(3)
لجوء نيكولا الكوزي إلى أمثلة من الفن والنحت هو أن المخضرم شهد التحوُّلات الجذرية التي عرفها زمانه بالانتقال من أنظمة التأمُّل للعصر الوسيط إلى أنظمة التفكير لعصر النهضة؛ أو الانتقال من التصوُّر اللاهوتي إلى التصوُّر الإنساني: ميلاد الإنسيَّة. سيعود الإنسان ليشغل مركز الاهتمام بعد غيابه في التصوُّر اللاهوتي. ستكون لهذه العودة دور رئيس في تغيير طبيعة الصورة ونظام تمثُّلها. بعد أن كانت الصورة بوساطة الأيقونة هي الخفي الذي يتجسَّد في الجلي مع بقائها متوارية، وبعد أن كانت الأيقونة التي تُجسِّدها تستقطب المقدَّس ميتافيزيقيًا والقداسة عمليًا وشعائريًا، فإن الصورة ستفقد شيئًا فشيئًا الرابط الذي كان يشدُّها إلى هذا الخلوص الميتافيزيقي لتصبح صورة طبيعية قابلة لأن تُقلَّد في الرسم أو النحت وأن تكون محط إعجاب أو موضع افتتان. للصورة «سِحْر» بالمقارنة مع الخطاب، والمناسبة اللغوية بين الصورة (image)، والسحر(magie) هي مفيدة نظريًا في تبيان الدور المنوِّم للصورة؛ تُعطِّل التفكير، تصدم العين، تُدهش الخاطر، تُلهب المشاعر، تُهيِّج العواطف. الصورة هي بلاغة من نوع خاص، بلاغة صامتة، تُعبِّر بالأشكال والألوان ما تعجز عنه ثرثرة الكلام.
يتطلَّب هذا الجزء الثالث من ثيمة الصورة معرفة مقامها في الفن والتحوُّلات التي طالتها في تاريخ الفن: كيف أصبح إدراك الصورة بعد تلاشي أنظمة الفكر والسلوك للعصر الوسيط؟ هل هناك قطيعة جذرية مع التصوُّر اللاهوتي للصورة أم انتقلت بعض العناصر اللاهوتية إلى المفهوم الجديد للصورة في الفن؟ تجدر الإشارة إلى أن الانتقالات لم تكن مفاجئة، بل كانت في الغالب بطيئة، بتغيير سلوك أو تعديل تصوُّر بفضل زائدة لغوية أو إزاحة فعلية. ثم إن الصورة، وإن كان لها تحديد ميتافزيقي في العصر الوسيط، إلا أن تجليَّاتها المادِّية الممكن تسميتها «الصورة الفنيَّة» كانت في الغالب هي القطع الأثرية والتُحف اليدوية. لا زلنا في هذه الفترة في القاسم العريق الموروث عن الإغريق بين «الفنون الليبرالية» و«الصنائع اليدوية»، حيث هذه الأخيرة هي في المرتبة الدُنيا بالمقارنة مع الأولى. تُقال الصناعة في الإغريقية القديمة (technè)، أي تقنية، ما تُتقنه اليد بالاشتغال على المادة الخام وإلباسها شكلًا من الأشكال. غير أن أساليب أخرى من الفن ظهرت في أعقاب هذا الاحتقار الذي لحق بالصنائع اليدوية وهو «فن المسرح».
- الفَنُّ: تَحْويلٌ في النَّظَر
لم يكن فن المسرح مجرَّد عروض تمثيلية المراد منها إبداء كفاءة الممثل أو جمال العرض، بل كانت تؤدِّي وظيفة إرشادية في الموعظة بمحاكاة النصوص الدينية وترجمتها في عروض مسرحية. يمكن الحديث عن «مَسْرَحَة الكتاب المقدَّس»، بأداء القصص الإنجيلية وحكاية مضامينها بالنشيد الغنائي والترانيم. كانت هذه الترانيم تسرد المعجزات أو الأسرار المشهودة عن الأنبياء وعن اليسوع خاصَّة، المراد منها العبرة والاعتبار. لم يكن فن المسرح منتشرًا وبالقوة نفسها التي كانت تتمتَّع بها الأيقونة الدينية التي كان يُخلِّدها النحت. لكن كان نحتًا من نوع خاص، يتأقلم مع السلطة الدينية. شيئًا فشيئًا زالت التماثيل العارية الشائعة في النحت الإغريقي لتكتسي رداءً وتأتي بسيطة بدون تكلُّف أو زخرفة زائدة. كانت هذه التماثيل تُصوِّر على العموم العذراء ترتدي رداءً وتحمل في ذراعها الطفل اليسوع، أو مغارة الميلاد وحولها الأحبار وبعض الحيوانات. لم يأت هذا التحوُّل في الصورة الفنيَّة عبثًا، بل كانت له مقدِّمات يمكن تحديدها في فلسفة أفلوطين الإسكندري الذي يضع فكرة الجميل خارج النوع الإنساني في عالم معقول وثابت. نرى هنا الأثر الذي تركه أفلاطون حول نظرية الأفكار الناصعة والمُثُل المفارقة. بجعل الجميل مفارقًا للحسّ، فإن الصورة الفنيَّة ستأتي على صورة هذا الفصل، ترتبط بالمثال المفارق وتقطع صلتها مع العالم الحسي، عالم المظاهر.
ليست الأشياء الجميلة حسيًّا سوى أشياء متردِّية بالمقارنة مع مثالاتها المفارقة. فهي في منزلة أنطولوجية دُنيا بالمقارنة مع الجمال العقلي المفارق. تُساعد الأشياء الجميلة النفس على الارتقاء إلى الجمال الأصلي بعد أن انقطعت عنه بسبب «السُّقوط» الذي وجد له الخطاب الديني مقابل في قصَّة آدم والطرد من الجنان. يكون الارتقاء بإعادة اكتشاف الجمال الأصيل والمفارق في الجمال الحسِّي العابر، أي أن اكتشاف الجمال لا يكون في «الآفاق» أو علامات العالم الخارجي، بل في «الأعماق» أو غَوْر النفوس بوساطة «التأمُّل» (contemplation). ليس غريبًا أن يجد عُشَّاق الصورة (الأيقونوفيليون) في التأمُّل حليفًا، لأن التأمُّل هو بشكلٍ ما استبطان المحسوس أو تحويل الأشياء إلى رموز، وهذه بالضبط مهمَّة الأيقونة الدينية من منظور الموالين لها. فهي ليست شيئًا حسيًّا يُعْبد، بل هي رمز يُبجَّل، موضوع التأمُّل والاعتبار. ستكون التجربة الجمالية في هذه المساحة الدينية عبارة عن تجربة ميتافيزيقية بالتأمُّل في الجواهر بعد مجاوزة عالم المظاهر. التأمُّل هو استحضار الجمال العقلي (الصورة) في الجمال الحسِّي (الأيقونة). أما ما يتراءى من انعكاسات ومظاهر فهو جمال مزيَّف (الأيدولة). يُعدُّ «نرجس» (Narcissus) حالة أيدولية (صنمية) برغبته في تثبيت الجمال في ذاته بعد أن رأى هيئته منعكسة على الماء. ليس الانعكاس في الماء سوى مظهر من مظاهر الانخداع بالجمال الذاتي. يغرق في البِرْكة بعد أن جعل من صورته المنعكسة صورة حقيقية (الأيدولة): «بإرادته في إدراك جماله المنعكس في الماء، جرفته المياه واختفى» (أفلوطين).

لم يكن نرجس في مقام التأمُّل، بل في مقام الرؤية الحسيَّة المنخدعة بالظلال والانعكاسات. فأخذ المظهر على أنه الكينونة. أما التأمُّل فهو يذهب فيما وراء الرؤية الحسيَّة، يتجرَّد من علائق الحس ليتوصَّل بالجمال العقلي، ويتطلَّب ما يُسميه أفلوطين «تحويل النظر» برؤية الأشياء رموزًا ودليلًا على التعالي، وليس برؤية الأشياء مجرَّد أشياء حسيَّة. هنا بالضبط وجد الأيقونوفيليون ضالَّتهم في الاعتداد بالصورة وتبجيل الأيقونة. التأمُّل هو الرؤية بعين الروح لا بعين الحسّ، وليس التأمُّل تفكيرًا، إذا أخذنا الكلمة (reflection) للدلالة على التفكير من جهة، وعلى الانعكاس من جهة أخرى. سيكون التفكير هنا فقط التأمُّل في المنعكس من الظلال والأشياء، أي السقوط في المظاهر الخادعة. باستبطان المحسوس للتوصُّل بالمعقول، ستكون المعادلة هي الانتقال من «التفكير»، دليل الانعكاس والمظهر، إلى «التفكُّر»، دليل التأمُّل والتدبُّر. يصبح التأمُّل هو «رَوْحَنَة» المحسوس واستبطانه. سيكون لهذه الفلسفة الروحية دور أساس في تقسيم المعارف والفنون: الفنون الدنيا هي إصلاح الطبيعة أو تقويمها (الزراعة والطب)؛ الفنون المقلِّدة بمحاكاة أشياء الطبيعة (الرسم، النحت، الرقص)؛ الفنون الخلَّاقة بإنشاء شكل جديد بناءً على مادَّة معطاة (المعمار، النجارة، الموسيقى)؛ الفنون المُحسِّنة للقول والفعل (البلاغة، الاقتصاد، السياسة)؛ وأخيرًا، الفنون العُليا هي التي تتوصَّل بالمعقول (الهندسة، الحكمة).
عندما نتكلَّم عن الفن هنا، لا نزال في إطار «الصناعة»، وليست الفلسفة الروحية سليلة أفلوطين سوى المرشد في وضع المعارف والفنون في تراتب ينتقل من المحسوس إلى المعقول، وينتظم حول القول والسلوك. لكن الفن المسمَّى «صناعة» هو محبوب لذاته وليس لأجل المصنوعات المتولِّدة عنه، لأن هذه الأخيرة يلحقها الاهتراء أو التلف، بينما فكرة الفن تبقى ثابتة وتحيل إلى المعقول، فيما وراء ما يتبدَّل في عالم الأشياء. القيمة الروحية للفن هي أسمى من الصنائع المنحدرة عنه. يُعلِّم الفن شيئًا من قبيل الاشتغال على الذات، بإكمال ما نَقُص فيها، وإصلاح ما تعطَّب فيها، وتحسين ما فَسُد فيها. يكتشف الفنَّان إشارة روحية تُعلِّمه الكيفية التي ينحتُ بها ذاته بالمقدار نفسه الذي يرسم فيه لوحةً أو ينحتُ تمثالًا. لعل فكرة «النُّور» مفيدة في هذا الصدد، لتبيان أن النور الحسِّي في جعل الأشياء مرئية هو نظير النور المعقول في إعطاء كينونة للأشياء. إذا كان النور قد غلب على الفن مبحثًا مهمًّا في الكشف عن الأشكال والأحجام والألوان، فإن النور الذي يقصده أفلوطين هو النور العقلي في الكشف عن المواهب الكامنة في الفنَّان. أليس الفنَّان في نهاية المطاف صانعًا ومبتكرًا على شاكلة الخالق في التصوير والخلق؟ جابت هذه الفكرة العصر الوسيط وما بعده، وتنحدر من التعاليم الإغريقية العريقة، سواء أكانت محاورات أفلاطون، خصوصًا محاورة «طيماوس» حول الخالق-الفنَّان (Demiurge)، أم نصوص دونيس الأربجي المنتحل القائل: «لا يرسم التشبُّه بالإله الصورة الأصيلة والحقيقية للنموذج سوى عندما تُعلِّق النفس رؤيتها على هذا الجمال العقلي والعبق، لأن فقط بفعلها هذا يمكنها أن تطبع في ذاتها الصور الجميلة وتعيد إنتاجها» (Talon-Hugon, 2014, p.27).
- تَحوُّلات الصُّورَة: من اللَّاهُوت إلى الإنْسِيَّة
ينبري من قول دونيس أن التشبُّه الحقيقي لا يعني مضاعفة الشيء الحسي، بل استلهام الصورة مباشرةً من النموذج. إذا انطلق الفنَّان من المحسوس، فلأنه يرى أصلًا المعقول ويُنظِّم المحسوس بإعادة الاشتغال عليه وتحسينه وتجويده وفق النموذج المعقول. واشتغاله على المحسوس بقولبته وإعادة تشكيله هو اشتغاله على ذاته، لأنه يستبطن ما يشتغل حوله ويتأمَّل النموذج الأسمى في ذاته. إنه في مقام «رَوْحَنَة» الأشياء. يمكن القول بأن البرادَايْم الذي طبع تلك الفترة هو تجلي «الإلهي» في الأشياء (theophany) على أن تكون المشابهة هي عُنصر هذا التجلي، وأن يكون هنالك تحويل دائم في النظر نحو المعقول تُحققه الأيقونة لدرء مفاسد الأيدولة المثبِّتة للنظر في صنميتها بالذات. لا بدَّ أن يكون هنالك تبادل في النظر بين الأيقونة والناظر، بين اللوحة الفنيَّة والمشاهد. هذا التبادل الذي يأتي في صيغة «التبديل» (chiasmus) من شأنه أن يُبيِّن التفاعل الحي بين المُشاهد واللوحة أو الأيقونة. لا يتحرَّك المشهد في اللوحة أو الأيقونة ما لم تقم العين بتحريكه والتأمُّل في وقائعه. على غرار فن المسرح الذي كانت له منافع تربوية وروحية، فإن فن الرسم يضطلع بالفائدة عينها. لم تُجْعَل اللوحات والأيقونات وقتها من أجل لذَّة العين (libido spectandi) كما كان يُسمِّيها ترتيليانوس القرطاجي (160-220)، بل جُعلت لغايات تربوية في العظة والاعتبار والإسهام في تخليد المشاهد النبوية في الحياة الروحية والاجتماعية.
تخصيص الصورة الدينية في الاعتبار والتأمُّل بدلًا من اللذَّة الجمالية هو وسيلة ردعية تُجاه التصنيم والتقديس، ما دامت الصورة تحمل في ذاتها ما يُفتن ويُغري إذا نُظر إليها من زاوية الغرائز والانفعالات. بهذا المعنى لم تكن الأيقونة موضوع تذوُّق جمالي (إستيطيقي) بقدر ما كانت محط تبادل روحي بالتبديل الممكن إجراؤه بين العين الناظرة واللوحة الناضرة. على عتبة البدايات الأولى للنهضة والإنسيَّة، استتبَّ السِّلم بين عُشَّاق الصورة والمناهضين لها في حدٍّ ثالث هو الاحتفاء بالأيقونة كصورة دينية ذات مضامين فنيَّة خالصة من التقديس الأيدولي والتدنيس الغرائزي، لتصير صورة روحية ذات أبعاد تربوية، تُهذِّب النفس وترتقي بها نحو المعقول. غير أن ثورة تصويرية (pictural revolution) ستحصل عندما يتحوَّل النظر من التبجيل إلى الإعجاب وتكتسي الصورة الدينية دلالة الصورة الفنيَّة. زاد عدد الرسَّامين والنحَّاتين في البدايات الأولى للنهضة وصارت كل تحفة دينية موضوع احتفاء شعبي بالمراسيم والاحتفالات. المنعطف الحاسم الذي غيَّر الرؤية إلى العالم، من الرؤية الدينية الخاصَّة بالعصر الوسيط إلى الرؤية الفنيَّة للنهضة، هو اكتشاف «تمثال لَاوْكُون» (Laocoon) في روما عام 1506، وهو نسخة رومانية مصنوعة من المرمر لنحت إغريقي. يُصوِّر المشهد كاهن طروادة لَاوْكُون يُصارع أفاعي بحرية مع ابنيه. كان هذا الاكتشاف بمنزلة الصَّدمة ونشأ على أثرها «فن اللوحة الجدارية» (fresco)، بعدما كان التصوير الفني يقتصر على اللوحة الزيتية أو الأيقونة الدينية.
بهذا الاكتشاف انتقلت الرؤية إلى العالم، من الرؤية اللاهوتية إلى الرؤية الإنسانية. اكتشاف «لَاوْكُون» هو تخطِّي العصر الوسيط لإعادة اكتشاف العالم الإغريقي حيث كان الإنسان فيه «مِعْيَار جَميع الأشْيَاء» تبعًا لعبارة بروتاغوراس. سيكون الإنسان من جديد مقياس الأشياء. من نتائج هذا الاكتشاف التوكيد على أهمية الإنارة في الصورة الفنيَّة، والتعبير عن المحسوس كما ينكشف للعين الناظرة، ثم الاستلهام من المحسوس لرسم ما يُفارق الحس، وأخيرًا تعزيز دور المشاعر الجيَّاشة في الكشف عن الطبيعة المغيَّبة أو المتوارية للإنسان. أصبح الرسم تعبيريًا يكشف عن الحقيقة الحسيَّة والانفعالية للإنسان بعدما كان هذا الأخير مغيَّبًا وراء حُجُب الصمت أو الإذعان. الإنسان في اللوحات الخاصَّة بالعصر الوسيط ممحوّ لصالح الوقائع الإنجيلية والشخوص النبوية، وغالبًا ما يأتي شاحبًا بلا سمة بارزة تكسو وجهه، وكأنه راضٍ عمَّا خطَّ له القَدَر أو المصير. بل إن الفن انتقل في تلك الفترة نحو المعمار بالمعالم الضخمة (الكاتدرائيات) ذات الفن القوطي والأسلوب الفني المتوهِّج. اندثر الإنسان أمام المعالم الجبَّارة والمثيرة. إعادة اكتشاف الإنسان هي في مقام الثورة الإنسيَّة والأنثروبولوجية، وعمل الفن في النهضة على استحضار الطبيعة الإنسانية المغيَّبة من قبل. فضلًا عن ذلك، اتَّسم الفن الجديد بنوعٍ من الانعكاسية أو «الميتا-فن» بالتفكير في الإجراءات والتقنيات التي تترأس العمل الفني.
بالمقارنة مع المعاني الأربعة للكتابات المقدَّسة (المعنى الحرفي، والمعنى الرمزي، والمعنى الأخلاقي، والمعنى الروحي) التي أوردها دانته أليغيري (1265-1321)، قام رفائيل (1483-1520) بتحديد الإجراءات الأربعة المطبَّقة على الفن (الفيزيائي، والتاريخي، والمرسوم، والمنحوت). يُعادل «الفيزيائي» المعنى الحرفي للكتابات المقدَّسة، و«التاريخي» المعنى الرمزي الخاص بالأحداث المقدَّسة، و«المرسوم» المعنى الأخلاقي باستخلاص حكمة أو عظة تربوية، وأخيرًا «المنحوت» الذي يتجاوز المعطى الحسِّي نحو البُعد الروحي. باكتشاف «لَاوْكُون»، انتظمت مجموعة من الإجراءات والأساليب القائمة على الخبرة الفنيَّة في التدقيق في التفاصيل، والميل نحو المؤثِّر (باتوس)، وقوَّة تمثيل المشهد بإثارة الخيال. علاوةً على ذلك، باكتشاف «لَاوْكُون» الذي حافظ على هيكله وهو تحت ركام الأبنية والدهاليز، تشكَّل الحس الفنِّي في الصيانة والتشكيلة، ومهَّد لظهور فكرة «المتحف» (Museum). بهذه الفكرة، صار بالإمكان عزل التحفة عن سياقها التاريخي وإفراغها من محتواها الوثني أو الديني لتصير تحفة فنيَّة خالصة معطاة للتأمُّل. لم يكن المتحف هو الحيّز الوحيد الذي تجتمع فيه التحف الفنيَّة، بل إن تدشين «الأكاديمية» في فلورنسا (1563) المخصَّصة للفنون والأعمال الفنيَّة، كان شكلًا من أشكال «الانعكاسية» (reflexivity) لدراسة الفن وتقنياته وأشكاله وأساليبه.
- الفَلْسَفَة المُصَوَّرة: قراءة في «مَدْرَسَة أثينَا» للرسَّام رُفَائِيل

قراءة هذه اللوحة وتأويلها هو إجراء مهم لفهم تحوُّلات الصورة الفنيَّة الجارية وقتها. جاءت الهندسة المعمارية في اللوحة على صورة المعمار الإغريقي العريق بتسليط الضوء على التماثيل والأعمدة والأقواس والنقوش والقبب المفتوحة على السماء يتوسَّطها رواق واسع وطويل، وابتكار منظور تصبُّ فيه نقاط التلاشي في وسط اللوحة (أفلاطون وأرسطو)، بالإضافة إلى التشديد على الإنارة والألوان. يُمثِّل التمثالان «أبولون»، إله الفنون والتوازن على اليسار، و«مينيرفا»، إلهة الحكمة والفلسفة على اليمين. في وسط اللوحة، يتقدَّم أفلاطون وأرسطو، الأول يُشير إلى السماء، رمز الأفكار الناصعة والمُثُل المفارقة، ويحمل كتاب «طيماوس»، محاورة حول الزمن ورحلة النفوس نحو العالم المفارق؛ والثاني يشير أمامه نحو الأرض، رمز الواقعية، ويحمل كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخوس» حول نظرية الفعل والفضائل الأخلاقية والعقلية. يجلس ديوجين الكلبي على الدرج مركزًا على القراءة. على يمين أفلاطون، يقف سقراط في حديثٍ مع التلاميذ (كسينوفون وألسيبياد)، مُشهرًا أسلوبه في الحوار بشدِّ الانتباه إليه قصد توليد الأفكار والعناية بها والإسهام بفطامها بجدل السؤال والجواب. في أقصى يسار اللوحة في الأسفل نلمح زينون الإيلي أو زينون الرواقي جالسًا بالقرب من أبيقور الذي يُدوِّن شيئًا على قُرطاس. على يساره، ابن رشد يشرئبُّ بعنقه نحو كتاب يحمله فيثاغورس وواضعًا يده على صدره. يقف بارمنيدس أمام فيثاغورس وأنكسمندر حاملًا كتابًا ومشيرًا إلى مسألةٍ ما، إلى كينونةٍ ما، وتُحدِّق الفيلسوفة هيباتيا الإسكندرية بعينيها نحو المشاهد. يجلس هيرقليطس بالقرب على درج مستغرقًا في تأمُّلاته وآخذًا بملامح الرسَّام مايكل أنجلو. على مقربةٍ منه يُقدِّم إقليدس درسًا في الهندسة لتلامذته. بالقرب منهم يقف بطليموس وزرادشت إلى جانب الرسَّام نفسه (رفائيل) والرسَّام جيوفاني باتزي. أعلاهم يقف أمبيدقليس وأفلوطين، وإلى جانب هذا الأخير بيرون الشكِّي واضعًا ذقنه على يده. بجانبه أرستيبوس القوريناني وثاوفرسطس يُوجِّهان نظرهما إلى أفلاطون وأرسطو القادمين من جهة الرواق. اصطفَّ التلاميذ لاستقبالهما وتحيَّتهما.
على الخلاف من اللوحة في العصر الوسيط التي يظهر فيها الإنسان ممحوًّا بالمقارنة مع هيبة المشهد النبوي أو المعمار الديني، فإن لوحة رفائيل تعيد للإنسان وهجه، في مشهد جماعي هو «جمهور الفلاسفة». هذه اللوحة هي احتفاءٌ بالفلسفة وبالقيم الإنسيَّة. يمكن الوقوف فيها على أربع مجموعات أساسية يتوسطها أفلاطون وأرسطو. المجموعة الأولى التي يمكن تسميتها بـ«مجموعة الحوار» يُمثِّلها سقراط، الفلسفة بوصفها تواصلًا ومشافهةً ومعرفة الذات بالتواصل مع الغير؛ المجموعة الثانية التي يمكن تسميتها بـ«مجموعة الجوار» وهي مناظرة العقل والتصوف، الحساب العقلي والرقم الروحي (من حيث منظور اليسار، ترتبط المجموعة بأفلاطون)؛ المجموعة الثالثة التي يمكن تسميتها بـ«مجموعة الخبرة»، وهي الثقافة العلمية بمجموع الاكتشافات والاختراعات، حيث يحمل إقليدس فرجارًا، ويحمل بطليموس الأرض، وزرادشت المجرَّة (من حيث منظور اليمين، ترتبط المجموعة بأرسطو)؛ أخيرًا، المجموعة الرابعة التي يمكن تسميتها بـ«مجموعة السريرة» وتضمُّ أهل الأسرار الباطنية على غرار أفلوطين أو الأفكار الارتيابية مثل بيرون. لا ينخرط ديوجين الكلبي في أيَّة مجموعة بحكم توحُّده واعتزاله وانتقاده اللاذع للتقاليد. نرى بأن الرسَّام رفائيل يضع نفسه مع المجموعة الثالثة وهو التوجُّه العام لعصر النهضة الذي بدأت تتطوَّر فيه «التجربة العلمية» ولأن الرسَّام نفسه أخذ يستلهم من الهندسة من أجل الأبعاد والأحجام، ومن علم الفلك من أجل الخيال ورسم القبَّة السَّماوية بالمعنيين العلمي والميتافزيقي.
تُحقِّق اللوحة قطيعة مع الفن الديني للعصر الوسيط بغياب المبحث الديني، والعودة إلى التراث الفلسفي العريق بتصوير جمهور الفلاسفة من الإغريق وإلى غاية بداية النهضة. كما أنها تُصوِّر انتصار الإنسيَّة بعودة الإنسان في صُلب الاهتمام. يتراءى ذلك في الرسم الذاتي (self-portrait) بوجود صورة رفائيل في اللوحة وهو يُحدِّق في المشاهد، وهو تقليد لم يكن في الفن الديني السابق على النهضة. تُبرز التفاصيل الثقافة الواسعة لرفائيل في رسم الفلاسفة: (1) سبَّابة أفلاطون نحو الأعلى ويد أرسطو نحو الأسفل، لتبيان الفاصل بين العالم المثالي والعالم الواقعي؛ (2) يستعمل سقراط أصابع اليد وكأنه يُعدِّدُ شيئًا، وهي دلالة على أهميَّة الحوار باستعمال الإشارات؛ (3) يضع أبيقور على رأسه قبعة نباتية وهي إشارة إلى الحديقة التي أنشأها وهي مدرسة فلسفية مفتوحة للجميع، كان يُدرِّس فيها مبدأ «الأتَرَاكْسِيَا» وهي درء الاضطراب في النفس أو طمأنينة النفس. تُمثِّل الحديقة المساحة المثالية في مساعدة النفس على حصول الطمأنينة؛ (4) يضع ابن رشد يده على صدره بما يُشبه التوفيق بين العقل والإيمان، المبحث الغالب في زمانه وإلى غاية الفلسفة السكولائية اللاتينية؛ (5) يجلس هيرقليطس في ملامح مايكل أنجلو متفكِّرًا ومستغرقًا في تأمُّلاته، هو الذي يُقال بأنه كان يبكي كل صباح من غباء البشرية حزنًا وشفقةً؛ (6) يجلس ديوجين الكلبي على الدرج بطريقة مخالفة للأعراف واللياقة، لا يعبأ بأحد لتبيان توحُّده وتمرُّده على التقاليد؛ (7) ينعزل بيرون بالاتكاء على عمود واضعاً ذقنه على يده اليمنى وهائمًا بنظره، في مشهدٍ يوحي بالارتياب الغالب على طبعه، وهو أول فيلسوف أسَّس المدرسة الشكيَّة التي سيكون سكستوس أمبريقوس أحد أقطابها المعروفين.
بهذه اللوحة، يُحقِّق رفائيل أساسيَّات الصورة الفنيَّة كما تبلورت في عصره وكان هو أحد المؤسِّسين لها. إذا قرأنا اللوحة بناءً على المنظور الهندسي، نرى بأن كل الخطوط والدوائر تتَّجه نحو أفلاطون وأرسطو، إيمانًا من رفائيل بأنهما صدر الفلسفة ومصدر ذيوعها، وإن كان للفلاسفة الآخرين، قبل سقراط وسقراط نفسه، دور في وضع اللبنات الأولى للتفلسف. بمقدار ما يتوجَّه المنظور نحو الشخصين الرئيسين، بمقدار ما يفصل الخط العمودي بينهما، في إشارة واضحة إلى أن أفلاطون ونظريته في الأفكار الناصعة والنماذج المفارقة تختلف جذريًا عن أرسطو وفلسفته الطبيعية والواقعية. ربما عبارة أرسطو التي خلَّدها التراث الفلسفي هي الدليل السَّاطع على هذا الفارق الأساس: «أفْلَاطُون عَزيزٌ عليَّ، لَكِنَّ الحقِيقَة أعَزُّ». ليست عبارة أرسطو مجرَّد حجَّة بلاغية في استبعاد السِّيادة (العنعنة)، بل هي كذلك حجَّة معرفية في إرادة بلوغ الحقيقة بالطُرُق العقلية والجدلية، وحجَّة فلسفية في تبايُن الطريق الذي اختاره أفلاطون والطريق الذي سلكه أرسطو. يتجلَّى ذلك في المنظور العمودي المائل يسارًا الذي يربط أفلاطون بالمجموعة الثانية، الأقرب إلى الماهيات (الرياضيات، الأعداد المقدَّسة، العقل والإيمان) والمنظور العمودي المائل يمينًا الذي يربط أرسطو بالمجموعة الثالثة، الأقرب إلى الظواهر (الهندسة، الطبيعة، الفلك). بالقياس، يُؤكِّد رفائيل بالرسم دَيْن النهضة الأوروبية للعبقرية الإغريقية والرومانية، لكن تتجاوزها باستحداث بارادَايْم جديد يتلخَّص في العلم بالمعنى التجريبي وتطبيقاته في الزراعة والصناعة والتقنية والفن والمعمار.
- عَوَدٌ عَلَى بَدْء: الفَنُّ في خِدْمَة الدِّين
ظهرت النهضة الأوروبية وموجة الفن الحديث، خصوصًا في إيطاليا التي تميَّزت بأسماء لامعة في الرسم والنقاشة والنحت. وإن استحدث الفن لذاته قواعد جديدة تختلف عن قواعد الفن الأيقوني للعصر الوسيط، إلا أن الروح الدينية كانت لا تزال فاعلة، أحيانًا من وراء صفقات تجارية. مثلًا، كان القساوسة أو رعاة الفن من بين الأثرياء يطلبون من الرسَّامين إنجاز لوحات زيتية تتحدَّث عن مشاهد إنجيلية أو نبوية أو قيامية. مثلًا، «مشاهد من حياة العذراء» (جيوتو، 1304-1306)، «ميلاد المسيح» (بوتيتشللي، 1501)، «مريم العذراء للدوق الكبير» (رفائيل، 1507)، «القديسة كاترين الاسكندرية» (كارافاجيو، 1598)، بالإضافة إلى الرسَّامين الهولنديين: «الأسرة المقدَّسة» (رامبرانت، 1645)، «آدم وحوَّاء» (بيتر بول روبنس)، «اليسوع في بيت مرثا ومريم» (يوهانس فيرمير، 1655). ينبري ذلك من قول ليوناردو دافنتشي الذي كان يُفكِّر دائمًا من داخل البارادايم الديني-اللاهوتي: «يَجْعَل الطَّبْع الإلهي لفَنِّ الرَّسْم أنَّ رُوح الفَنَّان تَتَحوَّل إلى صُورَةٍ عَنْ رُوح الإله، لأنه يَتَعَاطَى مَعَ قُوَّة حُرَّة من ابْتِكَار أنْوَاع مُتَعدِّدَة» (Da Vinci, 1987n p.116). غير أن الرسومات في النهضة كانت بمنزلة إقحام تعديلات ولمسات تكتيكية داخل الاستراتيجية المهيمنة للمشاهد الدينية، بإدراج الانفعالات وضم الألوان الداكنة ولعبة الظلال والأنوار، وهو إجراء لم يكن في فن العصر الوسيط. نحن على عتبة تحوُّل جوهري للفن بالمقارنة مع القواعد الموروثة.
زيادةً على ذلك، كانت للرسَّامين أعمال فنيَّة أخرى طلبًا من رعاة الفن الأثرياء مثل تصوير المشاهد الأسطورية. مثلًا، «ميلاد فينوس» (بوتيتشللي، 1485)، «فينوس وأدونيس» (تيتيان، 1560)، «باكوس، إله النبيذ» (كارافاجيو، 1595)، إلخ. يظهر أن مهمَّة الفن انتقلت من مبدأ «المحاكاة» (mimesis) إلى مبدأ «الصناعة» (poiêsis) بالجرأة على ابتكار شيء جديد بالمقارنة مع التقاليد الموروثة. إذا كان فن العصر الوسيط يتميَّز بالإخلاص للقواعد الفنية الموروثة، فإن فن النهضة ينفرد بإبداع أشكال جديدة انطلاقًا من الأشكال الأصيلة. لا تُعتدُّ اللوحة الزيتية بمضامينها الدينية (مشهد نبوي أو ميلادي أو قيامي-أخروي) بقدر ما كانت محط اهتمام من حيث مركَّباتها وأساليبها الجديدة التي كانت تخرج عن التقاليد الفنية العابرة للأزمنة. هنا يتراءى الوجه الجديد لفن النهضة: (1) نقل مفهوم المحاكاة من الالتزام الحرفي بالقواعد إلى الاشتغال على العناصر الماضية بإقحام شيءٍ جديد يُغيِّر من طبيعة الموضوع؛ (2) الانتقال من التصوُّر الديني والميتافزيقي للجمال إلى التصوُّر الحسِّي والظَّاهري بالاعتماد على الانسجام الذي يُظهره الشيء المراد التعبير عنه فنيًّا. يُصبح الجمال هنا عبارة عن انسجام الأبعاد وتناغم العناصر، سواء أكان وجه التعبير رسمًا أم نحتًا أم لحنًا.
دخل مفهوم «الانسجام» في التقاليد (المناظرة بين العلوم والفنون)، وجرى القياس بين الرسم والشعر تحت شعار بارز منسوب إلى الشاعر الروماني هوراتيوس: «يُشْبهُ الشِّعْرُ الرَّسْمَ» (ut pictura poesis)؛ مستلهمًا من فكرة سيمونيدس القائل: «الشِّعْر هُو رَسْمٌ نَاطِق، والرَّسْم هُو شِعْرٌ صَامِت». وجه التماثل هو أن الكلمات في الشعر تقوم مقام الأشكال والألوان في الرَّسم. ستطغى هذه المقايسة على عصر النهضة بإيعازٍ من فكرتين، الانسجام من جهة، والتعبير من جهة أخرى. مثلما يُعبِّر الشَّاعر عن المشاعر بالكلمات الرنَّانة، يُعبِّر الرسَّام عن الأحاسيس بالألوان اللامعة أو الدَّاكنة. وجه التبديل أو التداخل (chiasmus) هو أن الشاعر يتكلَّم بالقوَّة التي تجعل المستمع يتصوَّر المشهد بالأشكال والألوان التي يتخيَّلها، ويرسم الرسَّام بالصيغة التي تجعل الناظر يُعبِّر بالكلام عن إحساس أو انطباع. بهذه المماثلة ذات التركيبة التبديلية (كياسْم)، ستكون للصورة الفنيَّة بلاغة شبيهة ببلاغة النَّظْم والكلام. سيكون الرَّسم موجَّهًا وفق ثلاثية التأثير والتعليم والإعجاب (movere, docere, placere). تنطبق هذه الثلاثية على المثلث البلاغي الذي سنَّه أرسطو القائم على التأثُّر والقول والطبع (pathos, logos, ethos). إذا كانت البلاغة بالنسبة لأرسطو هي مفيدة وتستهدف الاحتمالات والتصديقات، فإن الرسم له منفعة ويهدف إلى إحداث تحوُّل لدى المشاهد بمفعول الاعتبار. لسنا هنا بعدُ في مقام المتعة الجمالية التي سيختصُّ بها عصر التنوير. كذلك، إذا كانت البلاغة هي بالتعريف فن الإقناع بالاستثمار في الوسائل المؤدِّية إليه دون اللجوء إلى الإكراه أو التضليل بوساطة السفسطة والمغالطة، فإن الصورة الفنيَّة تحمل شيئًا من الإقناع والإرضاء مع ضمان فسحة حُرَّة من التأويل الذي يُجريه المشاهد على مضامينها.
بهذا التماثل بين الرسم والشعر والمناظرة بين المعارف والفنون، طرأ عُنصر أساس وحاسم في إعطاء الصورة الفنية خصوصًا والتعبير الفنِّي عمومًا (الشعر، المعمار، المسرح، الموسيقى) شكلًا من الزَّخم. جُعلت البلاغة للإقناع والإفحام، وسيكون للصورة بلاغة مماثلة في حمل المشاهد على الانضمام إلى مضامينها والافتتان بجمالها والرهبة من جلالها. نحن هنا على عتبة «عصر الباروك» (بين القرنين السادس عشر والسابع عشر) الذي قام برَدْكَلَة الأساليب الفنية الموروثة وتأجيجها بلهيب الانفعالات وجلال الفخامة. لفهم هذا الانتقال الحاسم للصورة الفنيَّة، يمكن تفسير ذلك بالعَوَد على البَدْء، بالصراع الذي اندلع بين عُشاق الصورة الكاثوليك ومهدِّمي الصورة من بين البروتستانت. على وقع الإصلاح الديني الذي دعا إليه مارتن لوثر (1483-1546م) بتدوين 95 أطروحة حول العقيدة ونقض صكوك الغفران ومناهضة البابوية في روما، كان رد فعل الكاثوليك هو الإصلاح-المضاد الذي باشرته الطائفة اليسوعية بزعامة إغناسيو دي لويولا (1491-1556م) المعروفة بالولاء المطلق لروما واهتدت إلى حيلة مثمرة وهي استغلال الفن لتدعيم الديانة الكاثوليكية. فجاءت الكنائس والكاتدرائيات عامرة بالأعمال الفنيَّة ذات الأسلوب الباروكي الصَّادم. في الأصل الاشتقاقي «الباروك» (barroco) هو الصَدَفة ذات الأبعاد غير المنتظمة، واتَّخذت الكلمة دلالة ما هو منكسر وملتوي ومنعرج، أي لا يخضع إلى الأبعاد الموزونة. بالقياس، إذا كان الفن يستجيب إلى القواعد العقلانية في الشكل والخط والرسم، فإن الباروك يتمرَّد على القواعد ويُظهر المفارق وغريب الأطوار ويتغذَّى من الخيال ويُلهب الانفعال ويُذكي الوهم ويحتفي بالعجيب الخلَّاب ويُبرز اختلال التوازن.
يشرح روسيه طبيعة هذا الأسلوب بهذه الكلمات: «العالم مقلوب أو متقلِّب، في حالة التأرجح أو الانقلاب؛ الواقع مضطرب ووهمي مثل المشهد الدرامي. كذلك يفقد الإنسان التوازن، لا يعرف من هو، ولا كيف هو، منصرفًا وعلى وجهه قناع حيث يلعب بمهارة لا نعرف بموجبها أين القناع وأين الوجه» (Rousset, 1953, p.28). التقلُّب، الانقلاب، الاضطراب، الوهم، الدراما، فقدان التوازن، القناع، اللعب، هي كلها مسمَّيات الباروك بتصاريف متنوِّعة. حصل انقلاب في الوعي طالت مفاعليه الرؤية الحديثة للعالم. الصراع الذي نشب بين الكاثوليك (أيقونوفيليون) والبروتستانت (أيقونكلستيون) هو نسخة مشابهة لسجال الأيقونات الذي ميَّز الحياة الدينية لبيزنطة، بالعنفوان نفسه وبالجدالات عينها حول دور الصورة في استقطاب الإلهي (الكاثوليك) أو عجز الصورة في تمثُّل العوالم المفارقة (البروتستانت). مثَّل «مجمَّع ترانتو، 1553-1563» (شمال إيطاليا) عُقدة هذا السجال المتجدِّد حول الصورة بتوكيد الكاثوليك على أهميتها في تجسيد المتعالي في المحايث وفائدتها التربوية والروحية. بازدهار الباروك في الرسم والنحت والمعمار، اغتنم الكاثوليك هذا الحدث لتزيين الكنائس والكاتدرائيات برسوم جدارية من الرخام في الواجهة، وبتماثيل العذراء واليسوع وطلب لوحات زيتية وسجادات جدارية وتزيين القبب والأقواس برسوم مستوحاة من المشاهد الإنجيلية والنبوية. أبرز مثال على ذلك هو «نشوة القديسة تيريزا» (1647-1651م)، تحفة باروكية أنجزها لورنزو برنيني في كنيسة سانتا ماريَّا ديلًّا فيتُّوريا بروما.
- عَوْدَة إلى الفَن: القَطِيعَة مَعَ الإرْث الدِّيني
ينجلي من استعمال الفن لأجل تدعيم الطائفة الكاثوليكية، خصوصًا في شكله الباروكي الجسيم والجبَّار والصَّادم، لأسر العين وسحر العقل وتعطيل الإرادة للانخراط في العقائد المسطَّرة؛ ويتَّضح من بداية الإصلاح الديني وتوسُّعه والذي كان مناهضًا لفقه الصورة كما بلورتها الكاثوليكية، أن الفن بدأ يتحرَّر شيئًا فشيئًا من المرجعية الدينية ليُباشر مساءلة فنيَّة بحتة لإجراءاته وأساليبه. يتجلَّى ذلك في «السِّجال حول اللَّون» في الرَّسم الذي اندلع في فرنسا القرن السابع عشر بين أنصار الشكل الذي تزعَّمه نيكولا بوسان (1594-1665) وأنصار اللون الذي قاده بيتر بول روبينس (1577-1640). يمكن القول بأن هذا السجال الذي اندلع في الفن في حدَّته وحجَّته يُضاهي «السِّجال حول الأيقونات» الذي هزَّ بيزنطة وميَّز مجمَّع ترانتو على وقع الصراع بين البروتستانت والكاثوليك. غير أن المضاهاة في الملامح لا يعني المماثلة في الطبيعة، لأن حتى وإن اشتمل الفن في مضامينه على ثيمات دينية، فإن الإشكال انتقل إلى حلبة أخرى وهي المنهج. لم يعُد الفن يثير الاهتمام من حيث المضامين الميتافيزيقية أو الدينية التي ينطوي عليها، بل من حيث طرائقه وإجراءاته في الإنجاز. كذلك يظهر وجه المضاهاة في أن السجال حول اللون يستعيد الأطروحة نفسها التي طغت في السجال حول الأيقونات، بين أنصار الصورة والمناهضين لها؛ من جهة «الأيقونوفيلي» الذي يحتفي بالصورة ويرفع من شأنها، من حيث كونها مَجْلى الإلهي والمتعالي، ومن جهة أخرى «الأيقونكلستي» الذي يسعى لهدم الصورة والتحذير من جاذبيتها المعطِّلة للعقل. بالقياس، يميل أنصار اللون إلى الاحتفاء بجمال الصورة وجلالها من حيث أن اللون يثير الإحساس ويجذب العين، ويميل أنصار الشكل إلى نفي مفاتن الصورة بإفراغها من مؤثِّراتها في الإغراء، والتركيز على الخطوط والملامح والاكتفاء باللونين الأسود والأبيض الذين يُفقران الصورة بسحب الألوان الأخرى منها.
بالنسبة لأنصار الشكل الألوان هي خصائص زائدة على الصورة الفنيَّة وتنزع عنها بساطتها وأصالتها. تكفي الخطوط والأبعاد في إبراز طبيعة الرسم دون زوائد تحجب أصالته وتُغري المشاهد. في المقابل، يرى أنصار اللون أن الخطوط لا تكفي في إبراز جمال الصورة الفنيَّة وتُفرغها من حمولتها الجمالية والرمزية. يقوم الشكل بإفقار الصورة. فهو يزهد في التعاطي معها. فضلًا عن ذلك، للشكل بُعد عقلاني من حيث أنه يُبرز السمات والملامح في أبعاد هندسية، وهو معطى للحُكم العقلاني من اختصاص نُخبة تُحسن قراءة الأبعاد الرياضية والهندسية للصورة الفنيَّة. على الخلاف من ذلك، للون بُعد شعبي لأنه يُحقق انضمام الجماهير التي تهوى بطبعها الألوان وما ترمز إليه: «عندما يُتَّهم اللَّون لأنه يُغري الدَّهماء، يُجيب أنصار اللَّون بأن بفضل اللَّون يُصبح الرسم لغة كونية تتوجَّه إلى الجميع، وكما يقول ألبرتي، الرسم يروق النخبة ويجذب الدَّهماء» (Lichtenstein, 1989, p.167). من وجهة نظر بلاغية، إذا اتَّفقنا على وجود بلاغة للصورة (Barthes, 1964, p.40-51)، يمكن الإقرار بأن أنصار الشكل يتعاملون مع «العقل» (لوغوس)، فيما يميل أنصار اللون إلى «التأثُّر» (باثوس)، لما تثيره الألوان من انطباعات وأحاسيس. وعليه، تتَّخذ العين بلاغة خاصَّة تتراوح بين رؤيةٍ تقوم على «التخلِّي» ورؤية تعتمد على «التحلِّي». أستحضر هذا المصطلح الصوفي لأدل بالتخلِّي (من الخلاء) على الزهد في الصورة بالاعتداد بالشكل، ولأدل بالتحلِّي (من الحِلية) على التزيُّن بالصورة وإلباسها وجهًا ناضرًا عبر الألوان.
«اللَّوْن يَسُرُّ العَيْن، والشَّكْل يَسُرُّ الفِكْر» (نقلًا عن: L’atelier d’esthétique, 2014, p.138). بهذه العبارة البلاغية في التوفيق بين التأثُّر والعقل، حاول شارل لوبران (1619-1690)، رسَّام مقرَّب من الملك لويس الرابع عشر، مصمِّم الديكور في قصر فرساي، ومدير الأكاديمية الملكية للرسم والنحت، إيجاد تسوية بين الفريقين ومجاوزة النقاش العقيم حول التفضيل بين الشكل واللون. في الواقع، التحلِّي باللَّون ما هو سوى نتيجة منطقية للنزوع الباروكي للمدرسة الفلمنكية التي كان ينتمي إليها روبنس، ومن ثمَّ الاحتفاء باللون وتحبيذ ما يثير الأحاسيس والانفعالات. تُبرز العديد من لوحات روبنس هذا النزوع الباروكي في إتخام الرسم بالألوان بالإضافة إلى المشاهد الحبلى بالانفعال والعنفوان، كما تكشف عنه لوحة «القديس دومينيكو والقديس فرانسوا يُنقذان العالم من غضب المسيح» (1620) أو كذلك «كرامات القديس إغناسيو دي لويولا» (1918) حيث يعكس المشهد لحظة تعزيم في حضور هستيري تتمايل فيه الأجساد وتتساقط، وتشده الأفواه، وتنقلب العيون، وتشرئبُّ الأعناق في مشهد منكود من التوسُّل والشطح. تثير اللوحة الانتباه بالألوان الداكنة، مثل اللباس الشعائري للقديس دي لويولا ذو اللون الأصفر البرَّاق، ولعبة الظلال والأنوار الشهيرة في الفن الباروكي، واختصام الأضداد بين الملائكة الصغار باللون الأشقر والشياطين باللون الرمادي الداكن. المثير في اللوحة هو غياب التفاصيل وكأن اللون يتخطَّى حدوده ليطفح على المشهد، في إشارة واضحة إلى هيمنة اللون على الشكل. ليس المحتوى الديني للوحة الذي يثير الانتباه بل الصراع بين نزوعين متعارضين في أوج العصر الباروكي، بين نزوعٍ يتخلَّى عن مفاتن الصورة ليستبدلها بالشكل، ونزوعٍ يتحلَّى بالصورة لاستجلاء الأبهى في الصورة وهو اللون وما يتبعه من ظلال وأنوار وهالات وأكاليل. ثم إن العراك بين اللون والشكل ختم على القطيعة بين التصوُّر الحديث للفن الذي يُثير الأحاسيس ويحزُّ في النفس شيئًا ما، والتصوُّر الديني الذي كانت له بالأحرى مهام تربوية وروحية في الإرشاد والموعظة. يمكن القول بأن اللون ومَيْل الفن نحو الإثارة سنَّ تلك القطيعة.

غير أن القطيعة بين الفن والدين ليست القطيعة بين الفن والروح. بل إن الفن كان أكثر روحانية بما يعكسه من مشاعر أقل ما نقول عنها بأنها «شُعُور أقْيَانُوسي» إذا جاز لنا استعارة عبارة رومان رولاند أوردها في رسالةٍ إلى المحلل النفسي سيغموند فرويد بتاريخ 5 ديسمبر/كانون الأول 1927. الشعور الأقيانوسي هو الشعور بالسَّرمدي في اللحظة الراهنة؛ اعتناق المطلق في النسبي. يُوفِّر الفن هذا الشعور العميق عندما ينتشل النفس من شرطها المادي لضرورات الحياة ويفتح نوافذ على الروح تتيح تهذيبها. حتى عندما يترجم الفن الانفعالات والأحاسيس والأهواء، فهو يُغلِّفها بالألوان ويهبها شكلًا من الروحانية، ليس بموجب قداسة يُضفيها عليها من خارج شرطها الحسِّي كما كان يتصرَّف الفن الديني، بل يرتقي بالحس إلى المعقول ويُطلي على الفن نسيمًا من الروح. هكذا تُصبح الصنائع روائع والاستعدادات مواهب وتكتسب «التُّحفة» الفنيَّة الجدارة التي تستحقها بأنها «تُتْحِف»: تَسُرُّ، تُمتع، تُسعد، تُطرب. بهذه المهمَّة الجديدة للفن وهي «الإتحاف» بما يَسُرُّ ويُمتع، ولج الفن الحديث في بارادَايْم الجمال تحت العنوان العريض «الفنون الجميلة» (Fine Art). تواقت ذلك مع حدثين مهمَّين، في مقام ثورة في الوعي، وهما تأسيس «علم الجمال» من جهة، أي إثبات نسبة الفن إلى الإحساس بدءً من الجذر الإغريقي (aisthêsis) الذي أعطى (aesthetics)، ذلك الجذر الذي كشف عنه ألكسندر بَاوْمغارتن (1714-1762) وبنى عليه معرفة حسيَّة مساوقة (analogon) للمعرفة العقلية، و«التنوير» من جهة أخرى أي انتصار قيم العقل والحرية والتقدُّم، بوضع الفن في أفق التوازن العقلي بعد الفترة المحمومة بالانفعالات والفخامات التي ورَّثها عصر الباروك. بظهور الفنون الجميلة، أصبح «الجمال» مقولة جديدة، بعدما كان الفن مجرَّد صناعة يدوية كغيرها من الصنائع في مقابل الصنائع الليبرالية مثل النحو والبلاغة والجدل والهندسة. جرى الانتقال من الفن «مُعلِّمًا ومُربِّيًا» إلى الفن «مُمتعًا ومُسرًّا». لأجل ذلك تشكَّلت مجموعة من الأدوات والمصطلحات الداخلة في تحديد هوية هذا العلم الجديد الذي ستنتقل بموجبه الصورة إلى فضاء جديد من التقدير.
- الصُّورَة ومَقُولَاتُها: الجَلِيل، الذَّوْق، العَبْقَريَّة
كيف أصبح هذا العلم الجديد ممكنًا؟ لا يمكن الفصل بين الحدثين المهمَّين (الجمال والتنوير) عن حدث آخر هو نظرية المعرفة كما تبلورت في العصر الحديث، انطلاقًا من ديكارت (1596-1650). يتعلَّق الأمر بالفاصل بين الذات والموضوع لضمان معرفة يقينية لا تشوبها خدائع الحس. ستكون سيرورة الجمال عكسية، وهي أن الخصائص الحسيَّة لا توجد في موضوع مستقل عن الذات، بل في هذه الذات بما هي مركز الإحساس والإدراك ورأس الحُكم والتقدير. اللقاء بين عالم الحس البرَّاني (الموضوع) ومصدر الحساسية الجوَّاني (الذات) هو نقطة التَّماس التي تنشأ عنها الأفكار عمومًا (جون لوك، ديفيد هيوم)، والأفكار الجمالية على وجه التحديد. ومن ثمَّ فإن الجمال هو انطباع ذاتي نابع من الفرد الذي يختبره، ولا يوجد في عالم مستقل هو عالم الفكرة الناصعة والمفارقة بالمعنى الأفلاطوني. لا وجود للجمال-في-ذاته، بل الجمال بالنسبة للذات، وأشياء جميلة تختبرها هذه الذات. فضلًا عن ذلك، إذا كان الجمال قد عقد علاقة متينة بالأخلاق والعلم منذ البدايات الإغريقية وإلى غايات الفن في العصر الوسيط والنهضة، جرى عزل الجمال عن الأخلاق (الطريقة) وعن العلم (الحقيقة)، من حيث أن مهمَّة الجمال ليست التهذيب أو حُسن السليقة أو بلوغ معرفة يقينية، بل هي مهمَّة كامنة في الجمال نفسه بالحَمْل على الاختبار والتذوُّق والحكم. أصبح هذا الفاصل ممكنًا بمَيْل العصر نحو العقلنة من جهة (عزل الانفعالات)، والعلمنة من جهة أخرى (القطيعة مع الفن الديني).
ما موقع الصورة الفنيَّة في ثورة الوعي الحديثة التي حصلت على مشارف عصر التنوير؟ اتَّخذت الصورة في هذه المساحة دلالة «الانسجام» بين الكل والأجزاء وارتبطت بالجمال المطلق في اختلاف عن الجمال المقيَّد. أما الجمال المطلق فهو الأبعاد المنسجمة بين الكل والأجزاء، بين الهيكل والهيئة التي يتَّسم بها؛ وأما الجمال المقيَّد (النسبي) فهو الذي ينتسب إلى أمر آخر. الجمال المطلق في الموسيقى هو القُدرة على ابتكار لحن جديد انطلاقًا من النوتات، والجمال المقيَّد هو استعمال أقوال ملحونة مستعارة أو مستوحاة من الغير. كذلك، الجمال المطلق في المعمار هو الانسجام بين الهيكل العام والأجزاء المركبَّة له، والجمال المقيَّد هو كل بناية ملائمة، سهلة الولوج، وتُوفِّر منافذ وفوائد عملية. يدخل الانسجام في تحديد طبيعة الجمال وفي الوقت نفسه في هوية الصورة التي هي «كُلٌّ شامل» يشدُّ أجزاءه ويتعزَّز بأجزائه. بعدما كانت الصورة في الفن الباروكي متخمة الألوان والوقائع المثيرة، أضحت في مساحة التنوير متَّزنة وإن كانت الروح الباروكية لم تختفِ كليَّة وتجلَّت على وجه الخصوص في «أسلوب الروكوكو». إذا لجأنا إلى الأدوات التي اعتمدت عليها الصورة في تلك المساحة الفلسفية والفنيَّة، فإنها تتلخَّص في ثلاث مقولات وهي: الجليل والذوق والعبقرية. الأول هو خارج الذات، والثاني هو داخل الذات، والثالث على التخوم بين الخارج والداخل.
(أ) الجليل (sublime): هذه المقولة هي من بقايا الباروك وإن كانت تأتي من غياهب «الكَاوْس» المتحكَّم فيه عند الإغريق، وتنعت الجسيم والعجيب الخلَّاب. إذا كان الجميل هو الجميل المقيَّد، فإن الجليل هو الجميل المطلق. لكن، فيما يتَّسم الجميل بالتوازن والنظام، فإن الجليل يتميَّز بالاضطراب والارتباك. الجليل تناقض في الحدود، يُعبِّر عن رهبة تنجرُّ عنها متعة. مثلًا، عاصفة يكون فيها المشهدُ مروِّعًا وفي الوقت نفسه رائعًا، أو وضعية خطيرة ينجرُّ عنها الانفراج واختبار متعة الإفلات من الهلاك. يُعدُّ نظام التمثُّل همزة وصل بين المشهد وما يختبره المشاهد ما دام الجمال لا يطرأ في الأشياء، بل في الطريقة التي يتلقَّى بها المشاهد الانطباعات. إذا كانت البدايات الأولى للجليل هي بلاغية، بلجوء الفصيح إلى لغة نابية وحادَّة في تصوير مشهدٍ مروِّع يحزُّ الرهبة في النفس أو مشهدٍ رائع يثير الرغبة والشوق في النفس، فإن الاستعمالات الحديثة هي جمالية محضة، انتقلت فيها الصورة من الكثافة إلى الخفَّة، ومن التكلُّف إلى التعفُّف. تجربة الجليل هي التوفيق بين وضعتين متناقضتين تظهران في شكل إرداف (oxymoron)، بين الرهبة والمتعة. تجربة الجليل هي التحكُّم في الارتياع بإقحام التوازن في التبعثر أو تهذيب الجسيم. فضلًا عن كونه تجربة جمالية، الجليل هو كذلك تجربة روحية بالوقوف موقف الشَّدَه أمام اللانهائي في الكون (كوسموس) وبالشعور الأقيانوسي الذي يثيره هذا اللانهائي.
(ب) الذَّوق (taste): يُمكن تحديد الذوق على أنه حس باطني بدون عضو ظاهر. إذا كان اللسان هو عضو ظاهر لانطباع داخلي من جرَّاء تذوُّق شيءٍ ما على سبيل المتعة أو الاشمئزاز، فإن معنى الذوق هو استبطان الحس. فهو تجربة فَوْرية بمجرَّد الاتصال بموضوع الذوق ليُسدل الحكم في الحال. لأجل ذلك وضع إيمانويل كانط هندسة معرفية يكون فيها الحكم المعرفي تحت سلطان مَلَكة الفهم التي تُغربل الانطباعات الحسيَّة وتُجبيها للعقل الخالص، ويكون الحكم الجمالي تحت سلطان الخيال الذي يلتقط الأجزاء المدركة عن الانطباعات الحسيَّة ويُجبيها لملكة الفهم. يُسمِّي هذه الجباية «اللَّعِب الحر للملكات». يقف الذوق على عتبة مزدوجة وهي العالمية والفردية، من حيث أن الذوق يختصُّ به كل فرد يختبر شيئًا ما، ومن حيث أن الذوق مشترك عندما يتعلَّق الأمر بتحفة فنيَّة جذَّابة لا اختلاف حولها. في الحالة الأولى، صورة الذوق هي خاصَّة وفي الحالة الثانية هي عامَّة. يتَّضح من ذلك أن التنوير استعاد المبحث الذي طغى في النهضة وهو أن الحكم الجمالي ليس في الأشياء، بل في القوابل التي تختبره، إذا عرَّفنا «القَابِل» على أنه المتلقِّي لانطباعٍ حسِّي يعمل على صياغته في الحُكم.
(ج) العبقرية (genius): نعت كانط العبقرية بأنها منَّة من الطبيعة. لا يستلهم العبقري من خارج أعماقه الغائرة. فهو يستلهم من قُدرته على ثقف الأشياء بخفَّة وفي صورة شاملة. العبقرية هي إذًا موهبة غير قابلة للكسب أو التحصيل. يمكن تعلُّم فيزياء نيوتن أو نظرية التطوُّر عند داروين، لكن لا يمكن تعلُّم مواهب الريشة التي خلَّدت أعمال رفائيل الفنيَّة. إذا كانت الأفكار العلمية تُكتسب بالمفهوم الخالص، فإن العبقرية في الفن هي مسألة حساسية وحدس وخيال واسع وخلَّاق؛ هي في الوقت نفسه استعداد ذاتي واختصاص روحي. غير أن هذه الطاقة الروحية بحاجة إلى تهذيب بقواعد الفن التي تُبرز الألمعيَّة في العمل الفنِّي. ليس العمل الفنِّي سوى موهبة متجسِّدة. لا يمكن محاكاة الموهبة، لكن يمكن تحسين القُدرات الذاتية بالاشتغال المستمر على المَلَكات وجعلها في مقام الإبداع والإجادة. ينبري من ذلك أن الصورة هي الكيفية التي يتمُّ بها صقل المواهب للوصول إلى اكتمال خلَّاق. ليست الصورة فحسب ما يتمُّ صناعته من تُحف وروائع، بل هي تلك الموهبة بوصفها دافعًا نحو الجودة والإتقان. العمل الفنِّي هو تجسيد للصورة (الفنيَّة) والصورة هي محرِّك العمل الفنِّي بالدَّافع والرغبة.
تُشكِّل هذه المقولات الثلاث أعضاء الصورة وأدواتها في التجسُّد في العمل الفنِّي. لم تتجسَّد الصورة بالصيغة نفسها عبر الأعمال الفنيَّة في التاريخ، تتأرجح بين العظة في الفن الدِّيني والمتعة في الفن الحديث. اكتست الصورة، من الدين إلى الحداثة، سرابيل مزركشة؛ تعزَّزت، وشعَّت، وتشعشعت، وستَّتخذ في الأزمنة المعاصرة حلية جديدة، ما بعد حداثية من جهة، وافتراضية من جهة أخرى بفضل التطوُّر المذهل للتكنولوجيات الحديثة. سيكون المقال القادم نظرة في هذه التحوُّل الحرباوي للصورة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
المراجع
Barthes Roland (1964), « Rhétorique de l’image », Communications, 4, « Recherches sémiologiques ».
Da Vinci Leonardo (1987), Traité de la peinture, trad. André Chastel, Paris, Berger-Levrault.
Didi-Huberman Georges (1990), Devant l’image. Question posée aux fins d’une histoire de l’art, Paris, Minuit.
Eldridge Richard (2003), An Introduction to the Philosophy of Art, Cambridge University Press: New York.
L’Atelier esthétique (2014), Esthétique et philosophie de l’art. Repères historiques et thématiques, Louvain-la-Neuve, De Boeck Supérieur, coll. « Atelier philosophique ».
Lichtenstein Jacqueline (1989), La couleur éloquente. Rhétorique et peinture à l’âge classique, Paris, Flammarion, coll. « Idées et Recherches ».
Panofsky Erwin (1989), Idea. Contribution à l’histoire du concept de l’ancienne théorie de l’art, trad. Henri Joly, Paris, Gallimard.
Rousset Jean (1953), La littérature de l’âge baroque en France, Paris, J. Corti.
Talon-Hugon Carole (2014), Une histoire personnelle et philosophique des arts. Moyen Âge et Renaissance, Paris, PUF.
Tsakiridou C.A. (2013), Icons in Time, Persons in Eternity: Orthodox Theology and the Aesthetics of the Christian Image, Ashgate Publishing: Burlington.
Wirth Jean (2022), Art et Image au Moyen Âge, Genève, Droz.
Wunenburger Jean-Jacques (2016), Esthétique de la transfiguration. De l’icône à l’image virtuelle, Paris, Cerf.