The Metropolis and Mental Life
Georg Simmel
للقراءة والتحميل pdf : الحاضرة والذّهنيّة – منصة معنى
تنبعُ أعمقُ مشاكل الحياة الحديثة من محاولة تمسّك الفرد باستقلاليّة وفرديّة «individuality» وجوده ضدّ سلطات المجتمع العليا، وثقل الإرث التّاريخيّ، وثقافة وتقنيّة الحياة الخارجيّتين عنه. ويمثّل هذا التّضاد «antagonism» الشّكل الأكثر حداثةً للنّزاع مع الطبيعة الذي يجب أن يواصل خوضه الإنسان البدائيّ لأجل وجوده المادّيّ. قد دعا القرن الثّامن عشر إلى التّحرّر من الرّوابط كلّها التي نشأت تاريخيًّا في السّياسة، والدّين، والأخلاق، والاقتصاد لكي يُسمَحَ لفضيلة الإنسان الطبيعيّة الأصليّة، والمتساوية لدى النّاس جميعهم، أنْ تنموَ من دون مانعٍ؛ وإلى جانب نشر حرّيّة الإنسان سعى القرن التاسع عشر أيضًا إلى نشر فرديّة الإنسان (المرتبطة بتقسيم العمل «Division of Labour»)، وتخصّصاته التي تجعل من الفرد فريدًا لا يمكن الاستغناء عنه، ولكنّها في الوقت نفسه تجعله أكثر اعتمادًا على نشاط الآخرين التّكامليّ؛ رأى نيتشه «Nietzsche» في الصّراع القاسي شرطًا مسبقًا لتحقيق النّموّ الكامل للفرد، في حين عثرت الاشتراكيّة على الشّيء عينه في قمع كلّ منافسةٍ _ لكنْ في كلّ حالةٍ من تلك الحالات نجد الحافز الأساسيّ نفسه، ألا وهو مقاومة الذّات للتّسوية والتّواري في الآليّة الاجتماعيّة-التّقنيّة «Social-technological mechanism». عندما يتساءل المرء حول نتاج المظاهر الحديثة للحياة المعاصرة بالإشارة إلى معانيها الداخليّة – أي، إذا جاز التّعبير، عندما يتفحّص المرء جسمَ الثقافة بالإشارة إلى الرّوح، كالذي أقوم به اليوم في ما يخصّ الحاضرة «Metropolis» – فستتطلّب الإجابة عليه تَفحّصَ تعزيز بنيةٍ اجتماعيّةٍ للعلاقة القائمة بين المظاهر الفرديّة للحياة «individual aspects of life» والمظاهر المتعالية عن وجود أفرادٍ فرديّين «single individuals». كما ستتطلّب الإجابة تفحّصَ التّكيّفات «Adaptations» التي وضعتها الشخصيّة «Personality» في تأقلمها مع القوى الواقعة خارجًا عنها.
إنّ الأساس النفسيّ الذي تُشاد عليه الفرديّة في الحاضرة هو تكثيف الإثارة العصبيّة «intensification of nervous stimulation» نتيجة التّغيير السّريع والمتتالي للمثيرات الخارجيّة والداخليّة. فالإنسان مخلوقٌ يقوم وجوده على الاختلافات، أي يثيرُ ذهنَه الاختلافات القائمة بين الانطباعات الحاليّة وبين الانطباعات السّابقة. فالانطباعات الدّائمة «Lasting impressions»، والفروقات البسيطة في اختلافاتها، والانتظام المعتاد لمسارها وتناقضاتها، تستهلك، إذا جاز التّعبير، طاقةً ذهنيّةً أقلّ من التّكثّف السّريع للصور المتغيّرة، ومن الفجوات الواضحة في كلّ ما يُدركه لمحُ البصر، وكذلك تستهلك طاقةً ذهنيّةً أقلّ من فجائيّة المثيرات العنيفة. ومن خلال خلق تلك الحالات النّفسيّة – كما في طريقة السّير في الشّارع، وفي وتيرة وتنوّع طريقة العيش الاقتصاديّة، الوظيفيّة، والاجتماعيّة – تخلُقُ الحاضرة في الأسس الحسّيّة للذّهنيّة «Mental life»، وفي درجة الوعي التي يستلزمها تنظيمنا لها، بما أنّنا مخلوقاتٌ تقوم على الاختلافات، تعارضًا عميقًا مع المدن الصّغرى والحياة الرّيفيّة حيث تكون وتيرة العيش والتّصوّر الحسّيّ-الذهنيّ أبطأ، وأكثر اعتيادًا في جريانهما.
بذلك تصبح الخاصّيّة العقلانيّة للذّهنيّة في الحاضرة «intellectualistic character of mental life of the metropolis» حسّيّةً بمقابل المدن الصّغرى التي تعتمد على المشاعر والرّوابط العاطفيّة. هذه الأخيرة متجذّرةٌ في مستويات الذّهن اللّاواعية وتنمو سريعةً في عاداتٍ غير مختلٍّ تناغمُها. في حين أنّ موضع العقل «Reason» يكمن في قسم الذّهن العلويّ «Upper strata of the mind» الواعي والجليّ، وهو الأكثر تأقلمًا من بين قوانا الداخليّة.
ولكي يعوّد العقل نفسه على منعطفات وتناقضات الأحداث، فهو لا يحتاج إلى الاضطرابات والانتفاضات الدّاخليّة. فمن خلال هذه الاضطرابات والصّدمات تتمكّن الشخصيات الأكثر محافظةً على تكييف ذواتها مع الوتيرة نفسها للأحداث. هكذا يخلق قاطن الحاضرة «Metropolitan type» – الذي يتعرّض طبيعيًّا لألف تعديلٍ فرديًّ – عضوًا حمائيًّا «Protective organ» لنفسه كي يحميه من العرقلة العميقة التي تهدّدها تقلّبات وانقطاعات محيطه الخارجيّ. وعوضًا عن التّفاعل عاطفيًّا يتفاعل قاطن الحاضرة أساسًا بطريقةٍ عقلانيّةٍ، فيخلق بذلك هيمنةً فكريّةً عبر تكثيف الوعي. إذن ينتقل تفاعل قاطن الحاضرة مع تلك الأحداث إلى دائرة النشاط الذهنيّ الأقلّ حساسيّةً والأبعدُ عن أعماق الشخصيّة «Depths of personality». وتقوم هذه الخاصّيّة العقلانيّة «Intellectualistic quality» بحماية الحياة الدّاخليّة من هيمنة الحاضرة، حيث تتفرّع إلى ظواهرَ محدّدةٍ عديدةٍ.
لقد كانت الحاضرة دائمًا مركز الاقتصاد النّقديّ «Money economy» لأنّ تعدّديّة جوانب النّشاط البشريّ وتمركزه قد أعطيا لوسائل التّبادل أهمّيّةً لا يمكن اكتسابها في المظاهر التّجاريّة للحياة الرّيفيّة. لكنّ الاقتصاد النّقديّ وهيمنة العقل تجمعهما علاقةٌ أقرب. إذ يشترك كلاهما في الأسلوب العمليّ الخالص في معاملة الأشخاص والأشياء، حيث تجتمع في المعاملة غالبًا عدالةٌ رسميّةٌ وقساوةٌ شديدةٌ. فالشّخص العقلانيّ الخالص هو لامبالٍ «indifferent» بالأمور الشّخصيّة كلّها، لأنّ منها تنشأ العلاقات والتّفاعلات التي لا تُفهم كاملةً عبر مناهجَ عقلانيّةٍ خالصةٍ _ مثلما لا يدخل عنصر الأحداث الفريد في المبدأ النّقديّ. يتعلّق المال حصراً بما هو مشتركٌ لدى النّاس جميعًا، أيّ بقيمة التّبادل «exchange value» التي تختزل كلّ نوعيّةٍ وفرديّةٍ إلى مستوى كمّيًّ «quantitative level». تعتمد الرّوابط العاطفيّة القائمة بين الأشخاص على فرديّتهم، بينما تتعامل الرّوابط العقلانيّة «Intellectual relationships» مع الأشخاص على أنّهم أعدادٌ، أي كأنّهم عناصرُ في ذاتها لامباليةٌ، ولكنّها ذات منفعةٍ فقط بقدر ما يمكنها تقديم شيءٍ مُدركٍ موضوعيًّا. بهذه الطريقة يتعامل قاطن الحاضرة مع تاجره، مع زبونه، ومع خادمه، وغالبًا مع أشخاص ينتمون إلزاميًّا إلى شبكته الاجتماعيّة. هذه الرّوابط العقلانيّة تقابلها طبيعة الدّائرة الصّغرى حيث تنتج المعرفةُ المحتومةُ للخواصّ الفرديّة «Individual Characteristics»، مع حتميّةٍ مشابهةٍ، نبرةً عاطفيّةً في التّصرّف، وسلوكًا يتخطّى مجرّد إيجاد توازنٍ الخدمات والمردودات.
أمّا في ما يتعلّق بالمظهر الاقتصاديّ-النفسيّ للمشكلة المطروحة، فالأمرُ الأساسيُّ هو أنّ الإنتاج في الثّقافات البدائيّة كان محصورًا بطلب الزبون للمُنتَج، ما يعني أنّ المُنتِج والمشتري عرفا بعضهما. بينما تُزوّد المدينة المعاصرة بإنتاجٍ حصريًّا للسّوق، أي لمشترِينَ مجهولي الهويّة تمامًا، والذين لا يظهرون من ضمن نطاق الرّؤية الفعليّ للمُنتِجينَ أنفسهم. وتبعًا لذلك تتطلّب مصالحُ الطّرفَيْنِ عَمَلانيّةً «matter-of-factness» عديمة الرّحمة، فلن تخشى أنانيّتهما الاقتصاديّة «economic egoism»، القائمة على الاحتساب العقلانيّ، أيّ انحرافٍ عن الدّرب المقرّر نتيجة استحالة وَزْن الرّوابط الشّخصيّة. هذه المسألة واضحةٌ في الاقتصاد النّقديّ الذي يهيمن على الحاضرة، بحيث تمّ التخلّص من بقايا الإنتاج المحلّيّ والسّلع المُقايضة مباشرةً، وبحيث ينخفض يوميًّا معدّلُ الإنتاج بحسب الطّلب الشّخصيّ المباشر. علاوةً على ذلك، إنّ تكامل واندماج الذّهنيّة العقلانيّة بالاقتصاد النقديّ يُصعّب الإجابة عن أيّهما أثّر بالآخر. وثمّة أمرٌ واحدٌ أكيدٌ هو أنّ نمط الحياة في الحاضرة يمثّل التّربة التي تغذّي هذا التّفاعل بأكثر طريقةٍ مثمرةٍ، وهذه الفكرة لا تعبّر عنها بدقّةٍ سوى عبارة أكثر مؤرّخي الدّستور الإنكليزي حصافةً: «على مرّ التاريخ الإنكليزي لم تلعب لندن دور قلب إنكلترا بل لعبت غالبًا دورَ عقلها ودائمًا كيسَ مالها.»
نجد في بعض الخواصّ أو السّمات التّافهة للمظاهر الخارجيّة للحياة عددًا من الميول الذّهنيّة المميّزة «characteristic mental tendencies». أصبحت الذّهنيّة الحديثة «modern mind» أكثر فأكثر ذهنيّةً تخطيطيّةً حاسبةً. إذ يتوافق التّخطيط الدّقيق للحياة العمليّة، والذي نتج عن الاقتصاد النقديّ، مع نموذجيّة العلم الطبيعيّ، أي تحويل العالم إلى مشكلةٍ حسابيّةٍ وتعيين كلّ جزءٍ من أجزائه في معادلةٍ رياضيّةٍ. ولقد شغل الاقتصاد النّقديّ الحياة اليوميّة لعددٍ كبيرٍ من النّاس من خلال القياس، والاحتساب، والتّعداد، واختزال القيم النّوعيّة إلى قيمٍ كمّيّةٍ. وبسبب طبيعة المال الحسابيّة ثمّة دقّةٌ في روابط عناصر الحياة، ودرجةٌ من اليقين في تحديد المساواة والتّفاوتات، ووضوحٌ تامٌّ في الاتّفاقيّات والتّرتيبات، وكذلك تمظهرت تلك الدّقّة خارجيًّا من خلال ترويج وانتشار ساعات الجيب. ولكنْ، تُعدّ أوضاع الحاضرة سببَ هذه السّمة المميّزة مثلما عُدّت نتيجةً لها. إذ إنّ روابط وشواغل قاطن الحاضرة النموذجيّ معقّدةٌ ومتعدّدةُ الأوجه، حيث تتلاقى علاقات ونشاطات قاطني المدن الكبرى في عضويّةٍ متعدّدة الأعضاء بسبب تجمّع عددٍ كبيرٍ من الأشخاص ذوي مصالحَ متباينةٍ. تبعًا لهذه الواقعة، سيؤدّي أيّ خللٍ أو عجزٍ في أكثر الوعود الخدمات دقّةً إلى انهيار كلّ شيءٍ وسقوطه في فوضى لا مهربَ منها. فإذا تعطّلت السّاعات كلّها في برلين بشتّى الطرق، ولو لساعةٍ واحدةٍ فقط، فستتأخّر الحياة الاقتصاديّة والتّجاريّة لمدّةٍ من الزّمن. وثمّة عاملٌ خارجيٌ آخر، وهو طول المسافات، فعلى الرّغم من أنّ الأمرَ يبدو في دلالته سطحيًّا، فهو سيجعل كلّ انتظارٍ وعدم التزامٍ بالمواعيد مضيعةً للوقت لا يمكن تكبّدها. لهذا السبب لا يمكن تصوّر تقنيّة الحياة في الحاضرة عمومًا من دون أنْ تكون فيها النّشاطات والعلاقات التّبادليّة جميعها منظّمةً ومنسّقةً بأدقّ طريقةٍ في إطارٍ ثابتٍ ومحكمٍ للوقت الذي يتعالى عن العناصر الذاتيّة كلّها.
لكنْ هنا تبرز أيضًا تلك الاستنتاجات التي تمثّل عمومًا المسعى الكامل لهذا النّقاش، وهو أنّ كلّ حدثٍ، مهما بدا محصورًا بهذا المستوى السّطحيّ، فهو سيتواصل مباشرةً مع أعماق النّفس، وأنّ أكثر الأمور الخارجيّة تفاهةً ترتبط، في التّحليل الأخير، بالقرارات النّهائيّة المتعلّقة بمعنى وأسلوب الحياة. ليست الدّقّة، والحسابيّة، والإتمام التي تتطلّبها تعقيدات وشموليّة الحياة الحاضرتيّة، مرتبطةً وحدها بشكلٍ وثيقٍ بخاصّيتَيْها الرّأسماليّة والعقلانيّة، بل إنّها تلوّنُ أيضًا محتوى الحياة، وتؤدّي إلى إزالة تلك السّمات الإنسانيّة اللّامنطقيّة والغريزيّة الحاكمة، وتلك المُثيرات «impulses» التي تسعى أصلاً إلى تحديد نمط الحياة من الدّاخل عوضًا عن تلقّي تحديدها في شكلٍ كلّيّ ذي تخطيطٍ محدّدٍ من الخارج. وليست تلك الحيوات المستقلّة والمتميّزة بالمثيرات الحيويّة مستحيلةً بشكلٍ كلّيّ في المدينة، وعلى الرّغم من ذلك تعارضها تلك الحيوات نظريًّا «in abstracto». وعلى ضوء هذا يمكننا تفسير كره بعض الشخصيّات أمثال رسكن «Ruskin» ونيتشه للحاضرة _ تلك الشّخصيّات التي وجدت قيمة الحياة محصورةً بالوجود غير المخطّط له الذي لا يمكن اختزاله إلى تعريفاتٍ دقيقةٍ، حيث ينبع فيه – ومن المصدر نفسه الذي نبع منه ذلك الكره – كرهٌ للاقتصاد النقديّ ولعقلانيّة الوجود «intellectualism of existence».
تلك العوامل نفسها التي أدّت في دقّة وتمام نمط الحياة إلى بنية أعلى تجرّدٍ عن الشّعور الشّخصيّ، أثّرت من ناحيةٍ أخرى في أعلى اتّجاهٍ شخصيّ. ربّما ليس ثمّة من ظاهرةٍ نفسيّةٍ مرتبطةً بلا قيدٍ أو شرطٍ بالمدينة كمثل ظاهرة أسلوب اللاّتأثّر «blasé outlook». بدايةً إنّها نتيجة مثيرات الأعصاب المتميّزة بتغيّراتها السّريعة وبتجمّع متعارضاتها، حيث يظهر لنا من خلالها أنّ تكثيف العقلانيّة الحاضرتيّة ناتجٌ عنها. وتبعًا لهذا الأساس من غير المرجّح أنّ الأشخاص الحمقى، والذين كانوا مجوّفينَ عقلانيًّا، سيصبحون لامتأثّرين. ومثلما تجعل حياة اللّذّة المفرطة المرءَ لامتأثّرًا، بسبب إثارتها للأعصاب، كي تبلغ الأعصاب تفاعلها الأقصى إلى حدّ أنّها لا تستطيع أنْ تنتجَ أيّة تفاعلٍ بعد ذلك، كذلك، من خلال سرعة المثيرات الخفيفة وتناقضية تغيّراتها تُدفع الأعصاب إلى استجاباتٍ عنيفةٍ، إذ تُمزّق المثيرات الخفيفة الأعصاب بطريقةٍ وحشيّةٍ إلى درجة أنّها تستنفد آخر احتياطات قوّةٍ عندها، فلا تجد وقتًا، مع بقائها في الوسط نفسه، كي تكوّنَ احتياطاتٍ جديدةً. في الواقع يؤلّف عدم القدرة على التّفاعل مع مثيراتٍ جديدةٍ بمعدّل طاقةٍ مطلوبٍ أسلوبَ اللاّتأثّر الذي يبديه كلّ طفلٍ من مدينةٍ كبرى عندما يُقارن بأطفال أوساطٍ أكثر سكونًا وثباتًا.
ثمّة مصدرٌ آخر ناتجٌ عن الاقتصاد النقديّ، حيث يجتمع معه المصدر الفيزيولوجيّ لأسلوب اللاّتأثّر الحاضرتيّ. إنّ جوهر هذا الأسلوب هو لامبالاةٌ «indifference» تجاه الفروقات بين الأشياء. ليس ذلك بمعنى أنّ تلك الأشياء لا تُدرك، كما في حالة البلادة الذّهنيّة، بل بمعنى أنّ المعنى «meaning» وقيمة الفروقات بين الأشياء، وتاليًّا الأمور أنفسها، تُختبر على أنّها خاليةٌ من المعنى، إذ تظهر للشّخص اللاّمتأثّر متجانسةً، كامدةً، ورماديّة اللّون من دون استحقاق التفاضل بين أيّ منها. هذا المزاج النفسيّ هو الانعكاس الذاتيّ الصّحيح للاقتصاد النّقديّ، إلى حدّ أنّ المال يتّخذ مكانة الأشياء المتعدّدة، فيعبّر عن الفروقات النّوعيّة فيما بينها من خلال فروقات الكمّيّة. إلى حدّ أنّ المال، سيصبح قاسمًا مشتركًا للقيم جميعها، ومن خلال عدم تحيّزه «coulorlessness» وخاصيّته اللّامبالية سيصبح هو المسوّي المخيف «frightful leveller» _ أي يفرغ المال لبّ الأمور، ومميّزاتها، وقيمها المحدّدة، وفرادتها، وتميّزها بطريقةٍ لا يمكن استرجاعها. تطفو الأشياء جميعها بتساوٍ في مجرى المال المتحرّك باستمرارٍ. كما تقوم كلّها على المستوى نفسه وتُميّز وفق مقاييس المساحة التي تشغلها. ففي الحالات الفرديّة قد يكون هذا التّحيّز للأمور، أو بالأحرى إزالة التّحيّز «de-colouring»، وعبر معادلته بالمال، صغيرًا لدرجةٍ لا يُدرك فيها. ولكنْ، في العلاقة القائمة بين الشّخص الثريّ والأشياء التي تشترى لقاء المال، وربّما في الخاصيّة الجامعة التي تُلحقها ذهنيّةُ النّاس الحديثة بهذه الأشياء، بات تقييمها جديرًا بالاعتبار.
لهذا السّبب إنّ الحاضرة مركز التّجارة، حيث تبدو إمكانيّة شراء الأشياء في مظهرٍ مختلفٍ عمّا هي عليه في اقتصاداتٍ أكثر بساطةً. وللسّبب نفسه أيضًا تُعدُّ الحاضرةَ مركز أسلوب اللاّتأثّر، حيث يثير تمركز النّاس والأشياء القابلة للشّراء الجهاز العصبيّ للأفراد إلى درجةٍ عاليةٍ، حتّى يبلغَ قمّةَ الطاقة العصبيّة. ومن خلال التكثيف الكمّيّ للشّروط نفسها، يتحوّل هذا الأمر إلى نقيضه، أي إلى تلك الظاهرة المتكيّفة: أسلوب اللّاتأثّر، حيث تكشف الأعصاب عن آخر إمكانيّةٍ لديها كي تتكيّفَ مع محتوى ونمط الحياة في الحاضرة، وذلك عبر رفض التّفاعل مع مثيراتها. إذ يقوم حفظ الذّات «self-preservation» عند بعض الشخصيّات على حساب تقويض قيمة العالم الموضوعيّ بكامله، فينتهي الأمر حتميًّا بجرّ الشخصيّة نزولاً إلى شعورٍ بعدم قيمتها «valuelessness».
في حين أنّ على الذّات أنْ تتّفقَ مع هذا الشّكل من الوجود لأجل نفسها، إذ يتطلّب حفظ ذاتها في وجه المدينة الكبرى تصرّفًا اجتماعيًّا ليس أقلّ سلبيّةً. ومن منظورٍ رسميّ يمكن اعتبار الأسلوب الذهنيّ لسكّان الحاضرة نحو بعضهم البعض أنّه أسلوب وقايةٍ. إذا يجب أنْ تُقابلَ أعداد الاتّصالات الخارجيّة المتلاحقة للأشخاص في المدينة بعدد التفاعلات الداخليّة نفسها، كما في المدن الصّغرى حيث يعرف المرء تقريبًا كلّ شخصٍ يلتقيه، وحيث تجمعه مع كلّ واحدٍ من هؤلاء الأشخاص علاقةٌ إيجابيّةٌ، فسيُذرَّر المرء كلّيًّا داخليًّا وسيقع في حالةٍ ذهنيةٍ لا يمكن تصوّرها. وما يُحتّمُ تلك الوقايةَ جزئيًّا هذا الظّرفُ النفسيّ، وجزئيًّا أيضًا امتيازُ الشّكّ، ذلك الامتياز الذي نملكه بوجه عناصر الحياة في الحاضرة (تلك العناصر التي تلامس مرارًا بعضها بعضًا تلامسًا خاطفًا)؛ نتيجةً لذلك، لا نعرف عن طريق البصر الذين كانوا طوال السنين جيرانًا لنا، الأمر الذي يجعلنا غالبًا نظهر باردي الأعصاب ومتحجّري القلب لأهل المدن الصّغرى.
فعلاً، إنْ لم أكن مخطئًا، ليس الجانب الداخليّ لهذه الوقاية الخارجيّة هو لامبالاةً فقط، بل على الأغلب ممّا نعتقد، إنّه نفورٌ بسيطٌ «slight aversion»، وغرابةٌ متبادلةٌ، واشمئزازٌ مشتركٌ، وهو الذي يتحوّل إلى كرهٍ وصراعٍ لحظةَ اتصالٍ قريبٍ، مهما تكن الطّريقة التي استُحثَّ فيها. يُبنى التنظيم الداخليّ كلّه لهذا النّوع من الحياة التجاريّة المضخّمة على بنيةٍ متغيّرةٍ جدًّا للأنواع الأطول أو الأقصر أمدًا من التّعاطف، واللامبالاة، والنّفور. لهذا السبب ليست حلقة اللامبالاة عظيمةً مثلما تبدو عليه ظاهريًّا. تستجيب أذهاننا تقريبًا، ببعض الشّعور المحدّد، لكلّ انطباعٍ يفيض من شخصٍ آخر. يبدو أنّ اللاوعي، والانتقاليّة «transitoriness»، وتغيّر تلك المشاعر هي التي لا ترفعها إلاّ إلى اللّامبالاة. في الواقع، ستبدو لنا اللاّمبالاة غير طبيعيّةٍ مثلما سيبدو الانغماس في فوضى الاقتراحات غير المرغوب فيها غيرَ مُطاقٍ. تخلّصنا الكراهيّة «antipathy» من هذين الخطيرينِ النّموذجيَّينِ للحياة في الحاضرة، تلك الكراهيّة التي تمثّل العلامة الخفيّة «latent adumbration» للتّضاد الفعليّ، لأنّها تأتي بنوعٍ من التّبعيد «Distantiation» والانحراف «Deflection»، إذ من دونهما لا يمكن الاستكمال بهذا النّمط من العيش مطلقًا. تؤلّف أبعاد الكراهيّة ومكوّناتها، ووتيرة ظهورها واختفائها، والأشكال التي تُرضيها، مع الدوافع المبسّطة (بمعناها الضيّق)، كلّيّةً غير مجزّئةٍ لشكل الحياة في الحاضرة. فما يبدو مباشرةً هنا على أنّه انفصالٌ «Dissociation» هو في الواقع أحد الأشكال الأساسيّة للتنشئة الاجتماعيّة «Socialization».
هذه الوقاية مع تابعها، أي النّفور المخفيّ، تبدو مجدّدًا شكل أو غُلُف سمةٍ نفسيّةٍ أعمّ للحاضرة. وتؤمّن هذه الوقاية للفرد نوعًا ودرجةً من الحرّيّة الشخصيّة حيث ليس ثمّة من مماثلةٍ «analogy» لها في ظلّ ظروفٍ أخرى. إذ تكمن جذورها في واحدةٍ من أكبر الميول المتطوّرة للحياة الاجتماعيّة؛ في واحدةٍ من عددٍ قليلٍ، حيث يمكن تقريبًا اكتشاف تركيبةٍ مُستنْفِدةٍ «exhaustive formula» فيها.
إنّ معظم المراحل الأساسيّة للتنظيم الاجتماعيّ «Social organization» المعثور عليها تاريخيًّا كما حاضرًا، هو الآتي: حلقةٌ صغيرةٌ نسبيًّا ومغلقةٌ بكاملها تقريبًا أمام المجموعات القريبة «neighboring»، الغريبة «foreign»، أو المتضادّة «antagonistic» – إنّما لها في نفسها تماسكٌ ضيّقٌ لدرجة أنّ الفرد العضو فيها يملك مساحةً صغيرةً فقط لتنمية مهاراته، ولممارسة النّشاط الحرّ. بهذه الطريقة تبدأ المجموعات السّياسيّة والعائليّة، وكذلك الجماعات السّياسيّة والدّينيّة؛ ويتطلّب حفظ الذّات لدى الجمعيّات الشّابة «young associations» تحديدًا صارمًا للحدود، ووحدةً جاذبةً نحو المركز، ولهذا السّبب لا يستطيع حفظ الذّات أنْ يعطيَ مساحةً للحريّة ولخواصّ النّموّ الدّاخليّ والخارجيّ عند الفرد.
من هذا الطّور ينطلق التطوّر الاجتماعيّ بوقتٍ متزامنٍ في اتّجاهينِ متباعدينِ ولكنّهما على الرَّغم من ذلك متجانسانِ. لدرجة أنّ المجموعة تنمو عدديًّا، مكانيًّا، في معنى الحياة ومحتواها، فتصبح وحدتها الدّاخليّة السّريعة ضعيفةً، ويتحوّل حدّ حدودها الأصليّة «definiteness of its original demarcation» بالنّسبة للآخرين ليّنًا، من خلال التّفاعلات والاتّصالات الداخليّة المتبادلة. وفي الوقت نفسه يكتسب الفرد حريّة حركةٍ تتجاوز الحدّ الغَيور «jealous delimitation»، ويكتسب أيضًا فرادةً وفرديّةً، هما اللّتان يعطيهما تقسيم العمل في المجموعات التي كَبُرَتْ، إمكانيّةً وضرورةً.
ولكنْ يمكن للحالات الفريدة وقوى المواقف الفرديّة أنْ تعدّل هذا المخطّطَ العامّ، على الرّغم من أنّ الدّولة والدّيانة المسيحيّة، النّقابات والأحزاب السياسيّة، وعددًا لا يُحصى من المجموعات الأخرى تطوّرت بشكلٍ متجانسٍ مع هذه التركيبة.
أمّا هذا المخطّط فيبدو لي ظاهرًا بشكلٍ جليّ أيضًا في نموّ الفرديّة داخل إطار الحياة المدينيّة. فقد فرضت حياة المدن الصُّغرى، في العصور القديمة كما في القرون الوسطى، حدودًا على تحرّكات الفرد في علاقاته مع العالم الخارجيّ، كما وضعت حدودًا على استقلاليّته الدّاخليّة واختلافه، إلى حدّ أنّ الشخص الحديث لا يستطيع حتّى التّنفّس في ظلّ هكذا ظروفٍ. وإلى يومنا هذا، لا يزال يشعر قاطن المدينة، إذا ما وُضع في مدينةٍ صغيرةٍ، بنوعٍ من التضييق الشبيه بذلك. كلّما كانت الحلقة التي تشكّل بيئتنا أصغر، وكلّما كانت الرّوابط المتعالية فوق الحواجز محدودةً، كلّما ستراقب الجماعة الضيّقة بحماسٍ أعمال الفرد، وتصرّفاته في الحياة، وأساليبه، وكلّما أيضًا ستتجاوز الفرديّة، سواءٌ أكمّيّةً كانت تلك الفرديّة أم نوعيّةً، حواجز تلك الجماعة.
من هذا المنطلق تبدو البوليس (المدينة) «Polis» القديمة أنّ لديها خاصّيّة المدينة الصغيرة. فقد جلب تهديد الأعداء الدّائم لوجودها، من القريب والبعيد، تماسكًا جدّيًّا في المسائل السّياسيّة والعسكريّة، وإشرافًا من المواطن على مواطنينَ آخرين، وغيرةً عند الكلّ موجّهةً نحو الفرد الذي تمّ قمع حياته الخاصّة لدرجة أنّه استطاع أن يعوّض عنها فقط من خلال لعب دور طاغٍ في منزله. وقد تُفهم الإثارة والقلقلة الهائلتان، وتلوّن الحياة الأثينيّة «Athenian life» المميّز، بواقعة أنّ قومًا ذوي شخصيّاتٍ فرديّةٍ بشكلٍ لا يقارن كانوا في صراعٍ مستمرٍّ مع القمع الداخليّ والخارجيّ الدائم للمدينة الصغيرة مُزيلة الفرديّة «De-individualizing small town». إذ ولَّد هذا الأمر جوًّا من التّوتّر حيث قُمع الأفراد الضعفاء وأُجبر الأقوياء على أنْ يبرهنوا أنفسهم بأكثر طريقةٍ متحمّسةٍ. ولهذا السّبب ازدهر في أثينا، ومن دون القدرة على تحديده بدقّةٍ، ما يجب اعتباره «الخاصّيّة الإنسانيّة العامّة» في النموّ العقلانيّ لجنسنا البشريّ. هنا نتمسّك بالصّدقيّة الموضوعيّة والتاريخيّة لهذا التّرابط: إنّ أوسع محتويات الحياة وأعمّ أشكالها ترتبط حميميًّا بأكثر محتويات الحياة وأشكالها فرديّةً. فلدى كليهما مرحلةٌ أوّليّةٌ مشتركةٌ، ولهما الأعداء نفسهم في التّشكيلات والمجموعات الضيّقة، التي تسعى إلى حفظ ذاتها، ما يضعهما في صراعٍ مع ما هو واسعٌ وعامٌّ من الخارج وكذلك مع ما هو متحرّكٌ بحريّةٍ وفرديٌّ من الدّاخل. والحالُ كما في أيّام الإقطاع عندما كان الرجل «الحرّ» هو من التَزَمَ بقانون الأراضي «law of the land»، أي قانون أكبر وحدةٍ اجتماعيّةٍ «Largest social unit»، أمّا العبد فكان من استمدّ حقوقه الشّرعيّة فقط من الحلقة الضيّقة لجماعةٍ إقطاعيّةٍ فيما يُقصى من الوحدة الاجتماعيّة الكبرى – كذلك في يومنا هذا يكون مواطن الحاضرة «حرًّا»، في معنى معقلنٍ «Intellectualized» ومهذّبٍ، بمقابل قاطن المدينة الصغيرة المقيّد بكثيرٍ من التّفاهة والإجحاف. فلا يشعر الفرد بتأثير الوقاية واللامبالاة المشتركين، ولا بتأثير الحالات العقلانيّة للحياة في المجموعات الاجتماعيّة الكبرى، على استقلاليّته، إلاّ عند تواجده بين الجموع المتراصّة في الحاضرة، لأنّ التّلاصق الجسديّ وضيق المساحة يجعلان المسافة العقلانيّة مرئيّةً للمرّة الأولى. ومن الواضح أنّ المرء في مجرّد ملاحظة هذه الحرّيّة، تحت ظروفٍ معيّنةٍ، لا يشعر بوحدةٍ وتخلٍّ مثلما يشعره حينما يكون بين جموع الحاضرة. لأنّ هنا، كما في أيّ مكانٍ آخر، ليست من الضّروريّ أنْ تعكس حرّيّة الإنسان نفسها في حياته العاطفيّة فقط كتجربةٍ مبهجةٍ.
ليس حجم المساحة وعدد السكّان وحدهما ما يجعلان من الحاضرة مركز الحرّيّة الشّخصيّة، الداخليّة والخارجيّة، إذ بحسب تاريخ العالم ثمّة ترابطٌ قائمٌ بين ازدياد أعداد الوحدة الاجتماعيّة ودرجة تلك الحرّية الشخصيّة. وإنّما ما جعل الحاضرة هكذا هو التّعالي فوق هذا التوسّع الظّاهر، كي تصبح أيضًا مركز المدينيّة الكونيّة «Cosmopolitanism». يتوسّع أفق الفرد بطريقةٍ شبيهةٍ بنموّ الثراء، حيث تتزايد نسبةٌ معيّنةٌ من الملكيّة بطريقةٍ شبه تلقائيّةٍ وتقدّمٍ سريعٍ لا مثيل له. وحالما يمرّ حدٌّ معيّنٌ، ولأوّل مرّةٍ، تكبر الروابط الاقتصاديّة، والشخصيّة، والعقلانيّة في المدينة (حيث تمثّل هذه الروابط الانعكاس المثاليّ للمدينة)، بالطريقة نفسها، أي بتقدّمٍ هندسيّ «Geometrical progression». لا يمهّد كلّ توسّعٍ ديناميٍّ إلى توسّعٍ شبيهٍ بالسّابق، بل إلى توسّعٍ أكبر، ومن كلّ خيطٍ ينمو من المدينة، ينمو كذلك من تلقاء نفسه عددٌ لامتناهٍ من الخيوط. ويمكن أنْ يُفسّر ذلك بحقيقة أنّ القيمة المضافة «Unearned increment» لإيجار الأرض في المدينة، وبفضل ازديادٍ في التّواصل، تجلب إلى مالكها أرباحًا متزايدةً تلقائيًّا.
في هذه المرحلة تتحوّل مظاهر الحياة الكمّيّة إلى مظاهرَ نوعيّةٍ. إنّ دائرة حياة المدينة الصغيرة مغلقةٌ أساسًا على نفسها وبنفسها. فإنّ توسّع الحياة الداخليّة في الحاضرة، بحركةٍ شبيهةٍ بالموج، وعلى مساحةٍ وطنيّةٍ ودوليةٍ تمتدّ بعيدًا، أمرٌ أساسيٌّ بالنّسبة للحاضرة نفسها. وليست فيمار «Weimar» استثناءً، لأنّ مكانتها اعتمدت على الشخصيّات الفرديّة وانتهت بموتهم، بينما تتميّز الحاضرة باستقلاليّتها الأساسيّ حتّى مع أكثر الشخصيّات الفرديّة أهمّيّةً؛ تشكّل تلك الحالة السّابقة نقيض «Antithesis» الاستقلاليّة، وهذا هو ثمن الاستقلاليّة الذي يدفعه الفرد كي يتمتّع بها في الحاضرة.
يكمن مظهر الحاضرة الأكثر تأثيرًا في مداها الوظيفيّ «functional magnitude» الذي يتعدّى حدودها الفيزيائيّة، ويتفاعل هذا التأثير مع الحياة في الحاضرة، فيعطيها ثقلًا، وأهمّيّةً، ومسؤوليّةً. وكذلك، لا يتوقّف المرء عند حدود جسده الفيزيائيّة أو عند المساحة التي يرتبط بها نشاطه الفيزيائيّ، بل يعانق عوضًا عن ذلك كامل التأثيرات ذات المعنى التي تفيض منه زمنيًّا ومكانيًّا. بالطريقة نفسها تتكوّن المدينة فقط في تأثيراتها النّهائيّة التي تتجاوز حدودها الحاليّة. يُشكّل هذا النّطاق وحده المدى الفعليّ للمدينة حيث يعبّر فيه عن وجودها.
يثير هذا انتباهنا إلى أنّ الحرّيّة الفرديّة، التي تشكّل التّكامل المنطقيّ التاريخيّ لهذا التوسّع، لا يجب أن تُفهم بمعنى سلبيّ على أنّها مجرّد حرّيّة حركةٍ وإعتاقٍ «emancipation» من الإجحاف وخشونة الذّوق «Philistinism». وعوضًا عن ذلك يُعثر على خاصّيتها الجوهريّة في الفرادة وانقطاع النّظير «incomparability» الموجودتان عند كلّ شخصٍ، إذ يُعبَّر عنهما في وضع نمط حياةٍ. إنّ اتّباعنا قوانينَ طبيعتنا الداخليّة – وهذه بنهاية الأمر هي الحرّيّة – يصبح جليًّا ومقنعًا لنا ولغيرنا، فقط إذا تميّزت تمظهُرات هذه الطبيعة عن تمظهُرات الآخرين؛ وحده تمايزنا هو ما يبرهن أنّ نمط وجودنا لا يُفرضه علينا آخرون من الخارج.
بدايةً تعدّ المدن مراكز أعلى تقسيمٍ اقتصاديّ للعمل. فهي تُنتج ظواهر شديدةً جدًّا، كما في مهنة الكاتورزيم «quatorzième» المربحة في باريس: إنّهم أشخاصٌ يُعرفون عبر علاماتٍ موضوعةٍ على أمكنة إقامتهم، ويرتدون وقت الغداء لباسًا مناسبًا مُتهيّئينَ، حتّى إذا ما كانت طاولة الغداء مؤلّفةً من ثلاثة عشر شخصًا، تراهم حضروا بسرعةٍ إنْ دُعيوا إليها. تمامًا بمقدار توسّعها، تعرض المدينة أكثر فأكثر الشروط الأساس لتقسيم العمل. إذ تعرض المدينة وحدةً تتقبّل، بسبب حجمها الكبير، تعدّديّة الخدمات الأكثر تنوّعًا. بينما في الوقت نفسه، يفرض تمركز الأفراد وتصارعهم للزبون على الفرد التّخصّص بمهنةٍ حيث سيكون من الصّعب استبداله بشخصٍ آخر فيها.
تكمن الواقعة الأساسيّة هنا في أنّ الحياة المدينيّة حوّلت الصّراع مع الطّبيعة لموارد الحياة إلى صراعٍ مع البشر لتحقيق الأرباح، فالرّبح الذي يتصارع النّاس لأجله لا تمنحه الطّبيعة بل يوفّره الإنسان. لذلك لا نجد مصدر التّخصّص المذكور سابقًا في المنافسة للرّبح وحدها، إنّما نجد مصدره أعمق من ذلك، أي هناك عند البائع الذي عليه أن يسعى إلى جذب الزّبون من خلال إثارة حاجاتٍ جديدةٍ وفريدةٍ لديه. إنّ ضرورة تخصيص الإنتاج، للعثور على مصدر دخلٍ غير مستنفدٍ، ومهنةٍ لا يمكن استبدالها بسهولةٍ، يؤدّي إلى تفريق، وتنقية، وإثراء حاجات الجمهور التي من الواضح أنّها ستؤدّي إلى زيادة الاختلافات الشّخصيّة داخل هذا الجمهور.
يشكّل ذلك التّفريق «Differentiation» نقطة انطلاقٍ إلى نوعٍ أضيق من تفرّد الخواصّ الذهنيّة «individuation of mental qualities»، ألا وهو التّفرّد العقلانيّ الذي توجده المدينة بتناسبٍ مع حجمها. ثمّة سلسلةٌ متكاملةٌ من العلل تتضمّنها هذه العمليّة: أوّلاً، ثمّة صعوبةُ عند المرء في تثبيت وترسيخ شخصيّته من ضمن إطار الحياة في الحاضرة، حيث وصل الازدياد الكمّيّ للقيمة والطاقة إلى أقصاه. فيتمسّك المرء بالتّفاريق النوعيّة كي يلفتَ انتباه الحلقة الاجتماعيّة عبر استغلال حساسيّتها تجاه اختلافات. وفي نهاية الأمر يدفع ذلك بالمرء إلى تبنّي أعجب الغرائب، وإلى تبنّي أنواعًا من الإسراف متعلّقةً بالحاضرة حصرًا: التصنّع، والنّزوة، والنّفاسة. ولا يكمن معنى هذه الأنواع من الإسراف في محتوى نشاطٍ كهذا، إنّما في كونها شكلاً «مختلفًا»، أي في جعل نفسه مرئيًّا يجذب انتباه الآخرين. بالنّسبة للعديد من الطّبائع تبقى وسائل الاحتفاظ بنوعٍ من الاعتداد بالذّات والإحساس بشغل منصبٍ غيرَ مباشرةٍ، من خلال انتباه الآخرين لها. وكذلك ثمّة عاملٌ غير مهمٍّ، حيث لا تزال تُذكر تأثيراته المتزايدة، ألا وهي قِصَر وشحّ اللّقاءات الممنوحة لكلّ فردٍ في الحاضرة، مقارنةً بالمعاشرة الاجتماعيّة في المدينة الصغيرة. لأنّ في الحاضرة نعثر على رغبة الفرد في الظّهور ملمًّا «to the point»، واضحًا، ومميّزًا بشكلٍ لافتٍ في اللّقاءات القصيرة، أكثر ممّا نجده في أمكنةٍ أخرى حيث تعطي العلاقات المعتادة والمطوّلة صورةَ شخصيّةٍ غير غامضةٍ للآخر.
يبدو لي أنّ السّبب الأعمق لواقعة أنّ الحاضرة تشدّد على السّعي إلى أكثر الأشكال فرديّةً من الوجود الشخصيّ – بغضّ النّظر عمّا إذا كانت مبرّرةً أو ناجحةً – هو الآتي: تميّز نموّ الثقافة الحديثة بهيمنة ما يمكن تسميّته بالرّوح الموضوعيّة «Objective spirit» على حساب تلك الرّوح الذاتيّة «Subjective spirit»؛ أيّ، في الّلغة كما في القانون، وفي تقنيّة الإنتاج كما في الفنّ، وفي العلم كما في أغراض البيئة المنزليّة، ثمّة تجسيدٌ لنوعٍ من الرّوح، وهو الذي يتبعه الفرد في نموّه العقلانيّ اليوميّ بشكلٍ ناقصٍ ومن بُعْدٍ متزايدٍ. على سبيل المثال، إذا لاحظنا الثّقافة الواسعة التي تجسّدت، خلال آخر قرنٍ مضى، في الأشياء والمعارف، والمؤسّسات، وفي الرّاحة، وإذا قارنّاها كلّها بالتقدّم الثقافيّ للفرد خلال المرحلة الزمنيّة نفسها _ على الأقلّ عند الطّبقات العليا _ فسنلاحظ اختلافًا مخيفًا في معدّل النموّ بين الاثنين، وهذا الذي يمثّل، في محطّاتٍ عدّةٍ، تراجعًا لثقافة الفرد في كلّ ما يتعلّق بالرّوحانيّة «Spirituality»، والرّهافة «Delicacy»، والمثاليّة «Idealism». وهذا التّباين هو في جوهره نتيجةُ نجاح التّقسيم المتزايد للعمل. لأنّ هذا التّقسيم للعمل يتطلّب من الفرد شكلاً أكثر تخصّصًا في الإنتاج حيث يشير تزايد التّخصّص غالبًا إلى الذّبول والتّكاسل في شخصيّته. على أيّة حالٍ، لم يعد باستطاعة هذا الفرد التّصدّي للنّموّ المتضخّم للثّقافة الموضوعيّة. إذ يُختزل الفردُ إلى كمّيةٍ ضئيلةٍ «quantité négligeable»، حيث قد يكون في وعيه أقلّ ممّا هو عليه في ممارسة نشاطه ومن الحالات المبهمة لمشاعره التي تنبع منه. فكأنّه أصبح مجرّد حبّة غبارٍ من ضمن تنظيمٍ هائلٍ للأشياء والقوى التي تأخذ من الفرد تدريجيًّا كلّ ما هو مرتبطٌ بالتقدّم، والرّوحانيّة، والقيمة، فقط كي تحوّلها من شكلٍ ذاتيٍّ إلى وجودٍ موضوعيٍّ خالصٍ.
ويكفي الإشارة إلى أنّ الحاضرة تشكّل الحلبة المناسبة لهذا النّوع من الثّقافة الذي نما متجاوزًا كلّ عنصرٍ شخصيٍّ. هنا، في المباني والمؤسّسات التّعليميّة، في عجائب ورغد التّقنيّة المتغلغلة في كلّ شيءٍ، في تشكيلات حياة الجماعات وفي المؤسّسات الفعليّة للدّولة، نجد ثراءً هائلاً من الإنجازات الثقافيّة اللّامشخصنة «de-personalized» والمبلورة، لدرجة أنّ الشخصيّة لا تستطيع، إذا جاز التعبير، التّمسك بذاتها في ظلّ هذه التّأثيرات. فمن ناحيةٍ تصبح الحياة أبدًا أكثر سهولةً للشّخصيّة، أي، تُمنحُ من الجوانب كلّها، المثيرات، والاهتمامات، واستغلال الوقت والوعي. فتقود الشّخص كأنّها تجرفه بمجرى، فلا تراه يحتاج إلى مجهودٍ فرديٍّ للسّباحة. أمّا من ناحيةٍ أخرى، فتتألّف الحياة أكثر فأكثر من هذه العناصر الثقافيّة اللاّشخصيّة «Impersonal»، ومن السّلع والتّقديمات التي تسعى إلى إزالة كلّ اصطباغٍ وتميّزٍ شخصيّ. نتيجةً لذلك، ولكي يحافظَ أكثر عنصرٍ شخصيّ فيه، على الفرد أنْ ينتج فرادةً وخصوصيّةً شديدتين، ولا بدّ له أن يُضخّم هذا العنصر الشّخصيّ ليبقى وجوده مدركًا حتّى عند الفرد نفسه. يُشكّل نُحُول الثّقافة الفرديّة «atrophy of individual culture»، عبر تضخّم الثّقافة الموضوعيّة «hypertrophy of objective culture»، أحد أسباب المقت الشّديد الذي يوجّهه مبشّرو الفردانيّة المتطرّفة إلى الحاضرة، سالكين بذلك خطى نيتشه. ولكن يفسّر هذا الأمر أيضًا لما هؤلاء المبشّرون محبوبون في الحاضرة، ولما يظهرون عند قاطنيها في هيئة أنبياءَ ومخلّصين يتهيؤون لتحرير رغباتهم غير المتحقّقة.
عندما تُفحص تلك الرّوابط الكمّيّة للحاضرة – والتي تغذّي شَكْلَيْ الفردانيّة: الاستقلاليّة الفرديّة، وإعداد الفرادة الشخصيّة – بالإشارة إلى مكانتها التاريخيّة، فسوف تربح الحاضرة قيمةً ومعنًى جديدَيْنِ كلّيًّا في التّاريخ العالميّ للرّوح. عثر القرن الثّامن عشر على الفرد في قبضة الرّوابط القويّة ذات طبيعةٍ سياسيّةٍ، زراعيّةٍ، نقابيّةٍ، ودينيّةٍ. تلك الرّوابط، التي باتت خاليةً من المعنى، كانت بمنزلة قيودٍ فرضت على الكائن البشريّ، في الوقت عينه، شكلاً غير طبيعيّ وتفاوتًا ظالمًا لوقتٍ طويلٍ. في هذه الحالة تعالت صرخةٌ للحريّة والمساواة، ذلك الاعتقاد بحرّيّة الحركة الكاملة للفرد في علاقاته الاجتماعيّة والعقلانيّة كلّها. وهذه الحرّيّة هي التي ستسمح بظهور جوهرها النبيل المتساوي عند الأفراد كلّهم، والذي وضعته الطّبيعة في كلّ واحدٍ منهم، وشوّهه المجتمع والتاريخ. إلى جانب هذا المثال الليبراليّ في القرن الثّامن عشر، نما في القرن التّاسع عشر مثالاً جديدًا، بفضل غوته «Goethe» والرّومنطيقيّين من جهةٍ، وبفضل التقسيم الاقتصاديّ للعمل من جهةٍ أخرى، ويقوم هذا المثال على أنّ الأفراد الّذين تحرّروا من روابطهم التاريخيّة، سعوا الآن إلى أنْ يتميّزَ بعضهم عن بعض. فلم تَعُدْ «الخاصّيّة الإنسانيّة العامّة» معيار قيمة الإنسان في كلّ فردٍ، بل أصبحت فرادته الكمّيّة وعدم استبداله. يتطوّر التّاريخ الدّاخليّ والخارجيّ لزمننا في صراع وتغيّر تشابكات نمطَيْ تحديد دور الفرد داخل المجتمع بكامله.
إنّها وظيفة الحاضرة أنْ تؤمّنَ مكانًا لهذا الصّراع ولمحاولات التّصالح بين النّمطينِ، في حين أنّ الحالات الفريدة للحاضرة تظهر لنا على أنّها المُناسبات والمثيرات لنموّ كِلا النّمطين. بذلك تكسب الحاضرة مكانًا فريدًا وغنيًّا بدلالاتٍ لا تنضب كي تنموَ الذّهنيّة. وتكشف الحاضرة نفسها على أنّها أحد الأبنية التاريخيّة العظمى حيث تجد التيّارات المتصارعة التي تتقبّل الحياة أنفُسها فيها متشعّبةً ومتّحدةً بتساوٍ. لكنّما بسبب هذا، بغضّ النّظر إذا كنّا متعاطفينَ أو كارهينَ تمظهراتهم الفرديّة، تتعالى تيّارات الحياة عن الحلقة حيث أكثر ما يتناسب معها هو اتّخاذ موقف القاضي تجاهها. لدرجة أنّ قوى كتلك تجسّدت في جذور ووعي الحياة التّاريخيّة بكاملها التي ننتمي إليها، في وجودنا السّريع الزّوال، كخليّةٍ، فليس من واجبنا أنْ ندينَ أو نصفحَ بل فقط أنْ نتفَهَّمَ.