لتحميل الحوار : حوار عادل حدجامي
1- نشكركم دكتور عادل أولًا لقبولكم هذه الدعوة؛ وفي بداية حوارنا هذا نود أن نعرف بعض الأمور عن مساركم الجامعي، كيف وقع اختياركم على الفلسفة كتخصص؟ ومَن مِن الفلاسفة رافقكم في مستهل مشواركم الجامعي؟
دخلت الجامعة طالبًا في أواسط التسعينيات، وبالضبط جامعة محمد الخامس بالرباط، كانت الفلسفة حينها لا تدرس إلا في مدينتين هما الرباط وفاس، وكانت بين هاتين المدينتين اختلافات في فهم معنى الفلسفة ودورها، ولعل عناصر من ذلك ما تزال قائمة إلى اليوم. في الرباط، الشعبة الأكبر، كان البحث ينطبع بالبعد التأويلي، وهو ما جعل منها أحد أهم معاقل الفلسفة المعاصرة في المغرب، بل وفي العالم العربي، إذ كان أساتذة الرباط، بهذا المعنى، أكثر «انفتاحًا» على قضايا الفلسفة العامة، وأكثر جرأة على اقتراح أدوات التحليل؛ ولعل أهم من جسد هذا، عند عامة الناس، كان هما الأستاذان عبد الله العروي (الذي كان أستاذًا بشعبة التاريخ)، ومحمد عابد الجابري، أما في فاس فكان يغلب البعد الفيلولوجي، أو قل بعد «تاريخ الفلسفة»، والذي كان قوامه الكَلَفُ بالنصوص، ونصوص الفترة الإسلامية خصوصًا.
طبعًا لا يمكننا أن نرضى بمثل هذا التقسيم العام كلية، ناهيك عن أن هذه الأمور لم تعد قائمة اليوم، لكنها كانت كذلك حينها، ولعل هذا ما يفسر نوعا من «التنافس» الخفي الذي كان بين الشعبتين، والذي كان أهم تجسيد له النقاش الذي تعلق بابن رشد، والذي مثله في الرباط محمد عابد الجابري وفي فاس جمال الدين العلوي؛ فجمال الدين العلوي كان لا يولي أهمية كبيرة لأعمال الجابري بخصوص ابن رشد، ويعتبرها مجرد «تأويلات إيديولوجية»، وكان يرى أن الاشتغال على ابن رشد ينبغي أن يبقى لصيقًا بمتنه فيلولوجيا، أما الجابري فلم يكن يعتقد أن لمثل هذا الكلَف من أهمية، وردّه عن هذا واضح في مجموعة من نصوصه. والحقيقة أني حضرت رده المباشر عليه في مناقشة رسالة دكتوراة يومها لأستاذ درس في فاس وناقش رسالته بالرباط، إذ قال، وسط مدرج الشريف الإدريسي، للأستاذ المناقش: «هذا العمل عندما تنتهي منه ضعه في الرف كما سابقيه، إذ لن يقرأه أحد». وفي هذا رد على نقد الرشديين «الفاسيين»، كونه لا يعتبر هذا النزوع الفيلولوجي غير نزعة «نصية» جديدة، أو قل نزعة استشراقية مضاعفة كما قد تفهم اليوم.
أما عن اختياري للفلسفة فلم يكن اختيارًا حقيقة، إذ إنني تعلقت بالفلسفة وأنا في الإعدادي، وقد كانت العلة وراء ذلك ما قد أسميه بطبيعتي التأملية التي لا أجد لها تفسيرًا مباشرًا، وأذكر أنني كنت حينها ألتهم نصوص جبران خليل جبران بنهم شديد، بل وأحفظها، إذ كنت قد حصلت، بالصدفة، على أعماله الكاملة، العربية والمترجمة، فصار جبران خليل جبران بلغته البديعة وروحه الشاعرية ومسحته الفلسفية، رفيقي المهيمن وبعمق، لفترة غير قصيرة من مراهقتي. تزكى كل هذا في المرحلة الثانوية، حيث أذكر أنني، ومنذ أول حصة في مادة الفلسفة، والتي كان يقدمها لنا أستاذ شاب لامع أتى من الرباط حينها إلى مدينتنا التي تقع في أقصى جنوب المملكة الغربي (الداخلة)، أقول إنني أذكر كيف عرفت من أول درس وأول حصة أن هذا طريقي، وأن غاية ما قد أبلغه هو أن أدرس الفلسفة، وهو ما تحقق بعدها، فتوجهت للفلسفة رغم تفوقي في الأدب الفرنسي والعربي (كنت وما أزال مهتمًا جدًا بالشعر القديم)، وحتى درس الأحياء، فكان ما كان.
2- تُوِّجت مسيرتكم الجامعية بأطروحة عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز والتي صدرت في كتاب بعنوان: «فلسفة جيل دولوز حول الوجود والاختلاف» (توبقال للنشر، 2012)، ما قصة هذه الأطروحة اللافتة، وما الصعوبات العلمية والفلسفية لكتابة بحث عن فيلسوف لم يترجم له حينذاك إلا القليل؟
هذا نص بيني وبينه الآن ما يناهز 23 سنة، وكما تفضلتم فقد كان في الأصل أطروحة جامعية بدأت بها مساري الجامعي، بإشراف مباشر من الأستاذ محمد سبيلا الذي فارقنا منذ أشهر رحمه الله. كانت الأطروحة في الحقيقة استئنافًا لعمل أساتذة لي في الشعبة والكلية المذكورة، إذ إن مجموعة من هؤلاء الأساتذة، وعلى رأسهم عبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا، حاولوا تكوين متخصصين في الفلسفة المعاصرة، بل وفي متون فلسفية محددة اشتهرت بصعوبتها، هكذا وجدنا في هذه الشعبة شبابًا تجردوا لدراسة وفهم بعض أهم الأسماء الفلسفية المعاصرة، وباللغة العربية، وهذا هو الأهم.
فيما يخصني أنا كان جيل دولوز هو ما وقع عليه الاختيار، بعد أن كنت أنجزت دبلوم دراسات عليا معمقة في هابرماس، وأنت ترى معي حجم التحول والتغيير هنا، فأنجزت هذا العمل في فترة قاربت 9 سنوات. طبعًا لا يمكن أن أقول إن الأمر كان سهلًا، ولو أن لا شيء سهل في البحث جملة. أول صعوبة تتعلق بدولوز كونه كان ولا يزال واحدًا من أعقد الفلاسفة المعاصرين في الغرب، وهذا له أسباب جزئية، بعضها يخص أسلوبه ولغته، فهو لا يكتب بالأسلوب المدرسي، وهذا كان سببًا لنفوري منه أول الأمر؛ أنا الذي كنت متشبعا بـ«الكانطية» حينها. وبعضها الثاني يمس طبيعة فلسفته، فدولوز لا يمارس الفلسفة، بل يمارس ما قد نسميه فلسفة للفلسفة، أو لنقل فلسفة فوقية، ومعناه أنه فيلسوف يضع تاريخ الفلسفة كلها موضع مساءلة، لهذا فأنت لا يمكن أن تقرأه إلا وفي ذهنك كل تاريخ الفلسفة مطويًا.
تنضاف إلى هذا صعوبة أخرى تتمثل في كون دولوز فيلسوفًا لا يمكن أن «يضبط» مدرسيًا، إذ إنه فيلسوف لا ينتمي إلى مذهب كما اعتدنا مع المفكرين، فأنت لا تجد عنده «مضمونًا» أو «غايات» يناضل من أجلها، أي أنك لا تجد عنده تصورًا إيديولوجيا أو تلخيصًا لحقيقة الأشياء، بل تجد «ممارسة» للتفكير وفق نمط نيتشوي مدفوع إلى حده الأقصى، وهذا الأمر لا يتطلب منك التمكن من العناصر المنهجية اللازمة فقط، أي اللغة الفرنسية والمعرفة الخاصة بتاريخ الفلسفة، بل قدرة ذهنية أيضًا، وأكاد أقول استعدادًا وجوديًا لتقبل هذا النمط في التفكير، لأنك أمام رجل يتحدث ويكتب ويفكر وفق منطق تعددي خالص. وإلى اليوم مازلنا نجد في فرنسا عينها، كما في أمريكا، تهيبًا كبيرًا من فلسفة من هذا النوع، فالمتخصصون فيها قلة، أما الأغلبية فغاية ما قد يفعلوه معها هو أن يحولوها إلى جملة أحكام قد لا تمت بكبير صلة إلى المتن، من مثل امتداح التعدد والاختلاف والقول بإبداع المفاهيم، وهذا قول لا قيمة كبيرة له حقيقة، لأن السؤال يظل مطروحًا حول المقصود بالتعدد والاختلاف والمفهوم. أضيف إلى هذه الصعوبات واحدة أخرى، وهي الغياب التام للنصوص الوسيطة حينها، إذ أذكر أنني حين بدأت في البحث في الرجل، سنة 2001 بالضبط، لم أجد شيئًا عنه بالعربية، ما عدا بعض الإشارات هنا وهناك، وترجمة لكتاب واحد لم تكن موفقة كل التوفيق، بل حتى في الفرنسية لم تكن هناك كتب وسيطة اللهم واحد أو اثنين مغرقين في التخصص، هكذا لم أجد أمامي غير كتب الرجل، صماء قاسية تنتظرك لتقتحمها، وهو الأمر الذي أخذ مني سنين طويلة.
وفي الحقيقة، فإنني كنت راضيًا عن كل هذا الجهد، لأني ما دخلت إليه كما خرجت، إذ إن ما قضيته معه لم يمكنني، معرفيًا، من تكوين نفسي في الفلسفة معاصرة فحسب، بل أهلني لأمتلك مفاتيح ما زلت أتوسل بها في فهم بعض عناصر عالمنا المعاصر.
3- من الملاحظ لمن يتابعكم أنكم تهتمون اهتمامًا واسعًا بالعديد من الفلاسفة، فقد كتبتم عن أرسطو وميكيافيلي ونيتشه ودولوز بالتأكيد، كما قدمتم سلسلة من المحاضرات بصدد عدد غير قليل من الفلاسفة، من مثل سبينوزا وهيغل وغيرهما؛ ما الخيط الناظم لهذه الاهتمامات المتشعبة؟ وكيف تمكنتم من الجمع بين هذا الكم الضخم من الفلاسفة؟
هناك كيفيتان في النظر لهذه المسألة، ذاتية وموضوعية، ولا أريد أن أتحدث هنا إلا من وجهة النظر الموضوعية، فيم يمكن أن يكمن النفع اليوم من الاهتمام بمثل هؤلاء الفلاسفة؟
هذا الأمر يجرنا إلى سؤال أعمق وأعم وهو: فيما يمكن أن تنفع الفلسفة عمومًا؟ جوابًا عن هذا السؤال نحتاج أن نفصل قليلًا. الذي يبدو لي هو أنه من غير الممكن أن نؤسس لأي فعل عملي، أخلاقيًا كان أو سياسيًا أو حتى اقتصاديًا، إلا على أساس فكرة كامنة أولى، إذ لا وجود لفعل «واع» دون أن يكون محكومًا بمسبق ما أقرب ما يكون إلى «اللاوعي»، أي بتصور مضمر ما عن الغاية من هذا الفعل ونتيجته ودلالتها. على هذا الأساس لا يمكن أن نعمد إلى «عمل» معين دون «فلسفة» ما تجعله في النهاية ممكنًا، مهما ادعى هذا الفعل التحرر من المسبقات. ولعلني أحتاج لأمثلة أكثر قربًا للتوضيح. لننظر في سلوك الأشخاص الأكثر عملية اليوم، ولنقل إنهم أرباب السوق والتجارة العالمية والبورصات الدولية. مهما ادعى هؤلاء التحرر من المسلمات النظرية والتعلق المحض بما هو عملي، فإنهم في النهاية يظلون محكومين بأساس نظري محدد قد يكون شيئًا شبيهًا بـ عبارة «إن البحث عن الفائدة هو المحرك لكل فعل بشري». وعلى هذه المسلمة المضمرة ينبني عنصران اثنان، أولهما اقتصادي وثانيهما سياسي: من الناحية الاقتصادية نجد الاعتقاد الضمني في كون السوق قادرة على تنظيم مصالح الناس أفضل من أي كيان سياسي، وهو ما يؤدي بنا، من الناحية السياسية إلى اعتقاد آخر قد يكون هو «إننا حتى نحقق سلطة “السوق- المرجع”، لا بد لنا أن ندعم الخوصصة ونسعى إلى الحد من تدخل الدولة بأكبر قدر ممكن»، وهذا هو جوهر ما نسميه نحن فلسفيا بالاتجاه النفعي أو الذرائعي، والذي عنه تولد الاتجاه البراجماتي، أقول هذا دون أن أستشكله فلسفيا لأن ذلك سيذهب بنا بعيدًا.
إذا كان الأمر كذلك، وكان خلف كل سلوك عملي تصور فلسفي كامن، مهما ادعى التحرر منه، فإن دور الفلسفة سيكون بيان المطويات النظرية، غير المفكر فيها، التي تسكن سلوكًا عمليًا ما، ومن ثمة تعرية «المسلمات» الثقافية والسياسية والسلوكية الكامنة التي تحكم الاقتراحات الحضارية للأمم، إذ لا وجود لنظام مهما كان، كما قلنا، لا يستند إلى رؤية ما عن معنى الإنسان ودوره وقيمته في العالم، أي لا يستند إلى «فلسفة» ما في معنى الوجود والاجتماع والعيش. في سياق هذا الأمر، وهنا يدخل العنصر الذاتي، يبدو لي أن ما أخذ باهتمامي دائمًا وبدا لي حريا بالتزكية، هو التصورات الفلسفية التي تقول «نعم» للحياة، أي تلك التي تنتصر للحياة، لا أقصد هنا بالانتصار للحياة المعنى الاستهلاكي الفج ولا الخطابي الساذج، بل المعنى الحيوي العميق «المرح-التراجيدي» في آن. على هذا الأساس يتفاضل عندي الفلاسفة، وعلى هذا الأساس يبدو لي بعضهم، ولاعتبار موضوعي وشخصي معًا، أحرى بالاهتمام من آخرين.
لنأخذ مثالًا عمليًا على كل هذا، ولننظر مثلًا في فيلسوفين متقاربين، ديكارت وسبينوزا. أعرف ديكارت معرفة جيدة، بيد أني لا أجد أنه، خارج المستوى التعليمي، فيلسوف يضيف الكثير، لماذا؟ لأنه ليس جذريًا بما يكفي، فالاحتفاء بالعقل، على ما في العقل من حدود عند ديكارت، والتغني بحرية الإنسان وتفوقه، لم يكن إلا لينتج ما نراه اليوم من حرب على الطبيعة والكائن، حرب تهدد وجود الإنسان بعينه في عالم اليوم كما نعلم. لكنّ فيلسوفًا آخر مثل سبينوزا همني أكثر، لماذا؟ لأن عقلانيته ليست شعاراتية أو شكلية أو جزئية، إذ هو لا يكتفي بالبعد «المعياري» في معنى العقل، أي أنه لا يقف عند حدود القول إن هذا عقل وهذا لا عقل، بل يدفع العقلانية إلى حد البحث عن «منطق» ما نعتبره «لا عقلًا»، فيقول في الكتاب الرابع من الإيتيقا: علينا أن نفكر في الانفعالات باعتبارها موجودا هندسيًا ولا نكتفي بذمها كما فعل ديكارت، إذ الذم إن كان يريحنا أخلاقيًا، فإنه يمنع الفهم نظريًا، وبذلك فهو لا يحل المشكل عمليًا.
على هذا الأساس يمكن أن أجيب فأقول، إن الخيط الناظم الجامع بين كل من انهممت بهم هو «عقلانيتهم» الجذرية هذه، كونهم كانوا فلاسفة بالمعنى القوي، فلاسفة أسسوا أنطولوجيات تذهب إلى حد وعي حدود الفلسفة والعقل نفسيهما؛ كونهم فلاسفة لم يسلموا في لحظة للنزعات الأخلاقوية أو الخطابية التي تكتفي بقول «ينبغي أن»، وهو ما يعني في النهاية «ينبغي أن تتوقف»، بدل دفع الفكر إلى حدوده القصوى. لا أطرب مطلقًا لهذا الخطاب، ولا أعتبره فلسفة حتى، إنه مجرد نوع من الإيديولوجيا التي تخلق نظاما فوقيًا لما ينبغي التفكير بحسبه وبالتالي لما ينبغي العيش بحسبه، فكل إيديولوجيا تنتهي إلى القمع، حتى ولو تزيَّت بشعارات نظرية براقة من مثل «الالتزام» والعقلانية والمسؤولية وغيرها من الشعارات، ونحن نعرف ما جنته كل خطابات الالتزام هذه، سواء عندنا أو في العالم. إذ باسم الالتزام هذا، سواء كان عرقيًا في ألمانيا النازية، أو ثوريًا في الاتحاد السوفياتي، قُتل مئات آلاف الناس، بل ملايين؛ وباسم الالتزام القومي أو الديني أو الثوري عندنا، ذات ستينيات وسبعينيات بل وحتى اليوم، فرضت الوصاية على الناس واغتصبت حرياتهم وزج بهذه المنطقة وشعوبها في مغامرات عسكريتارية وشعبوية هي المسؤولة عن جزء كبير من جراحنا اليوم، وكل هذا بسبب أشخاص اعتبروا، باسم الالتزام الثوري أحيانًا، وباسم الالتزام القومي أو الأخلاقي أو العقدي أحيانا أخرى، أنهم أعرف من الناس بما ينبغي أن يفعلوا بحياتهم.
4- يواجه المتفلسف العربي سؤالاً عتيدًا يتعلق بمشروعية مسماه من جهة، ووجوده من جهة ثانية، كيف تعرِّفون المتفلسف العربي ومن هو الفيلسوف من وجهة نظركم؟
هذه قضية قديمة في ثقافتنا، بل أقول إنها اليوم أخف بكثير مما كانت عليه في السابق، المشتغل بالفلسفة والعلم غير الشرعي عمومًا، سواء كان منطقًا أو كيمياء أو تنجيما أو غيره، كان دائمًا يلاقي نوعا من الرفض في مجتمعنا القديم، وهذا ما تجسد في قضايا عديدة لعل أشهرها قضية اضطهاد ابن رشد، والتي لم تكن إلا امتدادًا لنقاشه مع الغزالي. كان لهذا الأمر نتيجة أخرى، وهي أن كل المشتغلين بالفلسفة في العالم الإسلامي قضوا جزءًا من جهدهم ووقتهم في إثبات «جواز» التعاطي للفلسفة، أو الحكمة بمسماهم، وجواز الاهتمام بعلوم الأوائل، وهذا لم يسلم منه حتى الذين اشتغلوا بالعلم الأكثر تجريدًا مثل الرياضيات، على عكس ما يقال.
لكن لماذا كان الأمر يطرح هكذا؟ الجواب بسيط للغاية، وهو أن الأسئلة التي تهتم بها الفلسفة، خصوصا قضايا الأسس والوجود بمعناه الأول، هي أسئلة محسومة دينيًا، فمسألة أصل الوجود والغاية منه، وبالتالي كيف ينبغي أن يسلك الأفراد في حياتهم، هي أمور قطع فيها المعتقد بأجوبة نهائية، لهذا فكل ادعاء للتساؤل حولها، ناهيك عن ادعاء تقديم أجوبة أخرى عنها مختلفة عن الأجوبة الدينية، هو مرفوض ابتداءً. في الدين الأجوبة سابقة عن الأسئلة دائمًا، فلا يبقى إلا أن ننظر في الكيف الذي «نسقط به الأحكام على الوقائع»، أما في الفلسفة فالأجوبة تأتي لاحقة عن الأسئلة دائمًا، لهذا يكثر الفلاسفة من الحديث عن الشك والتساؤل والبحث، ويركز الدين على أهمية الطمأنينة واليقين والإيمان. ليست الغاية عندي من هذا أن أقول إن إحدى هاتين الفاعليتين، الإيمان والتفكير، هي على حق، والثاني على خطأ، وإلا فربما الدين «أقوى» حجية من الفلسفة في القضايا الميتافيزيقية خصوصًا، على اعتبار أن الفلسفة قطعت مع أسئلة الغيب منذ ثلاثة قرون، حين اعتبرت أن لا سلطة للعقل على ما لا يقبل القياس، أي ما يتجاوز «الحساسية» بلغة كانط، بل الغاية عندي أن أتبين الفروق المنهجية والمبدئية التي توجد بين هاتين الفاعليتين الأساسيتين.
التحول الذي يحصل اليوم يكمن في كون الاعتراض على الفلسفة يأتي لأسباب أخرى، لا تتعلق بالدين حصرًا، ولا من الصراع حول حجية التساؤل في القضايا القيمية والوجودية، إنه يأتيه باعتبار «وضعي» خالص، ولهذا فإن الفلسفة، من جهة ما هي معرفة، تعيش أزمة اليوم حتى في معاقلها التقليدية الكبرى، أقصد ألمانيا وفرنسا. الاحتجاج على الفلسفة اليوم يأتي باسم «فلسفة» معينة هي النزعة التجريبية والعلموية الجديدة، وأقصد بهذا الأمر التصور الذي ينبني على اعتبار أن كل ما لا «يقاس» ليس موضوعًا للمعرفة، وبالتالي فكل معرفة لا تنتج «مقيسًا» لا قيمة لها؛ هكذا تجد أن كل العلوم التي تشتغل بالمعاني والقيم وأسئلة الغاية تبدو اليوم في أزمة. ينضاف إلى هذا الأمر هيمنة الإيديولوجيا «التطبيقوية» و«الأعمالية»، وهذه إيديولوجيا قتلها الفلاسفة والمفكرون المعاصرون نقدًا وتحليلًا، وضدها تنبعث اليوم اتجاهات فكرية جذرية تبين كيف أن هجرة أسئلة المعنى والغرق في البعد التطبيقي هما الأصل في أخطر تهديد يحياه العالم اليوم وهو التهديد الإيكولوجي، إذ إن الكامن العميق لهذه الإيديولوجيا هو النظر إلى الطبيعة باعتبارها موضوع انفعال خالص، أو قل موضوع تسخير ساكن، إنها شيء «فارغ» من المعنى، أي أنها مجرد امتداد غفل، الغاية منه أن يكون موضوعًا لفعل الإنسان الظافر. بيد أن الذي يتبين لنا مما يحصل اليوم، هو أن هذه العلاقة العمودية وهذا التصور التقابلي عن معنى الإنسان والطبيعة خاطئ، بل وخطير، فالإنسان ليس شيئًا يفعل في الطبيعة، بل هو شيء يوجد في الطبيعة وبها، إنه هو عينه طبيعة؛ وهكذا فلا يمكن، كما حصل مؤخرًا، أن تغير من تركيبة الطبيعة دون أن تغير من تركيبة الحياة كلها، وضمنها الإنسان، فيحصل أن يصير ارتفاع درجة الحرارة، سببًا يجعل الكائنات المجهرية الاستوائية تصعد من مجال حياتها «الطبيعي» إلى مناطق أخرى، فتحصل الأوبئة. ما نتعلمه من هذا هو أن الإنسان ليس «منقطعًا» عن الطبيعة، إنه كائن متصل بباقي الكائنات، متصل حتى بهذا الحيوان البري الذي انتقل منه الفيروس في الصين، بحسب ما يقال رسميًا، والذي لم نكن نعرف حتى بوجوده قبل الجائحة. ما نتعلمه من هذا هو أن الفيروسات، هذه الكائنات الصغيرة «الحقيرة» التي «ليست حية» حتى، يمكن أن توقف حركة البشر وآلاتهم الضخمة وطائراتهم النفاثة ومعاملهم الجبارة لأشهر طويلة، بل وتقتل منهم مئات الآلاف، والبقية تأتي. النزعة العلموية تخبرنا أن الطب يتمكن من القضاء على الأمراض، بيد أن الذي نكتشفه اليوم هو أن تطور الطب ينتج هو عينه أمراضه، كذلك الأمر في التغذية وأدوات الرفاهية وغيرها، هكذا تكون أطعمتنا الصناعية الغنية قد أبعدتنا عن الجوع نعم، لكنها قربتنا من أمراض السكري والضغط والقلب، حتى أن البدانة التي كانت زينة إلى عهد قريب، تصير مرض العصر الأخطر، وهكذا تكون أدويتنا وموادنا الحافظة والمبيدات والمنظفات الكيماوية التي تحيط بنا في المزروعات والمصنوعات والأطعمة واللباس والأثاث، قد أبعدتنا عن الحشرات والأوساخ والفاقة نعم، لكنها تقربنا من السرطان وأمراض الجهاز العصبي والغدد والتوالد والجينات.
عودة إلى سؤالكم، وبناء على كل هذا، من الفيلسوف عندي؟
رغم صعوبة السؤال، على اعتبار كون الفلسفة ليست «علمًا»، لنقل إنه الذي يملك تصورًا مختلفًا عن معنى الحقيقة، أي أنه من يستطيع إنتاج سؤال يجعلنا نخرج من «صندوق» الرؤية المسموح به، ويقدم الأدوات النظرية الكافية لتبين عناصر هذا الخروج وكيفية تحققه. والباقي مشتغلون بالفلسفة أو أساتذة للفلسفة أو مفكرون مجتهدون، وكثيرًا ما يتم الخلط بين هؤلاء، مدرسو فلسفة ومؤرخو فلسفة، والفلاسفة، والأمر عندي مختلف تمامًا، مثلما أن هناك اختلافًا بين الفنان ومدرس الفن، والعالم ومدرس أو مؤرخ العلم.
بهذا المعنى فالفلاسفة نادرون، نعم هم كذلك، لكنّ العلماء والفنانين والشعراء الحقيقيين هم كذلك نادرون جدًا، فالفنانون الذين غيروا معنى المنظور في الفن، والعلماء الذين فجروا مسلمات سابقة كانت تبدو تلقائية و«بديهية» في العلم، هم فعلًا نادرون جدًا. لهذا كنت لا زلت أعتبر نفسي أستاذا لتاريخ الفلسفة، وليس فيلسوفًا.
5- في هذا المقام أود أن أسألكم عن الفلسفة في العالم العربي، كما تعلمون بدأت الفلسفة العربية المعاصرة منذ قرابة القرن محاولةً لاستئناف تاريخ طويل من التفلسف كان قد انقطع عنهم (المتفلسفة العرب) نتيجة لظروف تاريخية وحضارية معقدة؛ في ظنكم ما هو مستقبل الفلسفة العربية؟ وكيف نربط إمكانية التفلسف للعرب المعاصرين بين ماضيهم ومستقبلهم الآتي؟ خاصة مع مستجدات الفلسفة المعاصرة المتعلقة بالجسد، والأعصاب، والبيئة، والحيوان؛ وهي قضايا ومفاهيم لم تطرح على مستوى الخطاب الفلسفي.
لستُ متفائلًا كثيرًا بهذا الخصوص، بيد أن هذا ليس لاعتبارات تقدير شخصي أو نزوع سلبي من طرفي، بل له أسباب وعناصر تفسير واضحة، أولها أن العالم كله، والذين يكتبون بالعربية ليسوا في ذلك استثناء، هجر الحرف وولج عالم الرقم. المكتوب المقروء اليوم، أي كل ما يتوسل باللغة الطبيعية حتى يكون، شعرًا أو أدبًا أو فلسفة، يعرف كسادًا، وهذا ليس عندنا فحسب كما قلت، بل هي مسألة عامة، وأنت ترى ذلك من تراجع نسبة مبيعات الكتب التي وصلت حدًا صادمًا. لا أريد أن أدخل في بيان أسباب هذه المسألة لأنها معقدة ومتداخلة، وكنت قد تطرقت لها في مناسبات أخرى، لكن سأقول على الأقل إنها ليست لأسباب أخلاقية، أي ليست عائدة لتقاعس أو تكاسل القراء كما يحب البعض أن يقول، بل هي عائدة إلى تحول مس معنى التواصل وقبلها معنى المجتمع والثقافة، وقبل هذا وذاك معنى الكائن في عمومه، وقد تجرد فلاسفة كبار لبيان هذا الأمر وبسطه. صحيح أن هناك انتعاشًا ما حصل إثر الجائحة والتغيرات الكبرى التي نحياها، لكنها تغيرات لن تمس هذا الأمر العميق الذي بدأت أسبابه منذ فترة طويلة.
عودة إلى سؤالك، كيف يمكن أن نعطي بعض الزخم لما نسميه فلسفة في هذه المنطقة من العالم اليوم؟
أعتقد بالاتصال والتعرف على ما يحصل في جهات العالم الأخرى، إذ توجد وقضايا مهمة جدا تطرح اليوم، لم ترق بعد عندنا لتصير موضوع اهتمام أو تدريس حتى، من ذلك قضية الحياة، بمختلف تشعباتها، أي قضية الإنسان من جهة ما هو «مادة»، وقضايا الحيوان، والبيئة، والجسد، والنوع ومسألة الطب والقانون. هكذا فقضية الحيوان مثلًا، حتى لا أذكر غير هذه، لا تطرح مطلقًا عندنا نحن، إذ لا جامعة ولا كاتب ولا باحث، في حدود علمي توجه لهذا الأمر، والحال أن مسألة «الوضع الأخلاقي» لهذا الكائن الذي يسمى الحيوان هو موضوع بحوث كبيرة جدًا في أمريكا وأستراليا وفرنسا، بل هي موضوع نقاش عمومي حتى؛ هكذا فأنت تجد باحثًا شهيرًا في أمريكا، هو بيتر سينجر، أحدث مبحثًا كبيرًا في واحدة من أعرق الجامعات يتعلق بمبحث الحيوان فلسفيًا، ومعه أو ضده فلاسفة آخرون في جامعات أخرى. لا أدري لماذا هذا الأمر لا يدخل في اهتمامنا، مع أن التراث عندنا تعلق ببحث هذه المسألة بالجدية اللازمة، ربما لأن مسألة الإنسان عندنا هي عينها لم تطرح بعد بالعمق اللازم.
شخصيًا حاولت أن أقوم بهذا على مستواي الخاص والبسيط، ومعي اليوم طلبة سجلوا رسائل بهذا الخصوص. قضية القانون ومسألة حرية التصرف في الجسد والتعذيب وقضايا النوع والدماغ هذه كلها قضايا مهمة جدًا لا نفكر فيها نحن. العلم قطع أشواطًا مخيفة في تحويل معنى كل ما نعرفه، مادة وفكرًا ومجتمعًا وسياسة وثقافة، بيد أن العلم «لا يفكر» بطبعه، لأنه محايد ولا يبحث في «الغايات»، إذ العلم يطرح سؤال الكيف وليس سؤال الغاية أو المعنى، والعالم حين يشتغل في تخصصه لا يكون عليه أن يقول رأيه أو تقديره القيمي لما يفعله، نعم قد يفعل هذا فيما بعد، أي حين يخرج من المختبر، لكنه يفعل ذلك حينها باعتباره رأيًا أو تصورًا خاصًا به؛ لأن سؤال المعنى هو سؤال فلسفي، والأحرى أن يضطلع به الفلاسفة، شريطة تحصيل ما يلزم من المعرفة الدقيقة بهذه الأمور، وهذا يتطلب جهدًا مضنيًا، ومعرفة باللغات قوية، وهو الأمر الذي ما يفتأ يضمر ويتراجع عندنا كما نعاينه في طلبتنا.
خلاصة الأمر، الاتصال بأنفسنا في الماضي يمر عبر الاتصال بغيرنا في الحاضر.
6- أوليتم الكثير من العناية لفلاسفة الحياة: سبينوزا، نيتشه، دولوز؛ وبذلك فضلتم من الناحية الفلسفية والأسلوبية فلسفات الحياة والاقتدار على أنماط أخرى من التفلسف مثل الوجودية، والتاريخانية، والتأويلية؛ ما هي راهنية فلسفات الحياة والاقتدار بالنسبة للمتفلسف العربي؟
أعتقد أن أكثر ما يهمني في هذا الأمر كونه يفتح أفقًا في التفكير والاشتغال بعيدًا عن آفات الإيديولوجيا، قضينا ردحًا من القرن العشرين في الاشتغال بالماركسية، وردحًا آخر بالوجودية، ثم البنيوية خصوصًا في الأدب، ينضاف إلى هذا كله «النزعة التراثوية» التي كبلتنا فلسفيًا لعقود، وقد تبين فيما بعد أن كل هذا لم يكن «فلسفة»، بل كان إيديولوجيا معينة. نعم كان هناك ضغط الواقع الذي فرض هذا، وكان هناك وما يزال التوق للنهضة والتحرر، بيد أن المشتغلين بهذه القضايا تعاملوا معها كلها وفق تصور إرادوي أسقط كثيرًا منهم في التبسيط، وها أنت ترى أن كثيرًا من هذه الأعمال هجر اليوم؛ لأنها صارت بكل بساطة «منتهية الصلاحية»، من قد يتحدث اليوم عن «الماركسية الموضوعية» مثلًا؟ الذي يبدو لي هو أنني أنتمي إلى جيل حظه وحده، كما أقول دائمًا، هو أنه لم يعش طموحًا إيديولوجيًا، وهذا حرره من التصورات الجامدة عن معنى التاريخ والواقع والإنسان، وحرره بالتالي من النزعة الإرادوية الساذجة التي تعتقد أنه قد يكفي خطاب متماسك نظريًا، ندعو إليه كما أي عقيدة، فنحصل على تغير في الواقع، هذا الأمر فهمنا اليوم أنه تبسيطي، لأن الواقع معاند وصلب، الواقع هو «حين تضرب رأسك بشيء ما» وتشعر بالألم، كما يقول لاكان، الواقع بارد وصامت وجامد وغير دال بطبعه؛ هكذا فالذي يهمني كان هو التفكير فيما هو «كائن» لا فيما ينبغي أن يكون، حتى أكرر عبارة جارية، وهذا الأمر يدفعني إلى التفكير بالتالي في الحياة من جهة ما هي تصنعنا، وليس من جهة ما نحن نصنعها، لأنها العام ونحن الخاص.
وحتى أكون صريحًا في هذا الأمر، أقول إن هذه الخلاصة المنهجية تطلبت مني جهدًا ووقتًا حتى أتمثلها وأفهمها؛ لأنها تتعارض مع الاستعداد النفسي الإنساني الأولي، والذي يقوم على الاعتقاد في ضبط وفهم ما يحصل «كما هو في ذاته»، لكن الذي ساعدني في هذا الأمر كان سبينوزا بالتأكيد، ثم برغسون فيما بعد وحتى كليمون روسي، هذا الفيلسوف الكبير جدًا الذي لم يترجم له شيء بالعربية في اعتقادي. كل هذا الأمر وجهني بالضرورة لأن آخذ مسألة الحياة بجد، أي مسألة الطبيعة قبل الثقافة، ومسألة الدماغ قبل العقل، ومسألة الجسم قبل الحرية. هذا بعض مما قد أفسر به هذا الميل الذي يبدو في عملي البسيط.
7- نود أن نرنو قليلاً نحو دولوز والعربية؛ منذ أكثر من عقدين ترجم كتاب ما هي الفلسفة وكتاب سبينوزا ومشكلة التعبير، وفي العقد الأخير بدأت تتزايد الترجمات والكتابات حول جيل دولوز فترجم Différence et Répétition للمرة الأولى بعنوان «الاختلاف والتكرار» (المنظمة العربية للترجمة،2009 ) وفي الترجمة الثانية بعنوان «الفرق والمعاودة» (طوى للثقافة،2015 )، وبالإضافة إلى الترجمات التي قمتم بها لـسبينوزا «فلسفة عملية» (توبقال للنشر،2017 ) وترجمتكم الصادرة حديثًا لنصوص دولوزية مختارة بالتعاون مع الأستاذ عبدالسلام بنعبدالعالي، وما زالت الترجمات لدولوز تتكاثر هنا وهناك؛ في نظركم ما هي أهمية تلقي الثقافة العربية للمتن الدولوزي؟ وكيف يساعدنا دولوز في طرح سؤال: ما هي الفلسفة؟ وما الإجابة الممكنة؟
دولوز فيلسوف قوي وصعب المأخذ، وهذا حتى قياسًا إلى فضائه الثقافي الغربي الخالص، لأسباب بسطتها جوابًا عن سؤال سابق، نحن هنا أمام فيلسوف «ميتافيزيقي» في طريقة اشتغاله، أي أمام فيلسوف يبحث في أسئلة الأسس والإمكان الأولى، ولعله لهذا وجدنا تقريضًا كبيرًا من فوكو عليه في عبارته المعروفة: «لعل القرن (العشرين) سيكون دولوزيًا»، فأنت مع فيلسوف لا تستطيع أن تدخله في خانة، فهو ليس بنيويًا ولا ماركسيًا ولا وجوديًا ولا أي شيء، بيد أنك حين تقرأ كتاب «ألف بساط» أو «ألف نجد» كما يترجم، تفهم أنه لا حظ لك في فهم ما يحصل في الفلسفة وفي نمط الوعي المعاصر دون هذا المفتاح، وهذا ما أوضحه الفيسلوف الإيطالي الماركسي، للمفارقة، طوني نيغري، الذي يعتبر أن دولوز يمثل أحد أهم مفاتيح العالم الذي نحياه.
لست دولوزيًا، ليس لأنني لا أحب التصنيفات فقط، بل لأن هذا النوع من الفلسفات لا يعترف بالانتماء، إنه فكر لا يتحدد إلا بالمسافات، على اعتبار أن الحياة مسافة دائمًا، بيد أني وجدت وما زلت أجد في نصوص هذا الرجل «علبة أدوات» رائعة في التحليل. لا أدري هل من المجدي أن نترجم نصوص هذا الفيلسوف كلها، ولا أنها قد تجد صدى، بيد أن الذي أعتقده هو أن واقع اللغة العربية اليوم، والوضع «الكرونولوجي»، إن شئنا، الذي توجد فيه الثقافة العربية قد يجعلها لا تستسيغ مثل هذا التفكير، لهذا فلست متأكدًا من جدوى ترجمة عمل مثل «التكرار والاختلاف»، والدليل أنني لا أرى أن ترجمته المزدوجة خلقت نقاشًا ما، بل حتى ترجمة كتاب «ما هي الفلسفة؟»، فأكثر ما احتفظ به منها وراج هو عبارة «الفلسفة هي إبداع المفاهيم»، وهذا في نظري كان تسطيحًا مخلًا بالكتاب وفكر صاحبه، لماذا؟ لأننا حفظنا المفهوم بمعناه الهيغلي، والحال أن المفهوم عند الرجل ليس جمعًا وحفظًا للعناصر الماهوية للشيء، كما كان يقول الأرسطيون، بل هو «ما يصنع المسافة» قد نقول، المفهوم هو ما يجعل شيئًا محددًا «يكون» ويدخل مجال الرؤية بعد أن كان محتجبًا عنا، المفهوم «حدث» عند الرجل، أو قل هو المعنى، لهذا كان قد كتب، في نهاية الستينيات، كتابًا آخر هو «منطق المعنى»، الذي لا يفهم إلا بالتقابل مع منطق المفاهيم التقليدي؛ بيد أن الوعي بهذا الأمر يستدعي عودة إلى فلاسفة آخرين اشتغل عليهم دولوز طويلًا، وأولهم جيلبير سيموندون، الذي يستند إليه ويذكره في كل مرة.
هكذا، فبقدر ما قد يسعد المرء لكل جهد يبذله مجتهد لترجمة عمل، بقدر ما قد يخشى أن لا تكون لهذا الجهد فائدة كبيرة. على هذا الأساس حاولت أن يكون عملي الأول حول الرجل «مدخلًا»، بيد أنه مدخل لا غير، وليس مطلقًا تلخيصًا أو جمعًا، وأتبعته بكتب أخرى لاحقة هي ترجمات، لكني في هذه الترجمات حاولت أن أتخير ما قد لا يحتاج إلى ثقافة «في دولوز» حتى نفهمه، هكذا كانت الترجمة الأولى (سبينوزا فلسفة عملية) نصًا كتبه دولوز حول فيلسوف يمكن أن يقرأه حتى من لا يملك ثقافة فلسفية خالصة، ما عدا القسم الرابع، وقد كان هذا عندي فرصة لننظر كيف يبسط ويشرح فيلسوف كبير، فيلسوفًا كبيرًا آخر سابقا عليه؛ أما في الترجمة الصادرة حديثًا مع الأستاذ بنعبد العالي (خارج الفلسفة) فقد كانت الفكرة أن نتخير «نصوصًا مختارة»، وهذا كان الدافع إليه هو هذا العنصر الذي ذكرته توا، أي ألا نترجم دولوز من جهة ما هو متن «لذاته»، فهذا ما لا أجد له له كبير فائدة، بل كان، وبالتوافق مع الأستاذ الكريم عبد السلام بنعبد العالي الذي ترجم واختار معي هذه النصوص، ترجمة لما يمكن أن «يمر» ويكون له أثر في التداول الثقافي العربي الراهن.
طبعًا لهذا الأمر حدوده، لكنها حدود أقل ضررًا من ترجمة نصوص تُشترى لتوضع على الرف، حتى ولو كان الجهد الذي بذل فيها هائلًا. وحتى أحق الحق لأهله، ينبغي أن أقول إن هذا الأمر وهذه الرؤية تعلمتها شخصيًا من الأستاذ بنعبد العالي، سواء في نقاشاتنا المباشرة بيننا، أو فيما قرأته من نصوصه حول نظريته في الترجمة، أو حتى في ترجماته السابقة، خصوصا تلك التي كانت «بيدين»، أي بمعية المرحوم محمد سبيلا ( سلسلة «دفاتر فلسفية» مثلًا).
8- في هذا الصدد ربما علينا أن نطرح التالي: حاول مطاع صفدي منذ الثمانينات من القرن المنصرم بالتعريف ما يسمى «ما بعد الحداثة»، فحاول تقديم ما يطلق عليهم «فلاسفة الاختلاف» من قبيل فوكو، دولوز، ودريدا وغيرهم؛ من خلال الترجمة، والشرح، والتقديم؛ في ظنكم كيف يوازن المتفلسف العربي بين مهامه العديدة منها ما هو متعلق بالشرح، والترجمة، والتقديم، وبين ألا يتحول إلى مجرد مبشر بفلسفة ما؟ والأهم من ذلك كله، كيف نفكر مع مفكر ما وألا نتحول مجرد قراء رديئين له؟
لا أعرف ما كتبه الأستاذ صفدي بشكل يسمح لي بالحديث عنه وعن تجربته، لهذا فلا يمكنني أن أتناول سؤالكم إلا في سياق عام. أولًا لست ممن يستمرئ الكلمات الغليظة، لهذا فلا أجد أن عبارة «ما بعد الحداثة» حاملة لمعنى كبير، إنها تصنيف عام يضع فيه بعض عشاق النعوت كل ما لا يفهمونه في العالم المعاصر، في التشكيل والمعمار واللباس والموسيقى والقيم وحتى الفلسفة. ما هي مهمة الفلسفة؟ من بين الأجوبة الممكنة التي قدمها فلاسفة سابقون جواب مفاده كونها تجربة «تحقيق “الوعي” بما يحصل في الواقع»، إنها الراهن وهو يحاول أن يعي ذاته، أي يعي مقوماته وأسبابه، والوعي بالواقع يقتضي وصفه كما هو، وحين نتحول إلى وصف واقع العالم اليوم، نلاحظ أنه واقع مختلف عن كل ما سبقه، فمفاهيم الهوية والانتماء والماهية والوحدة والاتساق كلها، عمليًا، لم تعد تسعف في وصف ما يحدث، إذ إن صورة وعي الإنسان المعاصر ونمط وجوده لم تعد ماهوية ولا موحدة، فالمواطن المعاصر، العربي على سبيل المثال، هو كائن عالمي يفكر ويتواصل بلغات متداخلة مع أشخاص من جنسيات وانتماءات افتراضية أو واقعية متعددة، يكتب العربية بحروف لاتينية مثلًا، ويأكل السوشي الياباني في الرباط، أو الشومن الصيني في الرياض، نحن اليوم خلاسيون وهجينون، في عالم هو بابل معممة، وهذا أدى إلى كسر الامتدادات «التقليدية» في معنى الانتماء والثقافة والقيم، هكذا فابني الذي ولد أواسط العقد الأول بعد الألفين، قد يكون أقرب إلى طفل في مثل سنه يحيا في كوريا الجنوبية اليوم، مني أنا وليد سبعينيات القرن الماضي، وهذا تحول كبير قياسًا إلى جيلنا والجيل الذي قبله، حيث كان الابن «سر أبيه»، وحيث كان الحفيد يكرر نمط عيش وتفكير جده العاشر وقيم قبيلته وعقيدتها وقناعتها، وهذا الأمر عمّمه على كل شيء، وحين يسعى الفيلسوف إلى وصف هذا وبيان تراجع مفاهيم الانتماء والهوية فهو «لا يدعو» أو «يبشر» بشيء نظريًا، إنه فقط يصف واقعًا يحصل «عمليًا»، أن نقول عنه إنه «يريد» هذا هو كأن تقول عن الطبيب الذي يخبرك بأنك مريض بكونه «سبب» مرضك.
نعم قد نحب أو لا نحب هذا الواقع، وقد نعاديه حتى وندعو إلى «مقاومته»، لكن وصفه كما هو لا علاقة له بالمحبة أو الكراهية، فـ«الواقع لا يرتفع»، وأن تحبه أو تكرهه لا ينفع في تغيير حقيقته الموضوعية، مهما جرحت هذه الحقيقة في قناعاتنا وكسرت من أطر حكمنا الذاتية. لهذا فأن نقول عن فيلسوف ما يصف هذا الذي يحدث بأنه نمط وجود يتجاوز ويفجر التصور التقليدي الذي بناه العصر الحديث عن معنى العقل والهوية والانتماء، وأن الأنسب لفهمه هو التوسل بمفهوم مختلف هو نمط الوجود «ما بعد حداثي»، وهذا ما فعله ليوتار في نصه الشهير «الشرط ما بعد الحداثي»، أن نقول عن هذا الفيلسوف أو عن ليوتار مثلًا «إنه ما بعد حداثي» هو كأن تقول عن شخص يقول لك إن الأرض كروية إنه هو «كروي»، أو أن تقول حين لا تحب نتائج هذه الحقيقة على قناعاتك إنك لا تحب كروية الأرض لأنها «تشوش على قناعاتك».
حين يعمل فيلسوف على «تسمية» الواقع فهو يسعى لأن يفهم ما يحصل بما تيسر له من أدوات، ولا يدعو لشيء، إلا أن يكون رجل إيديولوجيا وهذا شيء مختلف عن الفلسفة، الفيلسوف الحق هو، وباعتبار المستوى الفلسفي الخالص، رجل لا «يريد» شيئًا على الحقيقة، أو قل إنه «لا يعرف شيئًا» مسبقًا، إنه رجل ما يفتأ يراجع ويعيد ويغير في أسئلته قبل الأجوبة، وهذا بعيد جدا عن الداعية الذي ينتهي إلى جواب ويعتبره الخلاصة، فلا يبقى له إلا أن يدافع عنه، هنا يكمن الاختلاف الرئيس بين منطق الدعوة ومنطق الفلسفة. لهذا، ومن حيث المبدأ، لا أعتقد أنه من السليم التبشير بشيء اسمه دريدا مثلًا، أو دولوز، لأن هؤلاء ليسوا بأصحاب «عقائد» ، أو قل إن المضمون الوحيد لعقيدتهم الممكنة هو ما نجده في شذرة نيتشه الشهيرة «أكره أن أقود غيري، كراهيتي لأن يقودني غيري»، لهذا فيبدو لي أن الشكل الأنسب لتناول هذا النوع من الفكر هو التفكير به لا التفكير معه، وأما أن نعتقد بأن هؤلاء «مذاهب» ينبغي التبشير بها، فهذا معناه أننا لم نفهم جوهر مثل هذا الفكر، إننا أمام فكر وفلسفة تبتدئ بمسلمة مفادها أن عهد «القصص الكبرى» والمرويات الميتافيزيقية الجامعة ومنطق «الملل والنحل» التي تتناظر للوصول إلى حقيقة واحدة هو عهد قد انتهى.
فيما يخص مسمى فلسفة الاختلاف، هكذا بالجمع، الذي تفضلتم بذكره، شخصيًا لا أجد، وهنا أيضا، قيمة كبيرة لمثل هذا المسمى، إذ أن بين الأسماء التي ذكرتم «اختلافات» كثيرة جدا، لا ينفع معها القول إنها «فلسفة ما بعد الحداثة» أو «فلسفة اختلاف»، فبين ديريدا وفوكو مثلًا، اختلافات عميقة في المنهج والرؤية والغاية، بل هي اختلافات وصلت لحدود النفور والتعارض المطلق كما حصل في تأويليهما لنص لديكارت وارد في كتاب التأملات، وهذا الأمر يمكن أن تسحبه على أسماء أخرى كثيرة. لهذا فالذي يبدو لي هو أنه لا يصح أن نجمع مثل هذه الأسماء تحت مسمى واحد، اللهم أن يكون السياق سياق الرغبة في التخلص من بذل الجهد في الفهم، وهذا كما تعلمون أمر يعافه المفكر المتأني.
9- يعرف من يطلع (ولو قليلًا) على نصوص دولوز أهمية مفهوم الرغبة عنده، هل توضحون لنا أهمية هذا المفهوم وكيفية اشتغاله في المتن الدولوزي، وعن ماذا يختلف تصور دولوز للغربة عن التحليل النفسي؟
لن يكون من اليسير أن نبسط مثل هذا الأمر، لأنه يستدعي معرفة أولية بتاريخ الفكر وفلسفة الأخلاق السابقين، ثم هو قد يجعل حديثنا يصير مدرسيًا، وأنا أحرص في هذا الحوار على أن أعتمد لغة بسيطة وغير متخصصة، لكن إن لم يكن من الأمر بد فلنقل على الأقل بعض الأمور العامة.
أول عنصر ينبغي الانطلاق منه هنا هو استحضار التحول الذي حصل في معنى الرغبة مع سبينوزا، إذ إن هذا الأمر يجد حدسه الأول في فكر سبينوزا، وهذا الحدس تعلق بأمرين، أولهما «قيمة» الرغبة، وثانيهما «طبيعة الرغبة». في التصور الميتافيزيقي السابق كنا ننظر إلى الإنسان باعتباره الكائن العاقل، ولهذا الأمر تبعات، أولها أن الانفعالات تصير شيئًا لا يتعلق «بماهية» الإنسان، إنها شيء عارض، أو قل عنها إنها مجرد زيغ يلحق به قياسًا إلى ماهيته العاقلة. انبنى على هذا الأمر أمر ثان وهو تصور الرغبة باعتبارها «نقصًا»، وعلى هذا الأساس نشأ نظام أخلاقي كامل ما زال هو الذي يحكمنا في «فلسفتنا» الفطرية، قوامه اعتبار الرغبات «شرًا» ينبغي تجاهه أن نؤسس «الزهد»، أي أن نعقله أخلاقيًا، وهذا واضح في المعادلة الأبيقورية الشهيرة التي تميز بين الحاجات الضرورية الطبيعية، والحاجات الطبيعية غير الضرورية، والحاجات التي ليست لا بضرورية ولا بالطبيعية، وهذه هي الرغبات التي ينبغي نبذها بأكبر ما يكون.
لكن ماذا لو أن ماهية الإنسان لا تكون العقل (وهذا هو القلب الأول الذي أحدثه سبينوزا )؟ ماذا لو كانت ماهية الإنسان العميقة هي الرغبة، على اعتبار أن العقل عينه محكوم دائمًا برغبة سابقة عليه تدفعه إلى التحقق؟ ثم ماذا لو أن الرغبة لم تكن «نقصًا» يرتوي بموضوع يحقق اللذة، بل تكون «طاقة» حياة سابقة على كل الموضوعات (وهذا هو القلب الثاني)؟ هنا لا تصير الموضوعات هي الأولى والرغبة هي الثانية، بل يحصل العكس، وهذا يؤدي إلى تغيير شامل في مجموع النظام الأخلاقي التقليدي، فنقول مع سبينوزا «إننا لا نرغب في أشياء لأنها حسنة في ذاتها، بل نعتبر أشياء حسنة لأننا نرغب فيها». الرغبة هنا تصير هي الأولى دائمًا، والموضوعات تصير تابعة. الذي سيبني عليه دولوز رؤيته يتضمن شيئًا آخر متعلق بهذا الحدس العام، لكنه مختلف عنه، إنه سينظر إلى الرغبة باعتبارها «إنتاجًا» دائما، وهذا أمر جعله في مواجهة مباشرة مع التصور الأفلاطوني أولًا، ولكن كذلك مع تصورات أخرى أكثر معاصرة له من بينها ميشيل فوكو نفسه.
ينتج عن هذا أمر آخر متعلق بصورة الإنسان ومعناه وطبيعة العقل، إنه يتحول من «الحيوان الناطق» أو العاقل الأرسطي الذي يبني نظمًا قيمية تعتمد الذنب وجدل الرغبة السالبة واللذة الموجبة أساسًا لها، وهذا جوهر الأفلاطونية، إلى «الآلات الراغبة» التي تمد، عوض أن تبني، عناصر الوصل connexion الجزيئية التي لا تنقطع، مع باقي المكونات التي تعمر محيطها، في بُسط استواء متواطئة متساوية مطلقًا، فلا يكون هناك إلا مقادير المدّ وجهود الوصل الجذموري الذي يحدث «فيما وراء الخير والشر» دائمًا، وهذا هو عينه ما تقصده الصفحات المثيرة والغريبة الأولى من كتاب «أوديب المضاد» الشهير.
وبمناسبة الحديث عن أوديب المضاد وفيما يتعلق بمفهوم الرغبة، لا ينبغي أن ننسى، أن خطاب دولوز وغواتاري كان موجهًا نحو التحليل النفسي أيضًا، ونحو تأويل معين على الأخص للتحليل النفسي هو التأويل البنيوي، ولهذا الأمر شروط ودقائق سياقية وثقافية تتعلق بسلطة لاكان والتحليل النفسي في الفكر الغربي في ذلك العهد، وهذه أمور لا يسع المجال للدخول فيها هنا.
10- بعد بحث وجدنا لكم بعض التسجيلات الموسيقية؛ وللفلسفة علاقة وطيدة بالموسيقى، وقد كان لدلوز اهتمام بالموسيقى؛ كيف تصاحب الموسيقى الفيلسوف على أن يفكر؟
يغلب على تصورنا عن الموسيقى تناولها في سياق «الترفيه» و«التسلية» والفرجة وما إليه، لهذا فإن «الجدّيين» منا، أي من يعتبر نفسه «مهمًّا»، من أي ما إيديولوجية كان، لا يعتبر أن من مهام المفكر أن يهتم بالجماليات، وهذه قرينة توضح مدى التصور الحزين الذي يحكم علاقتنا بالحياة ويتغلغل في أعماق وعي عدد من مثقفينا. أول ما ينبغي قوله هنا هو إن الموسيقى علم وهي علم رياضي دقيق، وتستدعي دراسته تخصصًا وسنوات من التعب والتدبّر، سواء تعلق الأمر بالنظرية الموسيقية، وهذا هو الأصعب، أو بالتطبيق العملي على الآلات. هذا العلم أو هذه المعرفة ارتقيا عند الفلاسفة القدامى إلى درجة الضرورة المعرفية تقريبًا، هكذا فلم يكن يصح أن يشتغل أحدهم بالعلوم المؤسسة دون أن يكون له إلمام بالموسيقى أو «علم اللحون» كما كان يسميه الفلاسفة المسلمون، لهذا فقد كانوا جميعهم، وبداية من أفلاطون، أصحاب أقوال في الموسيقى، وقد استمر هذا الأمر حتى وقت قريب جدا، وهو واضح في تاريخ العلم وعند العلماء إلى حدود العصر الحديث، هكذا فقد كانت لغاليلي دراسات في الموسيقى، لأنها في نظره ونظر علماء عصره، تمامًا كما كان الأمر عند أفلاطون، مفتاح من مفاتيح الكون، كذلك كان الشأن مع كيبلر الذي سعى، استنادًا إلى أعمال السابقين عليه، إلى وضع سلالم موسيقية لحركة الكواكب، وهكذا. طبعًا لهذا الأمر تعلق بنظرية العناصر القديمة وطموح «العلم الكلي» الفيثاغوري، مع ما رافقه من رؤية «تناغمية» عن العالم، وهو ما يجمع فيما اشتهر عند المحدثين بـ mathematesis universalis . لكن رغم انحلال هذا التصور بانحلال الأسس الكوسمولوجية التي يقوم عليها، فإن اعتقادي هو أن الموسيقى تبقى، فلسفيًا، مفتاحًا كبيرا للفهم، وأنا لا أتكلم عن الموسيقى الشعبية أو حتى المعزوفة، بل أتكلم عن النظرية الموسيقية خصوصًا، ولا أخفيك أن فهم الموسيقى وبعض عناصر تاريخها ساعدني شخصيا في تبين «الحدس» الذي أسس لكثير من الفلسفات، إذ حتى تفهم مثلًا التصور الهندسي السبينوزي، والديكارتي قبله، ينبغي أن تسمع ل لولي ورامو خصوصًا، في نمط تأليفهما الذي يحكمه نموذج «الاتساق الرياضي»، هكذا فإن بنية الميلوديا الخطية عند رامو، والنسيج التقابلي لجمل البسط والرد القصيرة التي اعتمدها، تبقى مدخلًا أساسيًا لحدس روح «العقلانية الكلاسيكية»، وهو الحدس عينه الذي نجده في التشكيل والمعمار وغيرهما. الأمر عينه يصح في العصور اللاحقة، إذ سيبقى ناقصًا، في نظري، فهم روح الرمانسية أدبيًا وفلسفيًا، دون استيعاب أعمال ما سمي بجيل 1810 في الموسيقى، فلا شيء أكثر تعبيرًا عن «الوعي التراجيدي الرومانسي» من موسيقى هذا الجيل بأسمائه الكبرى، وقبلهم موسيقى بتهوفن الذي كان علامة دخول المشاعر، حتى الأكثر «جنونًا»، بعبارة لهيغل، إلى مجال الموضوعية، وقد كان هذا أوضح تعبير عن تراجع الروح الكلاسيكية الباردة الرياضية، وميلاد الروح الرومانسية الحية. إذا اتفقنا على ما سبق، سيصير من الممكن أن نبني عددًا من التقابلات بين الموسيقى والفكر: «مقال في المنهج» وكتاب «نظرية في الهارمونيا» للولي، أو «السمفونية التاسعة» وكتاب «الاعترافات» لروسو، أعمال كانط وأعمال سيباستيان باخ، نصوص نيتشه وأعمال مجموعة السلم العشاري في فيينا، وغير هذا كثير. وبالمناسبة هناك أعمال فكرية مهمة سعت إلى تبيان هذا الأمر ودراسته، لعل من أهمها أعمال الباحث الكبير فرانسيس وولف.
عودة إلى شخصي البسيط، إن الذي همني دائمًا في الموسيقى، كان هو هذا الأمر، أي محاولة تحقيق «وعي» بالأساس «الوجداني» الذي كانت تتأسس عليه كل هذه الفلسفات، وطبعًا هذا لم يكن حاصلًا الوعي به في البداية، لأن دراستي للموسيقى، كانت سابقة عن عملي في الفلسفة، لهذا فأنا ممتن جدًا للسنوات الطويلة التي قضيتها في المعهد، وشاكر لوالدي دفعه لي طفلًا لدراسة وتفكيك هذا الشيء الفاتن الذي هو «النوتة الموسيقية»، فقد كان حينها، من حيث لم يشأ، يعدّ شيئا من ذائقتي الفلسفية. أما فيما يخص مسألة العزف على بعض الآلات، الكلاسيكية منها خصوصًا، فهذا أمر خاص ولا أعتبره إلا امتدادا للأساس النظري والمعرفي الذي أخذ وما يزال وقتًا أكبر، أقصد علم الموسيقى بمكوناته الثلاثة الأساسية.
11- في المشهد العربي المعاصر يكثر الحديث والتفكير في العلم Science بأدوات ومناهج الفلسفة التحليلية؛ ويغيب التفكير في العلم من منظور الفلسفة القارية؛ وهو ما يخلق انطباعًا عن الفلسفة القارية بأنها شعر أو نثر جميل لا أكثر. من وجهة نظركم كيف يمكن لدولوز الذي تحدث عن الدماغ، والجسد دون أعضاء، والرياضيات، واللسانيات، أن يثري فهمنا عن العلم بعامة وعلوم الأعصاب بصفة خاصة؟
أحتاج لتقديم بعض العناصر التي أفهم وفقها هذه القضية؛ أولًا لا أجد قيمة كبيرة لهذا التقسيم: «قاري وأنجلوساكسوني»، لسبب بسيط هو أن الفلسفة فلسفة، إما تكون بأدواتها وشرائطها، وهنا لا يهم الموقع الجغرافي، أو لا تكون. صحيح أن هناك حديثًا واتهامًا للفلسفة الأوربية بكونها فلسفة «لغوية» كما تفضلتم، وهذا سأعود إليه، لكن لا ننسى أن هناك اتهامات للأنجلوساكسونية بالمقابل، كونها مثلًا فلسفة لا تعي أسس تحققها الإيديولوجية، وهذا دفع بعضهم إلى اعتبارها «لا فلسفة» حتى؛ لأنها نزعة تفرغ الفلسفة من بعدها النقدي والتشريحي، وتحولها إلى نوع من الخطاب التقني حول اللغة، وقد كان الماركسيون الأشد بيانا لهذا الأمر، سواء مع ماركس الذي يؤثر عنه قوله عن معاصريه من «النفعيين» الأنجليز أن فلسفتهم فلسفة «بقّالين»، بما أنها فلسفة لا تزعج أحدًا ولا تغير تصور أحد، أو مع امتدادات الماركسية، كما هو الشأن مع رواد مدرسة فرانكفورت، من مثل أدورنو وماركوز الذي دك أساس هذه الفلسفة معتبرًا إياها «سوء فهم» كبير أساسه الخلط بين المفاهيم والكلمات، فتصير كلمة «الحرية» وكلمة «أناناس» أو «مكنسة» في نفس المستوى الدلالي.
صحيح، أقول إن مثل هذه الاتهامات والاتهامات المقابلة موجودة، غير أني مع ذلك لا أعتقد أن مثل هذا النقد يصح على الجميع، ولا حتى أن التقسيم الذي ذكرناه، قاري تحليلي، سليم، لماذا؟ لأن الصلات بين التوجهين قوية جدا، فويليام جيمس صاحب المذهب النفعي وأحد أهم ملهمي النزعة العملية، كان قارئًا نهمًا للميتافيزيقا، ومراسلاته مع برغسون شاهد على هذا، ناهيك عن كونه كان مهتمًا جدًا بفلسفة الدين، بل هو نفسه وبشكل شخصي كان في قناعاته يظهر نوعًا من التعارض الغريب مع كل قناعات «الوضعية الأنجلوساكسونية». كذلك الشأن مع من ينعت بكونه مؤسس «فلسفة اللغة» وهو فيتجنشتاين. ما ينبغي أن نذكره هنا هو أن فيتجنشتاين نمساوي، أي جرماني التكوين والثقافة، وليس هناك أكثر «قارية» من هذا، كما أنه لم يكن مطلقًا ضد ما قد نسميه «النثر الجميل»؛ فالرجل يملك وجوهًا فلسفية متعددة، أحدها كونه صوفيًا، وأحدها كونه شاعرًا، وما يزال الناس يذكرون كيف أنه جاء إلى لقاء فلسفي فألقى قصيدة لطاغور، وكيف أنه رفض رفضًا مطلقًا الدخول مع الوضعيين المناطقة أو ترؤُّس جماعتهم بحسب طلبهم، وفي هذا حكاية مشهورة؛ هذا إضافة إلى أن الرجل يقدم في نصوصه حدوسًا هي أبعد ما يكون عن التصور التقني الضيق، إذ نجد في هذه النصوص تصورًا عن معنى الحقيقة والعالم والعقل، تصور يصفه أحد المختصين بكونه فينومينولوجيا للحدود.[1]
أما عن كون بعض التحليلين أو أتباعهم يتهمون ما يسمونهم بالقاريين بكونهم أدباء لا أكثر فهذه تهمة قديمة توجه للفلسفة عمومًا، ونحن نجدها حتى في محاورات أفلاطون، وهي عينها التهمة التي حوكم بها فلاسفة كثر حتى في ثقافتنا، كونهم مبتلون بالكلام الذي لا طائل منه، وشخصيًا لا أجد لها أهمية كبيرة ولا تزعجني لأنها لا معنى لها. كل من يكتب باللغة الطبيعية محكوم بإنتاج النصوص، أي أنه كاتب، أكان هذا الأسلوب جافًا مباشرًا مثل فيتجنشتاين، أو كان مفهوميًا تأصيليًا مثل هايدغر. بمعنى آخر، كل من يشتغل في الفلسفة فهو يكتب من خلال فلسفة ما، أي تصور ما عن طبيعة الحقيقة، حتى ولو كان هذا التصور في ظاهره مناهضًا للفلسفة، كل موقف سلبي من فلسفة ما، هو موقف يتأسس بالضرورة من داخل فلسفة أخرى عن طبيعة الحقيقة واللغة. أما أن نقول إن هؤلاء مجرد شعراء ضلوا الطريق أو أن الآخرين مجرد «بقالي» فكر سذّج لا يعُون بالشروط التي تجعل قولهم ممكنًا، فهذا لا يهمني كثيرًا.
إشارة أخيرة، كان عندنا تيار كامل تبناه المرحوم زكي نجيب محمود، وكان متشددًا جدًا في وضعيته، ومعلنًا للعداء الشديد لكل ما يسميه ميتافيزيقا، أي ما لا يقبل مبدأ التحقق التجريبي، ولكن، ما الذي آل إليه فكر نجيب محمود؟ صار مجرد داعية لمذهب فلسفي لا أكثر، مذهب يناهض مذاهب أخرى ويزدريها، لكنه هو عينه داعية لمذهب ترفضه مذاهب أخرى وتزدريه. الأحكام المذهبية لا تهم كثيرًا في الفكر، والمذهبية عينها لا تهم، ما يهم هو النصوص والعمل وجهد الفهم، وفي هذا نحن نحتاج إلى كل شيء، تحليليين وتركيبيين وقاريين وما شئتم، وإلا سننتهي إلى أن نقف موقفًا مذهبيًا أو إيديولوجيا، ونخرج لفرض الوصاية على الناس بدعوى «هذه فلسفة جيدة وهذه فلسفة فاسدة»، من نحن حتى نفعل هذا؟ من يعطينا الحق؟ ثم هل هذا ممكن اليوم؟ هل من الممكن أن تمنع شابًا من جيل الفضاءات المفتوحة اليوم، يريد قراءة نيتشه، من أن يقرأه؟ هل سننشئ شرطة «فلسفية»؟ ولنفترض أننا تمكنا بمعجزة ما من فعل هذا وهو مستحيل، ما النموذج الذي سنختاره؟ نصوص «ميشال عفلق» مثلًا كما حاولت أن تفعل بعض الأنظمة العربية في فترة، وقد علمنا وعرفنا قدر الدمار النظري والعملي الذي نتج عن هذه الأنظمة و«اختياراتها الفلسفية»؟
كل تحديد لما ينبغي أن يُتخذ فلسفيًا سينبني على إيديولوجيا ونزعة كليانية ما، نزعة تضاد من حيث المبدأ روح الفلسفة ، على اعتبار أن أول شرط في الفلسفة هو الحرية.
12- هنالك نزعات حالية تقول بأن الأدب لا يفيد من الناحية الفلسفية، كيف تردون على هكذا دعوى؟ وما أواصر القرابة بين الفلسفة والأدب؟
الأمر يبقى رهينا بزاوية نظرنا وتصورنا للعلاقة الموجودة بين الفكر والأدب، ثم بين الفكر واللغة الطبيعية عمومًا، صحيح أن الأدب منفصل عن الفلسفة، وأن أدوات اشتغال كل منهما مستقلة عن الأخرى، لكن الصلة بين الاثنين حاصلة ووثيقة، تمامًا كما أنها حاصلة بين الفلسفة والعلم وبين الفلسفة والدين.
يغلب على التصور البسيط أن يعتبر الأدب ميدان اللواعج والمشاعر والأحاسيس، في مقابل العلم الذي هو ميدان العقل والقياس الجاف الصارم، لهذا يكون الأدب مجال إنتاج المشاعر ويكون العلم مجال إنتاج الحقائق، والمشاعر كاذبة وغير مفيدة عمليًا، في حين أن الحقيقة، حتى ولو لم تكن جميلة، فإنها تبقى صادقة. والحقيقة أن هذا التصور، الذي يروج له كثير من العلموين والوضعانيين، ساذج في الحقيقة، لماذا؟ لأنه ثنائي وتقابلي في مبناه، وانطباعي وتبسيطي في مضمونه، ولننظر في هذا التقسيم ذاته، أدب وعلم. أول شيء هو أن الأدب ليس ميدان «اللواعج والأحاسيس» الكاذبة، كما قد يُعتقد، بل هو نمط مختلف في إنتاج الحقيقة، لكنها حقيقة ما لا يقبل القياس، لهذا فنحن إذا ما أردنا أن نعرف «حقيقة» التجربة الوجودية لأمة من الأمم، أي الكيف الذي فهمت به وجودها وكابدته فالذي يقدم لنا هذا هو «أدبها»، لهذا نفهم نحن الطبيعة التراجيدية والتصور الأخلاقي والديني الذي امتلكه اليونان أو الرافديين أو حتى الإنسان القديم، بما نقرأه من أساطيرهم وأشعارهم أكثر مما نحصله من إنتاجاتها العلمية الخالصة. بل أكاد أقول إن العلم عينه لا يمكن أن يصير علمًا إلا متى صار موضوعًا للتفكير والوعي به، لغويًا، هكذا فنحن نعتبر اليونان منظري الرياضيات قديمًا، لأنهم تركوا كتاب «التعاليم» لأقليدس، ولا نعتبر المصريين كذلك، رغم أننا نرى بأم أعيننا المهارة الهندسية البديعة التي امتلكوها من خلال الأهرامات. الأدب ليس مسألة مشاعر، وقد كان أندري جيد يقول «بالمشاعر الجميلة لا ننتج إلا أدبًا رديئًا». الأدب كيف مختلف في قول الحقيقة، كيف يشترط، من بين ما يشترط، علومًا كثيرة للوعي به، من لسانيات ونحو وسيمياء وبيان وبلاغة. والمسألة تصح في الاتجاه الآخر، فما العلم؟ إنه الجهد الإنساني المضني، الجهد البشري المحدود الذي يتوسل بالبراهين والتجارب والخيال والعبقريات الفردية ليتحقق، فما الفرق بين عالِم كبير وآخر؟ قدرة أحدهما على الإبداع والخيال، سعة الأفق وقدرته على «حدس» علاقة ما لم يتمكن من حدسها عالم آخر غيره، في العلم كل شيء يبدأ بالفرضية، أو قل النظرية، أي من تصور «فردي» خاص وذاتي لعلاقة ما، بعدها يأتي البرهان ليكون الحامل الموضوعي لهذه النظرية.
والحقيقة أن الشواهد عن هذا لا تنقطع، وتاريخ العلم كله أدلة، إذ إن هذا التاريخ لم يكن تقدمًا خطيًا مطردًا يمشي بخطى هادئة مطمئنة من الجهل إلى النور كما يتصوره بعض الناس، بل كان جهدًا لأفراد وأقدار وحيوات، ولحدوس وأخيلة ومكابدات شخصية. الأدب والعلم كيفيات مختلفة في قول الشيء نفسه وهو حقيقة التجربة البشرية، وليس عبثًا أن أهم النظريات العلمية لا نستوعبها إلا من طرف أناس يحسنون «حكيها»، أي يحولونها إلى «حكاية»، وقد كان وما يزال العلماء دائما يتوسلون بالأدب واللغة الطبيعية لشرح أفكارهم، سواء عند الأقدمين (المحاورات اليونانية والتي استمرت حتى العصر الحديث كما هو الشأن مع محاورة غاليلي حول «نظامي العالم» التي بسط فيها نظريته) أو عند المعاصرين ( إنشتاين في كتابه «كيف أرى العالم» مثلًا وهاوكينز في نص «تاريخ موجز عن الزمن»). إذا كان الأمر كذلك، فإن صلة الفلسفة بالأدب ستكون وثيقة، وصلتها بالعلم كذلك، هكذا، وحتى أعود لنموذج دولوز الذي قدمته سابقًا، فأنت تجد عنده وفي النص الواحد اشتغالًا على كافكا وبيكون، مقرونا باشتغال على حساب التفاضل والرياضيات المعاصرة، الفيلسوف يأخذ من الفاعليات الإنسانية كلها، بقدر ما يستطيع، طبعًا شريطة ألا يصير عمله تصنّعا علمويًا أو هذرًا لغويًا.
13- صاحبتونا في هذا الحوار إلى بدايات مسيرتكم الجامعية، ومن سبينوزا إلى هابرماس ودولوز، حتى الأدب والموسيقى؛ في الختام دكتور عادل ما هي همومكم الفكرية الحالية؟ وإلى أين تتوجهون؟
لا أضع لنفسي مسبقًا شيئًا يكون علي أن أتوجه إليه، لا أشق طريقًا أجعلها سابقة لفعل المشي، لأني لا أومن بفكرة المشاريع، ولا أعتقد أن «المشاريع» عادت ممكنة في الفلسفة، لأن المشروع ينطلق من فكرة مفادها أن المفكر يشد بتلابيب الشأن الذي يتوجه إليه وأنه سيأتي فيه بـ«القول الخاتم والجامع»، وهذا شيء يضاد طبيعة تصوري لمعنى التفكير، لهذا فقد أتوجه إلى أي شيء آخر في الطريق. على أن هناك شيئًا لا أحيد عنه ويصحبني في كل حين وأتمنى لو تؤاتني المناسبة وأكتب شيئا فيه وهو ما قد أسميه بـ«رقيق الكلام»، وهو شيء فيه بعض مما ذكرته عن الموسيقى سابقًا، مضافًا إليه أشياء أخرى في الأدب، أدب الرحلة خصوصًا، وبعض الأشياء النافرة في التراث العربي، من مثل مسألة الحيوان أو الحب أو غيرهما، فأنا كلف أيما كلف بما كان يسميه الجابري كتب «أصحاب المقابسات»، أقصد كتب ابن عبد ربه والأبشيهي وابن عبد البر والنواجي وغيرهم، وهو تراث واسع جدا، غُمر بأثر من هيمنة الخطابات الإيديولوجية المتوالية على هذه اللغة والثقافة، ولعل هذا لا يكون إلا عودة للبدايات، فأنا في تكويني الأصلي كنت شفاهيًا وتراثيًا، بأثر مما دفعني إليه والدي طفلًا ذات بداية ثمانينيات في الصحراء المغربية، وبالداخلة خصوصًا، أقصى جنوب المغرب، بمحاذاة بلاد شنقيط وموريتانيا، هناك حيث سلخت ما يقارب 13 سنة من فتوتي. والداخلة لم تكن حينها مدينة كما هي الآن، بل كانت بسبب ظرف الحرب والجغرافيا، جزيرة منقطعة تمامًا، ليس لأن البحر يحفها من ثلاث جهات فقط، بل لأنها لم تكن تتصل بالعالم الخارجي، بالنسبة للمدنيين، إلا مرة كل أسبوعين وعبر البحر، وقد جعلها هذا الأمر أشبه بالمنفى الجميل والهادئ، منفى ليس لك من أسباب التسلية فيه، خلا انتهاء الدروس الرسمية القليلة، إلا صيد السمك والذهاب للمسجد والجلوس مع الأتراب لتعلم اللغة والأدب القديم في جلسات عامة وخاصة؛ إذ إن الرحل الذين أجبروا على الاستقرار في المدينة حينها، بسبب اشتعال الحرب في باديتهم الشاسعة، كانوا مشتهرين بهذا، وكان من بينهم أناس لهم قدرات مذهلة على الحفظ والاستظهار، وملكات عجيبة في قرض الشعر وفي إتقان علوم النحو واللغة. والحقيقة أنني كنت وما زلت مدينًا لهذه الفترة بأشياء كثيرة، لأنها هي ما مكنني من أن أطلع على الثقافة العربية القديمة، وأن «أؤصل» معرفتي بالتراث، وقناعتي أن من لم يؤصل لن يفرع، هكذا فسأقول إنني مدين في الجهد الذي بذلته لفهم شيء من الفلسفة الغربية المعاصرة، إلى هذا التأصيل الأول، لأنني لو لم أمتلك شيئًا من زمام اللغة العربية، معجمًا وصرفًا وتركيبًا، بأثر من تلك النشأة البعيدة، لما تمكنت من أن أكتب ذلك بالعربية، إذ من الأسهل على المرء أن يكتب عملًا عن الفلسفة الفرنسية مثلًا باللغة الفرنسية، إذا امتلك حدًا أدنى من هذه اللغة، فلا يكون عليه إلا أن يلخص فكر الرجل في لغته بلغته، لكن أن تفعل ذلك بلغة أخرى مختلفة تمامًا هي العربية، فهذا في أمري هو الأهم، لأنك حينها تقدم للغة المستضيفة، العربية في هذه الحال، إمكان تهجي ونطق واستيعاب واحدة من أهم تجارب الفكر الغربي، وهذا ما يمنحها نفسًا مضافًا وقدرة أكبر على الحياة ومسايرة زمن العالم.
عادة ما نعتبر أن خدمة العربية والتراث يكون بالانهمام به والاشتغال فيه «داخليًا» من جهة ما هو مضامين، وهذا خطأ كبير، لأن التراث «أفضى» إلى التاريخ بما فيه، الأهم هو الإبقاء على حياة حامل هذا التراث وقلبه النابض الذي هو اللغة، بيد أن خدمة لغة ما لا تكون في الجمود على «ماضيها»، بل في إفسالها وتقويتها وتزكيتها بالترجمات وبالتمرين على «تحديثها» بمحاولات جعلها، كما ذكرت سابقًا، تتمثل وتستوعب تجارب ولغات الفكر المعاصر، هذا هو ما يمنح للغة ما قدرتها على الاستمرار. بهذا المعنى سيكون، في اعتقادي، الباحثون الذين يشتغلون بالترجمة في العربية وبالعربية، من متون غير عربية، هم حماة العربية بحق، لأنهم هم من يعطونها حقها في «المعاصرة»، وصدقني أن هذا عمل غاية في الصعوبة، أما أن يكتفي الواحد منا بالحديث داخل العربية بلغتها ومألوفها الفكري والمعجمي، أي بما نطقته منذ قرون، فهذا لا يفعل إلا أن يزكيها في قدامتها وموتها البطيء. على هذا الأساس فما ينبغي أن نفهمه، ولو أن هذا يقتضي حدًا أدنى من الوعي الجدلي، هو أن من يبدو في الظاهر «يبتعد» عن هذه الثقافة وهذا التراث، هو من يقترب منه على الحقيقة، وهنا تكمن أهمية وقيمة كل من يشتغل بهذا الأمر في وقتنا الراهن. الأمر ليس ثنائية أخلاقية بسيطة بين تغريب ونزعة تراثية، بل هي رهان على من يستطيع تجاوز هذه الثنائية الساذجة ويمنح إمكانات لحياة الفكر واللغة خارج ماضيها.
[1] G.Guest, Wittgenstein et la question du livre, Broché –2003