ترجمة: مصطفى سمير – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
هل يتّخذ الدماغ قراراتك، أم تكون من خلال اختبار العالَم نسبة إلى جسدك؟ (1).
إنّ حجر العثرة الرئيس، بالنسبة إلى أيّ رؤية ماديَّة عن الوعي، هو مسألة الإرادة الحُرّة. يميل الشخص المعاصر المستنير إلى الشعور برفض التصوّر الصوفي غير المادي للروح الأزليّة مقابل الفهم العلميّ الصارم للوعي وللذاتيَّة بوصفها شيئًا نشأ بواسطة مليارات الخلايا العصبيّة في أدمغتنا مع تريليونات من المشابك والعمليّات الكيميائيّة والكهربائيّة المعقّدة التي تخصّها. بيدَ أنّ حقيقة كوننا ماديّين بالكامل، تكمن في أننا نخضع لقوانين السبب والنتيجة، التي تثير الشاغل الذي مفاده أنّ حياتنا قد تكون محدَّدة تمامًا.
هل من الممكن أن تكون خبرتنا في إصدار القرار- الانطباع الذي لدينا عن اتّخاذ الخيارات، في الحقيقة ما هو إلاّ امتلاك خيارات يمكننا اتّخاذها، وأحيانًا الصعبة منها مجرّد وهم بالكامل؟ هل من الممكن لسلسلةٍ من الأحداث الفيزيائيّة في أجسادنا وأدمغتنا أن تتسبَّب وجوبًا في جعلنا نتصرّف بالطريقة التي نتصرَّف بها، مهما كانت خبرتنا عن هذه العمليّة؟
في محادثاتي التي أجريتها مع ريكاردو مانزوتي، أستاذ الفلسفة النظريّة في جامعة IULM في ميلانو، استكشفنا نظريّته عن تماهي العقل والموضوع، وهي فرضية تحوّل الموقع الفيزيائيّ إلى الوعي بعيدًا عن الدماغ وخلاياه العصبيّة. في نسخة مانزوتي عن الأحداث، لا يقوم الدماغ “بمعالجة المعلومات” القادمة من الحواسّ لخلق تمثيلاتٍ وهميّة عن الواقع الخارجيّ الذي لا يمكن معرفته بحقٍّ أبدًا (فرضيّة يدعمها معظم علماء الأعصاب وعديد من الفلاسفة)، بل مقابلة الجسد (بما في ذلك الدماغ والحواسّ بطبيعة الحال) مع العالَم تسمح للعالَم بأن يحدث بطريقةٍ معيّنة، ليصبح موضوعًا ما متصلًا بالجسد، وذلك الحدوث، ذلك الموضوع المتصل، هو ما نسمّيه “الإدراك الحسّي/الوعي”، ويبقى حيث يكون بالضبط، خارج أجسادنا. إنّ خبرتنا، عقلنا، هي العالَم كما هو بالنسبة إلى جسدنا. والضمير “أنا” لا يتماهى مع الدماغ ولا على نطاقٍ أوسع مع الجسد، بل مع خبرتنا التي هي العالَم نسبةً إلى الجسد.
ومع ذلك، إذا كان هذا هو الحال، إذا كان الموضوع والذات، أو بالأحرى العقل والموضوع المتصل، شيئًا واحدًا في الخبرة، ألَا يجعل هذا الأمر أكثر صعوبة في تفسير انطباعنا عن الإرادة الحُرّة؟ أليست درايتنا لحظة بلحظة تحديدًا باتّخاذ القرارات هي ما تُثبت أننا أشخاص منفصلون ومستقلّون نتحرّك في عالَمٍ من الموضوعات أو الأشياء التي تبقى مغايرة لنا تمامًا والتي نسعى إلى الهيمنة عليها؟
تيم باركس: ريكاردو، كيف يتسنَّى لنا أن نقرِّر باستمرارٍ القيام بهذا بدلًا من ذاك، أو مجرّد النظر إلى هذا بدلًا من ذاك، إذا كان العقل وموضوع الإدراك الحسّي، كما تقترح واحدًا؟
ريكاردو مانزوتي: السؤال هو: عندما نختار القيام بشيء ما، هل يمكننا فعلًا فعل شيء آخر؟
باركس: بالتأكيد لدينا هذا الانطباع. على سبيل المثال، أنا متأكّد تمامًا من أنه كان بإمكاني الإجابة بشكلٍ مختلف عن سؤالك.
مانزوتي: لكن هل تستطيع حقًّا؟ إذا عاد الكون بنا للحظة، بالنظر إلى أفكارك ومشاعرك وظروفك، هل ستفعل أيّ شيء مختلف؟ ولماذا ستفعل ذلك إذا كنتَ، أيًّا كان ما أنت عليه، نفسك تمامًا؟ بالتأكيد إذا فعلت شيئًا مختلفًا ستكون مختلفًا؛ لن تكون الأفكار والمشاعر وما إلى ذلك هي عينها. لذا، ربما يكون السؤال المناسب حقًّا هو: عندما نختار القيام بشيء ما، ما الذي نكون عليه، وما الشيء الذي يُسبِّب أفعالنا؟
باركس: حسنًا، يخبرنا الاتّجاه الغالب في العلم أننا لسنا في الأساس سوى أدمغتنا. ألم يقل عالِم الأحياء البريطاني فرانسيس كريك (1916-2004): “إنَّنا لسنا سوى خلايانا العصبيّة ونشاطها”؟ وزعم عالِم الأعصاب الأمريكي ديفيد إيجلمان، في كتابه: The Brain: The Story of You (2015)، أنّ “مَن أنت؟ تعتمد على ما ستفعله خلاياك العصبيّة، لحظة بلحظة”.
مانزوتي: صحيح. لقد اقتنع كريك وعديد من علماء الأعصاب الآخرين بأننا مجرد خلايا عصبيّة، وأنّ هذه الخلايا العصبيّة، التي هي بالطبع أشياء فيزيائيّة، تتّخذ قراراتنا بطريقةٍ ما. المشكلة هي أننا عندما نستخدم المجاهر الحديثة لفحص خلايانا العصبيّة، لا نجد أيّ دليل على ذلك. كل ما نراه هو مرور الشحنات الكهربائيّة والتغيّرات الكيميائيّة المعقّدة. لا شكّ أن بعض الناس يتأسّون بفكرة أنهم يسعهم لوم مادّتهم الرماديّة على خطاياهم، كما هو الحال في الماضي عندما كانوا يحبِّذون لوم الشيطان أو القَدَر.
وصفَ إيجلمان، في الكتاب الذي ذكرته، بشيء من الرضا كيف انهمك رجل في إطلاق النار وأدّى ذلك إلى مقتل 13 شخصًا، كنتيجة مباشرة -على حدّ زعمه- لورمٍ دماغيّ صغير الحجم “بحجم درهم”، ضغطَ على منطقة الَّلوزة عنده وأزعج جميع الخلايا العصبيّة هناك. إذن، في سيناريو كهذا، نعزو اللوم الأخلاقيّ إلى مجموعةٍ من الخلايا. لكن من الصعب مواءمة هذا مع خبرتنا الفعليّة عن العيش في العالَم والتصرّف فيه. نحن لا نشعر بالتماهي مع خلايانا العصبيّة، ولكننا نشعر بالفعل أننا مسؤولون عمَّا نفعله. لذا، مرّة أخرى، السؤال هو: مَن نحن؟
باركس: لاحظت أنه عندما أقول إنّ لديّ انطباعًا غريزيًّا قويًّا عن شيء ما، فإنك تشكِّك في خبرتي. لكن عندما يقول عالِم أعصاب إننا خلايا عصبيّة، فإنك تلجأ إلى الغريزة والخبرة لإنكار القول.
مانزوتي: تقدّم خبرتنا نقطة الانطلاق. حسنًا، نحن لدينا هذا الانطباع أو ذاك، لنختبره علميًّا. كريك ليس لديه خبرة ولا علم إلى جانبه عندما يدّعي أننا خلايا عصبية. لا تقدّم خبرتنا دليلًا على أنّ هذا هو الحال، وعلى الرغم من مرور سنوات من البحث لم يتمّ إثبات ذلك.
باركس: أنا متأكّد من أنّ علماء الأعصاب سيختلفون معك. على سبيل المثال، ألم يُبرهن العالِم الأمريكيّ بنيامين ليبت (1916-2007)، منذ فترة طويلة على غرار ما في الثمانينيّات بأنّ أدمغتنا تستبق خبرتنا الواعية باتّخاذ قرار فعل شيء ما؟ عندما نضغط على زِرٍّ ما، على سبيل المثال، هناك نشاط عصبيّ يميل في هذا الاتجاه بقدر ثانية أو ثانيتَيْنِ قبل أن نتمكّن من الإبلاغ عن “قرار الضغط عليه”.
مانزوتي: بالتأكيد. في الواقع، أكَّدت الأبحاث الحديثة التي أجراها عالِم الأعصاب الإدراكيّ باتريك هاغارد في جامعة كوليدج لندن -وبشكلٍ مستقلّ، ما أجراه جون ديلان هاينز في مركز برلين للتصوير العصبيّ المتقدّم- نتائج ليبت. قبل أن نكون على درايةٍ بإرادتنا الواعية، تكون الخلايا العصبيّة مشغولة في هذا الاتّجاه. عندما قرَّر جون فجأة تقبيل ماري، كان عقله في الواقع متقدِّمًا في اللعبة.
نحن متماهون مع تلك الخبرة، وليس مع أجسادنا أو أدمغتنا
باركس: لكن من المؤكّد أنّ هذا يؤكِّد ادّعاء عالِم الأعصاب أننا خلايا عصبيّة؛ باعتبار الخلايا العصبيّة هي الآمر الناهي.
مانزوتي: قطعًا ليس كذلك. أنت تترك شيئًا كبيرًا نوعًا ما خارج المعادلة. في حالة الضغط على الزِرّ، على سبيل المثال، تكون قد نسيت الزِرّ. في حالة قُبلة جون، لقد نسيتَ شفتيّ ماري. أنت تتحدّث كما لو أنّ الدماغ كان منفصلًا تمامًا عمَّا هو خارج أجسامنا. آمل أن نكون قد أثبتنا في محادثاتنا السابقة أنّ الموضوعات التي غدت خبرتنا ليست “مجرّدة” بل “متصلة”؛ إنها كما نعرفها لأن أجسامنا بما لها من بُنية سببيَّة تخصّ نظامها الإدراكيّ تجتزئها من كتلة الذرّات والفوتونات حولها. إنّ الموضوع، سواء كان زِرًّا نحن على وشك الضغط عليه أو فمًَا نحن على وشك تقبيله، إنما هو متصل بجسمنا، وعلى هذا النحو فقط تكون خبرتنا. نحن متماهون مع تلك الخبرة، وليس مع أجسادنا أو أدمغتنا.
باركس: أنا آسف. أعلم أننا أمضينا وقتًا طويلًا في تأسيس مفهومك عن التماهي بين الموضوع والخبرة، لكنني لا أرى كيف يمكن لهذا أن يفسِّر كيف يبدأ الفعل. لا يمكنك إخباري بأن الزِرّ يقرِّر أن يُضغَط عليه، أو لا يُضغَط عليه، إذا وصل الأمر إلى ذلك. أمّا بالنسبة إلى ماري، فقد تصفع جون على وجهه عندما يتحرّك نحو تقبيلها.
مانزوتي: لنأخذ مثالًا أبسط، بما أنه في الوقت الحاليّ ليس لدينا أيّ فكرة عمَّا قد يؤدّي إليه الضغط على هذا الزِرّ، في حين يشير التقبيل، بطبيعة الحال، إلى جسد آخرٍ وعقلٍ آخر.
باركس: أنا مع الأمثلة البسيطة.
مانزوتي: حسنًا. عندما أرى سيارة جديدة جذّابة وأقرِّر شراءها، ما السبب الذي يكمن وراء فعلي؟ ألا يمكن أن تكون السيارة نفسها؟ لماذا يجب أن أقدِّم كيانًا وسيطًا بين السيارة وما يفعله جسدي؟ لماذا لا أتخيّل بدلًا من ذلك سلسلة سببيَّة طبيعية تمامًا؟
باركس: لا يمكنني حقًّا أن أرى شراء سيارة ما بهذه البساطة. هذا شيء باهظ الثمن للغاية. إنه كابوس بالنسبة لي عندما أضطرّ إلى شراء سيارة. يقضّ مضجعي التفكير في جميع إيجابيات وسلبيات ذلك الأمر.
مانزوتي: لا يشتري المرء سيارة كل يوم. أنت على حقّ. هناك العديد من العوامل المتواطئة في ذلك. سفَرك إلى العمل، ميزانيتك، نوع الطرق التي تستخدمها. لكن كل هذه الأشياء هي خارجية بالنسبة إلى جسدك، وكما قلنا، إنها موجودة متصلة به. سويّة، تشكِّل الموضوع المركَّب المتصل الذي يمثّل خبرتك، السيارة. وعليه، لمَ لا تكون خبرة السيارة هذه، وليس الخلايا العصبيّة، هي ما يحدّد قرارك؟ في النهاية، لا يمكنك أن تقرِّر شراء السيارة إذا لم تكن موجودة أولًا، وإذا لم تكن بطريقةٍ ما جزءًا من خبرتك -جزء منك- حتى لو لم يكن ذلك إلا من خلال المجلّات أو القيل والقال. بشكلٍ عامّ، ما الذي يمكن أن نعنيه بضمير “أنا” إذا لم يكن الشيءَ الذي هو سبب الأفعال التي يبدأها جسدي؟ في الواقع، يتّفق علماء الأعصاب على أنني يجب أن أكون الشيء الذي هو سبب فعلي. ويحددون مكان هذا الشيء، ذلك السبب، في الدماغ، الخلايا العصبيّة. لكنّ الخلايا العصبيّة ليست بداية السلسلة السببيَّة. إذ ينتج نشاطها عن شيء آخر: العالَم الخارجيّ. إذا تتّبعنا أيّ نشاط عصبيّ إلى الوراء، تشجُّرًا بعد تشجُّر، مشبكًا بعد مشبك، سنخرج عاجلًا أو آجلًا من الدماغ من خلال أعضاء الحسّ التي لدينا، ونجد أنفسنا على نحوٍ لا مفرَّ منه خارج الجسد، في العالَم، حيث توجد خبرتنا. ونكون نحن خبرتنا.
باركس: حسنًا. من السهل قبول أن أيّ موضوع أنجذب إليه يجب أن يكون له دور ما في قرار شرائي له أو حيازته. لكن ألسنا نكرِّر فحسب بديهيّة ستيف جوبز بأن الناس لا يعرفون ما يريدون حتى تُبيِّنه لهم؟
مانزوتي: كلاّ. نحن نتقدّم خطوة أخرى. نحن نقول: إنّ الناس لا يعرفون ما يكونون عليه حتى نُبيِّن ذلك لهم. بمجرّد أن يظهر لنا جهاز الأيفون، على سبيل المثال، بمجرد أن يقوم جسمنا بجهاز الإحساس الخاص به بابتكار هذا الشيء الرائع أو التوصّل إليه، فإننا نكون قد تغيرنا. نصبح الموضوع الذي تسمح حواسّنا له بالوجود، في هذه الحالة، الهاتف. لذا، إنه يكون مع كل أهدافنا. إظهار الأشياء للناس أمر قويّ للغاية. ومن هنا جاء عالَم الدعاية والإعلان!
“أنت” لستَ شبحًا غير مرئيّ في دماغك بل العالَم المتّصل الذي أوجده جسدك
باركس: ومع ذلك، ما يزال الناس يتّخذون قرارات مختلفة، أليس كذلك؟ بينما كان نصف العالَم يصطفّ لحيازة الآيفون، كنت أنأى بنفسي عن ذلك. اخترت عمدًا عدم الشراء. بالتأكيد هذا لأنّ دماغي كان صاحب القرار، وليس الموضوع الذي تزعم أنه منسجم مع الخبرة. ومن باب العودة إلى ليبت، فقد لاحظَ -كما أذكر- أنّ الدماغ يمكنه دائمًا تغيير موضعه في آخر ثانية أو ملّلي ثانية. يمكنه أن يغيّر اتجاهه. لذا، يُتّخَذ القرار. وتكون الخلايا العصبيّة مشغولة.
مانزوتي: ما سبب هذا التغيير في اللحظة المتأخِّرة في النشاط العصبيّ؟ جون على وشك تقبيل ماري عندما يلمح زوج ماري وهو يخرج من البنك. أخبار سيئة. أو ربّما يتراجع؛ لأنّ شيئًا ما في ماضيه الفريد لا يزال يؤثّر على أفعاله في الوقت الحالي، بعض الحكايات التحذيريّة التي سمعها عندما كان طفلًا. بالنسبة لي، هذه الخبرة الماضية هي مرّة أخرى موضوع ما، قطعة من العالَم الخارجيّ أصبحت متاحة بفضل جسدك. لذا، فإن قطعة واحدة من العالَم تُناقض الأخرى. وأنا على وشك شراء السيارة الأكثر إثارة في العالَم، أدركت فجأة كشف حسابي المصرفيّ الأخير. لا يزال ذلك الأمر نشطًا سببيًّا في رأسي، جزء من خبرتي الفوريّة. في حالتك، شيء ما في الماضي قاوم الآيفون. لم يكن له علاقة بدماغك صاحب القرار. أنت سبب أفعالك أو تراخيك عن القيام بها، إلا أنّ “أنت” لستَ شبحًا غير مرئيّ في دماغك بل العالَم المتّصل الذي أتى به جسدك إلى الوجود.
باركس: أعتقد أنّ وجهة نظرك هي أننا نفعل دائمًا ما نريده في تلك اللحظة من الفعل، ربما على الرغم من الضغوط الأخرى، والخبرات الأخرى، التي قد تهيمن في لحظةٍ أخرى. وإذا لم نكن نريده، فلن نفعله.
مانزوتي: هذا صحيح. لكن دعنا لا نتخيّل أن هذا يعفينا من مسؤولياتنا. بدلاً من ذلك، يكشف عن ما نحن عليه حقًّا. نحن أسباب الأشياء التي نقوم بها، وأفعالنا هي آثار الأشياء التي نكون عليها. نحن تلك المجموعة من الخبرات/الموضوعات، التي في ظلّ الظروف السائدة تقوم بما نقوم به. إذا كَذَبنا، فنحن كاذبون. إذا قاتلنا، فنحن مقاتلون. إذا أحببنا، فنحن محبّون. يُحدَّد السبب من خلال آثاره: “مِن ثِمارهم تعرِفونهم”.
باركس: متَّى 7:16! لا تزال طفولتي الإنجيليّة نشطة سببيًّا، على ما يبدو.
مانزوتي: ها! يا لها من ذاكرة! لكن لاحظ عنصر الضرورة. لا تستطيع ألّا تتذكّر هذا المرجع الإنجيليّ، إنك ببساطةٍ ملزَم بإنتاج تلك الثمرة، الكون على ما تكون عليه، ابن رجل الدين الإنجيليّ. ولاحظ أنّ هذا النوع من “الحتميّة” لا يزعجك؛ لأنك متماهٍ بالفعل مع الشخص الذي تلقَّى التعليم الإنجيليّ ويُنتِج المرجع. لكن إذا أخبرتُك أنّ الخلايا العصبيّة الخاصة بك قرَّرَتْ أن تتذكّر ذلك، فأنت تقلق من أن تكون مجرّد دمية في يد شيء أجنبيّ، مادة رمادية ما غريبة؛ لأنك لا تتماهى مع خلاياك العصبيّة. وأنت محقّ في ذلك، مهما كانت مهمة! أنت خبرتك، والتي أعني بها أنّ العالَم أصبح ممكنًا بواسطة جسدك.
باركس: أين مفهوم الإرادة الحُرّة من ذلك؟
مانزوتي: غالبًا ما نخلط بين الحُريّة والاعتباطيّة، وكأنّ الحُريّة تكافئ فعل شيء بطريقةٍ عشوائية. لكننا لا نكون أحرارًا بحقّ، أو بالأحرى نتذوّق حُرّيتنا، إلّا عندما يكون ما نفعله هو التعبير الضروري عمَّا نحن عليه. الشخص الذي يختار الظهور كمثليّ الجنس لا يفعل ذلك باستخفافٍ، بل لأنّه يشعر أن عليه القيام بذلك. لقد وصل إلى نقطةٍ لا يوجد فيها بديل [المترجم: هذا ادّعاء عريض من قائله وبحاجةٍ إلى أدلَّة]. ومع ذلك، من خلال هذه الضرورة يتأتّى تحقّق الحُرّية، التي هي أن تكون منسجمًا مع نفسك وعينها، مع تراكم عالَم الخبرة الذي يخصّك، وهذا ما نعنيه بالهُويّة أو التماهي.
يؤدّي التأثير التراكميّ إلى جعلنا نتّخذ قرارًا ما: ما نفعله يُصدِّق على ما نحن عليه
باركس: ما زلنا نواجه المشكلة التي أثارها ليبت: أنّ النشاط العصبيّ يستبق القرار الواعي.
مانزوتي: عمل ليبت، وفي الواقع كل علم الأعصاب، يتناسب تمامًا مع النموذج الذي أقترحه. تخيّل فعلًا مثل انفجار سَدّ وهو يؤدّي إلى موضوع جديد، الفيضان. من الواضح أنّ سبب هذا الفيضان ليس فقط انهيار السَّدّ، بل الأمطار الغزيرة، أو ربما سنوات من التعرِية وسوء الصيانة التي سبقته. في الدماغ، تتأثّر خلايانا العصبيّة بجميع أنواع الأسباب الخارجية بمرور الزمن. ومن ثَمّ فإن العديد من الخبرات المنفصلة تبني الاستعداد للفعل. ولكن فقط عندما ينفجر السَّدّ، أو يتصرّف الجسم، يؤدّي التأثير التراكميّ إلى جعلنا نتّخذ قرارًا ما. في هذه المرحلة، ما نفعله يُصدّق على/أو يختم ما نكون عليه.
باركس: كما هو الحال معك دومًا، أنت تنقل الخبرة إلى خارج الرأس. إذن هنا، أنت ترى خبرة اتخاذ القرار -التي أفترض أنك لا تنكرها- ليست كتَشاورٍ أو حتى صراع بين “شبكات الخلايا العصبيّة المتنازِعة، كما يصفها إيجلمان، ولكن كتجمّع لموضوعات/خبرات خارجية مختلفة تدفعنا بطرقٍ مختلفة.
مانزوتي: لا. ليس تمامًا! هذه الموضوعات/ الخبرات لا تدفعنا، إنها نحن. إنها تدفع أجسامنا. إنها السيارة المتصلة التي هي خبرتك، وليست السيارة المجرّدة، هي ما يحرِّك اليد في النهاية إلى المحفظة. إنه العالَم المتصل بجسمنا، ومَلَكَاتنا الإدراكيّة وخبراتنا المتراكمة، هو ما يكون السبب وراء فعلنا. الوضع معقّد ولا يمكن وصفه فقط على أنه عوامل خارجية تحدّد فعلنا.
باركس: أفهم ما تقوله: خبرتي، التي ليست سوى تراكم كلّ الموضوعات التي واجهها جسدي، تحدّد أفعالي في النهاية. لكنّني لست مقتنعًا تمامًا. ومشكلتي هي: ليس لديّ انطباع عن اتّخاذ القرارات والتفكير والتصرّف فحسب، بل أعتقد أيضًا أنني “أُنظِّم” الخبرة. إنني أرى العالَم بطريقةٍ معيّنة. لديّ نظام من الآراء السياسية والتفضيلات الجمالية.. وما إلى ذلك. لذا، أشعر أنّ بدلًا من أن أكون عالَـمًا من الموضوعات التي تجتمع معًا بمرور الزمن لتحديد فعل ما، أنا أمتلك عالَـمًا داخليًّا يحدّد كيف أُنظِّم العالَم الخارجيّ. أنا لا أتصرّف كنتيجة لذلك فحسب؛ بل أُقرِّر كيف أتصرّف على نحوٍ متماسك.
مانزوتي: دعني أُقدّم تشبيهًا يُبيِّن المغالطة التي تكمن وراء تصوّرك. سنبقى مع السيارات. عندما تقود السيارة، تدير عجلة القيادة، وبفضل اقترانٍ معقّد وسهل الفهم بين التروس وأعمدة التدوير، فإن العجلات الأماميّة للمركبة تدور وفقًا لذلك. هل هناك أيّ غموض بين عجلة القيادة والعجلتَيْنِ اللتَيْنِ تدوران؟ كلّا، مجرّد سلسلة من الأسباب والنتائج، بحيث يجب أن تدور العجلات الأماميّة، نظرًا لدوران عجلة القيادة.
حسنًا، تخيّل الآن موضوعًا أكثر تعقيدًا على نحوٍ غير محدود، جسم الإنسان. يؤثّر العالَم على الجسم، ولكن قبل أن يترجم الجسم هذا السبب إلى نتيجة، أيْ، فعل، قد يحدث عدد هائل من الأحداث السببيّة، وإن كان بالطبع محدودًا بالضرورة، داخل الجسد وخارجه. ما هو أكثر من ذلك، على عكس السيارة، التي هي شيء ثابت عندما يخرج من المصنع، يمكن أن يتغيّر جسمك الرائع استجابة للعالَم، فهو مفتوح من الناحية الغائيّة لدرجة، من باب إعطاء مثال أبسط، عندما ترى وجهًا ما للمرّة الثانية، تختلف هذه الخبرة عن المرّة الأولى؛ لأنّ الخبرة الأولى لا تزال نشطة سببيًّا في دماغك، ومن هنا، يكون لدينا الإحساس بالتعرّف والتمييز. لذا، مع هذا الموضوع المعقّد على نحوٍ رائع، الجسم، لا يمكننا تصوّر السلسلة السببيَّة الكاملة التي تسبق الفعل (كانت هذه الملاحظة المفضّلة لباروخ سبينوزا)، ومن هنا، لا يمكننا التنبّؤ بالفعل الذي سيتمّ اتّخاذه. نتيجة لهذه الاستحالة المفاهيمية، ننزلق إلى عادة اختراع كيان وسيط “الذات” نعزو إليه قوّة سببيَّة ما. تقول أنا، أو نفسي، تسبَّبت في حدوث ذلك. لكن كما قال ديفيد هيوم: “نحن لم نلتقِ بذاتنا ولم نرَها قطّ، إنما نلتقي بالأفكار”. أو كما يسعني القول، الموضوعات/الذات، هذا الكيان الوسيط المراوغ الذي يبدأ الفعل، هو اختصار أو اختراع أو سرد مناسب لتفسير خبرتنا المعقّدة.
باركس: إذن. لكي نختتم، إنّ الأمر كما يبدو لك: الخبرة أو العقل، هي العالَم المتصل بالجسد، ولكنّ العالَم، أو أنا، الذي يتراكم على مرِّ السنين، والذي يستمرّ في التأثير لفترةٍ طويلة بعد لحظة التقارب المباشر، ممّا يخلق تكتّلًا دائم التغيّر معقّدًا للغاية إلى درجةٍ يغدو من المستحيل التنبّؤ بالكيفية التي سنتصرّف بها إزاء الوضع الجديد، أو الخبرة الجديدة. وكل التوترات التي نختبرها، والتي نسمّيها اتّخاذ القرار، أو ممارسة الإرادة الحُرّة، إنما هي التطوّر المستمرّ لهذا التكتّل من العالَم، الذي هو أنفسنا.
مانزوتي: صحيح. ولستَ بحاجةٍ إلى الشعور بالغربة من خلال كونك تحت رحمة عالَم ماديّ أعمى؛ لأنك أنتَ العالَم.
باركس: لست متأكّدًا تمامًا من أنّ هذا أفضل كثيرًا، لكنه بالتأكيد شيء يستحقّ الإسهاب فيه.
الهوامش
1- النصّ مقتبس -بإذن- من كتاب: “حوارات عن الوعي”، (2020)، لـ ريكاردو مانزوتي وتيم باركس.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.