الكلمات، حيث حذّر من الكلمات الطنّانة الشائعة التي «ستركّب عباراتك من أجلك، بل ستفكّر بأفكارك نيابةً عنك إلى حدٍّ مُعيَّن، وعند الحاجة ستؤدي الخدمة المهمة المُتمثّلة في الإخفاء الجزئي للمعنى الذي قصدته حتى عن نفسك»؛ لذا، سعيًا لنجاح التعبير علينا إزالة الصياغات غير الدقيقة، فيما نحترز من الكلمات التي ستشوِّش على ما نفكّر فيه أو تغيّره.
يتعارض الانتقاء الحذر الذي نمارسه في هذه العملية مع الجهل الذي نأمل في أن تعالجه. فالغاية من البحث عن الكلمات في الحالات الصعبة هو توضيح ما نفكّر فيه؛ ويبدو التوضيح الذي نسعى إليه قائمًا في معرفة أنّنا نفكّر في فكرةٍ محدّدةٍ. وفي الوقت نفسه نفهم تمامًا اختيارنا لكلماتنا، حيث يبدو كأنّ علينا ابتداع سببٍ لها. ولكن، سيصعب علينا إيجاد طريقةٍ نستطيع من خلالها وضع سببٍ لقبول الكلمات أو رفضها، إذا كنَّا لا نعرف بالفعل الفكرة التي نحاول التعبير عنها.
قارن عند وصفنا صورةً من الصور أو ترجمتنا لعبارةٍ ما إلى لغةٍ أخرى، تكون الصورة أو العبارة واضحتين في ذهننا فنبحث عن الكلمات التي تناسبهما. فلا يمكننا انتقاء الكلمات المناسبة إلاّ إذا عرفنا ما تصوّره الصورة أو تقوله العبارة. إذن، إن تكن غايتنا التعبير عن فكرةٍ محدّدةٍ ما فمن غير الواضح كيف بإمكاننا انتقاء الوسائل المناسبة لتحقيقها إذا كنا نجهل ما نفكّر فيه. نعجز على إدراك صِحة كلماتنا من دون مقارنتها مع الفكرة، ولا يمكننا مقارنتها مع فكرتنا إلاّ إذا كنا نعرف ما الفكرة التي نحاول التعبير عنها. يشير جان بول سارتر إلى هذه المفارقة التي يمكننا تسميتها بـ: “مفارقة التعبير”، في كتابه: «الكينونة والعدم» (1943): «هذا بالفعل ما لاحظه اللغويّون وعلماء النفس، إذ اعتقدوا أنّهم قد اكتشفوا حلقةً في صياغة الكلام، حيث إذا أراد المرء أن يتكلَّم فمن الضروري أن يعرف فكرته. لكنْ كيف نستطيع معرفة هذه الفكرة بوصفها واقعًا تجلَّى وثبُت في مفاهيم من دون نُطقها على وجه التحديد؟».
لو صدف وعثرنا على الصياغة الصحيحة -مثلاً، على لسان صديق أو في منتدىً للمناقشة عبر الإنترنت-، فكيف سنعرف أنّها تمثّل فعلاً الفكرة الموجودة في ذهننا؟ باستطاعتك أن تحلّ المفارقة بالإشارة إلى أنّ وظيفة اللغة لا تنحصر فحسب في كونها وسيطًا للتعبير عن الأفكار بل تُعدّ وسيلةً لتطويرها أيضًا. إذ غالبًا ما يكشف فعل التعبير عن الفجوات والإهمال في تفكيرنا: فقد يخفت سِحر الأفكار عند نطقها أو كتابتها، ومن ثمّ يتضح تشتّتنا بمجرد أن نحاول التعبير عن تلك الأفكار. قد تغريك هذه التجربة المشتركة بسذاجةٍ للتفكير في أن الصياغات التي نصِل إليها في النهاية تضيف شيئًا جديدًا إلى أفكارنا الأساسية، في الحالات التي يكون التعبير فيها صعبًا. وفقًا لهذا الرأيّ، قد لا يكمن التوضيح عمّا نفكّر فيه في التعبير عن فكرتنا التي استقرينا عليها، بل في حزم أمرنا بشأن مسألةٍ محدّدةٍ، من خلال توليد فكرةٍ أكثر دقّةً وتماسكًا. وإن لم تكن غايتنا توليد كلماتٍ تتوافق مع فكرنا فلا مفارقةَ في تفسير الطريقة التي نُدرك بها الكلمات الصحيحة للتعبير عن أفكارنا.
لكنْ، ليست الأمور بمثل هذه البساطة، فبينما قد تتمكّن اللغة في بعض الحالات من إزالة المفارقة لعرض عملية الوصول إلى الوضوح باعتبارها تركيبًا للأفكار، فإنّ هذا في أحسن الأحوال، ليس إلا جزءًا من المسألة. إذ تستطيع أفكارنا أن تكون أكثر دقّةً ممّا يمكننا التعبير عنه بسهولة. كتب وليام ثورستون عالِم الرياضيات، الذي نال سنة 1982، وسام فيلدز؛ نظير مساهماته الرَّائدة في الطوبولوجيا الهندسية: «أحيانًا ما يؤدّي عامل توسّعٍ ضخم دورًا في ترجمة التشفير في تفكيري إلى شيءٍ يمكن نقله للآخر». فيما كتب عالِم الرياضيات نيكولاس غودمان، عام 1979: «إنّ أحد أصعب الأعمال التي يؤدّيها عالِم الرياضيات تحدث عندما تكون لديه فكرةً لكنّه يعجز في تلك اللحظة عن التعبير عنها، وغالبًا ما تتمظهر هذه الأفكار في هيئة صورٍ مرئيّة أو حركيّة. وعندما يدركها عالِم الرياضيات جيدًا وتتخذ الأفكار شكلاً أكثر تجردًا، يكتشف الأخير أنّها تُظهر بنيةً داخليّةً معتبرة لا تكون مشفَّرةً رمزيًّا بعد، إذا ما جاز التعبير».
تضجّ كتابات نيتشه بالشكاوى من عجز اللغة للتعبير عن أفكاره العزيزة بوساطة الكلمات تعبيرًا تامًّا. لا يلزم أن تكون عالِم رياضياتٍ أو فيلسوفًا رؤيويًّا كي تشعر بهذا الإحباط.
تذكّرنا هذه المفارقة بأحجية سقراط: كيف يمكننا تفحص شيءٍ إن كنَّا لا نعرف كنهه؟
كما يُظهِر علم الإدراك على نحوٍ متزايد أنّ تفكيرنا لا يسير على دربٍ واحدٍ كالكمبيوتر المتسلسل، بل ينتظم في مجموعةٍ متنوّعةٍ من القدرات، أو في أنماط التفكير التي تتواصل مع بعضها دون تدقيق. وقد تكون هذه الطبيعة المتعرِّجة للتواصل مسؤولةً عن حسّ الانشقاق في الذهن الذي تحدّث عنه الكثير من الكتّاب والمفكّرين. فاللغة ليست سوى نمط واحد من أنماط التفكير ذات معلمات مميزة وحدودٍ خاصّةٍ بها. فما هي إلا أداة ناقصة لالتقاط أفكارنا، على الرّغم من أنّها تمنحنا منظورًا بعيدًا فيما يتعلّق بها. ثمَّة أنماط أخرى يمكن أن تعطينا جوانبَ من الواقع، وتجيز لنا تواصلاً مباشرًا أكثر مع مشاعرنا، لكنّها غير قادرةٍ تمامًا على التفكير والتعبير الظّاهرَيْنِ. وحده المتكلّم غير المتعاون (ووضيع النَّفس) هو مَن يعتبر صعوباتنا في التعبير علامة على افتقارنا لكلامٍ ذي معنى.
إنّ المجال الفاصل بين الحالات التي نشرع فيها بأفكارٍ محدّدةٍ والحالات التي نركّب فيها الأفكار أثناء التعبير، يشمل جميع أنواع المساعي الإبداعية. فمن ناحيةٍ نجد الرسّامين، مثل: جاكسون بولوك، وجيرارد ريختر -وهُما من الذين يخفّفون من التحكّم الواعي في تجريداتهم اللونيّة-، يتركون الوسيط والحظّ يقرّران النتيجة، ومن ناحيةٍ أخرى نعثر على أولئك الذين يُخضعون أصغر التفاصيل في عملهم إلى تصوّرهم الأوّليّ. إذ قارن ستيفن كينغ عملية تأليف رواياته بالتنقيب عن أحفورٍ سبق وجوده عند بداية التأليف. كما وصف مارسيل بروست الموتيفات الموسيقية التي تقود شخصية فينتوي -المؤلِّف الموسيقيّ في رواية: «جانب منزل سوان»، (Swann’s Way» (1913″- بأنّها «أفكارٌ محجوبةٌ في الظّلال، متميّزةٌ عن بعضها تمامًا لا تتساوى في القيمة ولا الأهمية».
قد تكون الحالات التي نستعمل فيها اللغة لتركيب الأفكار منيعةً أمام مفارقة التعبير لأنّها لا تنطوي على اكتشاف ما كنَّا نفكّر فيه. ولكن، ما يزال أمامنا الجانب الآخر من النطاق: كيف ندرك صياغات أفكارنا الضبابية من دون معرفة ما تكون عليه هذه الأفكار؟ تنشأ مفارقةٌ وثيقة الصِلة في المجالات الإبداعية الأخرى حيث نبدأ فيها بأفكارٍ كاملةٍ نسبيًّا، أو «أحفوريّاتٍ» تقود عملنا. فدون المعرفة التامة للأحفور الذي نسعى إلى كشفه، لا يمكننا التيقّن مما إذا كان نتاجنا يتماثل معه أم لا. لكنّ معرفتنا بما نسعى إليه على وجه التحديد سينتزع الإبداع والتشويق من عملية التنقيب، كما يمكننا أن نوكل العمل الباقي إلى شخصٍ آخر. وتشبه هذه المفارقة أُحجية سقراط القديمة عن التحقيق التي نجدها في “محاورة مينون لأفلاطون: “كيف يمكننا تفحّص شيءٍ إن كنَّا نجهل كنهه؟ وإن عرفناه فما الغاية من تفحّصه؟”.
تمثَّل الحلّ الذي قدَّمه سقراط على أحجيّته بتشبيه التحقيق بالتذكّر، وهو فعل إحياء معرفةٍ مكتسبةٍ لكن مغمورة. لا يعد الحلّ، بديهيًا، جوابًا مقنعًا تمامًا للمشكلة الأصليّة التي قصد حلَّها، لكنّه يقدِّم دليلاً على مفارقة التعبير. فنحن لا نبدأ من فراغٍ إدراكيٍّ عند سبر أفكارنا بمعونة اللغة. تمامًا مثلما يمكننا اكتشاف جغرافيا الجزيرة كلّها عبر معرفة إحداثيّاتها والإبحار حولها، يمكننا كذلك اكتساب معرفةٍ أكثر عن الفكرة عبر الاستناد إلى نوعٍ معيّنٍ من معرفتها. ولا تكون المعرفة التي ننتفع بها هي المعلومات الواضحة التي نجدها في الكتب المدرسية، بل تكون شكلاً من المعرفة الضمنيّة أقرب إلى الألفة المباشرة.
باستطاعتنا على نحوٍ أفضل فهم ماهية هذه المعرفة وفهم الطريقة التي تتيح لنا بها إدراك الكلمات الصحيحة بوساطة المقارنة مع أشكال إدراكٍ أبسط، مثلاً، إدراكنا للألوان. عندما نرى درجة لونٍ مُعين، فقد نعرف إنّه اللون الذي يتوسَّط الأحمر والأبيض، وهو لوننا المفضَّل، أيّ لون طيور الفلامنجو، وأزهار الكرز، وهكذا دواليك. لكنّ فتات المعلومات الواضحة في حوزتنا قد لا يكون محدّدًا مثل معرفتنا الضمنية باللون التي اكتسبناها من تجربتنا به. فقد يتطابق وصفنا الواضح لهذا اللون مع درجة لون مختلفة قليلاً عن اللون الزهريّ، ولكنّ تجربتنا باللون قد تكون أكثر ثراءً من وصفنا له، ومع ذلك تتيح لنا التمييز بين درجتيّ اللون.
تمامًا كإدراكنا الألوان، لا يُبنى إدراكنا للكلمات التي تتطابق مع أفكارنا على التحليل المنطقي من المعلومات الواضحة. في كِلتا الحالتين ينتج هذا الإدراك عن تجربةٍ مباشرة. إذ نستطيع إدراك فكرةٍ في الكلمات التي تعبِّر عنها من خلال الاعتماد على علامتها، أيّ الطريقة المتميّزة التي تَسِم نفسها من خلالها في تجربتنا، مثلما نعيد تحديد لون ما بوساطة الاعتماد على علامة تجربتنا به. فتصورنا الأوّليّ (والواضح) للفكرة يمكنه أن يكون صغيرًا جدًّا ومضلّلاً أحيانًا؛ لأنّ إدراكنا مبنيٌّ على تجربةٍ بدلًا من المعلومات الظاهرة. وخلافًا للألوان قد تفاجئنا كلماتنا عبر كشفها طبقات ثراء فكرنا وتنوّعه المحجوب عنَّا سابقًا.
هذه الفروق بين تصوّرنا عمَّا نبحث عنه، وما ينتهي بنا الحال بالعثور عليه، قد تبدو غامضةً، لكنّها في الواقع شائعةٌ في حالة إدراك الذاكرة، على سبيل المثال، محاولة تذكّر اسم ممثّل. عندما نشرع في الأمر قد نشعر بأنّ اسمه يبدأ بحرف «ت»: إنّه توماس فلان، وحينما يحضر الاسم المناسب، نستدرك أنّه يبدأ بحرف «د»: «وجدتها! إنّه الممثّل دانيال داي لويس!»، وفي حالاتٍ كثيرةٍ نفضِّل التخلّي عن الاسم الذي نتوقّعه. على نحوٍ مماثلٍ، قد تعيق محاولتك تأطير صياغة توقّعك عمَّا ينبغي أن يكون الأمر عليه من تقدّمك، وهو درسٌ ينطبق على المجالات الإبداعية الأخرى.
قد أسمح لنفسي بتحطيم مزهريَّة ما عند الغضب، لكنّي لا أقرر فعل ذلك للتعبير بالشكل الأمثل عن حالتي النفسيَّة.
إنّ فهمك الطريقة التي تولّد فيها التجربة شكلاً من المعرفة الضمنيّة والطريقة التي تؤدّي فيها هذه المعرفة إلى نشوء فهمٍ واضح قد يغيّر جوهريًّا من كيفية تفكيرنا في أنفسنا وفي علاقتنا بأفكارنا. لقد رأينا أنّ تصوّرنا الواضح عن أفكارنا يؤدّي دورًا محدودًا في الحالات الصعبة؛ إذ يبدو أن تجاربنا المباشرة عن الأفكار هي التي تقود الطريق. لكن، إذا لم تكن الأسباب، والأهداف، والخطط الواضحة التي نتماهى معها هي ما يرشد انتقائنا للكلمات فقد نشعر بالقلق من أن الآليّة التي وصفتها لا تترك لنا مجالاً. وعلى الرغم من ذلك، ما يزال ثمَّة طريقة محوريّة يمكننا أن تأسرنا بها هذه العملية.
فلنتناول مثلاً حالةً مشابهة: التعبير الشعوريّ. خلافًا للتغيّرات الجسميّة اللّاإرادية التي تكون جزءًا من الشعور (مثلاً احمرار الخدّين، والتعرّق، والارتعاش)، غالبًا ما تكون تعبيراتنا عن المشاعر (مثل القفز فرحًا، نفش شعر طفلٍ ما بمودة)، وكأنّها أمورٌ نفعلها عن عمد، حتّى لو لم تكن استجابةً لخططٍ أو أسبابٍ واضحة سابقة. وقد حاججت الفيلسوفة روزاليند هيرستهاوس في شرحها للتعبير الشعوريّ، عام 1991، أنّه لا يمكن على الإطلاق تفسير كثير من أفعالنا التي تعبِّر عن المشاعر بالأسباب المنطقية: فقد أسمح لنفسي بتحطيم مزهريَّة في حالة الغضب، لكنّني لا أتعمّد وأقرّر تحطيمه لسببٍ أنه يعبّر على النحو الأمثل عن حالتي النفسيَّة.
وعلى النحو نفسه، إنّ التعبير عن اعتراضي على الإجراء الحكوميّ -في مثالي الأول المذكور أعلاه- لا يتضمّن تعليلاً واضحًا حول الصياغة التي يجب أن يكون عليها. فمساهمتي الواعية في هذه العملية مؤلِّفة من اختبارٍ وخطأٍ، حيث حاولت إحداث عمليةٍ عفويّةٍ عن التعبير، ومن ثمّ تركت تمددها لذاتها. وكما أنّ الشعور هو ما يتحكّم في عملية التعبير عن شعورٍ ما، كذلك فإنّ فكري هو الذي يسيطر مباشرةً على العملية التي أحاول إحداثها.
وعلى الرغم من ذلك، يحتاج التعبير عن الفكرة حساسية، ومرونة، واهتمامًا، وعناية. إنّ التعبير عن اعتراضي على الإجراء الحكوميّ هو أمر سأفعله بوضوحٍ بنفسي، عوضًا عن كونه فعلاً مفروضًا عليّ. وعلى الرغم من تحكّم الفكر بهذه العمليّة، إلا أنني أتحكّم بها في الوقت نفسه. ثمَّة ميزةٌ مثيرةٌ للاهتمام في مسألة اشتراكنا في التعبير. حالما تبدأ العمليّة أصبح منغمسًا فيها، وأختبر نفسي وكأنني أؤدّيها قصديًّا، فالكلمات التي أولّدها مقصودة لا في معنى انتقائها المقصود، بل في كونها غير مقيّدةٍ بالرقابة الداخلية. يقدِّم هذا التصوّر للتعبير مخرجًا لهذه المفارقة من خلال إظهار الطريقة التي لا يمكننا بوساطتها فحسب إدراك الكلمات التي تعبِّر عن أفكارنا فيها، بل وتوليدها على نحوٍ فعَّالٍ من دون الاعتماد على المعرفة الواضحة لما نفكّر فيه.
سواءً أسلَّمت بهذا الحلّ أم لا، فالمفارقة تعطينا أداةً لتفحّص عمليّة التعبير على نحوٍ منهجيٍّ. إذ يقف هذا التحقيق عند مفترق طريقين: طبيعة المعرفة، وطبيعة الفاعليّة والذّات. ولا يعد التوصّل إلى فهم هذه العمليّة نشاطًا فكريًّا فحسب، بل إنّه مسعىً عمليّ لمحاولة الكشف عن أساس الطريقة التي توصَّلنا بوساطتها إلى معرفة العالم وأنفسنا. إذ يؤدي جهلنا بما يكمن خلف ردَّات فعلنا إلى تحكّمها بنا، أمّا استيضاح الأفكار التي دفعتنا نحو هذه الاستجابات فمن الممكن أن يؤدي إلى التحرّر. فالصراع النظريّ في سبيل تحويل معرفتنا الضبابيّة بهذه العملية إلى فهمٍ واضح، موجود بنفسه في نطاق التحقيق الحاليّ؛ وهذه الكلمات هي نتاج هذه العملية نفسها.
الهوامش
1- إيلي ألشانيتسكي، أستاذ مساعد في الفلسفة، في جامعة تامبل «Temple University»، في فيلادلفيا. صدر له كتاب: «التعبير عن فكرة Articulating a Thought».
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.