مقابلات وحوارات

فلسفة التربية | حوار مع آلان كيرلان | حاوره بسام بركة

  • التربية أولاً وقبل أي شيء عمل يقوم به الأهل والمدرسة. في أساس هذا العمل (كتابك الصادر حديثًا: «قاموس فلسفة التربية») هناك نظريات تحدد المفاهيم المجردة للتربية وتوجه مساراتها. لكن، أن نتحدث عن «فلسفة التربية» فهذا قد يبدو غريباً للوهلة الأولى. هل من الممكن أن تشرح لنا إلى أي مدى تحتاج التربية إلى الفلسفة وما ماهية هذه الفلسفة؟

اسمح لي قبل كل شيء أن أندهش من اندهاشك. نحن لا نتفاجأ بوجود فلسفة الفن، ولا فلسفة القانون، ولا فلسفة المعرفة أو العمل، ولا فلسفة العلوم، وفلسفة الأخلاق، أو السياسة، ولا حتى فلسفة الجسد. توجد فلسفةٌ للتربية مثلما توجد فلسفة للفن أو للسياسة. لا شيء مما هو بشري يفلت من اهتمام الفلسفة وتفكيرها. حسب كانط، هناك ثلاث أسئلة رئيسة تحدد مجال الفلسفة: «1) ماذا يمكنني أنْ أعرف؟ 2) ماذا عليّ أنْ أفعل؟ 3) ما الذي يُسمح لي أنْ أتمناه؟».

قضية التربية موجودة في كل هذه المجالات الثلاثة. بالإضافة إلى ذلك، كان كانط يرى أنّ سؤالًا واحدًا يُمكن أن يحتوي على الأسئلة الثلاثة السابقة، وهو: «ما الإنسان؟». إنّ مسألة التربية تمرّ عبر هذا التساؤل الأخير. ما مآل الإنسان والإنسانية من دون التربية؟ يبدأ كتاب «تأملات في التربية» بهذه الجملة، وهو كتابٌ يتضمن ملاحظات كانط حول التعليم والتربية: «الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عليه أن يخضع للتربية». بالطبع، يُولد كل فردٍ منا ذكرًا أو أنثى، وإنسانيته محفورة فيه، أو فيها، ولكننا «لا نصبح كائنات بشرية كاملة إلا بالتربية». أضف إلى ذلك أنّ التربية وتكوين الذات مهمتان لا تنفصلان عن الوجود البشري، والتدريب بُعدٌ مُكوّن لوجودنا البشري، وأختصر فكرتي بهذه العبارة الجميلة من صديقي وزميلي «ميشال فابر»، الذي سبقني في رئاسة «الجمعية الفرنكوفونية لفلسفة التربية» SOFPHIED: «وجود الإنسان بتكوينه [بتدريبه]». في أفق أي فلسفة كانت، هناك السؤال التالي: «أي إنسان (بمعنى “الكائن البشري”) نريد أن نُكوّن؟» هذا السؤال، ومن ثم فلسفة التربية والاهتمام الفلسفي بالتربية، كانا موجودين منذ بداية تاريخ الفلسفة. فأحد أهم محاورات أفلاطون، أي «الجمهورية»، يطرح سؤالين اثنين: الأول هو: ما المدينة الفاضلة؟ وما أن تُحدَّد المدينة الفاضلة يبرز بالضرورة سؤالٌ ثان، وهو السؤال المتعلق بالتربية: كيف نضمن بقاء المدينة الفاضلة واستمرارها؟ يكمن الجواب في التربية: تتطلب المدينة الفاضلة مواطنين مُدرَّبين تدريباً يُمكّنهم من الحفاظ على قِيَم هذه المدينة ودوافعها.

باختصار، فلسفة التربية ضرورة أنثروبولوجية وسياسية، وكل منهما مرتبط بالآخر: هي أنثروبولوجية، بمعنى أنها تقضي بمراعاة الهدف -والوسائل- الذي يرمي إلى جعل الإنسانية تتفتَّح في كل رجل منا وفي كل امرأة، وبكل ما فيها من أبعاد ومن غِنى، وكذلك بمراعاة الوسائل الكفيلة بالوصول إلى هذا الهدف. وهي «سياسية»؛ لأنّ الإنسان، كما قال أرسطو، حيوانٌ سياسيّ، يعيش في مدينة، ويقتضي الحال إذ ذاك التفكير في النظام السياسي الذي من شأنه أن يفسح المجال لهذا الاكتمال البشري، كما يقتضي، بعكس ذلك، التفكير في التربية التي من شأنها أنْ تجعل من المُمكن والدائم وجود هذه المدينة الضرورية.

  • انطلاقاً من هذا التعريف ومن هذه الاعتبارات، ما هي أهداف «الجمعية الفرنكوفونية لفلسفة التربية» التي تشغل منصب الرئاسة فيها؟

الجمعية التي كنت أشغل منصب الرئاسة فيها، من العام 2019 إلى العام 2022. الآن، يتولى الرئاسة من كان آنذاك نائب الرئيس. لقد قمنا معًا بتجربة «قاموس فلسفة التربية: المفاهيم الأساسية»، الذي ترجمتَه أنت إلى اللغة العربية، عزيزي بسام بركة.

تُعرض أهداف جمعيتنا «الجمعية الفرنكوفونية لفلسفة التربية»، SOFPHIED، في موقعها على الإنترنت (https://www.sofphied.org)، وهي تتلخص في: «الدفاع، في مجال التربية، عن متطلبات التقليد الفلسفي من حيث الدقة النظرية والمنهجية، وتطويرها والترويج لها». كما يمكننا أن نرى، فيما وراء هذه «الشراكات»، أنّ هدفنا يقوم على «القناعة بأنّ فلسفة التربية ضرورية للتربية». إذ يقضي الأمر بأنْ تُوظَّف الفلسفة، من حيث هي مجموعة من المفاهيم، وخزان من الإشكاليات (النظرية)، ومناهج فكرية، وأسلوب تفكير (المنهجية)، كي تُوضع في خدمة التربية. لقد شرحت في إجابتي عن السؤال السابق أسبابَ هذه القناعة -التي تتشارك فيها مجموعة صغيرة من المؤسِّسين المُجتمعين حول الرئيسة الأولى، آن ماري دروين هانز -. تعقد هذه الجمعية مؤتمرها كل عام، والمواضيع التي تم اختيارها منذ إنشائها في العام 2006، ومنذ مؤتمرها الأول، هي: «الفردية والجماعية»، «إيميل، في أيامنا هذه» (بمناسبة مرور مائتين وخمسين عامًا على نشر عمل جان جاك روسو، «إيميل أو التربية»)، «الكفاءة في التعليم والتدريب: الاستخدامات والتحديات»، «فترة ما بعد الحرب والتربية، المعنى، الاستخدامات، الأهمية في فكرة القيمة في التربية»، «الأخلاقيات والسياسات التربوية، التربية والحدود»، «التربية وحدودها، التربية و(إعادة) استحواذ العلوم لها: التطبيق ورهاناته»، «التربية من أجل مستقبلٍ متغيّر: نهاية مدرسة بروميثيوس؟»، «التربية والسياسة، الرهانات الفلسفية (أزمات، انتقادات، بدائل)»[1]، كل هذه الموضوعات توضّح تنوع المجالات التي يُمارَس فيها التفكير في التربية والبحث الفلسفي، والرهانات الاجتماعية التي تستحوذ عليها.

أنا أركز على أنّ بيان أهدافنا يبدأ بالفعل «دافَع». الواقع أنّ فلسفة التربية في موقفٍ دفاعي. إنها تحاول أن تستمر في الحياة في عالمٍ تهيمن عليه الأيديولوجية التقنية، التي لا تؤمن إلا «بالكفاءة»، والفعالية، والتقنية، والخبراء، و«المُعطيات المُثبتة»، والتي أولاً وقبل كل شيء تتخذ الاقتصاد أفقًا لها. ولا تسعى الفلسفة إلى بناء برنامج تربويّ من شأنه أن يُفضي بسهولة إلى تكوين الأفراد الذين يستوفون متطلبات «الابتكار» في التنمية الاقتصادية، «بل هي تتساءل عما يستحق أن يُدرَّس ولماذا. إنها لا تبحث عن أكثر الوسائل ضماناً أو عن أشدّها فاعلية، بل تتساءل عما هي غايات التعليم»، كما يكتب «أوليفييه ريبول» (ص 4). وهذا لا يعني أنها تفقد الاهتمام بفاعلية وسائل التربية، بل يعني أنها يقظة بشأن الغايات التي توجد وراء هذه الوسائل. وهذه اليقظة ضرورية بشكل خاص في مواجهة العلموية والتكنوقراطية في عهد «الخبراء»، على سبيل المثال، في مواجهة هيمنة علوم الأعصاب وادعائها بأنها علم التربية، وهي التي تختزل التربية في علوم التعلّم. اليقظة ضرورية بالقدر نفسه في مواجهة السياسات التربوية والغايات التي تفرضها. هناك سبب «تاريخي» لهذا الموقف الدفاعي: في فرنسا، قام الفلاسفة بدورٍ رائد في تأسيس «مدرسة الجمهورية»، والمدرسة العلمانية، وكان لهم، ولفترة طويلة، دور مهم في تدريب المعلمين. إلا أنّ هذه المكانة لم تزل تتقلص، إلى أن اختفى تدريجيًا هذا المكان المخصص لفلسفة التربية، في مقابل تطور آليات التعليم المتخصّصة.

  • أنت تعتبر أن فلسفة التربية تقوم على «ثلاثية الهوية والذاكرة والرواية». ما المقصود بذلك؟ من المفهوم أن التربية تحافظ على الذاكرة وتعمل على بناء الهوية. لكن، في أيّ معنى فلسفي تستعمل هنا مصطلح «الرواية»؟

لقد شُكّلت هذه الثلاثية بالاستناد إلى ثلاثة مفاهيم مركزية في فلسفة بول ريكور. لم يكرّس هذا الفيلسوف الكثير من الكتابات للتربية، ولا يوجد في إنتاجه الفلسفي الغزير عملًا يُمكن القول إنه يعرض فلسفة بول ريكور في التربية. ومع ذلك، فهو الفيلسوف الذي يُذكَر بانتظام في الأعمال المُكرَّسة للتربية في النطاق الفرنكوفوني، وليس فقط في فلسفة التربية. وحتى اختصاصيو التدريب المهني أنفسهم يرجعون إليه.

لشرح هذه الثلاثية، يجب أن نبدأ بتعريف التربية الذي يبدو لي أنه يمكن استخلاصه من قراءة بول ريكور، وذلك من خلال العودة إلى مفهومه عن الإنسان القادر. يُفهم الإنسان هنا بالطبع بالمعنى العام للكائن البشري. كل شخص، وفقًا لريكور، يُعرّف نفسه بما يمكن أن يفعله بقدراته بوصفه إنساناً يوجد وسط عددٍ من البشر الآخرين الذين يتعرّفون عليه في قدراته، من خلال قدراته.

من المُمكن تصور أنّ الغرض من التربية هو تمكين كل كائن بشري من أن يصبح إنسانًا قادرًا. ومن ثم يصبح من المهم أن نأخذ في الاعتبار القدرات التي يُحقق الكائن البشري بها نفسه بوصفه إنسانًا قادرًا. إنّ ما يسميه ريكور «فينومينولوجيا الرجل القادر» يُؤسّس «تصنيفًا للقدرات الأساسية، عند تقاطع الفِطري والمُكتسب» (ريكور ، «أن تصبح قادرًا، معترفًا بك» [2]، في Revue des Revues). يتعلق الأمر، كما يقول بدقة، «بأسّ البشرية الأول». ويتضمن هذا البأسّ أولاً وقبل كل شيء «القدرة على التكلم»، ثم «القدرة على التصرف» و«القدرة على حكاية الذات»، وأخيراً المسؤولية –أي القدرة على تحمل الفرد مسؤولية أقواله وأفعاله- والقدرة على الوعد التي تفترض وجود المسؤولية. لهذه القدرات أشكالٌ لغوية هي: «أنا أستطيع»، «أنا أستطيع أنْ أقول وأنا كائنٌ موجود في هذا القول»، «أنا أستطيع أنْ أتصرّف وأنْ أتعرّف إلى نفسي في فعل القول هذا وفي ما يترتب عليه»، و«يمكنني أنْ أحكي عن ذاتي»، وأنا أيضًا، «أنا موجود أيضًا مع هذا الماضي الذي أروي حكايته»، والذي يصبح بذلك ماضيّ أنا. لقد سبق وحلل هيغل لعبة الطفل – يمارسها البالغون كذلك– الذي يقف مدهوشاً أمام الموجات المنطلقة من المركز والتي سببتها الحصاة الملقاة في الماء، مثل «الفِعل الذي يتعرّف على نفسه»، ويصبح مُدرِكا لذاته، في التأثيرات التي تُسبّبها. هكذا، تُبنى الهوية الشخصية في هذه العبارات المختلفة التي تبدأ بـ«أنا أستطيع»، والتي يعترف بها الآخرون ويصادقون بها على أنها لي أنا، ليس على أنها هوية مغلقة، ومنغلقة على ذاتها، بل في كِيانها التبادلي والتاريخي. «إنّ التغيير الذي هو جانبٌ من جوانب الهوية – والأفكار والأشياء – يتّخذ مظهرًا دراميًا في المستوى البشري، وهو التاريخ الشخصي المتشابك مع السرديات التي لا حصر لها لرفاقنا في الوجود. وتتميز الهوية الشخصية بزمنيةٍ يُمكن القول إنها تأسيسية. الشخص تاريخه»، كما يكتب ريكور (المرجع السابق). وبالتالي، فإنّ الذاكرة، الشخصية والجماعية، مُكوِّنة للهوية. كل هوية إذن هوية سردية، وهي تُبنى في السرد وتلَقّي هذا السرد. مصطلح السرد هنا يعادل مصطلح السرد في رواية القصص. السرد المقصود هنا ليس أكثر أو أقل من «فن سرد القصص القديم جدًا»، والذي لا يزال هو المحرّك الرئيسي للتربية الأساسية. يشرح ريكور أنّ الهوية السردية إنما هي «هوية حبكة القصة التي لا تزال غير مكتملة ومفتوحة على إمكانية أن تُروى بطريقة مختلفة وأن يرويها الآخرون» (المرجع السابق). إن تربية الأطفال الصغار، في فرنسا، في مدرسة الحضانة، تقوم بدورٍ رئيس في التربية الأساسية من خلال الاهتمام الذي تُوليه لأشكال مختلفة من: «أنا أستطيع»، انطلاقًا من «أنا أستطيع أن أقول» إلى «أنا أستطيع أن أعِد»، مرورًا بـ«أنا أستطيع أن أفعل» و«أنا أستطيع أن أروي». وما أن يحصل هذا الـ«أنا أستطيع» على اعتراف الآخر، على اعتراف الآخرين، ولكي يتم إنجاز ذلك بالكامل، تشمل هذه التربية الأساسية المدرسة، والصف، من حيث هما يُكوّنان جماعةً وسلطةً للتنشئة الاجتماعية. لا يمكن القيام بذلك عن بعد، ولا وجهاً لوجه مع برنامج حاسوبي تعليمي.

  • أنت تقول في بعض أبحاثك إن «حالة المسألة التربوية في جانبها التاريخي والمؤسّساتي في النطاق الإقليمي تجعل من هذا النطاق مختبراً للفلسفة». ماذا تعني بذلك؟ هل على التربية أن تصحبها الفلسفة والتساؤلات الفلسفية بشكل دائم؟ في النظرية فقط، أم في النظرية والتطبيق؟

أعتقد أن النص الذي تُشير إليه هو النص الذي كتبته بعد رحلةٍ إلى كاليدونيا الجديدة وسلسلةٍ من المؤتمرات عُقدت فيها، وقد جنّدت في هذه المؤتمرات فكر بول ريكور بشكل خاص. يشير مصطلح «النطاق» المقصود هنا هو كاليدونيا الجديدة. إنها جزيرة في جنوب المحيط الهادئ، جنوب أستراليا، تُحيط بها ثلاث جُزر رئيسة أصغر منها، ويعيش فيها عددٌ كبير من السكان الأصليين (شعب الكاناك) وكانت فيما سبق مستعمرة فرنسية فيما وراء البحار، وبقيت فرنسية مع الوضع الإداري الخاص بالمجموعات الإقليمية، شبه المستقلة. كاليدونيا الجديدة وشعب الكاناك هما اللذان أتحدث عنهما في الجملة التي ذكرتها. أنا أتحدث عن «مختبر فلسفي» لأن النظام المدرسي في كاليدونيا الجديدة هو نظام فرنسا، ونظام المدرسة الجمهورية، والديكارتية، والروح العلمية، والعلمانية؛ ولأن ما هو موجود هناك ينشر ثقافة الحداثة -إرث الاستعمار، لكن ثقافة الكاناك وتقاليدها- وهي واحدة من أقدم الثقافات في العالم الي ما تزال حيّة للغاية، ويُدافَع عنها بمنتهى الدقة هناك. إن الاستعارة «مختبر فلسفي» طريقةٌ للقول إن هذا التقاطع بين الحداثة والتقاليد إنما هو نوع من التجارب العفوية التي أنتجها التاريخ من خلال تراكب هذين العالمين وهذين الزمنين، والتي تُطرح فيها أسئلة فلسفية كثيرة، خاصة على الصعيدين السياسي والتعليمي. نبدأ بهذا السؤال: كيف نفكر في الكوني [العالمي]، في ضرورة الكونية [العالمية] التي ترتبط بفكرة المدرسة، في مواجهة تنوّع الثقافات؟

عُمومًا، يجب أن نتجنب معارضة النظرية والممارسة، كما لو كان كل ما في ترتيب الأفكار والمفاهيم، بطبيعته، لا فعالية له، ولا تأثير له في الواقع، كما لو كانت الممارسة خالية من أي فكرة أو أفق مفهومي. أعتقد أن فلسفة التربية يمكن أن تتخذ شكلين اثنين. في شكلها الأول، وهو بالأحرى منهجي، تقتصر على مسألة غايات التربية، وبمجرد تحديد هذه الغايات، تسعى إلى استخلاص ما يجب أن تكون عليه التربية من أجل تحقيق هذه الغايات. هذا مخطط أفلاطوني. أما في شكلها الثاني، فإنها تمدّ جذورها في الممارسة التربوية نفسها، ويمكن أن تذهب بعيداً في العمل النظري الضروري لإلقاء الضوء على الممارسة. يبدو لي أنّ أحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو كتاب جون ديوي، «كيف نفكر». ديوي، هذا الفيلسوف العظيم الذي في أصل البراغماتية، كان أيضاً معلماً عظيماً. فهو يهتم، في «كيف نفكر»، بتنمية ملكة التفكير. ويقوده هذا الاهتمام بعيدا جدا في تحليل فعل التفكير، ويصل هذا الكتاب جزئيا لحد أنه يشبه مبحثا في المنطق. ويوجد شكلان اثنان من فلسفة التعليم في الكتاب الذي يجمع أفكار كانط حول التربية (نُشر بالفرنسية بعنوان Réflexions sur l’éducation، في ترجمة اختصاصي كانط العظيم ألكسي فيلونينتو Alexis Philonenko). فالشكل الأول، أي التفكير في غايات التربية، الموجود في بداية هذا الكتاب، لا يشغل فيه سوى جزء صغير منه. بعد ذلك، يلتفت كانط بقوة إلى تربية الجسد (حتى إنه يلتفت إلى مسائل تخصّ الطعام والرضاعة)، وإلى التربية الفكرية (هذا جزء لا يفوته فيه التوقف عن أدب الأطفال، والاهتمام بمسألة شرود الذهن)، وإلى التربية العملية (وبالتالي، الأخلاقية) التي تفسح المجال أمام تربية الشخصية، والتفكير في التربية الدينية، وحتى في الاختلاف بين الجنسين.

  • في التاريخ الإسلامي، كانت التربية من شأن المؤسسات الدينية، وكذلك في التاريخ المسيحي على ما أعتقد. في نظرك، أي دور يمكن للدين أن يضطلع به في عالمنا المعاصر؟ وألا يستطيع الدين أن يحل محل الفلسفة في مواكبة التربية؟

الواقع أنّ التربية، أياً كانت، دينية أولاً وقبل كل شيء. في فرنسا أيضاً، كانت التربية دينية في المقام الأول، أو بتعبير أدق، كان التعليم لفترة طويلة عملًا يخصّ الدين ورجال الدين، وكانت التربية لفترة طويلة حكراً على الدين. ولا يعني احتكار الدين للتربية التربية الدينية فقط، بل يعني التربية بشموليتها (لا سيما التربية الأخلاقية، تربية الشخصية)، وذلك تحت سلطة الدين والعامل الديني وحدهما. لكنّ التحوّل من الديني إلى المدني – في فرنسا العلمانية – قد فعل فِعله. لقد درَس عالم الاجتماع إميل دوركهايم هذا الأمر وألقى الضوء عليه منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وذلك عندما وضعت الجمهورية الثالثة حداً لاحتكار الكنيسة المسيحية بفعل قوانين جول فيري التي جعلت التعليم الابتدائي إلزامياً و«علمانياً».

ودوركهايم، هذا المثقف الذي انخرط جنبًا إلى جنب مع »مدرسة الجمهورية«، قد قدّم محاضرة في بوردو ثم في باريس في إطار تدريب معلمي المدارس الثانوية، وقد نُشرت بعد وفاته بعنوان «التطور التربوي في فرنسا». توضح هذه المحاضرة كيف أنّ فكرة المدرسة، تلك الفكرة التربوية التي يقوم عليها مشروع التربية والتعليم، يعود أصلها إلى بدايات المسيحية، إلى الكنيسة الأولى، وبشكل خاص إلى مدارس الكاتدرائيات والمدارس الرهبانية.

الشيء المهم في هذا، كما يؤكد دوركهايم، يكمن في القطيعة بين هذه المدارس وأنظمة التعليم الداخلية والتعليم القديم. ففي العصور القديمة، اليونانية كما اللاتينية، لم تكن المدرسة تُعدّ المكان الوحيد لكل أنواع التدريس، وكان الطالب يتلقى العلم من أساتذة مختلفين ومن دون أن يكون هناك أي صلة بينهم. لم يكن التعليم إذن موحداً بناء على هدفٍ واحد. لقد تغيّر كل شيء مع المدرسة المسيحية. فبمجرد أن استقر وضعها، عملت على إعطاء الطفل جميع الدروس بالروح نفسها وفي المكان نفسه. المدرسة المسيحية «غلّفت الطفل بالكامل»، كما يقول دوركهايم في تحليله لها، لقد أسرته وأخضعته لتأثيرٍ وحيد يعمل بعمق في شخصيته، من أجل أن يصبح مسيحياً بالكامل ويتجه بكل جوارحه نحو الله. إن نموذج التربية هذا، باختصار، هو نموذج «التحوّل لاعتناق الدين». ووفقًا لدوركهايم أيضاً، يظل هذا النموذج في شكله العام حاضراً، كامناً، في التربية الإنسانية أو التربية في المدرسة الجمهورية: لم يعُد الأمر يتعلق بتكوين المسيحيّ، بل بتكوين الرجل في كل شخص، أو كذلك المواطن، لا في سلوكه الخارجي، ولكن في قلبه، وشخصيته، و«روحه»، و«قواعد كينونته»، كما نقول بغرابةٍ اليوم في مفردات علوم التربية.

لن يكون هناك أخلاق وضمير أخلاقي وواجب أخلاقي من دون هذا التكوين للطوية الداخلية. وهذه الأخلاق ليست مجموعةً من السلوكيات الخارجية، أو على الأقل هي لا تقتصر عليها، بل هي نزعة داخلية إلى الفضيلة، إنها الضمير الذي يستلم زمام الأمور. والصحيح أنّ التربية الأخلاقية لطالما كانت ولا تزال شأناً دينياً في بعض الأماكن المعينة وفي بعض العقول المعينة أيضا. لذا، يجب أن تكون التربية الجديرة بهذا الاسم قادرةً على تقديم تعليمٍ أخلاقيّ. هذا هو رأي دوركهايم الذي كان يعتقد أن مدرسة الجمهورية كانت ستفشل لو لم تتمكن من تقديم تعليمٍ أخلاقي من دون اللجوء إلى الدين، ولو لم تكن قادرة، فوق ذلك، على أن تحلّ محل الكنائس: تعليم الأخلاق تعليماً عقلانيّاً قائماً بالكامل على العقل، وعلى الاستغناء عن الوحي، أو عن ألواح الشريعة، أو عن القوانين الإلهية المطبوعة في أذهان البشر. إن كتاب دوركهايم الذي بعنوان «التربية الأخلاقية» (PUF، 1963)، والذي نُشر بعد وفاته ويضمّ دروساً كرّسها لتدريب معلمي المدارس الابتدائية، ومعلمي المدارس العلمانية، إنما هو بكامله محاولة لوضع الأسس لتربيةٍ أخلاقية عقلانية متكاملة. إنه تحدٍّ فلسفي كبير يتمثل في تصميم معايير من دون تجاوز، ووضع قيمٍ من دون قداسة تُوحى. وأعتقد أن التخلي عن هذا التحدي يمكن أن يكون طريقاً إلى التخلي عن الفلسفة. يشير دوركهايم إلى ذلك عندما يطرح فكرة أن الشخص البشري هو «المقدس» في الحداثة. إنما الأمر باختصار شهادة إيمان تصدر عن إنسانيةٍ ملحدة. بالطبع، لا يزال الدين يقوم بدورٍ تربويّ في العالم الحديث، كما تقوم «الحكمة الشعبية» أيضاً بدور فيه. والدين يحلّ محلّ الفلسفة من خلال تقديم مبادئ الحياة وأنماط الحياة، ولكن كما تفعل الحكمة الشعبية والأدب.

  • في أحد بحوثك تستوحي من بول ريكور التعريف الذي يقدمه للتربية وهو أنها «مسار الاعتراف». ثم تضيف: «أليست التربية هذا الطريق الذي ينقل كل واحدٍ منا من حال ما يُمكن أن يكون إلى حال ما يكون». هل من الممكن أنْ تفسر لنا ماذا تقصد بقولك إن التربية مسار الاعتراف والانتقال من حال الاحتمال إلى حال الفعل؟

«مسار الاعتراف» عبارة استعرتها من كتاب آخر: لبول ريكور نُشر وهو على قيد الحياة. أنا أفترض أنّ هذا الكتاب يتضمن في طياته فلسفة التربية التي لبول ريكور، والتي لم يخصّص لها كتابًا صريحًا في هذا الشأن. أفترض هذا الافتراض لأنني أهتم أيضًا بفيلسوفٍ آخر، إنه فيلسوف ألماني يضع مسألة «الاعتراف» في صميم فلسفته الاجتماعية: الواقع أن موضوع الاعتراف يبدو لي ضروريًّا للتربية. فالتربية في الأساس عمليةُ تكوين الذاتية: التربية هي العمل على ما سيُمكّن «الوافد الجديد»، أي الطفل الذي ينضمّ إلى مجتمع الرجال ويرثه، من أنْ يصبح مسؤولاً في الوقت نفسه عن هذا التراث وعن المستقبل. إنها العمل على تمكين الطفل (infans اشتقاقيًا «مَن لا يتكلم»)، من أن يصبح فردًا فاعلاً بالتمام والكمال، أي «أن يكون بالفعل سيّدَ أفكاره وأفعاله وإنتاجاته». وهو سيكون فردًا مستقلًا: «بناء الذاتية» نقيض «الخضوع»؟

  • في الكثير من أبحاثك تقول إن الرهان التربوي الكبير يكمن في السماح للطفل بأن يأخذ سلطة الكلام، بأن «يتناول الكلام بوصفه سلطة». كيف يمكن للكلام أن يكون سلطة؟ سلطة لعمل أي شيء؟ سلطة على من أو على ماذا؟ وكيف يمكن للفلسفة أن تقود علوم التربية للوصول إلى هذا الهدف التربوي؟

لقد لاحظ عالم نفس الطفل العظيم أرنولد جيزيل أنّ الطفل الصغير جدًا عندما يصل إلى سن الثالثة من عمره يمتلك وعيًا عاطفيّا جديدًا لنفسه، ويكون هذا الوعي مرتبطًا بزيادة سيطرته على اللغة من حيث الاتساع والعمق. وهو يبدأ عند ذلك بسرد ​​ما يفعله، ويصل إلى امتلاك سيرورة القصة. تعكس هذه الملاحظات بالكامل «فينومينولوجيا الرجل القادر» لريكور. نحن نرى هنا أهمية «أستطيع أن أقول» و«أستطيع أن أقول رواية عن نفسي». يلاحظ جيزيل أن الطفل في هذا العمر نفسه يحب أن يتعلم كلمات جديدة. كما يلاحظ كيف تعرف مربيات الأطفال الصغار الاستفادة من هذا المَيْل، أي من متعة الطفل هذه المرتبطة بالكلمات: هكذا، يمكن لكلمةٍ جديدة أن تهدئ الشجار بين الأطفال. في المثال الذي قدمه جيزيل، ترفض مجموعة من الأطفال يلعبون لعبة غرفة الطعام الصغيرة أنْ يقبلوا بينهم طفلة أخرى ترغب في اللعب معهم. تتدخل المربية وتقول: «بلى. ستكون بمثابة الضيفة». يمكننا أن نرى بوضوح هنا كيف أن اللغة [كلمة «الضيفة»]، وبمجرد إلقاء تسمية بسيطة، عبارة عن ممارسة شكلٍ من أشكال السلطة على العالم، شكل من أشكال توسيع السيطرة على العالم.

في الكتاب المقدس، «يسمي» آدم الحيوانات، ويأتي هذا التعيين تتويجًا للسلطة التي أعطاها الله للإنسان على الحيوانات: «ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدبّ على الأرض، وكل أسماك البحر» (9 : 2). من لديه الكلمات ليقول ما العالم يكون مثل سيّد العالم، وهذه السلطة هي أيضًا «سلطة على الآخرين»، سلطة من أجل إرشادهم في العالم. نحن نستمع إلى من كان لديه كلمات يقولها ونتبعه. والإقناع البلاغي ما هو إلا تهذيب لهذه السلطة الأولى، لهذا الاكتشاف الذي هو «أن تقول هو أن تفعل»، وأن الكلام هو أيضًا فعل يؤثر في الآخرين ويحفزهم. كذلك، تنتقل السلطة بسرعة إلى جانب الشخص الذي يعرف كيف يروي. يُمكن لهذه الأفكار في اللغة، التي طورتها الفلسفة المعاصرة تطويرًا كبيرًا، على الأقل أنْ تنير المربي وتنبهه إلى قضية السلطة هذه في ممارسة الكلام. وإلا، سيكون هناك أطفالٌ لا يتكلمون بتاتًا، وآخرون يحتكرون الكلام.

  • يعرّف بول ريكور الثقافة بأنها »مجموع التصورات والرموز التي تعبر مجموعة بشرية بواسطتها ملاءمتها مع الواقع، ومع المجموعات الأخرى، ومع التاريخ«. ما دور التربية في تكوين هذه »التصورات والرموز«؟ والأخلاقيات، هل تشغل مكانا في مسار الطفل التربوي، أي المسار الذي يؤدي إلى بناء الثقافة بهذا المعنى؟

في رأيي، لنظرية الثقافة-الحضارة التي اقترحها بول ريكور أهمية قصوى في التربية. ومن الضروري تقديم فكرة عنها في كل أبعادها المختلفة، ذلك أن المهمة التربوية تتغير بتغيّر هذا البُعد أو ذاك. ويمكن تمثيل مفهوم الثقافة وفقًا لريكور في صورة ثلاث دوائر ذات مركز واحد. الدائرة الأولى، الدائرة الخارجية، التي يُسمّيها ريكور المستوى الأول من الحضارة، هي دائرة »الأدوات [الوسائل]«: تشمل أدوات المعرفة، والعلوم، والتقنيات، ولكن أيضًا كل »آثار« التجربة الإنسانية. هناك التقنيات المادية، ولكن هناك بالقدر نفسه الإنجازات الفكرية والروحية. هذا المستوى، مستوى الأدوات، ليس مغلقًا في حدود ثقافة معينة. إنه مستوى حضارة واحدة فريدة هي حضارة الإنسانية، «كما لو كان الناس أجمعون إنسانًا واحدًا». ما يستخلصه ريكور من نتائج سياسية وتعليمية من هذه الفكرة له مغزى متقدم جدّا: «أي اختراعٍ حقٌّ مُكتسب لكل إنسان»، كما كتب. ومستوى الثقافة الثاني -الدائرة الثانية، وهي داخلية هذه المرة- هو مستوى «المؤسسة». أي أنه مستوى «أشكال الوجود الاجتماعي التي تُنظَّم فيها العلاقاتُ بين الناس تنظيمًا معياريًا»، حسب كلمات ريكور، وهو بالتالي المستوى السياسي أيضًا.

تُميّز هذه الأشكال الثقافات، ولكنها زائلة، كما يُعلمنا التاريخ. في فرنسا، تم تصوّر المؤسسة المدرسية والمدرسة الجمهورية والمجتمع الجمهوري والمواطنة، وبنيت كلها، على مفهوم العالمية باعتبارها تجريدًا للاختلافات. وهي اليوم تواجه المطالبة بالاعتراف بالتنوع. أما مستوى الثقافة الثالث – الدائرة المركزية في الرسم الذي اخترت تصوّره – فيسميه ريكور «النواة الأخلاقية الأسطورية». إنه مستوى القِيَم والمخيال، إنه «قلب ظاهرة الحضارة بذاته»، الذي يضمّ «مجموعة من الصور والرموز، تعبر بها جماعةٌ بشرية عن تكيفها مع الواقع، ومع المجموعات الأخرى، ومع التاريخ».

هذا بالتأكيد هو أكثر ما تمتلكه الثقافة مما هو خاصّ بها وأكثر ما يعبّر عن هويتها. والتربية العفوية والعائلية، مثلها مثل التربية الرسمية التي هي المدرسة، لها بالتأكيد دورٌ ريادي أول في نقل هذه النواة، ولكن أيضًا في تكوين الأفراد القادرين على جعلها تؤتي ثمارها، وعلى إثرائها، من أجل تحقيق أقصى استفادة منها. ومع ذلك، من دون إغلاق الثقافة على نفسها، وعزلها عن الثقافات الأخرى في الانطواء على الهوية: ذلك أن الثقافة التي لا تتجدد محكوم عليها أن تزول أو أن تصبح «فولكلورية»، والأسوأ من ذلك أن تقع فريسة التلاعب والانحرافات السياسية. وبالطبع، تنتمي الأخلاق إلى هذه النواة الصلبة، والتربية معنية بهذا الأمر. تكمن الصعوبة هنا بلا شك في التمييز بين ما هو «أخلاقي على وجه الخصوص» وما ينتمي إلى «التقاليد». إن معيار هذا التمييز هو بلا شك معيار العالمية أو بالأحرى معيار «قابلية العالمية». إذا اتخذنا تعريفًا للأخلاق أحد المبادئ الأساسية للأخلاق الكانطية – أنا لا أدخل هنا في النقاش حول التمييز بين الأخلاقيات / الأخلاق، فأنا أعتبر هذين المصطلحين متطابقين – وهو المبدأ الذي يقول: «عامل الناس كما لو كنت تعامل الإنسانية إما في شخصك أنت أو في أي شخص آخر، ودائمًا على أن تكون معاملتك غاية، وليس مجرد وسيلة بتاتًا»، أو مرة أخرى: «تصرّف كما لو كان عملك سيُنصَّب بإرادتك قانونًا عالميًا للطبيعة». لدينا إمكانية تحديد ما هو أخلاقي بحت في أي ثقافة كانت.


[1] لقد نُشرت معظم مواضيع هذه المؤتمرات في إصدارات في شكل كتب أو ملفات ضمن مجلات. منذ العام 2020، فإن مجلة “أرفيه” Arphé، “حوليات البحث في فلسفة التربية”، وهي مجلة تصدر على الشابكة والدخول إلى موقعها مجاني، وقد أنشأتها وتنشرها جمعيتنا، تنشر في ملفها الرئيسي مجموعة من الأبحاث الصادرة عن هذه المؤتمرات. يمكن الدخول إلى موقع الجمعية: https://www.sofphied.org

[2] يُمكن الحصول عليه في العنوان:

https://www.diplomatie.gouv.fr/IMG/pdf/Revue_des_revues_200_1152AB.pdf

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى