مقدّمة
«تمبايين»[1] رواية جديدة لنصر بالحاج بالطيّب صدرت في طبعتها الأولى عن دار نقوش عربيّة 2022 في 162ص. وهي تلفت نظر القارئ بداية من عنوانها الّذي يبئّر على مرجعيّته الصحراويّة التونسيّة، فيؤسّس بذلك لانتماء النصّ إلى بيئة المؤلّف الأمّ: مدينة دوز : فـ«تمبايين» جبل قائم في عمق الصحراء التّونسيّة، إنّه معلم أثريّ طبيعيّ يقوم شاهدًا على توالي الأزمنة والحضارات الصحراويّة ويوحي بأنّ نبع الإلهام في الرواية سيرذاتيّ لا بالمعنى الاصطلاحي الحرفيّ، بل بمعنى استلهام المرجعيّات الجغرافيّة للمؤلّف استلهامًا تخييليًا ينتقل بها من حيّز الوجود الواقعيّ إلى حيّز الابتعاث الفنّي الّذي يكسبها أبعادًا فكريّة و رمزيّة جديدة تتحقّق صلب عمليّة الاشتغال السرديّة، وهي تروم تفجير المعنى وتحرير المرجع من إحالاته الضيّقة.
وستكون لهذا الاختيار تبعاته الأدبيّة والفنيّة الّتي ستوجّه أسلوب الحكاية ومساراتها الفكريّة: ذلك أنّ هذا العنوان دلّ على توجّه روائيّ يتوخّى سبيل مساءلة المرجعيّات التّاريخيّة مثلما تتسنّى قراءتها في جغرافيّة صحراويّة لها سماتها الحياتيّة المتفرّدة، فضلًا عن أساليب إيحاءاتها الخاصّة المؤثّرة في الحياة والأحياء؛ فالإنسان ابن بيئته وهو لا يستطيع أن يفكّر في المطلق، بل انطلاقًا ممّا توحي له به معالم البيئة التي يحتكّ بها من مشاعر وأفكار وتأملاّت.
كما نرى من جهة ثانية أنّ هذا الاختيار قد شهد في الرواية تناسلًا مرجعيًّا مكانيًّا دعم خيار استلهام المرجع المكانيّ الصحراوي وكثّفه من خلال استدعاء سلسلة من الأمكنة المتاخمة له، مثل بير سلطان، وبير عيسى، واستدعاء أغلب مكوّنات الهويّة الصحراوية الممثّلة في التضاريس الرمليّة، وأنواع من الزواحف والحيوان وغيرها. ففي هذا التلاحم بين واقع المؤلّف البيئيّ الملهم له وامتداده سرديًا إلى عوالم روايته الصحراويّة يكمن وجه من وجوه الإيهام بالمرجع المحدّد لطابع الرواية الجماليّ التّخييليّ. ولكنّ السؤال الّذي تريد هذه المقالة طرحه أبعد مرمى من هذه العتبة التمهيديّة؛ ألا وهو سؤال المعنى في ترابطه بالأجواء الصحراويّة المذكورة وأسوب روايتها: كيف اشتغلت المرجعيّات الموهمة بتاريخيّتها الجغرافيّة في إثارة أسئلة الرواية العميقة الّتي تستثمرها متّخذة من البيئة الصحراويّة أكثر من إطار خارجيّ على حيويّته وقوّة حضوره؟ كيف تحوّل المكان مستغلًا هويّته التّاريخيّة إلى سؤال ممتدّ وموغل في مساءلة للتّاريخ المحلّي والبشري في أبعد معانيه المغلّفة الّتي تطمسها أو تخفيها أحداثه المتراكمة والمتشعّبة في أن؟ وبمعنى آخر، كيف وقف بنا تأويلنا للرّواية على معنى مركزي نريد متابعته نقديًا، وهو مغامرة البحث في المعنى الباطني للتّاريخ، بما هو متاهة المعنى في متاهة الصحراء: سؤال التيه والمتاهة هو سؤال المبحث الواحد والمتعدّد في آن في نسيج «تمبايين» السرديّ المتشعّب من ناحيّة والمتراكب من ناحية أخرى.
1. المتاهة الأولى: الصحراء متاهة على المعنى الجغرافيّ والرمزيّ
الصحراء في رواية «تمبايين» هي المتاهة الأولى المؤسّسة قاعديًا لدوّامة من المتاهات المعنويّة المتراكبة الّتي يراد طرحها في عمق الرواية بعد تجاوز أحداثها السرديّة السطحيّة التّي تتلخّص باختصار في خروج الأخوين طارق ومحمود بأمر من أبيهما للبحث عن جمل تائه في المفازة، وتصاحبهما في هذه المغامرة شخصيّة العيدي الصابري أو «ذئب الصحراء الخبير في اقتفاء الأثر يعلن حضوره كما يعلن رحيله بالشعر والغناء» [2].
وبعد صعوبات جمّة من التيه في عوالم الرمال تخلّلتها سرديّات العيدي الأسطوريّة عن قصّة تمبايين وسقوطها في يد الطوارق بعد حصار وحرب طويلين بسبب قصّة عشق ممنوعة تسبّبت في هلاك العاشقين وسقوط المدينة، بعد هذه القصّة المضمّنة في المغامرة الأولى يتمّ العثور على الجمل، وتتجلّى حقيقة تمبايين البعيدة كلّ البعد عن النسيج الأسطوريّ الّذي ألبسها إيّاه الحكّاء العيدي الصابري. ولكنّ مغامرة البحث عن الجمل في متاهة الصحراء ليست إلاّ قشرة السرد الروائيّة، وهي بمثابة مغامرة من الدرجة الأولى تفتتح سؤال التيه ومتفرّعاته أو متاهاته المعنويّة المتنوّعة. الصحراء هنا متاهة إطاريّة ومتاهة جغرافيّة ومتاهة رمزيّة قادرة على احتواء أشكال من التيه يريد الراوي تفكيكها ومعالجتها وفق منظور أيديولوجي مخصوص سنحاول الكشف عنه. البناء الروائيّ كلّه قائم على مركزيّة فكرة التيه وتعدّد المتاهات المعنويّة: أهمّها متاهة التّاريخ في تشكّلاتها القيميّة، ومتاهة السرد في أبعادها الأسطوريّة وكلتاهما تمنحان طبقات السرد تداخلاتها الحكائية المتراكبة ووحدتها الدلاليّة العميقة.
يصحّ من هذا المنطلق الارتقاء بالصحراء في نسيج السرد الظاهر إلى مرتبة الشخصيّة المعنويّة الرمزيّة في الرواية؛ لأنّها ليست حاضرة بكل ثقل صورتها الجغرافيّة المخصوصة وبكلّ ما لها من تضاريس خلافيّة فحسب، بل لأنّها تجلّت في ذات الوقت في صورة فضاء مكاني ملهم ومؤثّر بكلّ تفاصيله الجغرافيّة في حكاية البحث عن الجمل من ناحية، ومكيّفة من ناحية أخرى لمسارات الشخصيّات ورهاناتها الذهنيّة والنفسيّة والقيميّة :إنّنا نراها بهذا المعنى أكثر من إطار خارجيّ للحدث القصصيّ: قاعدة رمزيّة أساسيّة مكيّفة لكلّ تفاصيل إنتاج المعاني المبطنة الّتي ستتشكّل منها أسئلة التّيه المتراكبة الّتي سنعمل على تسليط الأضواء عليها، خاصّة وهي أسئلة تشقّ كلّ النسيج الروائي منبّهة إلى ضرورة تحوّل فعل التأويل من متابعة مغامرة السّطح إلى تفكيك رهانات مغامرة العمق. كلّ ذلك يبرّر اعتبار الحبكة الروائيّة هنا قائمة على معنى الصحراء بوصفها المتاهة الرمزيّة المحمّلة بأسئلة التيه المتداخلة في خيوط نسيجها السرديّ.
لذا تبدو لنا الصحراء مجالًا جغرافيًا مؤصّلًا بامتياز لأسئلة التيه المطروحة؛ لأنّ صورتها الجغرافيّة هي صورة المتاهة الكبرى الطبيعيّة الممثّلة مجازيا لفكرة التيه المعنويّة بما لها من أبعاد تاريخيّة متنوّعة. وهو ما يمكن الاستدلال عليه بالتبئير الروائيّ على مرجعيّاتها الزئبقيّة القائمة على الامتداد اللّامتناهي، والتعرّج، والالتواء، وقوّة الطمس، والافتقار إلى ثبات المركز «لا وجود للخطّ المستقيم إلاّ في أذهان المهندسين وفي هجرة الطير نحو الماء والرزق؛ إذْ ينقلها بسرعة من نقطة إلى أخرى. الخطّ المستقيم اختصار لحركة الكون يصيب الناس بالتوتر النفسي والضغط العصبي»[3].
الصحراء هي عنوان التحوّل المستمرّ من خلال عبث الرياح بكثبانها الرمليّة وقدرتها على إعادة تشكيل صورها باستمرار. وللصحراء أيضا زمنيّة توحي بالمشاعر المتناقضة: الخوف فيها مخاوف: الخوف من الضياع والخوف من الموت عطشًا، ولكنّها في ذات الوقت الحياة التّي تتجدّد كلّ لحظة وتعيد التشكّل في صور مبتكرة، وتوقظ مشاعر التحدّي والرهان؛ فهي السكون والحركة، الموت والحياة، الصمت والحركة، تحتضن المتناقضات وتفتح أبواب الحلم على سواكن الحياة وألغازها، لذلك فهي مهاد التيه وأرض السؤال في حيرتها وتشعبها واصطدامها بالأشياء وأضدادها.
هذه الخصائص الصحراويّة المتضادّة اشتغلت بمثابة حافز لطارق على تحدّي واقعه الميّت وخوض مغامرة تحرّره الوجوديّة الفرديّة بحثًا عن ثوابت قيميّة جديدة تمثّل ثورته على عقم الموروث، وتجسيدًا لاشتباكه الفرديّ الحيويّ بطاقة الوجود الخلاّقة. لذلك أضحت مغامرة البحث عن الجمل التائه عرضيّة، أي لا تطلب لذاتها، بل أداة ورهانًا حسيًّا يراد به كسب رهان تحرير التّاريخ الفردي والانعتاق من ثوابت معوّقاته الكامنة سواء في النفس أو في محدّداتها التراثيّة والاجتماعيّة الجمعيّة: «قال الولد في نفسه: سأتبع الرغبات والنفس الأمّارة بالغيّ لأبدأ الأخطاء والخطايا حتّى أوازن بين الفجور والتّقوى، في ذلك لجم للغليان النفسيّ وتمرّد على شيء أقصده ولا أعرفه حتّى ينكسر الخوف والامتثال. لم يعد هناك كيان محسوس أتمرّد عليه وأتمرّد أمامه، غامت الرؤية؛ فغابت تفاصيل المراكز والمقامات والمثل العليا الّتي غدت مجرّد آثار أقدام وخفاف في صحراء الذاكرة طمستها رياح التيه. أمدّ يدي في ظلمات ليلة ريح عاصفة لا دليل فيها إلاّ السماء كلّما اقتربت من ذي قيمة إلاّ وجدته أنانيًا سافلًا يحلّق بعيدًا لا يمدّ يده إلاّ لمصلحة أشبه بفقاعة قذرة»[4].
الصحراء الّتي يكتبها نصر بالحاج بالطيّب ماديًّا هي صورة الأرض الجغرافيّة الّتي خبرها وعاش بين ظهرانيها بما هو ابنها الإنسان، ولكنّ الّذي يكتبها معنويًا وفنيًّا، هو المؤلّف المبتكر للشّخصيّات والمواقف، والرّاوي المتحدّث في القصّ والمعلّق على ما يجري فيه. لقد نجح المؤلّف نجاحًا كبيرًا في نحت شخصيات صحراويّة الانتماء والهيئة والمزاج وجعلها محمّلة بإيحاءاتها البيئيّة تتحرّك وتفكّر وتشعر وتتكلّم في تناغم مطلق مع شخصيّة إطارها الجغرافيّ الصحراويّة.
يقول الراوي في مقام آخر يبرز هذه العلاقة العضويّة: «أغراهما التأمّل فاكتشفا غياب الخطوط المستقيمة والزّوايا. توالت نهود وقباب وأكفال على مدّ البصر تؤثّث المشهد الآن وهنا. تكفي غارة من رياح الحسوم حتّى يرحل الرمل ليجثم بعيدًا. هذه الكثبان المسكونة بالرحيل إذا عجزت عن الرحيل رحلت إلى أعماقها وتململت في مكانها. بانت كتل الرمل متراكمة لا تيأس ولا تعرف التوقّف متأكّدة من جبروتها. يمكن لها أن تبتلع جملًا بحويّته وغرائره انغرزت في قممها شجيرات الرتم مصرّة على تلابيب خضرتها الباهتة، تحيا رغم الجدب والموت والعطش، مصرّة على انتظار مطر قادم وعلى الرقص مع الريح رقصتها الأبديّة». [5]
نعتبر العيدي الصابري مرشد الولدين في مغامرتهما أنموذجًا للكائن الصحراوي بامتياز، فهو يحمل بداية من اسمه بصمة علاقة بينه وبين الصحراء تجعله جزءًا لا يتجزّأ منها، أو قل هو إحدى تعبيراتها الإنسانيّة الخالصة! فصبره من صبرها، وإلغازه من إلغازها وسروداته تحدّث بأخبارها، وأناشيده صوت من أصواتها، ولغته كلامها الظاهر والباطن! إنّه ذاكرة الجماعة الحاملة لأساطيرها وملاحمها التاريخيّة، ولذلك كان طارق في صدام معه؛ لأنّ هذا الأخير كان حاملًا بالأساس لمشروع تحرّر الفرد من سلطة الجماعة التاريخيّة والأسطوريّة لصالح الإعلاء من شأن التجربة الفرديّة القادرة وحدها على تحرير الإنسان ودعم شرعيّة وجوده الخلاّق في توجيه الحياة وتصحيح مساراتها المكرّسة لسلطة الجماعة المنحوتة من الأوهام والأباطيل الموروثة.
يكمن في هذا الخطّ الخفيّ – فيما نرى- المعنى الأعمق لمغامرة التيه الحقيقيّة في الرواية الّتي يحجبها سطحيًا البحث عن الجمل التائه؛ إذ لا يمثّل البحث سوى خلفيّة استعاريّة لها. ويمكننا أن نتقصى في مقامات أخرى أهمّ أسباب هذه الأزمة الشبابيّة الوجوديّة فيما عبّرت عنه شخصيّة العجوز بائع الماء المستخرج من بير السلطان بـ«أزمة الشباب المغلوب المحاصر بالزوايا المقفلة».[6] ولاشكّ أنّنا هنا إزاء نقد اجتماعيّ مبطن يخاطب أفق قارئ الرّواية التونسيّ الّذي يحدث ترابطات خارجيّة بين أقوال الشخصيّة وضياع الجيل الجديد؛ خصوصًا في العشريّة الأخيرة «انفتح لكم باب الجامعات فقلنا زهت الأيّام وإذا بالدنيا تغلق أبوابها. لم أر طيلة سنواتي الثمانين فترة أشدّ ظلمة وعنفًا وبؤسًا من أيّامكم. لقد أوصدوا في وجوهكم كلّ المسالك ولم تبق مشرعة إلاّ مسالك البطالة والضيّاع، مسالك “الزطلة” مسالك السّأم والضجر ومسالك الموت انتحارًا أو غرقًا أو قتلًا. كانت أيّامنا عسيرة فقيرة، ولكنّها مزهرة ببراعم الحياة والأمل، لقد كانت الزوايا مفتوحة في وجوهنا: زوايا العمل، وزوايا الحبّ، وزوايا الحلم ببناء الوطن ونحت الذّات».[7]
2. التّيه التّاريخيّ
رحلة «تمبايين» الفنيّة هي – مثلما ذكرنا- رحلة البحث عن المعنى الضائع وتأصيل الكيان الفرديّ الخلاّق ضدّ كلّ مظاهر الاغتراب الكامنة في حياة الفرد تغذيها سلطة الجماعة، والموروث القبلي، والعقليّات القروسطيّة المعرقلة لإكسير الحياة المتجدّد. الفرد وحده قادر بما له من عزيمة وقدرة على تمثيل تجدّد الحياة فيه، وهو الكفيل وحده بدفع الزّمن نحو مداراته المستقبليّة، ولكنّ هذا الدفع لا يتمّ إلاّ في أطر الصراع المريرة مع الذاكرة الجمعيّة الّتي تعشّش في الأصوات السرديّة وتسري في الأجيال عبر قنوات الحكاية. هذا الأمر الواقع هو الّذي يفسّر -من وجهة نظرنا- تضمين قصّة رقية أو سرديّة «تمبايين» في مغامرة البحث عن الجمل؛ بل واحتلالها حيّزًا من القصّ يكاد يطغى على الأولى. فمثلما رأينا طارقًا باحثًا عن المعنى الكامن فيه يريد تفجيره لإعلان انتصاره الوجودي على كلّ أشكال الموت والإحباط المهدّدة لكيانه الإنساني القيميّ من خلال اتّخاذه من البحث عن الجمل ذريعة للبحث عن ترميم تصدّعاته الداخليّة، وإعادة تشكيل وعيه التّاريخي بذاته والعالم. لقد حضرت قصّة «تمبايين» المضمّنة في الحكاية الأولى باعتبارها سرديّة إشكالية تصوّر من خلال قصّة عشق رقيّة لآتري المنتسب إلى قبيلة الطوارق المعاديّة لعشيرتها طرحًا موازيًا لقضيّة المعنى الكامن في تاريخ الذاكرة الجمعيّة القبليّة في مختلف أبعاده القيميّة، والنفسانيّة، والاجتماعيّة، والفكريّة. لقد وفّرت السرديّة الّتي كان العيدي الصابري وريثها الشّرعي -بما هو ابن الصحراء وذاكرتها- مهادًا سيكون في الرواية بمثابة أرضيّة حوار صداميّة بين الولدين محمود وطارق الممثّلين لجيل شاب مغترب في بلده تائق إلى الانعتاق من قيود التاريخ الجمعي الّتي تكبّله وتشدّه إلى سياقات وعقليّات غير ممثّلة لتاريخيّته الجديدة. الولدان يمثّلان الفكر النّقدي الثّائر على رؤية قبليّة للعالم تقوم على قمع تطلّعات الفرد المشروعة إلى بناء رؤية حداثية وعقلانيّة لعوالمهما خارج مكبّلات الذاكرة التاريخيّة المتسلّطة الّتي تعمل على شرعنه سلطة الجماعة القهريّة: لقد مثّل طارق المطارد «لعنة الأسلاف» إذ كان من الّذين يرون أن «لا خلاص إلاّ في الانتماء للفرد المدرك للحقيقة الخالصة المطهرة من شوائب الموروث وما أضيف إليه من طبقات الهذيان والهوس الجماعيّ».”[8]

إنّ مأساة «تمبايين» كانت مأساة عاشقين متمرّدين على الأعراف والنواميس القبليّة المتحكّمة بقانون التعايش والعلاقات البشريّة، فآلت إلى انتصار الثّأر على الحبّ في الحياة، واستفحال ألوان أخرى من الشرور المتعاقبة آخرها إجهاز المستعمر الدخيل على آخر ما تبقى في المدينة من حياة آفلة. لذلك فنحن نكون بإزاء سرديّة موازية الغاية منها تفكيك أصوات الماضي وسرديّاته المدمّرة الّتي اعتبرت صوتًا متكرّرًا لمآسي البشريّة كلّها القائمة على غلبة سلطة العنف الجماعيّ على سلطة الحبّ والحريّة الفرديّة. ومن هنا بالذات يمكن أن نفهم التّداخلات الأسطوريّة (الاسميّة والحدثيّة والمكانيّة) الّتي سعت الرّواية إلى بلورتها داخل العديد من المقامات السرديّة من أجل نحت جماليتها الفنيّة الخلافيّة من ناحية، والقول بالتوازي من ناحية أخرى بتكرار التّاريخ البشري لثوابته المأسويّة في سرديّات تبدو متباعدة في الزمان وفي أصولها الحضاريّة، ولكنّها متماثلة ومتطابقة في تعبيراتها وتشكّلاتها المعنويّة الدّالة على التّواشج التّاريخي القيمي العابر للعصور، وهو ما نستدلّ عليه بتقنية المزج الأسطوريّة؛ حيث تصبح سرديّة الرواية في تداخل عضوي بسرديّة حرب طروادة، فإذا تمبايين هي طروادة المهزومة، وإذا آتري حبيب رقيّة هو باريس الطروادي، وإذا رقية هي هيلين؛ لذا تتحوّل المتاهة التاريخيّة في صورتها الأسلوبيّة الفنيّة إلى الوجه الآخر لمتاهة المعنى التّاريخيّة :«جمح الخيال وعدا ضبحًا كاشفًا عن الإنسان المتكرّر في الحبّ والقتل مثيرًا نقع التّاريخ وذرّات الأساطير؛ فأطلّ باريس الطروادي الّذي اختطف هيلين ملكة اسبرطة وامّحى وجه رقية وحلّ محلّه وجه هيلين، غاب وجه آتري وحلّ محلّه وجه باريس […] الفعل الإنساني يتكرّر مصرًّا على إعادة التّاريخ في صورة أشدّ قبحا ثبتت النبوءة وهذا أوّلها. ما الّذي يدفع الرّجال للقتال وفي الدنيا شيء اسمه الحبّ؟[9] ».
تقدّم لنا الرّواية محاكمة نقديّة للتّاريخ البشري عبر محاكمة سرديّاته الأسطوريّة المستحكمة بما لها من سطوة الرواية والديمومة في مسار الحياة البشريّة وسيرورتها المعرقلة بالعقبات نفسها، وبذلك تتلخّص الرسالة الضمنيّة للرّواية في الوعي بالمكبّلات السرديّة الاغترابيّة ومواجهتها عقليًا بالنفي والإعدام لتطهير الحاضر والمستقبل من كوابح الماضي ومظالمه السوداء. فهل ينبغي للتّاريخ أن يتوقّف أخيرًا عن تكرار نفسه؟ هنا تحضر الرواية باعتبارها سرديّة مضادّة تعمل على تفكيك اللاوعي التّاريخيّ الهدّام المندس في تلافيف المحكيّات الأكثر تداولًا في الذاكرة التّاريخيّة البشريّة.
3. متاهة السرد أو متاهة الخلاص
«في كلّ شجيرة وفي كلّ شبر من أديم الأرض تنام حكاية خطّها الأسلاف أو قصيدة اختزلها اللّيل المقمر وثمّة إغارة وحروب طاحنة، خلف كلّ أكنّة يختبئ غزال أو ذئب مترصّد أو أفعى[…] كان الأمس مثقلًا بالحكايات الّتي حاولت فتح الأقفال، وترميم النّفوس المهشمة، وأعانت على تحمّل العناء وبدّدت شيئًا من الحيرة الطاغية. البقاء مع النفس والصمت والعدم مرعب. يُذْهِب الحكي التعب، ويبدّد الخوف، ويؤثّث الفراغ. الأسطورة والخرافة درع وخوذة نجابه بها الحياة بشجاعة وفهم وصلابة. يهبنا الحكي كما تهبنا الفنون سبيلًا لتقبّل المأساة، ومناعة ضدّ القبح».[10] هكذا يفتتح الفصل الأوّل من قصّة رقيّة بمعزوفة الإشادة بفنّ الحكي وسرديّاته المبشّرة بالأمن والخلاص من عذابات الإنسان الكامنة؛ أفليست هذه الوقفة الواصفة للّغة السرد هي وقفة إنصاف للسرد بما هو البلسم المتاح للإنسان من أجل تحمّل عذابات الحياة ومآزقها؟ الرّواية تعلن هنا عن روائيّتها بما هي متاهة خلاص واستشفاء لا مناص للإنسان من التحمّم فيه. لذلك تعتير هذه الوقفة وجها من وجوه استكمال رحلة البحث في معنى المتاهة من جهة كونه معنى لا يحدث أبدا خارج أطر السرد المتاحة، ولعلّنا هنا لا نجانب الصواب إن قلنا إنّ الرّواية هي الداء والدواء في آن، فأساطير الأوّلين تسكننا وتعشّش فينا ولكنّها تحرّرنا من مخاوفنا وتمنحنا حبل الخلاص والنجاة مؤقّتًا، وذلك عندما تمكّننا من الاحتماء ممّا نخافه ونخشاه. لا حياة للإنسان بلا سرد ومسرودات، فبالسرد يقارع المسرودات الّتي تهزمه أو تسلبه حرّيته وتلقائيّة أفعاله التّاريخيّة. ولكنّ متاهة الحكاية تبقى في تمبايين متاهة تضليل، وقناع ساتر للعجز يغذي الأوهام بالوهم السرديّ، ويغرق الإنسان في أباطيله الخرافيّة الّتي تستر عوراته عبر الزّمن. إنّه الإنسان العاجز المحتمي بسرديّاته ضدّ هزائمه الدفينة، واقع لامحالة تحت سلطتها الضمنيّة الّتي تجعل منه أسيرًا لرسالتها. يقول الراوي: «لعلّ الموروث الخرافيّ يحيي قيم البطولة والشّجاعة لدى الأمم الكسيحة العاجزة. الخرافة فتح وهميّ للأقفال المستحيلة، وعكّاز العجز والحيرة في طلب الاطمئنان وتبديد الخوف. الماء في بحر الحلم عذب فرات. الخرافة استجابة لعواطف المجموعة القاهرة المستبدّة الّتي غرقت في بحر الشكّ […]».[11]
متاهة السرد الخرافيّ هي الطبقة الثالثة المكوّنة لخيوط الحبكة الروائيّة في «تمبايين»، وهو ما يجعلنا بإزاء حبكة متعدّدة الأبعاد، ولكنّها أبعاد مترابطة ومتداخلة ومنسجمة في سمفونيّة سرديّة موحّدة.
خاتمة
رواية «تمبايين» رواية متماسكة فنيًّا تتمتّع بطرافة سرديّة تستمدّها من تراكم عوالمها وتداخلها تداخلًا عضويًا يستقطبها سؤال مركزيّ يشدّ إليه طبقاتها وتفاصيلها، وهو سؤال تأصيل الكيان في عالم تسيطر عليه سلطة الجماعة المتلبّسة بمحكيّاتها الخرافيّة أو الأسطوريّة، ولكنّ رهان المغامرة فيها كان يستند إلى الإيمان بسلطة الفرد وقدراته الهائلة على التحدّي وصنع التّاريخ الّذي يمثّله ويمثّل زمانه ومكانه. ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ تفكيك الرواية نقديًّا لترّهات المسرودات الجماعيّة الثاويّة في خرافاتها وأساطيرها ينبّهنا إلى أنّ المؤلّف يميّز بين السرديّات الخرافيّة، والسرديّة الروائيّة الّتي يستحضرها آليّة وحيدة ممكنة للانقلاب على السرديّات الخرافيّة؛ فالرواية تقدّم على أنّها سرديّة عقلانيّة، أو لنقل السرديّة البديلة من الخرافة والأسطورة؛ لأنّهما يصنعان معًا الوهم التّاريخيّ ويكرّران التراجيديا الإنسانيّة على نحو متشاكل واحد، لا فرق بينه وبين زمان وزمان، أو إنسان العصور القديمة والإنسان الحديث؛ فالمغزى الكامن هو ضرورة التّحرّر من أصنام السرد الإنسانيّة البالية واستبدالها بالفعل التّاريخي الواقعيّ، وترسيخ قيمة الفرد وقدرته على صنع معجزته الخاصّة. ورغم هذه المفارقة القائمة على التحرّر من السرد بالسّرد، فإنّ المؤلف لم يتنكّر للذاكرة التراثيّة الّتي تجلّت على نحو لافت في أسلوب الكتابة الّذي يمتح فيه من العبارات القرآنيّة فكأنّ هذا التّناص القرآني حاضر في النصّ باعتباره مركزيّة أسلوبيّة تشدّ النص إلى كيانه اللّغوي الأمّ : لغة الإعجاز القرآنيّة، وهو ما نعتبره غير مترجم عن ثقافة المؤلّف القرآنيّة فحسب؛ بل يحيل ضمنيًّا إلى أنّ الكلام لا يمكن أن يتنكّر نهائيًا لأصوله؛ لأنّه سيفقد عندها أصول كيانه المرجعيّة، وعندما تتلاشى الذاكرة تماما يفقد سؤال التأصيل معناه أصلًا!
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] نصر بالحاج بالطيّب، تمبايين، تونس، نقوش عربيّة، 2022 ، 162ص.
[2] تمبايين، ص.28.
[3] تمبايين، ص.44.
[4] تمبايين، ص.46.
[5] نفسه، ص.41.
[6] تمبايين، ص38.
[7] نفسه، ص.37.
[8] تمبايين، ص.35.
[9] نفسه، ص.76-77.
[10] نفسه، ص.67.
[11] تمبايين، ص.69.