لتحميل القصة :صديق الأستاذ بونكو
Bonku Babu’s Friend – Satyajit Ray
نُشرت القصة لأول مرة باللغة البنغالية عام 1962، وأشرف راي على ترجمتها للإنجليزية لاحقًا.
لم يُرَ الأستاذ بونكو[1] غاضبًا قطّ. في الواقع، كان يصعب تخمين ما قد يقوله أو يفعله، إن غَضِبَ يومًا.
ليس لأنّه عَـدِمَ أسبابَ فقدانه لأعصابه. فللاثني والعشرين عامًا الماضية عمل الأستاذ بونكو معلمًا لمادتيّ الجغرافيا واللغة البنغالية في مدرسة كانكورﭼـاشهي الابتدائية، وفي كل سنة تَـحلّ دفعة جديدة من التلاميذ محلّ القديمة، لكن سواءً مع الجديدة أو تلك القديمة، كانت مشاكسة الأستاذ بونكو المسكين تقليدًا متوارَثـًا بين أجيال التلاميذ؛ فبعضهم يرسمونه بسخريةٍ على السبورة السوداء، والبعض الآخر يُصمِّغون كرسيّه، وفي ليلة عيد «كالي ﭘـوجـا»، غالبًا ما يُشعلون مفرقعات نارية ليطلقونها عليه.
لم يكن الأستاذ بونكو يغضب من كل ذلك. فقط في بعض الأحيان، كان يتنحنح ويقول: «عيبٌ عليكم يا أولاد!».
مِن أسباب حفاظه على هدوئه أنه ببساطة لا حيلة له؛ إذْ يعرف مدى صعوبة العثور على عملٍ آخر، إذا فقد عمله في ثورة انفعال. السبب الآخر أنّ في كل فصلٍ جديد كان ثمَّـة بعض التلاميذ الطيـبين – حتى وإن امتلأ الفصل بمحترفيّ المقالب – ولطالما كان تدريس هذه الزمرة من الأولاد الطيبين كافيًا – في نظره – لجعل حياته تستحق أن تُـعَـاش. وأحيانًا، كان يدعو هؤلاء الأولاد إلى منزله، ليقدّم لهم بعض الوجبات الخفيفة، ويقصّ عليهم بعض الحكايات عن أراضٍ غريبة ومغامراتٍ شيِّقة. حدَّثَهم عن الحياة في أفريقيا، وعن اكتشاف القطب الشمالي، وعن أسماك البرازيل آكلة لحوم البشر، وعن أطلانتس، القارّة المغمورة تحت البحر. وكان الأستاذ بونكو حكَّاءً بارعًا يأسر انتباه مستمعيه.
في الإجازات الأسبوعية، يذهب الأستاذ بونكو إلى بيت مالك الأرض وجابي الضرائب سريـﭙـاتي ماﭼومدار، لتمضية الأمسيات مع رفقةٍ معتادةٍ أخرى. في عددٍ من المناسبات، فكر أن «كفى، لن أكرّرها»؛ والسبب ببساطة أنه وإن كان يتحمَّل مقالب الأولاد في مدرسته، إلا أنه عندما بدأ الكبار، بل ورجال في منتصف العمر، في السخرية منه، صار تحمُّل الأمر صعبًا. في تلك اللقاءات المسائـيَّـة التي يستضيفها الأستاذ سريـﭙـاتي، كان الجميع تقريبًا يشاكسون الأستاذ بونكو، لدرجةٍ أوشكت به في أحيانٍ كثيرة على الانفجار.
في ذلك اليوم – قبل أقلّ من أسبوعين – كانوا يتحدّثون عن الأشباح. عادةً، يؤثِر الأستاذ بونكو الصمت. لكنه في ذلك اليوم لسببٍ غير معلوم، قرّر الحديث معلنًا أنه لا يخاف الأشباح. وكان ذلك سببًا كافيًا لمنحهم الفرصة الذهبية لمضايقته. ففي طريق عودته متأخرًا تلك الليلة، هاجم الأستاذ بونكو «شبـح» ما، إذ هبط ظلٌ طويل رفيع على ظهره في أثناء مروره تحت شجرة تمر هندي. كان هذا الشبح ملطخًا بحبرٍ أسود قاتم، لا شك أنّ الأمر من تدبير أحد مَن كانوا في الأمسية.
لم يخَف الأستاذ بونكو، لكنه جُـرِح، وظلّ كتفه يؤلمه لثلاثة أيام. أسوأ ما في الأمر أنّ قميصه الكارتا الجديد تمزق وتلطخ بالحبر. أيّ مقلبٍ هذا؟
«مقالب» أخرى، ذات طبيعة أخفّ، عادةً ما كانت تُـمارَس عليه. أحيانًا ما كان يُخفَى حذاؤه أو مظلَّتُه، وفي أحيانٍ أخرى، تُملَأ وريقة تنبول هندي بالتراب بدلًا من التوابل وتُعطَى له لمضغها، وأحيانًا كان يُجبَـر على الغناء.
رغم ذلك، كان الأستاذ بونكو مُضْطَرًا إلى ارتياد هذه اللقاءات، إذ لو لم يحضر، ماذا سيظن سريـﭙـاتي؟ ليس لأنّ سريـﭙـاتي رجل مهم للغاية في البلدة فحسب، بل لأنه أيضًا كان مؤذيًا في تلك الكيفية التي يقلب بها الأمور ويحرِّفها لصالحه. كما أن استضافة لقاء دون حضور الأستاذ بونكو لم تكن واردة؛ إذ بحسب سريـﭙـاتي ماﭼومدار، لا بُد من وجود مُغفَّل ليتهكموا عليه، مُغفَّل لتسلية الجميع، وإلاّ ما المغزى من استضافة السهرة؟ لذا اعتاد سريـﭙـاتي مخادعة الأستاذ بونكو ليحضُر، مهما حاول الأخير أن يتملَّص.
*
في يومٍ آخر، كان الحديث مُحلقًا في الأعالي، بكلماتٍ أخرى، كانوا يتحدثون عن الأقمار الصناعية. بعد الغروب مباشرة، شوهدت بقعةٌ من الضوء في السماء تتحرك باتجاه الشمال. ضوءٌ مشابه شوهِد قبل ثلاثة أشهر، ما أثار الكثير من التخمينات. في النهاية، اتضح أنه القمر الصناعي الروسي، المُسمَّى: «خوتكا»؛ أم كان اسمه «فوشكا»؟ على أيّ حال، المفترض أنّ هذا القمر الصناعي يدور حول الأرض على ارتفاع 400 ميل، ليمدّ العلماء بمعلومات كثيرة وقيّمة.
في هذه الليلة، كان الأستاذ بونكو أوّل من اكتشف الضوء الغريب، ثمّ نادى على الأستاذ نيدهو وأراه إيَّاه. غير أنه حين وصل للقاء المعتاد، وجد أن الأستاذ نيدهو يَـدَّعي السَبق في رؤية الضوء، متبجّحًا في مدح نفسه. ولم ينبس الأستاذ بونكو بكلمة.
لم يكن أحد منهم يعرف الكثير عن الأقمار الصناعية، لكن الجهل لم يمنعهم عن الإدلاء بآرائهم. تحدّث الأستاذ شاندي:
- «قل ما تشاء، لكن لا أرى داعٍ لتضييع الوقت في القلق من الأقمار الصناعية. أحدهم رأى بقعةَ ضوء في ركنٍ مُهمَل من السماء، والصحافة كتبت عنها، ثم نتوتر نحن ونثرثر بشأنها في بيوتنا ونحن نمضغ التنبول، ونتظاهر بأننا قد حققنا إنجازًا ما.. تهريج!».
عَلَّق رامكاناي، وهو أصغر الحاضرين، بدوره:
- «قد لا يعنينا هذا الإنجاز في شيء، لكن لا شك أنه إنجاز للبشرية، وإنجاز عظيم كذلك».
- «يا رجل، كفّ عن هذا! بالتأكيد هو إنجاز بشري.. من سيبني قمرًا صناعيًا سوى البشر؟ أنت لا تتوقع أن يبنيه قطيع من القردة، أليس كذلك؟».
- «حسنًا»، قال الأستاذ نيدهو، «كفى حديثًا عن الأقمار الصناعية، في الأخير هي مجرد آلة، يُقال بأنها تلفّ حول الأرض، ولا تختلف عن لعبة النحلة؛ ستبدأ في الدوران إن أنت أدرتها، أو كمروحة ستدور إن ضغطت على زرّ التشغيل. لكن ماذا عن الصواريخ؟ لا يصح أخذ هذا الإنجاز بتهاون».
- جعَّد الأستاذ شاندي أنفه. «صواريخ؟ وما لنا والصواريخ؟ حسنًا، لو أنّ واحدًا منها قد صُنِع هنا في بلدنا، وأُطلِق من المنصة في كالكتا، وذهبنا كلنا وقطعنا التذاكر لمشاهدة العرض. لكان ذلك جميلًا، ولكن …».
- «أنت محق»، وافقه رامكاناي، «الصاروخ لا معنى له هنا».
- تحدَّث البهايراﭪ[2] شاكراﭬـارتي: «لنفترض أنّ مخلوقًا من كوكبٍ آخر هبط على الأرض…؟».
- «ليكن، حتى لو حدث، لا أنا ولا أنت بإمكاننا رؤيته!».
- «نعم، صحيح».
حَـوَّل الجميع انتباههم إلى أكواب الشاي الخاصة بهم، حين بدا أن الحديث قد وصل إلى نهايته. وبعد لحظاتٍ من الصمت، تنحنح الأستاذ بونكو وتحدّث بهدوء:
- «لنفترض، لنفترض أنهم جاءوا إلى هنا؟».
- تظاهر الأستاذ نيدهو بالدهشة. «انتبهوا، بونكو يقول شيئًا! ماذا قلت يا بونكو؟ من سيأتي إلى هنا؟ من أين؟».
- بنبرته الهادئة، كرر الأستاذ بونكو: «لنفترض أنّ كائنًا ما من كوكبٍ ما جاء إلى هنا؟»
صفع البهايراﭪ شاكراﭬـارتي قفا الأستاذ بونكو كعادته بحدةٍ وخشونة، وقطّب قائلًا:
- «عظيم! يا له من قول! أين سيهبط مخلوق من كوكبٍ آخر؟ ليس في موسكو، ولا في لندن، ولا في نيويورك، ولا حتى في كالكتا، ولكن أين؟ في كانكورﭼـاشهي! إنّ أملك كبير!».
ظلّ الأستاذ بونكو صامتًا. لكن أسئلة عديدة أخذت تدور في رأسه. لمَ لا يكون ذلك ممكنًا؟ لو أنّ فضائيًا زار الأرض، فهل سيهمّ حقًا موضع سيهبط أولًا؟ لعلّه لن يسعى مباشرة إلى أيّ موضعٍ آخر من العالم. حسنًا، ربما ليس من المرجحّ أن يحدث أمر كهذا في كانكورﭼـاشهي، لكن هل يُمكن التأكيد على أنه لن يحدث إطلاقًا في أيّ مكانٍ آخر؟
ظلّ الأستاذ سريـﭙـاتي صامتًا حتى اللحظة، وبينما هو يُبدِل مقعده، وجّه الجميع أنظارهم إليه. وضع فنجانه وتحدّث بلهجة الخبير: «انظروا، لو أنّ أحدًا ما من كوكبٍ ما جاء في زيارةٍ بالفعل إلى الأرض، فأنا أؤكد لكم أنه لن يأتي إلى هذه البقعة البائسة. هؤلاء ليسوا أغبياء. ظنـّي أنهم من السادة،[3] وسيهبطون في بقعةٍ ما في الغرب، حيث يعيش كل السادة الآخرين. فهمتم؟».
وافقه الجميع، باستثناء الأستاذ بونكو.
قرّر الأستاذ شاندي تصعيد الأمور قليلًا. فغمز للأستاذَ نيدهو بطرفٍ خفيّ، وأشار إلى الأستاذ بونكو قائلًا ببراءة:
- «لكن أظن أنّ بونكو محق. أليس من الطبيعيّ أنّ يأتي الفضائيون إلى حيث شخص مثل عزيزنا بونكو ﭘـيهاري؟[4] أقصد لو أرادوا التقاط عَيِّـنةٍ بشرية، فهل سيجدون أفضل منه؟».
- «لا، لا أظن ذلك!»، انضم إليه الأستاذ نيدهو. «تطلّع إلى شكله، بل إلى دماغه… نعم، بونكو هو العَـيِّـنة البشرية المثالية!».
- «بالضبط، إنه مناسب للعرض في متحف، أو حتى في حديقة حيوان»، تدخَّل رامكاناي.
لم يرد الأستاذ بونكو، لكنه تَسَاءل في نفسه: لو أراد أحدٌ ما البحث عن عَـيِّـنةٍ بشرية، ألن يكون كل هؤلاء مناسبين مثله تمامًا؟ تطلّع إلى الأستاذ سريـﭙـاتي، وفكّه الأشبه بفكّ جَمل. والبهايراﭪ شاكراﭬـارتي، عيناه كعينيّ سلحفاة. والأستاذ نيدهو يشبه الخُلد، ورامكاناي يشبه العنزة، والأستاذ شاندي يشبه خُفَّاشًا. أقصد أردنا أن نملأ حديقة حيوان على آخِرها.
طفرت الدموع من عيني الأستاذ بونكو. لقد جاء إلى الأمسية آمِلًا ولو لمرّةٍ واحدة في التسرية عن نفسه، ما اتضح أنه لن يحدث أبدًا. لم يعد بمقدوره البقاء أكثر، لذا نهض منتصبًا على قدميه.
- «آه، ما الأمر؟ ستغادر بهذه السرعة؟»، سأله الأستاذ سريـﭙـاتي مبديًا الاهتمام.
- «نعم، الوقت متأخر».
- «متأخر؟ يا رجل، الوقت ليس متأخرًا على الإطلاق. يوم غد إجازة، اجلس، واشرب القليل من الشاي».
- «لا، شكرًا. عليَّ الذهاب. لديّ بعض الأوراق للتصحيح. ناماسكار!».[5]
- «خَلِّ بالك على نفسك يا بونكودا»،[6] نبّهه رامكاناي، «تذكّر أن الليلة ليست مقمرة، ويوم سبت أيضًا، يوم يُـبـشِّر بالأشباح والعفاريت!».
*
أبصر الأستاذ بونكو الضوءَ بعد أن قطع نصف المسافة سيرًا في حديقة البامبو المملوكة لـﭘـونشا جوش. لم يكن الأستاذ بونكو يحمل مصباحًا أو فانوسًا؛ ليس في حاجةٍ إليه، فالجوّ بارد، ما يمنع الثعابين من الزحف خارج الجحور، وبونكو يعرف طريقه جيدًا. بالطبع، كان طريقًا لا يسلكه الكثيرون، لكنه كان مُختصَرًا بالنسبة إليه.
في الدقائق القليلة الماضية كان قد تنبّه إلى وجود شيء ما غير اعتياديّ. بدايةً لم يستطع تمييزه بدقة؛ فعلى نحوٍ ما بدت الأشياء مختلفة تلك الليلة. ما الأمر؟ ما الذي كان مفقودًا؟ فجأة، أدرك أنّ الجداجد صامتة، ولا تـنـقّ. عادةً، كان نقيق الجداجد يتعالى كلما أوغل في حديقة البامبو. أما اليوم، فلا غير الهدوء المريب. ماذا حدث للجداجد؟ كلها نائمة؟
محتارًا سارَ الأستاذ بونكو لعشرين ياردةٍ أخرى، ثم أبصر الضوء. للوهلة الأولى، ظَـنَّه حريقًا آخذ في الانتشار. وفي وسط حديقة البامبو، حيث الخلاء المتاخم للبِـركة، كان ثمّة نطاق واسع يتألّق باللون الوردي. ضوء خامل يشرق على كل غصن وكل ورقة شجر. فيما تشتعل الرقعة خلف المستنقع بضوءٍ وردي أكثر سطوعًا. لكنه ليس حريقًا، إذ كان ساكنًا بلا حِراك.
استمر الأستاذ بونكو في السير.
بعد هنيهة، أخذت أذناه في الطنين. شعر كأن أحدًا ما يهمهم بصوت عالٍ – ضجيج طويل وثابت – همهمةً من الصعب إيقافها. أخذ الأستاذ بونكو يرتعد رعبًا، غير أن فضولًا لم يستطع مقاومته دفعه للمضيّ قُدمًا.
وفيما يختبئ خلف دغل من سيقان البامبو، ظهر أمامه شيء ما للعَيان. بدا أشبه بسُلطانية زجاجية عملاقة، مقلوبة رأسًا على عقب، تغطي المستنقع بأكمله. ويشَعَّ من هالتها شبه الشفافة ضوءٌ وردي ساطع – باعث على الطمأنينة مع ذلك – على المنطقة بأكملها.
لم يسبق للأستاذ بونكو أن عاين مشهدًا قويًا كهذا، ولا حتى في الحلم.
بعد أن حدّق فيه لدقائق مشدوهًا، لاحظ أن رغم ثبات الشيء في مكانه، فإنه ليس خاليًا من الحياة. إذ كان ثمّة اضطراب غريب، والرابية الزجاجية تعلو وتهبط، مثلما يعلو صدر الإنسان ويهبط أثناء تنفسه.
تقدّم عدة خطوات ليحظى برؤيةٍ أفضل، لكنه شعر فجأة بأنّ تيارًا كهربائيًا ما قد اخترق جسده. وفي الحال تجمد كامل جسده. يداه وقدماه صارتا موثَقتَيْن بحبلٍ غير مرئي. لم تعد ثمّة قوة في جسده، ولم يعد يستطيع التحرك لا إلى الأمام ولا إلى الخلف.
بعد دقائق قليلة، رأى الأستاذ بونكو – متصلبًا في مكانه لم يزَل – أنّ الشيء قد كَفّ أخيرًا عن «التنفس». وفي الحال كَفَّت أذناه عن الطنين، والهمهمة توقفت. وبعد لحظة، تحدّث صوتٌ ما، شاقًا صمت الليل. بدا الصوت بشريًا، لكنه كان رفيعًا على نحوٍ ملحوظ.
- «ميليبي-بينج كروك! ميليبي-بينج كروك!» بصوت عالٍ.
فزع الأستاذ بونكو. ماذا يعني هذا؟ أيّ لغةٍ هذه؟ وأين المتحدث تحديدًا؟ الكلمات التالية التي تحدّث بها الصوت جعلت قلبه يقفز مجددًا.
- «من أنت؟ من أنت؟».
يا للمفاجأة، كانت هذه كلمات إنجليزية! أكان السؤال موجهًا إليه؟ ازدرد الأستاذ بونكو ريقه، ورد:
- «أنا بونكو ﭘـيهاري داتا، يا سيدي. بونكو ﭘـيهاري داتا».
- «هل أنت إنجليزي؟ هل أنت إنجليزي؟»، تصاعد الصوت.
- «لا، يا سيدي!» رد الأستاذ بونكو صائحًا: «بنغالي يا سيدي. بنغالي من الهندوس المتعلمين».[7]
تبع ردّه هنيهة صمت. ثمّ تصاعد الصوت مُحيـيـًا إيّاه بنبرةٍ واضحة:
- «ناماسكار!».
تنهّد الأستاذ بونكو ارتياحًا وردّ التحية: «ناماسكار!»، ثمّ لاحظ أنّ الحبال الخفية التي كانت توثقه قد حُلّت. صار يمكنه الركض هربًا، لكنه لم يفعل. الآن أمكن لعينيه الذاهلتين رؤية جانبٍ من الرابية الزجاجية التي تتحرك إلى الجانب الآخر، منفتحة مثل باب.
وعبر الباب أطلت رأس – تشبه كرة ملساء كاملة – متبوعة بجسد مخلوقٍ غريب.
ذراعاه وقدماه كانتا شديدتيّ النحول. وباستثناء رأسه، كان جسده مغطىً بالكامل بزيٍّ وردي لامع. وفي وجهه، ثمّة حفرتان حيث يجب أن يوجد أنف، وحفرة أخرى بدلًا من الفم. ولا علامات على وجود شَعْر في أيّ موضع. عيناه كانتا دائريتين ولونهما أصفر، وكانتا تشعَّان في الظلام.
سار المخلوق ببطءٍ نحو الأستاذ بونكو، وتوقف على بعد خطواتٍ قليلةٍ منه، ثمّ حَدَّق فيه بتحديقةٍ ثابتة لا ترمش. بآليةٍ، عقد الأستاذ بونكو يديه. بعد أن حدق المخلوق فيه قرابة دقيقة، عاد يتحدث بالصوت نفسه، الذي بدا أشبه بصوت الناي:
- «أنت إنسان؟».
- «نعم».
- «أهذا كوكب الأرض؟».
- «نعم».
- «آه، كما توقعت. أجهزتي لم تعمل بكفاءة. كان المفترض أن أذهب إلى كوكب بلوتو. لم أكن واثقًا أين هبطت بالتحديد، لذا تحدثتُ إليك في البداية بلغة بلوتو. حين لم تجِب، خمَّنتُ أنني على الأرض. ضياع كامل للوقت والجهد. حصلت مرة قبل هذه. بدلًا من الذهاب إلى المريخ، انحرفتُ عن المسار إلى كوكب المشتري. أخَّرَني ذلك يومًا كاملًا… هيهيهيهي!».
لم يعرف الأستاذ بونكو ماذا يقول. شعر بعدم الارتياح حين بدأ المخلوق يضغط على ذراعيه وقدميه بأصابعه الطويلة النحيلة. عندما انتهى المخلوق من ذلك، قَـدَّم نفسه:
- «أنا أنج من كوكب كرانيوس، كائن أرقى وأكثر تطورًا من البشر».
ماذا؟ ذلك المخلوق، الذي لا يكاد طوله يبلغ أربعة أقدام، بتلك الأطراف الرفيعة والوجه الغريب، أرقى من البشر؟! أوشك الأستاذ بونكو أن ينفجر من الضحك، لكن قرأ أنج أفكاره فورًا:
- «لا داع للتشكك هكذا. أستطيع إثبات ذلك لك. كم عدد اللغات التي تجيدها؟».
- حكّ الأستاذ بونكو رأسه: «البنغالية، الإنجليزية و.. آه.. الهندية، القليل من الهندية.. أعني..».
- «ما يعني لغتين ونصف؟».
- «نعم».
- «أما أنا فأتحدث 14000 لغة. لا توجد لغة في مجموعتكم الشمسية لا أتحدثها. أتحدث أيضًا 31 لغة إضافية من كواكب أخرى خارج مجموعتكم. وذهبت إلى 25 كوكبًا منها. كم عمرك؟».
- «أنا في الخمسين».
- «أما أنا فلديَّ 833 سنة. هل تأكلون الحيوانات؟».
كان الأستاذ بونكو قد أكل لحمًا بالكاري مؤخرًا، في عيد كالي ﭘوجـا. كيف ينكر ذلك؟
- «أما نحن فتوقفنا عن أكل اللحوم منذ قرون»، أخبره أنج – «قبل ذلك، اعتدنا أكل لحوم معظم المخلوقات، ولربما كنت أكلتك».
ازدرد الأستاذ بونكو ريقه.
- «انظر إلى هذه!» ومَدَّ أنج يده بغرضٍ صغير بدا أشبه بحصاة. لمسها الأستاذ بونكو للحظة، وشعر بالتيار الكهربي نفسه يسري في جسده. فسحب يده بسرعة.
ابتسم أنج: «قبل قليل، لم تكن تستطيع الحركة قيد أنملة. أتعلم لماذا؟ لأنني كنت أحمل هذا الشيء الصغير في يدي. إنه يمنع أيَّ أحد من الاقتراب؛ لا شيء أكثر فعالية في جعل العدو عاجزًا تمامًا، دون إيذائه جسديًا».
أخذ يشعر الأستاذ بونكو بالإعجاب به.
قال أنج: «هل ثمّة مكان ما تمنيتَ زيارته، أو مشهدًا ما أردت دومًا أن تراه، لكنك لم تستطع؟».
فكر الأستاذ بونكو؛ آه، لم يرَ العالم كله بعد! فكر على نحوٍ جغرافي، لكن ماذا رأى بخلاف بعض القرى والمدن في البنغال؟ إنّ معظم البنغال نفسه لم تُتَح له الفرصة لرؤيته بعد. جبال الهيمالايا المغطاة بالثلوج، البحر في ديجا، الغابات في ساندربان، أو حتى شجرة التين المشهورة في شيبـﭙـور.
مع ذلك، لم يصرح بأيٍّ من هذه الأفكار إلى أنج. «هناك الكثير ممّا قد أرغب في رؤيته»، أخيرًا اعترف، «لكن أكثرها.. أعتقد أنني أرغب في زيارة القطب الشمالي. كما ترى، فأنا أنحدّر من بلادٍ حارّة، لذا…».
أخرج أنج أنبوبًا صغيرًا، تغطي أحد أطرافه قطعة زجاجية. «انظر عبر هذا!» دعاه أنج. حدق الأستاذ بونكو عبر قطعة الزجاج، وشعر بشَعر جسده ينتصب. أيُعقَل أن يكون هذا حقيقيًا؟ هل يصدق عينيه؟ أمام عينيه كانت تمتد رقعة لانهائية من الثلوج، مُزدانة بتلالٍ ضخمة، يغطيها الجليد والثلوج. وفي الأعلى، أمام سماء عميقة الزّرقة، كانت ألوان قوس قزح تتخذ أشكالًا متنوعة، تتغير في كل لحظة. الشفق القطبي! ما هذا؟ كوخ من أكواخ الأسكيمو. وثمّة قطيع من الدببة البيضاء. انتظر، هناك حيوان آخر. مخلوق فريد وعجيب. نعم! إنه حصان البحر. اثنان منه، في الواقع. وكانا يتعاركان، يكشران عن أنيابهما – الضخمة مثل الفجلة – ويهاجم كل منهما الآخر. زَخَّات من الدم الأحمر القاني كانت تنتشر على الجليد الأبيض الناعم.
كان شهر ديسمبر، والأستاذ بونكو يشاهد منطقة مخبوءة تحت طبقاتٍ من الجليد، ومع ذلك أخذ بونكو يتعرَّق.
«ماذا عن البرازيل؟ ألا تودّ الذهاب إلى هناك؟»، سأل أنج.
تذكر الأستاذ بونكو فورًا – البيرانا، الأسماك آكلة البشر المميتة هذه – مدهش! كيف عرف أنج ما قد يرغب في رؤيته؟
حَدَّق الأستاذ بونكو عبر القطعة الزجاجية مرة أخرى. رأى غابة ملتفة الأشجار. لا يظهر منها إلا شعاع شمس متبدد يخترق الأغصان المتشابكة المنيعة. وثمّة شجرة عملاقة يتدلى منها.. ما هذا؟ يا إلهي، لم يكن في وسعه حتى أن يتخيَّـل حجم هذه الأفعى، أناكوندا! أشرق الاسم في ذهنه. نعم، لقد قرأ عنها في مكانٍ ما، يُقال إنها أضخم كثيرًا من أفعى الأصَلة.
لكن أين الأسماك؟ آه، هناك جدول، حيث كانت التماسيح المتراصة تتشمس. ثمّ تحرك أحدها، كان ينزلق إلى الماء، تشش! استطاع الأستاذ بونكو سماع الطرطشة، لكن.. ما هذا؟ لقد قفز التمساح خارجًا بسرعة من الماء. أيكن..؟ فكّر أهو التمساح نفسه الذي نزل إلى الماء قبل ثوانٍ؟ بعينيه الجاحظتين، لاحظ الأستاذ بونكو أنه لم يتبقَ لحم تقريبًا على بطن التمساح. وكانت العظام تظهر بكل وضوح، فيما تلتصق بما تبقّى من اللحم خمسُ سمكات لها أسنان حادة على نحوٍ مدهش، بشهيةٍ وحشيةٍ مفتوحة… كانت أسماك بيرانا!
لم يعد الأستاذ بونكو قادرًا على رؤية المزيد. أوصاله كانت ترتعد، ورأسه يؤلمه من شدة الدوار.
«هل عرفت الآن أننا أكثر تطورًا؟» سأل أنج، منتظرًا الإجابة.
مرّر الأستاذ بونكو لسانه مرطبًا شفتيه الجافتين، وأجاب: «نعم. آه نعم. بالتأكيد. طبعًا!».
«عظيم جدًا. انظر، لقد كنتُ أراقبك، وفحصتُ ذراعيك وقدميك. أنت تنتمي إلى عِرقٍ أدنى، بلا شك. رغم ذلك، فأنت لستَ إنسانًا سيئًا. أقصد، أنت رجل طيب، لكن لديك عيب كبير؛ أنك خانع وضعيف جدًا، لهذا لم تحقّق تقدمًا يُذكَر في الحياة. عليك دائمًا أن تحتجّ على الظلم، وتعترض حين يؤذيك أحدٌ أو يهينك، دون غضب. من الخطأ أن تصمت على الإهانة، ليس فقط من البشر، لكن من أيّ مخلوق مهما كان. على أيّ حال، لقد سعدتُ بلقائك، رغم أنني لم يُفترض أن أكون هنا في هذا الوقت. لا فائدة من إضاعة المزيد من الوقت على كوكب الأرض. عليَّ المغادرة».
«وداعًا يا سيد أنج، لكم أسعدني أن…!».
لم يكمل الأستاذ بونكو جملته. ففي أقلّ من ثانية، حتى قبل أن يستوعب ما يحدث، قفز أنج إلى مركبته الفضائية وحلّق فوق حديقة البامبو المملوكة لـﭙـونشا جوش مغادرًا، ثمّ تبخّر تمامًا. لاحظ الأستاذ بونكو أنّ الجداجد تنقّ مجددًا. كان الوقت متأخرًا جدًا.
أكمل الأستاذ بونكو السير إلى بيته، فيما زال ذهنه في سديمٍ من الدهشة. وببطء، بدأ يعي التفاصيل المتضمنة للوقائع الأخيرة. رجل – لا، لم يكن رجلًا، كان أنج – جاء هنا من كوكبٍ غير معروف – مَن يعرف ما إذا كان قد سمع به أحدٌ من قبل – وتحدث إليه. يا للروعة! كم هذا مذهل! ثمَّة بلايين وبلايين من البشر في العالم، ولكن مَن حظى بهذه التجربة الرائعة؟ بونكوبيهاري داتا، معلم الجغرافيا واللغة البنغالية في مدرسة كانكورﭼـاشهي الابتدائية، ولا أحد غيره. بدءًا من اليوم، على الأقلّ في ما يخصّ هذه المسألة، فقد أضحى متميّـزًا عن العالم بأسره.
انتبه الأستاذ بونكو أنه لم يعد يمشي، إذ مع تقافزه في كل خطوة، كان في الحقيقة يرقص.
اليوم التالي كان يوم أحد. عاد الجميع إلى لقائهم المعتاد في بيت الأستاذ سريـﭙـاتي. وكان هناك تقرير في الجريدة المحلية عن ضوءٍ غريب، لكنه كان تقريرًا قصيرًا. شاهد الضوء عددٌ قليل من الناس في مكانين فقط في البنغال، وبناءً على هذا، أُدرِج الحدث ضمن فئة الأطباق الطائرة المجهولة.
الليلة، كان ﭘـونشا جوش حاضرًا أيضًا في السهرة، يتحدث عن حديقته المزروعة بالبامبو. كان كل البامبو المحيط بالرقعة التي تتوسطها البِركَة منزوع الأغصان. ليس من الغريب أن تتساقط الأغصان في الشتاء، لكن أن تُنزع كل هذه الأغصان في ليلةٍ واحدة، فهذا حدث استثنائي. وكانوا يتحدثون عمَّا حدث، حين تساءل البهايراﭪ شاكراﭬـارتي فجأة: «لماذا تأخر بونكو الليلة؟».
توقف الجميع عن الحديث، حتى هذه اللحظة، لم يكن أحد قد لاحظ غياب الأستاذ بونكو.
قال الأستاذ نيدهو: «لا أظن أن بونكو سيرينا وجهه اليوم. ألم ينَل توبيخًا قاسيًا بالأمس حين حاول فتح فمه؟».
«لا، لا»، بدا على الأستاذ الاضطراب، «يجب أن يكون حاضرًا. يا رامكاناي، اذهب واعرف إن كنت تستطيع إحضاره».
«حسنًا، سأذهب فور انتهائي من الشاي»، ردّ رامكاناي، وكان على وشك أخذ رشفة أخرى، حين دلف الأستاذ بونكو إلى الحجرة. لا، «دلف» لا تعبـّر عمَّا حدث، كان الأمر كما لو أنّ إعصارًا قويًا قد هَبّ عليهم في هيئة رجلٍ أسمر قصير، وفرض صمتًا ذاهلًا على الجميع.
ثم تفَجَّر كلُ شيء. انطلق الأستاذ بونكو في القهقهة، وأخذ في ضحكٍ صاخب لدقيقةٍ كاملة، على نحوٍ لم يرَه أحدهم من قبل، ولا حتى الأستاذ بونكو نفسه.
حين استطاع التوقف أخيرًا، تنحنح وبدأ الكلام:
«يا أصدقاء، يسعدني أن أبلغكم بأن هذه المرّة الأخيرة التي سترونني فيها في هذه اللقاءات. السبب الوحيد لحضوري اليوم ببساطة هو أنّي أريد أن أخبركم ببعض الأمور قبل أن أرحل. أولًا – والكلام إليكم جميعًا -: أنتم تتفوهون بالكثير من الهراء الفارغ. وحدهم الحمقى هم من يتحدثون في أمورٍ يجهلونها. ثانيًا – والكلام إلى الأستاذ شاندي -: في مثل سنّك، فإن إخفاء أحذية الناس ومظلاّتهم ليس فعلًا طفوليًا فحسب، بل وغير لائق بالمرة. إذا سمحت، احضر مظلّتي وحذائي الكاناﭬـاه[8] البني إلى منزلي في الغد. أما أنت يا أستاذ نيدهو، لو ناديتني يومًا بونكووم، فسأناديك نيتوويــت،[9] وسيكون عليك التعايش مع ذلك. ويا أستاذ سريـﭙـاتي، أنت شخص مرموق، بالتأكيد سيكون حولك بعض المتزلفين. لكن دعنى أقول لك: من اليوم، يمكنك أن تعتبر أني لم أعد منهم. لو أردتَ، ممكن أن أبعث إليك بقطتي، فهي ماهرة في لحس الأقدام. و… آه، أنت هنا أيضًا يا سيد ﭘـونشا! دعني أُعْلِمُكَ، وأُعْلِمُ الآخرين كذلك، أنّ في الليلة الماضية وصل أنج من كوكب كرانيوس وهبط في حديقة البامبو المملوكة لك. ودردشنا أنا وهو طويلًا. والرجل.. آسف، الأنج.. كان شديد اللطف».
أنهى الأستاذ بونكو خطبته، ثم ضرب البهايراﭪ شاكراﭬـارتي ضربة قوية على ظهره، إلى درجة أنّ البهايراﭪ أُصيب بنوبة سعال. ثم هَـمَّ خارجًا، مُجِدًّا في سيره، رافعًا رأسه إلى أعلى.
في اللحظة نفسها، سقط فنجان الشاي من يد رامكاناي، مُتهشِّمًا إلى عدة أجزاء، ليندلق الشاي الساخن على معظم الحاضرين.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] في الأصل Bonku Babu، وBabu لفظ توقير في اللغة الهندية يُقال عادةً للمتعلمين، وقد تكرر استعمال اللفظ ذاته مع شخصيات أخرى في القصة.
[2] البهايراﭪ: رتبة دينية عند معتنقي الهندوسية.
[3] في الأصل Sahibs، وهي كلمة هندية دارجة استُعمِلَت في زمن الاستعمار البريطاني للهند للإشارة إلى الحكام والسادة البريطانيين.
[4] الاسم الكامل للأستاذ بونكو هو بونكو ﭘـيهاري داتا.
[5] ناماسكار: اسم تحية هندية شهيرة تُؤدَّى مع انحناءة.
[6] بونكودا اسم تصغير للسخرية من بونكو.
[7] في الأصل Bengali kayastha، توصيف هندي مكتوب بحروف إنجليزية.
[8] كاناﭬاه: نوع شهير من الأقمشة المُطرَّزة، وفي الهند تُصنع منه بعض الملابس والأحذية الشعبية التقليدية.
[9] بونكووم Bunkum ونيتوويت Nitwit: شتيمتين غير شائعتين في الإنجليزية تعنيان على الترتيب “ذو الكلام الفارغ” و”الأحمق” – والكلمتان قريبتي الشبه في النطق من اسمي بونكو ونيدهو.