تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
«مهرجٌ أنا، أُلملِم اللحظات». – هاينريش بول، المهرج (1963).
عندما أقلّب كرتون الأحذية على ملاءة سريري، فإنّ أوّل ما تقع عليه عيناي، صورة باهتة الألوان لصبيّين نحيلين، أحدهما أنا عندما كنت في سِنّ التاسعة عشرة من العمر، وذراعي متدلًّ على كتف أحد أصدقائي أيام المدرسة، كان اسمه إد. كنّا نجلس على صخرةٍ كثيفة الثقوب على شاطئ في غرب تايلاند، في وضعية مصطنعة هرعنا إليها متصنعين وقفة بعد أن ضبطنا مؤقت الكاميرا. والتُقطت الصورة من الأسفل، فظهرت السماء أرجوانية تنذر بهبوب عاصفة. وبدت نظرة الحماس المرسومة على وجهي لا توحي بانزعاجٍ أو حتى إدراك لموضوع العاصفة من أصله، وكنت على أيّة حال -كما بدا لي في الصورة- أقضي يوما جيدًا.
هذه الصورة هي واحدة ضمن ألف شيء داخل الصندوق -صندوق أحذية ريبوك تحديدًا-، الذي أصبح منذ فترة طويلة مخبأ الذكريات التي أحضرتها عندما عدت من أول رحلة لي خارج البلاد. كان هذا النوع من الرحلات مطلع القرن العشرين يعد طقسًا لعبور مرحلة الصغر في بيئةٍ معينة عندما انتشرت ثقافة «سنة القفزة» من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب وأصبحت صرعة العصر. لا أعلم ما الذي دفعني أنا والصديقين اللذين سافرت معهما، سوى «حتمية ثقافية» غامضة. هذا بالضبط ما كان يفعله الكثير من المراهقين البريطانيين في الفترة بين آخر سنة في المدرسة وبين الالتحاق بالجامعة. لم يكن لدي فكرة تذكر عن المكان الذي كنّا ذاهبين إليه بخلاف نقطة البداية وهي مدينة كيرنز، ورحلة العودة من بانكوك في تايلاند، ولم يكن لدي أيّ فكرة عمَّا ينتظرنا بعد الوصول.
عند عودتي إلى الديار – فاقدًا لأكثر من عشرة كيلوجرامات من وزني، وقد أصبحت أميل لارتداء سراويل فضفاضة منقوش عليها تنين صيني بذوقٍ رديء، قمت بنقل مجموعة التحف الزهيدة التي جمعتها في حقيبة الظهر إلى كيسٍ بلاستيكي من متجر «سفن إليفين» في بانكوك، ثمّ حشرتها في صندوق الأحذية هذا وخبأته في عُليّة المنزل. استغرق الأمر منّي عشرين عامًا لكي أعود لمحتويات هذا الصندوق.
لم تكن الأشياء التي في الصندوق سوى ذكريات لطيفة، بها عدد قليل من الأوراق النقدية والعُملات المعدنية وخرائط الشوارع للمدن الفيتنامية والكمبودية الغامضة وبعض المنشورات الدعائية للحانات التي يقصدها السيّاح. عندما قمت بتفريغها على السرير، لم تكن تبدو ذات قيمة تذكر، لكنها بالنسبة لي تخّلد ذكرى التخرج من المدرسة، وعندما خبأت هذا الصندوق حينها، أعتقد أنني كنت أعرف بالفعل أنني وجدت شغفًا جديدًا، متنفسًا وعلاجًا لحالة الاستياء والتململ التي تراكمت في نفسي أثناء سنوات الدراسة.
كان البقاء في المنزل يشعرني بالضيق والخروج منه هو «المضاد الحيوي» والمتنفَّس الذي كنت أبحث عنه
كنت جالسًا في المكتب في لندن بعد عشرين عامًا، بدت لي أشهر تلك الرحلة لأستراليا وجنوب شرق آسيا وكأنها من حقبةٍ بعيدة وعالَم انتهت صلاحيته.
أعتقد أنّ مع استمرار الوباء، لم يكن للكثير منّا بدّ من الغرق في الحنين إلى الرحلات التي قمنا بها في الماضي. ورغم أنه من البرود والسطحية أن نتحسَّر على المغامرة في فترةٍ يجتاح العالَم فيها إحساس بالفجيعة والقلق، إلاّ أن هذا الانكماش الحاد في التنقل بين الدول هو أحد أهمّ التداعيات الثقافية والاقتصادية لكورونا، فطريقة الترحال السابقة التي كنّا نمارسها على نطاقٍ واسع عبر حدود ما أكثر مساماتها، قتلتها هذه الأزمة، وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها ليس في يدنا سوى الحنين للذكريات والعمل على إعادة تطويع أنفسنا للتعامل مع عالَم أكثر انطوائية وأقلّ ضيافة للآخرين.
بدأت سفراتي المستقلة عام 2000 بتلك الرحلة، لكن خلال الفترة التي تلتها، زادت وتيرة السفر لدي، وعندما أنظر إلى تلك الفترة، فإنّ أفضل كلمة لوصف هذه السفرات ليست «حبّ السفر»، ولكن «نهم السفر»، أو «الدرومومانيا»، فقد بلغت حدّ الهوس فعلاً -وإن قلت إنه إدمان فلست مبالغًا، فالرغبة ملحّة والنهم لا يمكن تصوّره، فحتى اليوم وبعد أشهر من الجمود، أجد صعوبة في تخيّل العيش بدون السفر.
أتذكّر تلك الرحلات الآن؛ وأنظر إليها بأنها العصر الذهبي للسفر. في السنوات العشرين الأولى من الألفية، زادت أعداد السيّاح الدوليين بأكثر من الضعف، من 700 مليون في عام 2000، إلى ما يقرب من 1.5 مليار في عام 2019. خلال تلك الفترة، وللمحظوظين منّا ممن يجد المتعة في السفر، أصبح السفر مرادفًا للرفاهية ودلالة على الحياة السعيدة.
ومع ذلك، عندما قررت كتابة «مرثية» لهذا العصر الذهبي، فوجئت أنني أشكو من التناقض وليس فقط من الحنين إلى الماضي – ذلك أنّي وإن كان يؤلمني توقف السفر إلا أنني استسلمت بهدوءٍ لفكرة أنّ تلك الحقبة التي مرّت بسرعة قبل كورونا كان يجب أن تنتهي أصلاً. لماذا كانت لدينا رغبة في السفر؟ لماذا أصبحت الفرحة المرسومة على وجهي في تلك الصورة القديمة من حاجاتي الملحّة؟ هل كان أكثر من مجرد بحث عن بهجةٍ منحرفة لجيلٍ يمكنه الاستمتاع بها؟ أم أنها كانت مجرد لحظة أنانية في خط الزمن؟ لحظة نراها الآن بلون مختلف عن أيام الأُنس التي كنّا ننغمس فيها، بينما الوباء يعيد لنا ترتيب أولوياتنا الآن.
من الصعب أن نتماهى نحن الأطفال الفضوليين الذين نشأوا في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات مع هذا العالَم الذي لا نستشرف له عمقًا أو معنىً، في مجتمعٍ أعادت الثورة الرقمية تشكيله بالكامل. كانت الحدود منيعة، والدول التي حالوا بيننا وبينها متنوعة وواسعة بشكلٍ غير مفهوم. لقد كان عالَمًا لا يمكن لك إلا أن تلمحه ولا تستطيع رؤيته، تذكّرت حينها الكوكب الغامض الذي كانت تلمح له الموسوعات والأطالس.
في المدرسة الابتدائية كانت كتبي المفضلة هي سلسلة (أدفنتشر) المغامرات، التي كتبها لويلارد برايس، ونُشرت بين عاميّ 1949 و1980. سردت الروايات الأربع عشرة الصغيرة وقائع رحلات الشقيقين هال وروجر هانت أثناء سفرهما حول العالَم لجمع الحيوانات النادرة لحديقة حيوان والدهما في لونغ آيلاند.
كان هال هو الأكبر، رحّالة وبطل قصة نموذجي: يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، بارع وشجاع حدّ العبث، «طويل وقويّ البنية مثل والده». لكنني تواءمت مع الأخّ الأصغر، روجر، الذي كان يملأه الحماس لكنه كان أخضر العود وعرضة لكثير من الحوادث. كانت القصص سريالية في تزاحم أحداثها، إذ يفتتح كل فصل بتبادلٍ لإطلاق النار أو مواجهة خطيرة وينتقل الأخوان من مغامرةٍ إلى أخرى. في أوّل كتاب في السلسلة، الحيوانات النادرة في الغابة -التابير والأناكوندا والنمور- تظهر أمامهما في كل مرّة يخطوان فيها إلى الشاطئ. كانا يصارعان معًا هذه الحيوانات البريَّة حتى يطرحانها ثمّ يقومان بشحنها على متن قاربٍ يسمّونه «الفلك» على غرار سفينة نوح، فيبحران في نهر أمريكا الجنوبية العظيم، تلاحقهما الرماح ورصاصات المنافسين السيكوباتيين «الهنود» صيادييّ الرؤوس.
الآن عندما أقرأ هذه القصص أضحك من سردها الذي يخالف التوقعات دائمًا، وأتعجب من منطق والدهم، جون هانت، رجل يبدو أنّه مجنون وغير مسؤول وأخلاقياته مشكوك فيها، فمَن يرسل ولدين مراهقين لجلب حيوانات مهددة بالانقراض من أرجاء العالَم الأربعة.
ورغم أحداث القصة التي لا تدخل العقل أشعر الآن أنّ الكتب توجز الكثير عن حياتي المُملة عندما كنت طفلاً -لا سيَّما لم يكن للأب دور في حياتي-، فأصبحت شغوفًا بمثل هذه الحياة المليئة بالمغامرات. هذه الحياة السينمائية المليئة بالأحداث وأبّ أسطوري في الظلّ وهال الذي يتغلب على كل تحدٍ يواجه ويظهر فيه شجاعته. لقد كانت قصة رمزية تقدّم مثالاً لحالتي الذهنية كما وصفها المؤلف في الصفحة 84 من أمازون أدفنتشر بقوله: «الحقيقة أنّ الطفل كاد أن يموت من الخوف».
أرى الآن مغامراتي ومغامرات السفر بشكلٍ عام لم تعد تلوح في أفق المستقبل القريب. عندما كنت طفلاً، سافرت عدة مرّات، لكنّنا لم نغادر أوروبا أبدًا، ومهما كانت السعادة التي وجدتها في تلك الرحلات فقد كانت سعادة عابرة نغّصها اكتئاب أمي في كثيرٍ من الأحيان، حين كان الفهم السائد أن متعة الحياة تكمن في العزلة عن الناس. فكنّا في كثير من الأحيان نخيّم في ديفون أو نسكن في كرفانات المنتزهات في ويلز. كنت استعطف أمي كثيرًا لتسمح لأصدقائي بالحضور، لكي نتسلَّل للتدخين، وإقناع الهيبيز اللطفاء أن يشتروا لنا مشروبًا كحوليًا.
الحقيقة أنّ استمتاعي بالسفر الخارجي كما ينبغي لم يتبلور بعد حينها. كان جيل والديّ انتشر في جميع أنحاء أوروبا من أوائل الستينيات بعد أن افتتحت أولى رحلات الطيران سوق السياحة الجماعية في البحر الأبيض المتوسط، فبدأت أعداد مجموعات المصطافين البريطانيين بالازدياد متجهين جنوبًا لقضاء العطلة الصيفية كل عام. اكتشف البرجوازيون مباهج التزلج على جبال الألب، ولكنّ الأماكن البعيدة خارج أوروبا الغربية بقيت لم يستكشفها معظم البريطانيين. أيضًا، التقلبات الجيوسياسية أيام الحرب الباردة، التي جعلت من بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مسارح للصراع والمجاعة والاستبداد، كانت بعيدة كل البُعد عمّا تروج له الكتيبات السياحية الدعائية.
كلَّما دخلت نقطة حدودية بالحافلة، كنت أشعر بأني استعدت نفسي وأشعر بالاستقلالية
وبينما كانت بذور مسار رحلتي تتبرعم، كنت ألاحظ أنّ الرغبة في السفر في ذلك الوقت كانت توصف بكلماتٍ تعبّر عن أمراضٍ مستعصية؛ فيقولون مثلاً إنّ شخصًا كان يحبّ السفر إلى الخارج فأصيب بعدوى «بقّة السفر»، وشخص عالق في منزله يحلم بالسفر إلى الخارج أصبح يعاني من «حكَّة القدمين». لقد نما نهم السفر في غضون عقدين قصيرين من الزمن وأصبح رغبة عالمية انتشرت انتشار العدوى في كل مكان، وفي حالتي كان التشبيه والمقاربة مناسبًا؛ فقد كان سفري مرتبطًا بعلم الأمراض، وإن كنت في غمرة نشوة استمتاعي برحلاتي الأولى لم ألحظ ذلك.
قبل أن تظهر أعراضي المرضية في شكل أختامٍ على جواز السفر، كانت حالتي المرضية والكآبة المزاجية وعدم الرضا عن الحياة في المنزل واقعًا أتعايش معه في الماضي، ولطالما كانت سخريتي -وتشاؤمي- تزداد مع وصول القرن الواحد والعشرين بحروبه النفطية وسياساته الغبية واحتباسه الحراري. كنت أزدري باستمرارٍ الوضع الراهن وكثيرًا ما شعرت بالاختناق من قوانينه الجافة. ما الفائدة من الالتحاق بكامبريدج أو أوكسفورد لأحصل على راتبٍ ومعاش تقاعدي أو أن أسعى إلى وظيفةٍ لباقي العُمر؟ بشيء من قلّة الفهم؛ كنت مقتنعًا بأنني لن أستفيد بهذه الطريقة أبدًا.
في البداية، ظهرت ميولي نحو «العدمية»في سوء سلوكي الذي يشابه كل المراهقين من انحرافاتٍ صغيرة وتدخين للممنوعات على زاوية الشارع. ومع هذا يمكن القول إنّ أكثر الأعراض غرابة هو ما يمكنني وصفه بأنه حساسية تجاه المألوف وإحجام عن الأفكار والأمور التي مررت بها من قبل. أيّ شيء يذكرني بالأبواب التي أغلقتها بالفعل – أو المرور بطريق مدرستي القديمة مثلاً، أو مصادفة أحد معارفي القُدامى الذين اعتبرتهم أصدقاء في وقتٍ ما، كانت هذه الأشياء تجعلني أشعر بأنني عالق ومذعور. عندما عملت في بعض الوظائف المكتبية المؤقتة ذات الفائدة المحدودة بعد الجامعة، كنت أشعر أنّ وضع ركبتيّ تحت المكتب يدل على الخضوع. ولفترةٍ ما، أصبح المشي إلى المتاجر من منزل أمي مصدرًا للشعور باليأس.
أحد النتائج المؤسفة لهذا القلق المزمن هو أنني غالبًا ما أشعر بالمرض. عانيت من كل أنواع الأعراض النفسية الجسدية -أعراض جسدية ناتجة عن الألم النفسي- طوال العشرينيات من عمري. وغلبني الوسواس تجاه العدوى والفيروسات. أبالغ في الشفقة على نفسي عند ظهور أعراض أيّ مرض صغير. والآن أيضًا تتحول الشكاوى الصحية البسيطة إلى حالات طوارئ عاجلة؛ كل صداع ينبئ بورمٍ في المُخّ وكل تغيّر في لون البول نذير لمرض السُكري، وكل ألم في الأطراف معناه انتكاس في مناعتي، وكذا كل الخيالات عن الأمراض الأخرى.
كانت العلاقة بين القلق العاطفي وصحتي الجسدية واضحة ومحرجة، فقد كنت أعمل ذات مرّة في مكتبٍ ومعي زميلة حكَت قصة مرعبة حدثت في عطلة نهاية الأسبوع عن صديقها الذي هرع إلى الطوارئ بسبب حالة مرضية تسمَّى استخفاء الخصيّة. بعد هذه القصة بيومين، صرت أعرج وتوجهت إلى الطبيب أطلب فحصي من إصابة وهمية في بيضتي. كنت أظن أنني جننت.
يبدو من السخف وتعظيم الذات الادعاء بأنّ بضعة أشهر في جنوب شرق آسيا كفيلة بأن تكون علاجًا لهذه الدوامة العاطفية. كل ما أستطيع قوله لك أنه أثناء التنقل والسفر ستختفي كل الأوجاع وكل هذا القلق بطريقةٍ عجائبية.
كلَّما دخلت نقطة حدودية بالحافلة، كنت أشعر بأني استعدت نفسي وأشعر بالاستقلالية. كان عدوي هو الشعور بعدم جدوتي، وكان ضعفي مرتبطًا بذلك ارتباط النواقل بالأمراض. كان السفر يعينني على تحدي توقعات المجتمع الخانقة، وبه أستطيع الهروب من واقعي الذي يثقل كاهلي. كان الجمود استسلامًا وكأنه الموت، لذلك سعيت إلى الحريّة وكسر القيود.
والآن في منزلي، أقلّب بقايا ذكريات رحلتي الأولى الساذجة في مطلع الألفية. كل قطعة أراها تثير فيضًا من الذكريات. هنا خربشة لدولفين رسمتها أختي البالغة من العمر سِتّ سنوات وأعطته لي وهي تصرخ وأنا أحمل حقيبتي للمغادرة، وهنا قطعة من مقبض الفرامل البلاستيكي من دراجةٍ نارية مستأجرة انكسر في يدي عندما فقدت السيطرة عليها في زقاق بماليزيا، وهنا صفحة عن «كآبة ما بعد الإجازة» ممزقة بوقاحةٍ من دليل لونلي بلانيت مرميّ، كنت قرأتها في فندقٍ رخيص في خاوسان رود في بانكوك اليوم الذي سافرنا فيه عائدين إلى الوطن مكتوب فيها: «حياة الترحال صعبة ومثيرة ومرضية في نفس الوقت بينما تبدو الحياة في الوطن قاتمة ومُملة وافتقارها إلى المعنى مخيف…».
جاء السفر الدوليّ إلى عالمي في لحظةٍ محورية، بنفس الطريقة التي جاءت ثقافة الرحّالة أصحاب حقائب الظهر في هذا العصر التي أغرت الهيبيز للاتجاه نحو الشرق على متن سحابةٍ من دخان الممنوعات وزهد كان سائدًا ذلك الحين.
قبل شهر من صعودي الطائرة للسفر إلى مدينة كيرنز، عرضت شركة فوكس للإنتاج فيلم «الشاطئ» في دور السينما. الفيلم مبنيّ على رواية أليكس جارلاند الأكثر مبيعًا عام 1996، ومن إخراج داني بويل. يحكي الفيلم قصة ريتشارد (الذي يلعب دوره الفنان ليوناردو دي كابريو) في رحلة إلى تايلاند. بعد أن شرب بعض دم الثعابين وجد طريقه إلى جزيرة سريّة حيث يعيش مجتمع شاعريّ بجانب بحيرة لجزيرةٍ بكر غير مأهولة. هناك يجد الفرح والحبّ والمتعة على أنغام أغنية موبي «بورسلان»، ثمّ يتلف كل شيء ويُصاب بالجنون.
لقد شاهدت الفيلم في حانةٍ في بالي. في تلك الأيام كانت حانات الرحّالة في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا تعرض نسخًا مقرصنة رديئة من أحدث إصدارات السينما، لكنني لم أهتم كثيرًا بتحذيراتها عن مخاطر الاستسلام للصدفة أو دروسها الفجّة بأنّ الجنة سريعة الزوال. كان عُمري تسعة عشر عامًا وكنت حينها منشغلاً في البحث عن عالمي الخاصّ.
يقول ريتشارد: «أنا الجيل الذي يسافر حول العالم ويبحث عن شيء لم يجرّبه من قبل. لذلك لا ترفض دعوة ولا تقاوم أبدًا أيّ شيء غير مألوف، وإياك ألا تكون مهذبًا، وكُن ضيفًا خفيفًا لكي لا تستنفذ الحفاوة بك. فقط كُن متفتحًا واستمتع بالتجربة».
كل التجارب الجديدة لها صدى في الذاكرة، ولها بصمة تبقى في الدماغ
في نهاية تجربتي الأولى مع هذه التجربة الجديدة، عدت إلى المنزل محملاً ببهجةٍ كبهجة العيد وألوان الربيع. لقد أدركت يقينًا أنّ التجارب الجديدة تحفر نفسها في العقل بكل وضوح وتطيل الوقت بشكلٍ ملموس فإن كانت ذكرياتي في بلادي كثيرة ومتداخلة ومألوفة في كثيرٍ من الأحيان؛ فإن تلك التي حملتها من بانكوك كانت حادة وبرّاقة.
هل ستصدّقني إذا أخبرتك أنني أتذكّر استحضار كل أكمة وكل حفرة في شاطئ تايلاند؟ أستطيع أن أخبركم أنّ الرمال كانت بلون المرجان الباهت، وأنه كان يتشابك مع أغصان أشجار المانغروف المتدلية. أتذكّر أننا كنّا قد نزلنا للتَوّ من تلك الصخرة عندما بدأ المطر، وأننا قفزنا لنغوص حول ذلك الحطام الغارق. أستطيع أن أسرد لكم كيف أنّ المد والجزر والزبد قد نثر العشرات من قناديل البحر على رمل الشاطئ، وأننا حاولنا إعادتها إلى الأمواج بالعصا. أدرك الآن كم سيبدو هذا العمل همجيًا للمارة رغم أننا فعلنا ذلك بنيّة الخير. في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، جلسنا على الشاطئ وشاهدنا وميض البرق في كبد السماء، والغسق يخترق خط الأفق في دوائر من شعاع نور الشمس راسمًا صورًا لظلال سفن الحاويات البعيدة في عرض البحر.
لا تقتصر التفسيرات المُحتملة لطبيعة هذه الذكريات على التفسيرات الفلسفية. فقد لاحظ علماء الأعصاب في السنوات الأخيرة وجود علاقة واضحة بين ما هو جديد وبين الذاكرة، وبين الذاكرة والإحساس بتحقق الإنجاز. تشير النتائج التي توصّلوا إليها إلى أنّ كل التجارب الجديدة لها صدىً في الذاكرة، ولها بصمة تبقى في الدماغ. لذلك، من المنطقي أن نتصوّر أنّ هذا دليل على الماضي السعيد في حياة الأشخاص.
قرأت مؤخرًا دراسة أُجريت عام 2016 على جنسياتٍ متعددة، بحثت في العلاقة بين التجارب الجديدة وقوة الذاكرة. قام المؤلفون بتجربةٍ أدخلوا فيها الفئران إلى مساحةٍ تحت المراقبة ودرّبوها على العثور على لقمة من الطعام مخبأة في أكوام من الرمال. توصّل الباحثون إلى أنّ الفئران في الظروف العادية كانت قادرة على تذكّر مكان إخفاء الطعام لمدة ساعة تقريبًا، لكن إذا تمّ تغيير البيئة ووضع الفئران في كرتون تمّ تغيير أرضيته بمادةٍ جديدة -فيمكنهم العثور على الطعام حتى 24 ساعة بعد ذلك. لذا يبدو أنّ تغيير الظروف المحيطة يزيد من قوة المخلوقات على التذكّر.
باستخدام تقنيةٍ تُعرف باسم علم البصريات الوراثي، عزت الدراسة هذه الظاهرة إلى وجود نشاط داخل منطقة من دماغ الثدييّات تطلق الدوبامين في المخّ والجهاز العصبي. تشير النتائج إلى أنّ التجارب الجديدة تؤدي إلى إفراز موادٍ كيميائية تؤدي للسعادة، وهي بدورها تساعد على إنتاج المزيد من الترميزات الكيموحيوية التي لا تمحى من الذاكرة.
كنت نسخة أخرى من هذه التجربة، فأر دائم البحث عن بيئةٍ جديدة. قضيت السنوات التي تلت الجامعة في رسم طموحاتي حول السفر والمغامرة خارج البلاد، وكنت أدخر كل شهر مبلغًا بئيسًا للمغامرات التالية. كانت الكتابة عن السفر رفيقي الدائم، ووسيلة لتمويه نهمي لخوض التجربة بقناعٍ من هدفٍ آخر. كنت في الحقيقة منهمكًا لتحقيق هدف رسمته لنفسي بأن أرى كل شيء، وكنت متعجلاً في تحقيق ذلك الهدف.
اتخذ سفري إيقاعًا محمومًا، وكانت الحركة بين نقاط الخريطة مثل حركة كرة التنس. كنت أسافر إلى أقصى حدود شجاعتي وطاقتي وأعبر المناطق النائية وأقفز من حافلةٍ قديمة إلى أخرى دون كلَل أو نوم كافٍ. إذا كان هناك ما يعبّر عن رغبتي في السفر فهي مقولة روبرت لويس ستيفنسون: «لا أسافر لكي أذهب إلى مكانٍ معين، بل أسافر لكي أخرج، أنا أسافر من أجل السفر، المهم أن أتحرك». لم أكن أسافر لتغطية قائمة من المعالم السياحية أو رؤية حيوانات معينة. لم تكن هذه سفراتي لعمل تغطية كالتي يقدّمها مشاهير ورحّالة الإنستغرام. كان الأمر أكثر من ذلك، مثل ضربات الطفل لزرّ تغيير الصورة في لعبة دربيل الصور التي كان الأطفال يضعونه على أعينهم في الثمانينيات.
ومن المفارقات أنّ هذا كان غالبًا ما يضعني في طريق الخطر، ففي منطقة الأمازون البرازيلية كدت أن أُقتل على يد طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات. ترك صياد بندقيته معبأة بالطلقات على قوس قارب «كانو» (قارب يتمّ صنعه بتجويف شجرة كبيرة)، فحسبته ابنته لعبة وضغطت على الزناد. ما زلت أذكر الإحساس بمرور الطلقة بالقرب من بطني حين صرخت أسأل عن أقرب مستشفى في حال أصابتني الطلقة، ليجيب مُرشدنا المراهق بكل برود أنّ المستشفى «على بعد ثمان ساعات».
في عام 2010، أُصبت بالتيفوئيد وحمَّى الضنك والبلهارسيا في فترة ستة أشهر فقط. أصابني أيضًا مرض طفيليّ منتشر في منطقة البحيرات العظمى في وسط إفريقيا ولم اكتشفه إلا بعد أربع سنوات عندما ظهرت خطوط الدم في بولي لتخون هؤلاء المالاويين المتخفين الذين كانوا يتسكعون ويتكاثرون في مثانتي طوال ذلك الوقت.
ورغم أنّ كل سفرة كانت تحفّها مخاطر من نوعٍ مختلف، إلا أنني أجدها تنحسر دائمًا بعد وقوعها لدرجة أصبحت إعادتي لحكايتها أكثر في تفاصيلها كما لو أنّ كل مغامرة كانت دليلاً إضافيًا على حياةٍ يجب أن أغبط عليها، فهذه المخاطر جعلت للقصص التي كنت أكتبها ألوانًا وكان ذلك جزءًا لا يتجزأ من التزامي بالتجربة والاستكشاف الذي أجد ريتشارد في فيلم «الشاطئ»، يعبّر فيه عنّي، بقوله: «إذا كان الأمر مؤلمًا، فهو يستحقّ المعاناة».
مع تغيّر فلسفة السفر، وجدت أنّ الحياة المليئة بالقصص والتجارب هي بالضرورة حياة مليئة بالسفر
قد تبدو أعراضي المرضية محددة وحادة، لكن اختياري لعلاج الألم الوجودي لم يكن بأيّ حال من الأحوال اختياري لوحدي. حين أنظر للأمر الآن، أدرك أنني كنت مجرد مريد متعصب في موجةٍ أثرها واسع النطاق، فالتجارب الجديدة بالنسبة لي وللعديد من «اللاأدريين» الساخرين، أصبحت غذاؤنا الذي نقتاته للحياة. ومع تضاؤل دور الوازع الديني في حياتنا وابتعادنا عن الأنماط الميتافيزيقية للوجود، قدّمت هذه التجارب نفسها بديلاً لسكينة الإيمان.
كانت الديمقراطيات الغربية تسير على مسارها الذي يشوبه المزيد من الاستهلاك، والمزيد من الرأسمالية، والمزيد من الخصخصة، الأمر الذي جعل هذه الديموقراطيات وكأنها تعد بنصف حياة في حلقةٍ مفرغة من العمل والقلق والأعراف الاجتماعية الجامدة. لكن العالم خارج الحدود قدّم لنا مخرجًا، فمن خلال الفرار من القيود الجغرافية لهذا النظام الساكن أصبح من الممكن إدراك أوجه القصور فيه -لاكتشاف طرق كان وضعنا الراهن يخفيها باحتضانه المتغطرس لما يعتبره تقدمًا ويفقدنا الكثير من الحقائق النفيسة. وجدت أنّ الرعاة في سفوح المناطق الآسيوية النائية الفقيرة كانوا أكثر سلامًا مع العالَم من أثرياء لندن المبتذلين المتعالين. العشرون عامًا الأولى بعد عام 2000 كانت لها معانٍ عميقة، فجواز السفر المغطى بالأختام أصبح شهادة لكثيرٍ من الأفكار الإنسانية والمعاني الراقية وليس فقط للحياة السعيدة.
لم يعد السفر صعبًا، فانتشار شركات الطيران، التي غالبًا ما يدعمها أثرياء الشرق الأوسط، أدى لانخفاض أسعار الرحلات العابرة للقارات. حوّلت ثورة النقل الرخيص التي ابتكرتها شركات مثل: إيزي جت، ورايانير القرار الصعب والمكلف بالسفر إلى الخارج إلى نزوةٍ يتخذ القرار فيها في لحظات، فعطلة نهاية الأسبوع في باريس أو روما أو فيلنيوس قيمتها الآن 60 دولارًا للذهاب والعودة.
بالنسبة لجيلي، فإنّ التغيير الذي طرأ علينا من ناحية القدرة على تحمّل التكاليف والراحة التي ننعم بها هي نعمة كبيرة، ورغم أنّ الأجور التي نتقاضاها تافهة لكنها كافية لا سيّما في غياب المسؤولية الأسرية. الأمر الآخر، انهيار الكتلة الشرقية القديمة وميل دولها لاحقًا نحو الرأسمالية الاستهلاكية أدى إلى فتح نصف القارة حيث لم تكن الشواطئ مكتظة بعد ولا تزال البيرة تكلّف دولارًا واحدًا. في غضون ذلك، كانت ثورة الاتصالات تعني أنّ تنظيم مثل هذه الرحلات كان أسهل من أيّ وقتٍ مضى. في أحد فصول الربيع، رتبت لعددٍ قليل من الأصدقاء رحلة لتسلّق جبل مغربيّ خلال عطلة نهاية أسبوع طويلة. سافرنا إلى مراكش على متن رحلة قبل الفجر من مطار ستانستيد في لندن، حيث كان هناك العشرات من حفلات توديع العزوبية البريطانية موزعة في عواصم أوروبا المترفة يشربون المُسكرات ويسكرون حتى الصباح. بعد اثنتي عشرة ساعة، كنّا على ارتفاع 10000 قدم فوق الأطلسي نجهز أنفسنا للوصول لقمة جبل توبكال في الواحدة صباحًا. أتذكّر أنني كنت مستلقيًا على السرير في المخيم، أضحك على سيمفونية أصوات الغازات التي تخرج منّا، سبّبها التغيّر السريع في ضغط الهواء. هذا النوع من المغامرة الفورية لم يكن من الممكن تصوّره قبل عشر سنوات والآن أصبح لا يحتاج سوى راتب يومين وبضع نقراتٍ بالماوس.
مع تغيّر فلسفة السفر الذي أصبح جزءًا مهمًا من حياة الملايين من الناس، وجدت أنّ الحياة المليئة بالقصص والتجارب هي بالضرورة حياة مليئة بالسفر. لم تعد العطلات ترفًا، بل مصدرًا أساسيًا للنموّ والنضج الفكري والعاطفي، وأصبحت فكرة السفر هذه حقّ إنساني عالمي بديهي -يجسد الثقافة الفردية-، وأصبح نجاح حياتنا متناسبًا مع التجارب التي نكتسبها من سفراتنا.
كنت مجسدًا لهذا السِّر الجديد، منوطًا بكتابته، وكنت في أكثر حالاتي التي أفخر بها مسافرًا متهورًا، وعابر سبيل، ودفتر ملاحظات متنقل. لقد كتب هنري ديفيد ثورو معبِّرًا عن هذا الأمر قائلاً: «يعيش معظم البشر حياة يائسة هادئة»، لكني لست منهم يا سيدي، لقد زرت 100 دولة، وأعرف أماكن العجائب وكيفية الوصول إليها.
منذ عقد أو نحوه، كنت أقترب من عيد ميلادي الثلاثين، وذهبت في مهمة كتابية إلى جبال الهيمالايا الهندية، وسافرت لمدة أسبوعين عبر أجمل ريف رأيته في حياتي. كان لدي مُرشد لطيف يدعى بيرو. قضينا معظم الأيام على خطى بعضنا بعضًا يقتفي أحدنا أثر حذاء الآخر. تحدثنا عن الجغرافيا، وثقافة شعب بهوتيا الذي قابلناه في سفوح التلال، وتناقضات حياتنا المتباينة. وفي أحد الأيام، بعد الظهر، وعند اقترابنا من ممرٍّ جبلي يبلغ ارتفاعه 14000 قدم يسمَّى ممرّ كواري، غمرتني طاقة لم أشعر بمثلها حتى الآن لدرجةٍ أني لم أعد أشعر بوجود بيرو خلفي.
كنت أركض في مسارات البغال المتعرجة، وأقرب تجمع للبشر يبعد 12 ميلاً عنّي أسفل الجبل، وإذا بشعورٍ غير عادي من الصفاء الذهني يتملكني. شعرت كما لو أنه الآن فقط، أصبحت في عزلةٍ يمكنني من خلالها فهم الجمال الحقيقي لما يحيط بي في الحياة. وبينما كانت روحي تنتقل بين الفرحة وسموّ الشعور، ظلّت رؤية تراوح مخيلتي- رجل عريض المنكبين يدعوني أن استمرّ في الحركة إلى الأمام.
جلس على الممرّ وأسند ظهره على تلّةٍ من الأعشاب الصغيرة. كان تمامًا كما تصوّره أثمن الصور العائلية: في نفس عُمري الآن، نحيفًا ومبتسمًا، يرتدي سروال جينز باهت وقميصًا رماديًا رثًّا كان يرتديه في يومٍ مشمس في حديقة جنوب لندن قبل أن يمرض. بدا قويًا -ليس وحشًا، لكنه قويّ جسديًا -وأتذكّر أنني كانت تساورني صورته بأنه يمكن أن يبدو جميلاً جدًا هناك، ويبدو أنه معتاد على النسائم التي تهب من الوديان أسفله. كان لدي شعور غامض بأنني إذا تمكنت فقط من الوصول إلى هناك، إلى الممرّ، يمكننا الوقوف جنبًا إلى جنب، وكل المعرفة السريّة التي حرمت منها بأن أعيش حياة رجل صالح مثله دون شعور بالخوف – تلك المعرفة سوف تتدفق منه إليّ بمجرد أن أصل المكان الذي يجلس فيه.
عند الغسق حين خيّمنا أسفل آخر جزء من الممرّ، شعرت بالفراغ والحزن. بعد أن نصبنا خيامنا، مشيت ميلاً إلى الوراء على الطريق ووجدت مكانًا هادئًا في فسحةٍ من أشجار أرز الدودار الطويلة، حينها بكيت على والدي لأول مرّة منذ سنوات.
كانت ذكريات طفولتي الأكثر حزنًا هي تمثيلات درامية مروعة لأحداثٍ لم أشهدها من قبل
يصف سيغموند فرويد في كتابه تفسير الأحلام (1899)، وفاة الأبّ بأنها «أهمّ حدث، وأكبر خسارة مؤثرة في حياة الإنسان». لا أعرف ما إذا كان هذا صحيحًا، لكني أعتقد أنني كنت أعرف دائمًا أنّ أوّل علامة في طريق رحلتي في عالم الشعور كانت هي نفس اللحظة التي انقلبت فيها حياتي رأسًا على عقب. وفقًا لشهادة الوفاة، كان ذلك في الساعة 10:30 مساء يوم 13 مارس 1985، عندما توفي والدي بسبب سرطان الغدد الليمفاوية في مستشفى لندن، عن عُمرٍ يناهز 32 عامًا. منذ ذلك الحين وهذه الصدمة تفسد الطريقة التي تعاملت بها مع حياتي باسترجاعي لذكراها. من الآن أعرف أنّ جهاز الشعور لدي به مشكلة ومرن أكثر مما يجب. كنت في الرابعة من عمري وقت وفاة والدي والحقيقة ليس لديّ ذكريات ملموسة بين السِّن الذي مات فيه والدي وسِنّ الثامنة من عمري. مؤخرًا فقط أدركت من خلال المحادثات مع أمي أنّ ذكريات طفولتي الأكثر إيلامًا -أيّ ذكريات وفاة والدي الفعلية- كانت في الواقع كوابيس متكررة وأحداث مروعة تراودني في المنام لم أشهدها حقيقة من قبل. من الرؤى التي لا تمحى من ذاكرتي أنني كنت أمشي في غرفةٍ ناصعة البياض حسب تخيّلي الطفولي للمستشفى، وفي زاوية الغرفة كان يرقد ميتًا وجسده منكمش، حول عينيه بقعتان أرجوانيتان كبيرتان مثل مهرج حزين. أستطيع تذكّر هذه الصورة بوضوحٍ تام، لكن أمي تصرّ على أنني لم أرَ قط تدهور حالته في أيامه الأخيرة، ناهيك عن جسده عندما انتهت معركته مع المرض.
لم يتبقَ شيء من أبي. مجرد صوت رنّان وعميق بشكلٍ يستحيل تذكّره عن طريق اللمس بقدر ما أستطيع سماعه. صدى صوته في ذاكرتي يمتد لعضلاتي وكأني أتشبث بركبتيه. الصورة التي قمت بتخزينها له كانت دائمًا صورة مركبة من ذكريات أولئك الذين أحبّوه كثيرًا. كان أصدقاؤه وأقاربه يقولون لي: «الجميع يعشق بيتر»، و«أنت صورة منه»، على الرغم من أنّ هذا لم يكن دقيقًا، فأنا صحيح طويل إلى حدٍّ ما، لكنه كان عملاقًا، طوله يقترب من المترين وعريض وأقدامه كبيرة جدًا لدرجة أنه يضطر للذهاب إلى متجرٍ متخصص لشراء حذائه. لقد كان رياضيًا، على الرغم من أنه لم يأخذ الرياضة على محمل الجد، وكان فنانًا موهوبًا يرسم أفضل الرسوم الكاريكاتورية عند الطلب. كان رجلاً يمتلك أمر نفسه، متمردًا على الأعراف الصارمة لأسرةٍ مالطية منضبطة حيث نشأ ليكون لطيفًا وكريمًا وحكيمًا ومؤمنًا بالمساواة. كان أيضًا وسيمًا وذكيًا وجذابًا بشكلٍ غير طبيعي. مؤسف أنّ الموت المبكر لا يتيح الفرصة لتوديعٍ مناسب. كنت مقتنعًا بكماله، ربّ الأسرة؛ الذي غيّبه الموت.
الميل إلى الإعجاب بذلك الوالد الغائب -ومثاليته المفرطة- ترك لي سؤالاً مؤرقًا دون إجابة: إذا كان ربّ الأسرة قويًا جدًا ورغم ذلك استسلم للموت، فما الأمل الذي يبقى لي؟ بكل المقاييس، لم يكن والدي المثالي يريد شيئًا أكثر من العيش. كان القدر وليس الاختيار هو الذي حرمه من هذه الرغبة، ولذا لم أستطع الوثوق بالقدر على الإطلاق.
كنت في منتصف العشرينات عندما أصبحت مقتنعًا بقرب موتي
يا لها من قصةٍ أنيقة للغاية تلك التي تشير إلى إدراكي للسببية المباشرة بين القدر المظلم والفجيعة المُبكرة. عندما كنت طفلاً، كان اليتم مجرد أمر تقبّلته بأنه طبيعي وحالة لا مفر منها قبلتها لعدم معرفتي بوجود غيرها وأنّ هذه هي الحياة.
لكن عندما اقتربت من العُمر الذي كان عليه أبي حين مات، ذهلت من توقعي بأني سألاقي مصير والدي. كما استوعبت نصائح أقاربي لأخذ مكانه -لأكون «رجل المنزل»، المسؤول عن عائلتي الباقية على قيد الحياة- توقعت أيضًا أن تحاكي حياتي نفس المنحنى الضعيف الذي سلكته حياته.
تقهقرت حياتي بسبب همهمات نفسي القلقة، ولم أستشر أو أزور أيّ شخص للحديث عن هذا الموضوع، ونادرًا ما ذكرته للأصدقاء والأحبَّة، لكن قراءاتي المتناثرة جعلتني أفترض أنّ ما أشعر به هو اضطراب ما بعد الصدمة، وبال الأفكار المتطفلة والقلق الواعي بل والهلوسة إذا جاز التعبير. في أكثر أوقاتي ضعفًا شعرت بأنني مطارد. ثمّة مرض يتربص بي في مكانٍ ما في الأفق القريب، شيء يفضح ضعفي الذي أراه ولا يراه الآخرون. لم أكن متأكدًا من الشكل الذي سيأتي عليه هذا الوهم (ربما السرطان، وكأنه إرث عائلي). لكنني كنت أعرف أنه سيكون شيئًا مزعجًا وسريعًا -ذبول يائس. وكنت أعرف أنني لن أتصالح معه وأنني سأمرّ منحدرًا بكل الخطوات والآلام في رعبٍ وغضبٍ شديدين من هذا الظلم البيّن.
معرفتي بأنّ الألم والحسرة هما النهاية حرمتني من سنواتي الثمينة التي كان يمكنني أن أشعر فيها بالرضا. حاولت إضاءة عقلي بنقوش لأشخاص وأماكن مختلفة وعشوائية كما لو كان هذا وحده هو المقياس لتقدير ذاتي. ربما كنت أخدع نفسي بأنني أسعى وراء السعادة؛ ولكن الواقع هو أني أحاول إطالة الزمن محاولاً إحباط موتي بنزيف من الساعات واللحظات المختلفة. بدا الأمر وكأني أحاول تعويض السنوات التي قدر لي أن أخسرها.
في الوقت الذي عشت فيه في ظل ّهذه النبوءة الذاتية، أعطتني رحلاتي الخارجية فترة راحة لعقلي المضطرب، لكن عالم السفر كان يتغيّر بوتيرة سريعة.
أصبح التحول الجديد معروفًا بلغةٍ جديدة: «صورة ذاتية» أو «سيلفي» كما يقولون، مما أدى إلى جوّ مقلق من استيعابي لكل معلَم سياحي ووجهة نظر في العالم. ظهر «الترحال الرقمي» لأول مرّة فكرة طموحة تسوّق للنجاح المهني غير المقيد بالقيود الجغرافية للعمل التقليدي القائم على المكاتب. شقّ المؤثرون طريقهم إلى الشهرة والثروة بالوسوم أو الهاشتاقات الجديدة، لكن نرجسيتهم الواضحة أتلفت كل تأثير ثقافي كان يحاول زرعه أشخاص مثلي. تطور حلم المتقاعد المتواضع بالادخار من أجل «عطلة العُمر» إلى «قائمة أمنيات العام»، وهي قائمة من التطلعات التي يتباهون بها على مواقع التواصل، لدرجة أنّ استطلاعًا للرأيّ أُجري عام 2017، وجد أنّ العامل الأكثر أهمية بالنسبة للبريطانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و33 عامًا في تحديد المكان الذي سيذهبون إليه في العطلة هو إمكانية الوصول إلى منصة إنستغرام في هذا المكان وإمكانية التصوير فيه.
بيوت الشباب التي كانت يومًا مؤسسات للتبادل الثقافي أصبحت بدلاً من ذلك وكأنها جحور سكنية مشؤومة، يسكنها أشخاص محبوسون في الوهج الكهربائي لشاشات الهاتف والكمبيوتر المحمول. أصبح السفر أنانيًا وأدائيًا ومحنّطًا.
ظهر هذا الابتذال الجديد جنبًا إلى جنب مع النموّ المضطرد للسفر. كانت عولمة اللغة الإنجليزية لغة مشتركة تحول دون الحافز المثري لتعلّم اللغات المحلية في السفر، وخرائط الهواتف الذكية تعني أنك لم تعد مضطرًا إلى سؤال الغرباء عن الاتجاهات ومحاولة تعلّم لغتهم. كان اشتعال العالم بالشبكات يقتل التجارب الجديدة – تلك التجارب التي كانت محمَّلة بالمفاجآت. أما الآن، فوفرة المعرفة المسبقة وسهولة التخطيط المسبق تعمل مثل قاطع الدائرة الكهربية. ما كان يبدو في يومٍ من الأيام بعيدًا ومستحيلاً أصبح معلومًا وانكشف الغموض عنه، وعبارات الكروز تمخر عباب الممرّ الشمالي الغربي نحو المحيطين الأطلنطي والهادي.
تكالبت هذه الاتجاهات الاختزالية في التكنولوجيا والثقافة على حدٍّ سواء، للتقليل من بهجة زيارة الأماكن الجديدة. بدت ثروات الكوكب، التي كنت أعتقد أنها لا تنضب – بدأت تتضاءل وتتقلص إلى قائمة من المعالم السياحية الطبيعية وأخرى من صُنع الإنسان، وأصبح كل شيء قابل للتصفح ويمكن الذهاب إليه. تبًا لهذا الوضع!
قد يكون هذا مؤشر على التردد الذي أجده عندما أردت تحديد أصول إدماني على السفر حتى وقعت على عمل دانيال كانيمان مؤخرًا -أثناء بحثي عن طريقة لتأطير فكرة تراكم الخبرة لملء الفراغ. كانيمان، عالم نفس يهودي- حائز على جائزة نوبل، اشتهر بأنه أبو الاقتصاد السلوكي. يصفه الكاتب مايكل لويس بأنه «ذوّاق للخطأ البشري»، بعض نظرياته الأكثر إثارة للاهتمام في مجال علم نفس المتعة، هو دراسة السعادة.
على مدى عقود من البحث والتجريب، وجد كانيمان انقسامًا في الطريقة التي يختبر بها الناس الرفاهية، تحدث عن هذا الانقسام في مذكراته الأكثر مبيعًا، التفكير السريع والبطيء (2011)، رابطا إياه بنوعين من الذات: «الذات المجرِّبة»، و«الذات المتذكِّرة». تصف الذات المجربة إدراكنا كما هو موجود في «الحاضر النفسي» الذي يرى كانيمان أنه يستمر لمدة ثلاث ثوانٍ تقريبًا، مما يعني أنّ متوسط عُمر الإنسان يضم حوالي 600 مليون من هذه اللحظات. ما نشعر به في هذه الفترة التي تبلغ مدتها ثلاث ثوانٍ يدل على مستوى سعادتنا في أيّ لحظة.
على الجانب الآخر، تصف الذات المتذكّرة كيفية امتصاص واستقلاب العقل لكل تلك اللحظات في مرآة الرؤية الخلفية. أفضل وصف للإحساس الناتج عن المقياس الثاني، ليس السعادة بل «الرضا عن الحياة».
كانت ملاحظة كانيمان الأهمّ هي أنّ الطريقة التي نتذكر بها الأحداث منفصلة دائمًا عن التجربة نفسها. قد يتوقع المرء أن ترتبط ذكرى مشاهدة الشفق القطبي الشمالي ارتباطًا مباشرًا بمشاعرنا في ذلك الوقت -لتشمل تجميعًا لاستجابات الذات عاطفيًا للمنبهات الحسيّة، بينما في الحقيقة أنّ الذات المتذكرة عرضة لجميع أنواع «الأوهام الإدراكية». تقوم الذاكرة بالتحرير والتخلص من الأحاسيس الفعلية وتعمد إلى التزيين والخداع حال رغبتها في نسج تجارب منفصلة وسردها بطريقةٍ جذابة ومرغوب فيها، مما يعني أنّ إحساسنا الحقيقي الذي شعرنا به يضيع إلى الأبد، ولا يتبقى لنا سوى بقايا مغشوشة، وهو ما سمَّاه كانيمان: «طغيان الذات المتذكِّرة».
لقد كشف الجوّ النرجسي لعصر صور السيلفي عن درجة انغماسي في مسعاي الشخصي
كان هذا الكشف مهمًا لجميع أنواع الخبرة الإنسانية. (أشهر توضيح أورده كانيمان للاختلاف هو تجربة منظار القولون التي لن أصفها هنا). ولكن يبدو أنّ لها تأثير على قيمة العطلات وطموحات السفر التي اخترت أنا وآخرون أن نسعى إليها.
لسنواتٍ عديدة كنت مقتنعًا بأنّ جودة الذكريات للتجارب الغريبة تقدّم طريقًا إلى السعادة، والفلسفة التي اخترت أن أتبناها تنصّ على أنّ مطاردة الآفاق الجديدة تنتج نسيجًا في عقولنا مليئًا بالألوان، وأنّ هذا الأمر يمكن الاستفادة منه لتحقيق الرضا. بدا الموضوع بديهيًا، ولكن وفقًا لفرضية كانيمان، كانت حساباتي موهمة-جزئيًا على الأقل. هل كانت التجربة طريقًا مشروعًا للرفاهية؟ أم أنها كانت مجرد وظيفة تدفعني لسرد القصص ولرغبتي في تصوير حياتي على أنها معركة لتجاوز نبوءة الموت القاتمة؛ ومن ثمّ عرضة للتحيزات الروائية التي كنت عاجزًا عن تنضيدها؟
أثناء ذلك كنت أعرف أنني أهملت مصادر مهمة أخرى للسعادة، فقد تركت الصداقات تنقضي واحتقرت أيّ ميل للحفاظ على الشعور بالانتماء للمنزل. لقد دفعت شريكتي لوسي للشتات الذهني بسبب حاجتي المرضية لتشكيل مواعيد التقويم، ناهيك عن مزاجي، حول سفري الخارجي القادم. ومع ذلك، لم أعد متأكدًا من أنني كنت صادقًا مع نفسي بشأن ضرورة كل ذلك، كنت أشك في أنّ أحد الأسباب التي جعلتني أشعر بالارتباك الشديد هو الجوّ النرجسي لعصر الصور الشخصية وأني فضحت انغماسي في مسعاي مسبقًا. وفي الوقت الذي كنت أرفض سطحية «المؤثرين على مواقع التواصل»، إلاّ أنني رأيت كتابات السفر التي أكتبها كانت مجرد نسخة أكثر تعقيدًا من نفس المسلك الذي يسلكونه. كنت أتساءل كم يا ترى عدد البشر الذين يرون في السفر علاجًا مثلي فيكتبون روايتهم ببهجةٍ أنانية.
لم يعد مجديًا النظر إلى السياحة بأنها سلعة أخلاقية، فالدعوات تتجدد لإنهاء استعمار العقل الغربي بأحقيّة العالم الغني في وطء الأراضي الفقيرة، فالعلاقة بين السفر والتدمير البيئي أصبحت وطيدة، وكما أنّ السفر الجويّ على وجه الخصوص قزّم كل نشاط آخر تقريبًا من حيث انبعاثات الكربون التي يتسبب بها الفرد الواحد، فبدا لي أن ثمّة مفارقة في عدم التوفيق بين شخص يتوق إلى رؤية العالَم لكنّ أفعاله تساهم في تدمير العالَم.
بحلول الوقت الذي أوقفت فيه كورونا السفرات المعتادة في العالَم، لم يعد من الممكن مواصلة الادعاء بأنّ السفر هو مسعى نبيل، فقد تحوّل المسافر من مثالٍ رومانسي لطيف للفضول البشري إلى شيء رخيص: مخلوق أناني يسعى وراء الإشباع الرخيص على حساب كل شيء، أو كائن ثديي يداعب الشعاب المرجانية ويزيد من حمضية المحيط فيقضي على هذه الشعاب ويفنيها. أصبحت الرغبة في رؤية الأماكن الأجنبية تبدو وكأنها مجرد شهيّة بشرية أخرى مدمرة لا يمكن إشباعها، بل إن أكثر ممارسيها المحمومين بها هم حشد من المنافقين لا المخلصين.
لم تكن هناك طريقة لتجنب محاسبة ذاتي والأنانية تتجذر في مسار رحلتي. ماذا كنت إن لم أكن نسخة من نموذجٍ أصلي للمسافر المتبجح، ذلك الذي يجمع اللحظات، الذي كان التعلّم والمتعة بالنسبة له هو سعي لتحقيق الذات. وبالطبع كنت أعمل في إزالة الغموض ورفع التجانس الثقافي الذي استنكرته بالكتابة عن الأماكن التي كان من الأفضل لو كنت تركتها بمفردها. (بحلول هذا الوقت، أغلقت أمام الزوّار الجزيرة التايلاندية التي صوّروا فيها فيلم «الشاطئ»، الذي جذب لها المزيد من السيّاح، فلم تعد جزيرة بل أصبحت مشهدًا من مشاهد الخراب.) الرحلات التي أشعرتني براحة البال ذات يوم أصبح الآن يلوثها الندم. أدركت أنه يمكن بسهولةٍ إعادة صياغة هوسي بالسفر ووصفه بأنه نوع من الجشع الاستهلاكي.
يقول باري لوبيز في هورايزون (2019): «في كل مرّة أفعل فيها هذه الأشياء، يتبادر إلى ذهني سؤال: ما مدى ملاءمة ما كنت أفعله؟». ويتأمل في مسألة السفر والتواصل الطبيعي ويقول: «ألا يجب أن أسمح لأرض الاستشفاء هذه بالشفاء؟ هل كان افتتاني بتكهناتي وأجندتي الخاصة أكثر أهمية؟ ألم تكن هناك نهاية لرحلات المشاهدة؟».
يبدو أنّه لا توجد طريقة للتكهّن بما سيحدث لنهم السفر هذا
بالطبع كانت هناك نهاية أو وقفة على الأقل. لقد تولَّى الوباء هذا الأمر، وأدت فترة الحجر، الذي دخل حيز التنفيذ في بلدي إنجلترا في 26 مارس 2020، إلى تعجيل أكثر فترة كانت ثابتة في حياتي بعد البلوغ. ولكن بحلول ذلك الوقت، والحقّ يُقال، فترة هوسي بالسفر كانت قد ولَّت بالفعل.
إذا كان الموت هو النواة السَّامة في قدَري، فإنّ حياتي الجديدة ستكون لي العلاج، فقد رزقت بابنتي ليلي عام 2012، ثمّ تبعها ابني بِن بعد ثلاث سنوات. أظن أنّ من المنطقي أنّ الإحساس بالمسؤولية بوجود الأطفال قد أخرجني من ذلك القلق، فالأبوّة فرضت عليّ التزامًا بإعطاء الأولوية لحياة الآخرين بدلاً من بحثي الخيالي عن تحقيق الذات، وسنوات عُمري التي تجاوزت خلالها العُمر الذي عاشه والدي أعطتني معالِم لمراحل حياتية أكثر جدوى.
أصبح السفر أقلّ أهمية، وبدأت إعادة زيارة الأماكن التي أحببتها وتصالحت مع فكرة أنّ هناك أماكن لن أراها أبدًا. لم أعد أنام مع مظروف من وثائق السفر -جواز السفر والأوراق النقدية وشهادة التحصين- بجانب سريري. وبهذه الطريقة، كان الإغلاق بمثابة مقطع ختاميّ لطلاقٍ من السفر.
الرغبة في التحرك لا تزال قائمة، حتى عندما يوجّهني اختياري والظروف الخارجية نحو السياحة الداخلية، فإنّ جزءًا من شخصيتي سيكون دائما ذلك الفأر الخائف، مدمن جديد يكافح لتكرار أوقات ازدهاره، مثقل إلى الأبد بالمعرفة المؤسفة لشخصٍ استكشف جلّ الأشياء. أمّا أهمية السفر فقد فقدت ميزتها في أعقاب الوباء الذي نسف القوائم التي كنت أضعها لسفراتي الخارجية الكثيرة المجدولة، واتضح أنّ هذا لم يكن أمرًا هينًا.
في الوقت الحالي، لا يبدو أنّ هناك طريقة لمعرفة ما سيحدث لنهم السفر هذا، ولا توجد إشارة واضحة عمَّا لو كان هذا التوقف يمثّل كسوفًا مؤقتًا أو إخمادًا تامًا لجذوة السفر التي كانت من قبل. إذا كان هناك أيّ درس يمكن استخلاصه من رحلتي، فهو أنّ الولع بالسفر يشبه العديد من أنواع الإدمان الأخرى: مُرضيَة، مبهجة بشكلٍ متقطع، ولكنها بائسة في النهاية. السفر أمرًا رائعًا، لا تفهموني خطأ، لكنه ليس كالرضا والقناعة.
كنت أقول في نفسي وأنا أُعيد صندوق أحذية ريبوك هذا، بكل ما فيه من أشياء متفرقة، بأنّه صندوق كنز من البراءة قد لا تُستعاد أبدًا. وقد لا تكون هذه البراءة بالنسبة للكوكب أو لأولويات الأشخاص الذين يحبّون هذا الكوكب أسوأ شيء لا يُستعاد.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.