مقابلات وحوارات

الفلسفة المعاصرة وفوكو – حوار مع الزواوي بغورة

حاوره: سالم بارباع

لتحميل الحوار : حوار الزواوي بغورة

1- أولًا دكتور الزواوي نرغب بالتعبير عن شكرنا لكم لقبولكم دعوتنا لهذا الحوار. ابتداءً نود أن نعرف عن بداياتكم الجامعية وكيف اخترتم الفلسفة كتخصص دراسي لكم؟ وكيف كان مشهد التعليم الفلسفي في الجزائر حينما كنتم تنجزون أطروحتكم للدكتوراة في منتصف التسعينات؟

 

الإجابة: أود في البداية أن أتقدم إليكم بالشكر الجزيل على إتاحتكم لي هذه الفرصة الثقافية، لأقدم لكم جانبًا من جوانب مساري العلمي والأكاديمي، متمنيًا لكم ولمنصتكم الفلسفية المتميزة في الفضاء الفلسفي العربي دوام التوفيق والنجاح.

لم يكن أمر اختيار الفلسفة مطروحًا عليَّ، فقد كنت أرغب في دراسة الفلسفة منذ السنة الأولى ثانوي حيث كان يتطلب النظام التعليمي في الجزائر في نهاية السبعينات توجيه الطلبة في ثلاثة اختصاصات أساسية: الرياضيات، أو العلوم، أو الأدب. ولقد التحقت بقسم الأدب، متأثرًا بتعليمي الديني. فأنا انتسب إلى عائلة تشرف على زاوية سيدي عبد القادر الجيلالي منذ القرن التاسع عشر. والزاوية مؤسسة دينية متكاملة في بلاد المغرب العربي، تقوم بتعليم القرآن الكريم والعلوم الدينية، ويأتيها الطلاب من كل مكان، يقيمون فيها، ويتعلَّمون فيها إلى أن يحصلوا على إجازة من إمامهم. وفي نهاية الستينات، افتتحت في قريتي النائية بجبال جرجرة مدرسة «عصرية». وكلمة «العصرية»، هي الكلمة المتداولة بين أهل القرية في النقاش الدائر بين العوائل حول أفضل أشكال التعليم: أهو التعليم الديني التقليدي أم التعليم العصري. وكان أبي، يرحمه الله، من أنصار التقليد، و يرغب بشدة أن أكمل تعليمي الديني لأصبح إمامًا، خلفًا لعمي مصطفى الذي كان إمامًا، ولكنه توفي فجاة و هو ما يزال شابًّا. وبالنظر إلى ما أبديته من قدرة في حفظ القرآن الكريم، فقد كان الأمل معقودًا عليَّ في أن أصبح إمامًا في العائلة، ولكن افتتاح هذه المدرسة أحدث إرباكًا في عائلتي؛ لأنَّ أمي يرحمها الله كانت تفضل المدرسة العصرية، لأسباب عملية أو براغماتية، تتمثل في أن وظيفة التعليم مضمونة من قبل الدولة، و ليس الحال كذلك في الإمامة التي تتوقف على رغبة أهل القرى وقدرتهم على تأمين إمام لمساجدهم. وإذا شئنا أن نعبر عن ذلك بمصطلحاتنا المعاصرة، فإنَّ المعلم وظيفة تضمنها الدولة، في حين أنَّ الإمامة وظيفة يؤمنها المجتمع المدني. وبالطبع ثمة فرق مادي ورمزي بين الوظيفتين تختلف باختلاف الأفراد وتقديراتهم. ولستُ أدري إن كان ذلك من حسن حظي أم من سوئه، لأنَّ جدي (والد أمي)، يرحمه الله، كان إمامًا، ولكنه فضل الهجرة للعمل في فرنسا، وعندما زارنا في إحدى إجازاته، وجد هذا النقاش قائمًا في العائلة، فأقنع أبي بأن أجمع  بين الدراستين، وأن يكون الحكم مبنيًا على النتائج المحققة في نهاية السنة السادسة ابتدائي، وأنَّه خلال هذه المدة، سأتابع تعليمي الديني في الزاوية. ولذا كان عليَّ أن أباشر تعليمي الديني مع صلاة الفجر، ثم في السابعة و النصف صباحًا، أذهب إلى المدرسة التي التحقت بالصف الثالث أو السنة الثالثة بحكم سني المتقدمة و مستواي التعليمي.

وهنا يجب أن أشير إلى الفارق بين مستوى التعليم الديني الذي توصلت إليه، وبين مستوى التعليم «العصري» الذي باشرت فيه. ففي الزاوية كنت قد حفظت القرآن الكريم، وشرعت في الاستماع إلى إمام الفقه (التسمية التي نطلقها على الإمام المختص في أصول الدين)، وأستمع إلى ما يذكره من آراء علماء الفقه الذين يشيد بهم، و تنديده الدائم بـ«أهل البدع»، وأتعلم في المدرسة العصرية بعض النصوص الأدبية (النثرية و الشعرية) في مادة تسمى «الإنشاء أو التعبير»، و«التربية الإسلامية»، و«التاريخ»، ومادة الحساب، وكل هذه المواد كانت سهلة و يسيرة بالنسبة لي، ولا تطرح علي تلك المشكلات التي أشعر بها عندما يتكلم إمام الفقه عن «أهل البدع». وكنتُ دائمًا أتساءل عن «أهل البدع» هؤلاء، إلى أن ذكرهم عرضًا أحد الأئمة بالاسم، وقال إنهم «المعتزلة، أهل العقل». ومنذ أن استمعت إلى هذه الجملة، وأنا أحاول جاهدًا أن أتبينها، وما كان بالإمكان تبيانها إلَّا بالانخراط في الفلسفة التي أقبلت عليها في الثانوية، واخترتها في الجامعة، وفضّلت أن أضحي بسنة دراسية كاملة من تكويني الجامعي في انتظار افتتاح قسم الفلسفة في جامعة قسنطينة في عام 1981؛ وذلك لأنَّ القسم الوحيد للفلسفة كان في جامعة الجزائر في ذلك الوقت.  و لست أدري، مرة أخرى، إن كان ذلك من حسن حظي أم من سوئه، و هو أنني عندما تقدمت إلى التسجيل في قسم الفلسفة بالعاصمة، رُفض تسجيلي بدعوى أنَّ هنالك قسمًا في الشرق الجزائري الذي أنتمي إليه جغرافيًّا، و لكن كانت خيبتي كبيرة عندما ذهبت إلى جامعة قسنطينة، و أخبرتني الإدارة أنَّ أمر افتتاح القسم قد تأجل إلى السنة القادمة، فما كان علي إلَّا التسجيل في أي اختصاص كان، بناء على اللوائح المنظمة لشهادة البكالوريا في ذلك الوقت، لذا سجلت في قسم  علم النفس. و بعد أن استمعت إلى بعض المحاضرات قرَّرت العودة إلى قريتي، لأتفرغ لقراءاتي الفلسفية انتظارًا للعام الجديد.

ولكن شاءت الصدف أن تختار وزارة التربية الجزائرية في هذه السنة، طريقة جديدة في التعليم الابتدائي، أطلق عليها اسم: «التعليم الأساسي»، وكانوا في حاجة ماسة إلى معلِّمين من ذوي الشهادات العليا. فاتصلت بي إدارة المدرسة لهذا الغرض، فأصبحتُ معلمًا للسنة الأولى ابتدائي. وهكذا قضيت سنة كاملة بين المدرسة و البيت حيث تفرغت لقراءة الكتب الفلسفية، وتلخيصها، وما أزال احتفظ بهذه الملخصات إلى اليوم. وفي السنة الموالية التحقت بقسم الفلسفة في جامعة قسنطينة، بحيث شكلت وبقية زملائي، الدفعة الأولى في تعليم الفلسفة على مستوى الشرق الجزائري، وكان أساتذتنا كلهم أجانب من الدول العربية والأوربية. أذكر من بينهم د. أحمد فؤاد كامل من مصر، و د. عبد المطلب الحسيني من لبنان، و د. علي أحمد سعيد من العراق، و د. كلود برنار من فرنسا.  وكان نظام التعليم يتكون من ثلاث سنوات، و كل سنة مقسمة إلى فصلين، وكل فصل يتكون من خمسة إلى سبعة مقاييس/مقررات إلزامية واختيارية. وكنت من بين العشر الأوائل في السنة الثالثة، ويفترض أن أستفيد من بعثة علمية إلى أوروبا، ولكن وزارة التعليم العالي، لسبب نجهله، قرَّرت في سنة 1985 سنة تخرجي، أن لا يبتعث طلبة الفلسفة إلَّا بعد استكمالهم للسنة الرابعة من مرحلة الليسانس/ البكلوريوس. وبعد إجراء امتحان الالتحاق بالسنة التكميلية، والنجاح فيها في نهاية العام الجامعي 1985-1986 قرَّرت الوزارة عدم ابتعاث الطلبة بحجة (الأزمة الاقتصادية الناتجة عن انخفاض أسعار البترول). و لم يكن أمام الجامعة، وذلك بعد احتجاجات الطلاب، إلَّا تنظيم مسابقة الدخول إلى الدراسات العليا في الأقسام العلمية. وهكذا، خضعت للمرة الثانية لامتحان الالتحاق بالدراسات العليا في بداية العام الجامعي 1986-1987، حيث شكَّلنا الدفعة الأولى من طلبة الدراسات العليا. وبعد الانتهاء من الدراسة النظرية، شرعت في إعداد أطروحتي للماجستير تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد كامل جاد، وكان عنوانها: المنهج البنيوي عند كلود ليفي ستروس، و لوسيان صيباغ، و موريس غودولييه.

ويمكنني القول إن سبب هذا الاختيار ذاتي وموضوعي. فمن الناحية الذاتية وجدت نفسي أميل إلى الفلسفة المعاصرة أكثر من غيرها من الفلسفات، مع أن الدافع العلمي إلى الالتحاق بالفلسفة، كانت بعض القضايا الكلامية. و أما من الناحية الموضوعية، فإنَّ المؤسسة، وأقصد بذلك قسم الفلسفة، قد فرضت علينا بعض الشروط في الابتعاث، ومنها احترام التخصص، نظرًا لحاجة القسم الجديد، للتخصصات الفلسفية المختلفة. ولكن اختياري لموضوع الأطروحة سواء في الماجستير أو الدكتوراة لا يعود إلى هذين السببين فقط، وإنَّما إلى سبب علمي وثقافي بالدرجة الأولى، ويتمثل ذلك في أنَّ الأجواء العلمية والثقافية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة قسنطينة في منتصف الثمانينيات تحديدًا كان يغلب عليها السجال والنقاش الثقافي بين تيار مهيمن هو التيار الماركسي ، وتيار ناشئ و مقبل ألَا وهو تيار البنيوية، وخاصة في مجال الأدب والنقد الأدبي. و كنت مولعًا بهذه النقاشات التي كنت أحضرها في قاعة المحاضرات الكبرى في جامعة قسنطينة التي تعقد ندوات أسبوعية. وأذكر هنا المؤتمر الدولي الذي نظمه قسم اللغة العربية حول البنيوية في نوفمبر عام 1987، وحضره باحثون وأساتذة من مختلف بلدان العالم، و خاصة من فرنسا و بلجيكا و لبنان و مصر و سوريا، وكان حدثًا ثقافيًا كبيرًا.  وكانت هذه السنة هي سنتي الأولى في مرحلة الماجستير ، وكنت أعدُّ بحثا أوليًا حول تحليل الأساطير عند كلود ليفي ستروس بطلب من الأستاذ كلود برنار الذي كان يدرسنا مقرر الابستمولوجيا. وبالنظر إلى ما لاحظه من جوانب إيجابية في البحث، تحدث إلى رئيس  المؤتمر الدكتور الرشيد بوالشعير  حول إمكانية أن أقدم بحثي ضمن ورشات المؤتمر، فاستحسن الفكرة و قدمته أمام مجموعة من الباحثين والأساتذة، و كان لذلك أثره العظيم في نفسي، وخاصة التعليق الذي قدَّمه  الأستاذ جمال شحيذ من سوريا (الذي أهداني بالمناسبة، كتابه عن البنيوية التكوينية).  والحق فإنَّه سواء فيما يتعلق بموضوع أطروحتي للماجستير أو الدكتوراة، فإنَّ الفضل يعود إلى الأستاذ كلود برنار، الذي اقنعني أن البحث في فلسفة فوكو يمر حتمًا عبر دراسة البنيوية عند مؤسِّسها كلود ليفي ستروس.

وهنا يجب أن أذكر أنَّ البحث الثاني الذي أنجزته في مقرر الإبستمولوجيا كان حول مفهوم البنية عند فوكو من خلال ما جاء في أحد فصول كتابه: «الكلمات والأشياء». وبالنظر إلى الصعوبة الشديدة التي واجهتها في قراءة ذلك الفصل، فإنَّني قررت أن اختصَّ في فلسفته عندما أكمل أطروحة الماجستير. وهو ما قدَّمته في أطروحتي للدكتوراة، بعد أن استفدت من منحة لمدة خمسة عشر شهرا، تُوزَّع على ثلاث سنوات متتالية، و تبدأ من السنة الجامعية  1993-1994 و إلى غاية السنة الجامعية 1995-1996. هذا وأشير إلى أنَّ أطروحتي للماجستير التي ناقشتها في ديسمير 1989، كانت أول أطروحة للماجستير في الفلسفة تناقش في جامعة قسنطينة، و كذلك الحال بالنسبة لأطروحتي في الدكتوراة التي ناقشتها في شهر مايو 1996. وفي الحالتين، كانت موضوع احتفاء من قبل الجامعة و الصحافة المحلية. ولا أبالغ في القول إذا قلت لك، إنَّها شكَّلت حدثًا ثقافيًّا في مدينة قسنطينة، وما زلت إلى الآن احتفظ بالمقالات و الصور مع الجمهور الكبير الذي امتلأت به قاعة المحاضرات الكبرى في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية.

2- صدرت أطروحتكم للدكتوراة على شكل كتاب في مطلع الألفية تحت عنوان «مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو»، ما قصة هذه الأطروحة؟ ولماذا فوكو تحديدًا؟ مع ملاحظة أنكم في مرحلة الماجستير اهتممتم بعالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي ستروس كما ذكرتم سابقًا.

 

الإجابة: كما قلت لك، لقد كانت الأجواء العلمية و الثقافية في جامعة قسنطينة أجواء  يطبعها النقاش بين التيارين: التيار الماركسي المهيمن، ولكن بوادر أفوله بدأت تلوح في الأفق، و التيار البنيوي الصاعد، ولكن على مستوى الأدب و النقد الأدبي حصرًا؛ لأنَّ بقية المجالات السياسية والفكرية كانت مختومة بخاتم إيديولوجيا الحزب الواحد رسميًا، وإيديولوجيا (الإخوان المسلمين) الناشئة، والتي كان يمثلها في ذلك الوقت الإمام المصري محمد الغزالي رئيس المجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية، والذي كان يصر على تقديم محاضرات عامة ودورية في جامعتنا التي كان يطلق عليها الإخوان «الجامعة العلمانية». ولقد تسببت محاضراته، وخطاباته التحريضية في طرد أستاذين بارزين من أساتذة قسم الفلسفة: الأول سوري  د. علي النقري صاحب مذهب فلسفي سمّاه «المذهب الحيوي»، وكان يدرسنا الفكر العربي الحديث و المعاصر، حضر إحدى المحاضرات التي يقدمها هذا الشيخ، وتجرأ بطرح سؤال نقدي عليه؛ فهاجت القاعة، وأخرجوا الأستاذ بالقوة. وأما  الثاني فهو سوداني د. طلعت مراد بدر، لأسباب أخلاقية، كما قيل لنا.

ولقد كان اختياري للمنهج البنيوية عند كلود ليفي ستروس و تلامذته: صيباغ وغودولييه اختيارًا تربويًا وأكاديميًا؛ لأنَّني، كما قلت لك، كان ذلك من اقتراح الأستاذ كلود برنار، الذي كان يدرسنا بالفرنسية، ولكن لوائح الجامعة تشترط تقديم الأطروحات الفلسفية بالعربية، لذا لم يكن أمامي إلَّا عرض موضوع بحثي على الدكتور أحمد فؤاد كامل الذي درسني في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، و هو من المختصين في الفلسفة التحليلية. ولقد رحَّب بفكرة الأطروحة و التعاون مع الأستاذ كلود برنار. و بالنظر إلى أن الطالب الجامعي ملزم بأداء الخدمة الوطنية، باستثناء ذوي الاحتياجات الخاصة، فإنَّني توقفت عن البحث العلمي الرسمي بين سنتي 1990-1992. ثم إنَّ الجزائر في هذه السنوات دخلت في أهوال سياسية واجتماعية كثيرة أطلق عليها الخطاب الرسمي اسم «الحرب ضد الإرهاب»، ولذا لم يبق في القسم أي أستاذ أجنبي، بل أصبحنا، أنا و مجموعة من زملائي، نؤمن عملية التدريس في القسم، و كنت الوحيد في مجموعتنا أحمل شهادة الماجستير. وفي بداية العام الجامعي 1993-1994 استفدت من منحة دراسية في إطار التبادل العلمي بين الجزائر و فرنسا، لإنجاز أطروحة الدكتوراة. وهنا يجب عليَّ أن أشير إلى معطى كانت له أهميته في بحثي العلمي، وهو أنَّني قبل أن التحق بالخدمة العسكرية، كان القسم قد عقد اتفاقًا علميًّا بينه وبين قسم الفلسفة في جامعة باريس الثامنة، لتبادل الزيارات و الخبرات. فاستقبلنا مجموعة من الأساتذة الفرنسيين، منهم من تزال تربطني بهم صداقات إلى اليوم، و أخص بالذكر: الأستاذ ستيفان دوييه أستاذ الفلسفة اليونانية، وباتريس فيرميران أستاذ الفلسفة السياسية، والفيلسوف جاك بولان أستاذ فلسفة اللغة والبراغماتية الذي سيصبح المشرف على أطروحتي بالتعاون مع الأستاذ فتحي التريكي من تونس، وذلك بحكم قانون في وزارة التعليم العالي في ذلك الوقت، يشترط التسجيل في الجامعتين: جامعة الأم قسنطينة، والجامعة المستقبلة باريس الثامنة. و كان مسوغ هذا القانون هو الحد من «هجرة الأدمغة العلمية»! وضمن هذا التعاون، ذهبت إلى فرنسا بوصفي باحثا شابًّا، للاطلاع على سير البحث في قسم الفلسفة بهذه الجامعة، و خلال هذه الزيارة العلمية اقتنيت أهم كتب فوكو وبعض الدراسات حوله. لذا قضيت معظم وقتي خلال السنتين 90-92 في قراءة هذه المصادر و المراجع. وتبين لي في ذلك الوقت، أن الموضوع الأساسي في فلسفة ميشيل فوكو هو موضوع الخطاب الذي تناولت فيه كل فلسفة فوكو من أولها إلى آخرها، وذلك لأنني رأيت و مازلت أرى أنَّ فلسفته تتمحور حول الخطاب في التاريخ، والتاريخ الثقافي تحديدًا.

3- كان لكم اطلاع على أرشيف ميشيل فوكو، نود لو تخبرنا قليلًا عن هذا الأرشيف وقصته، وما دوره في تشكيل مساركم العلمي؟

 

الإجابة: نعم لقد كان لاطلاعي على هذا الأرشيف الدور الفاصل ليس في إعداد أطروحتي حول ميشيل فوكو فقط، وإنما في الاستمرار في بحث فلسفته بعد الدكتوراة. لقد كان هذا الأرشيف فرصة حقيقية و نادرة بالنسبة لي، وخاصة أن المنحة الدراسية التي استفدت منها، ما كانت لتكفيني للإقامة في مدينة باريس أكثر من شهرين على حد تعبير القنصل في السفارة الجزائرية بباريس، في حين كان المطلوب منِّي أن أقضي خمسة أشهر متتالية حتى يحق لي تجديدها. ولقد فاجئني إقرار القنصل، وأفسد عليَّ حساباتي، خاصة وأنَّني كنت أنوي متابعة محاضرات الأستاذ المشرف على أطروحتي الفيلسوف جاك بولان في باريس الثامنة التي كان يُلقيها مساء كل الأربعاء حول فلسفة اللغة و البراغماتية أو التداولية الفلسفية تحديدًا، و محاضرات الفيلسوف دومينيك لوكور في فلسفة العلوم، و المختص في فلسفة فوكو، وكان أستاذ في جامعة باريس الساعة. وبالطبع كان يجب عليَّ أن أزور المكتبة الوطنية بباريس، للاطلاع على أعمال فوكو نفسه.

وصادف أنني عندما ذهبت إلى المكتبة الوطنية لتعبأة نموذج التسجيل، و الحصول على بطاقة الدخول، سألني أحد  الباحثين عن موضوع بحثي، فلما أخبرته قال لي: إنَّ المكتبة الوطنية لا تقدِّم لك شيئًا مقارنة بمكتبة السولشاور للأخوة الدومينيكان التي تقع في الجادة 16 بغلاسيير، و ذلك لأنَّها تضم  أرشيف ميشيل فوكو. فقفلت راجعًا، وبعد أن التقيت بأستاذي في الجامعة، وأخبرته بالحادثة، استغرب من أنني لا أعرف ذلك؛ لأنَّ الجامعات الفرنسية في ذلك الوقت، قد شرعت في تطبيق نظام شبيه بالإنترنت، يسمى (الشبكة الداخلية) أو (الانترانت)، وهو نظام لم نعرفه في جامعتنا في الجزائر، و لم تعمم بعد الإنترنت في ذلك الوقت، وبالتالي لم أكن أعرف مستجدات البحث الخاصة بفوكو أو بغيره من الفلاسفة. وكنت أعتقد أن مكتبة السولشوار التي سأذهب إليها تطبق النظام نفسه، لذا رأيت أن أختبر قدراتي في مكتبة الجامعة أولًا. ولكنني ما إنْ دخلت المكتبة حتى صدمت، لأنَّ البحث عن الكتب أو المجلات أصبح ذاتيًّا و شبه آلي، و ليس أمام الباحث إلَّا استعمال أجهزة شبيهة بأجهزة الكومبيوتر الحالية، ولكنها معلقة في بهو المكتبة حيث استقبال الطلبات و الباحثين.  فانتابني قلق شديد، لأنَّ النظام كان معقدًا، أو هكذا بدى لي، ويحتاج مني إلى وقت طويل حتى استفيد منه. وإذا كان النظام نفسه في مكتبة السولشوار، فإنَّني لن استفيد كثيرًا من منحتي الهزيلة.

وفي اليوم الموالي ذهبت إلى المكتبة، فإذا بي أفاجأ بأنها لا تزال مكتبة تقليدية، ولا يتطلب التسجيل فيها إلَّا تقديم جواز السفر، وتعبأة بطاقة بسيطة، ودفع رسوم رمزية. وتفتح المكتبة أبوابها أمام القراء من التاسعة صباحًا إلى التاسعة مساء بلا انقطاع، وطوال أيام الأسبوع باستثناء يوم الأحد. و يحق للباحث أن يطلب ما يشاء من الكتب، و يحصل عليها في دفعات لا تتجاوز عشرة كتب، كما يحق له تصوير نسخ لفصول من كتاب أو مقال في مجلة لا يتعدى مقالًا واحدًا في العدد، على أن لا يتجاوز مجموعة الصفحات المصوَّرة( 150) صفحة في اليوم. وباستثناء العدد المحدود من المقاعد، فإنَّ المكتبة كانت مناسبة جدًا للبحث والقراءة. و هي عبارة عن عمارة تتكوَّن من ستة طوابق، خُصِّص الجزء الأمامي من الطابق الأرضي للخزائن التي تضم قوائم عناوين الكتب وأسماء المؤلِّفين، ولبعض الموسوعات المهمة، والجزء الخلفي للقراءة، لذا كان الحصول على مقعد يتطلب الحضور مبكِّرًا، و إلَّا ما عليك إلَّا الانتظار لعل وعسى يفرغ مقعد ما. كانت القاعة تطل على حديقة جميلة تحدها الإقامة الجامعية لليونسكو. وكان فوكو يقضي سنواته الأخيرة في هذه المكتبة، وذلك لسببين: الأول، هو إنَّ نظام المكتبة الوطنية التي كان يبحث فيها يوميًا، لم يعد يناسبه، بسبب تعقيده. والثاني، إنَّ مكتبة السولشوار تضم أهم الأعمال و الدراسات حول العصور القديمة اليونانية والرومانية التي شرع في دراستها، وظهرت ضمن أعماله الأخيرة حول تاريخ الجنسانية. وقبل وفاته أوصى بإيداع أعماله و دروسه و مخطوطاته في هذه المكتبة. لذا عندما سألت موظفة المكتبة عن مقصدي، لم تتردد في القول: لقد أصبت الهدف. و منذ ذلك اليوم وأنا أداوم في هذه المكتبة إلى أن ناقشت أطروحتي، وفيها اطلعت على كتب فوكو المنشورة وغير المنشورة (المخطوطات، وهي عبارة عن نصوص مكتوبة بالآلة الراقنة، و مرقمة تسلسليًّا، يسبقها حرف(D)، لا يحق لنا تصويرها)،  واستمعت إلى دروسه التي كان يلقيها في الكوليج دو فرانس قبل نشرها، و بالطبع اطلعت على الكثير من الأطروحات والدراسات المنجزة حول فلسفته بمختلف لغات العالم. كما استفدت من اللقاءات العلمية التي كانت تنظمها المكتبة، بين الحين والأخر، مع باحثين متميزين، وعلماء، وفلاسفة.

4- في مطلع أطروحتكم للدكتوراة قمتم بجرد واسع لأعمال ميشيل فوكو المترجمة أو حتى لما كتب عنه، وهي كثيرة؛ إذا ما قورنت بأعمال دريدا أو دولوز المترجمة حينذاك، برأيكم ما سر هذا الإقبال العربي لترجمة أعمال فوكو (خاصة كتبه)، وما هي طرافة فوكو الفلسفية خاصة بالنسبة للفكر العربي؟


الإجابة:
على الرغم من أنَّني عزمت البحث في فلسفة فوكو، إلَّا أنَّني فضَّلت تقدم مشروع بحث عام، تضمَّنت صيغته الأولى  دراسة فلسفة فوكو و ألتوسير و محمد عابد الجابري و محمد أركون، أي الفلاسفة الذين يصنفون ضمن المدرسة البنيوية في الفكر الفرنسي و العربي، رغم الاختلافات القائمة بينهم. ولكن عندما عرضت هذا المشروع على مجموعة من الأساتذة الفاضل والمفكرين البارزين في العالم العربي، اتفقوا كلهم على أن أخصص أطروحتي لميشيل فوكو فقط. و أذكر من بين هؤلاء الأساذتة و المفكرين، د. عادل العوا من جامعة دمشق، و د. فؤاد زكريا من جامعة الكويت، و د. محمود أمين العالم من مصر، و الأستاذ هادي العلوي من العراق و الذي كان يقيم في سوريا، و د. طه عبد الرحمن من المغرب، و بالطبع المشرف على أطروحتي في الجزائر عن بعد، د. فتحي التريكي من تونس. و بعد أن اقتنعت بالملاحظة المقدمة من قبل هؤلاء الأساتذة الأجلاء، فإنني لم أفرط فيما جمعته من أعمال، أو دونته من ملاحظات، و هو ما نشرته في كتابي: «ميشيل فوكو في الفكر العربي»، الذي صدر بعد نشر أطروحتي.

حاولت أن أقدِّم في هذا الكتاب جردًا للدراسات العربية لفوكو، إلَّا أنَّني أعترف اليوم أنَّ الأمر يتجاوز عمل باحث واحد، وذلك بالنظر للعدد الكبير من الأطروحات المقدمة حول فوكو في مختلف الجامعات العربية،  والبحوث و المقالات التي كتبت و تكتب حول فلسفته، وكذلك ترجمة نصوصه، بحيث يمكنني القول بالنسبة للترجمة فقط، إنَّ كل ما نشره فوكو في حياته من كتب قد ترجم إلى العربية باستثناء كتابه الأول: «المرض العقلي و الشخصية» (1954)، وأمَّا بالنسبة لدروسه؛ فقد تُرجم في حدود علمي، ستة دروس، ترجمتُ منها خمسة دروس، وأما مقالاته و أبحاثه التي جمعت في أربعة مجلدات ضخمة بعنوان: «أقوال و كتابات»، فقد تُرجم منها بعض المقالات، وما تزال عملية ترجمتها جارية. وليس لي تفسير نهائي لهذا الإقبال على فلسفة فوكو.

وهنا أذكر لك حادثة طريفة، وقعت لي أثناء زيارتي الأولى لجامعة تونس بهدف الالتقاء بأستاذي فتحي التريكي، فقد التقيت بمجموعة من الزملاء الأساتذة الذين أخبرهم د. فتحي أنَّني أعدُّ أطروحة حول فوكو، فاتفق أكثر من واحد منهم على أنَّ فوكو قد قتل بحثًا، ووُظِّفت مقولاته في التراث العربي، وعليه فلماذا أضيع وقتي في بحث فلسفته؟ رغم ما حملته نبرة بعضهم من استعلاء وقسوة، إلَّا أنَّ جوابي لهم كان بسيطا للغاية، إذ قلت لهم: لا بأس في ذلك، لأنَّ أطروحتي، إن وفقت في إنجازها، ستكون أول أطروحة في الجامعة الجزائرية في الفلسفة الفرنسية، وفي فوكو تحديدًا. و لقد أثار ردي استغراب هؤلاء الأساتذة الذين كانوا يعتقدون أنَّ أقسامنا الفلسفية في الجزائر كانت غارقة في الفلسفة الفرنسية، في حين أن واقع الحال في ذلك الوقت، عكس ذلك تمامًا. لقد كانت مختلف الأبحاث والأطروحات المنجزة تدور حول الفكر العربي والإسلامي و الفلسفة الإسلامية من منظور محافظ جدًّا، تتقدَّمهم الدراسات حول أبو حامد الغزالي، وابن تيمية، ومالك بن نبي ، وعبد الحميد بن باديس، وهو ما بيَّنته لاحقًا في دراسة ميدانية حول واقع التعليم الفلسفي في الجزائر الذي كانت تتكفَّل به في ذلك الوقت ثلاثة أقسام هي : القسم الأم في العاصمة الجزائر، والقسم الثاني في مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، والقسم الثالث في مدينة وهران بالغرب الجزائري. و اليوم و بعد مرور أكثر من نصف قرن عن أول مقال مخصص لفوكو حول كتابه: «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، وكان ذلك في بداية السبعينات، و إلى غاية اليوم ما تزال الدراسات والترجمات قائمة حول فلسفته.

هذا يسمح لنا بالقول إنَّ ميشيل فوكو من أكثر الفلاسفة الغربيين الذين اهتم بهم الفكر العربي المعاصر، سواء بالمقارنة مع ديكارت، أو كانط، أو ماركس، أو جون بول سارتر، أو غيرهم، ممَّا يعني أن سؤالك عن سر الاهتمام العربي به، سؤال أساسي،  ويحتاج في تقديري إلى الأخذ بعين  الاعتبار العناصر الآتية في محاولة تحليله: أولًا، إن هذا الاهتمام عالمي قبل أن يكون عربيًا، و الدراسات الإنجليزية على سبيل المثال، خير مثال على ذلك. وثانيًّا، إنَّ ما قدمه عبارة عن تحليلات تاريخية وتجارب تاريخية معينة، وليس نظرية يمكن الاعتراض عليها، أو نقضها، أو منهج محدَّد وواضح المعالم، يمكن أن نقول عنه منهج مؤقت، ومرحلي. وثالثًا، الطابع النقدي والكاشف لتحليلاته. وأعتقد أنَّ هذا العنصر هو الذي يعطيها قيمتها الحيوية، بحيث يمكن توظيفها في حالات كثيرة ماضية و آنية و مستقبلية، ضمن التراث الغربي وغير الغربي، بحيث يمكنني القول إنَّ نصوصه تعد حقًّا وسائل للعمل، كما وصفها. ولعل خير مثال على ذلك تحليلاته الخاصة لما سماه «السياسة الحيوية» التي وظفت بكثافة في تشخيص جائحة كورونا التي عرفناها منذ سنتين، وما تزال بعض آثارها قائمة. ولو ألقيت نظرة على العدد الهائل من الدراسات التي استعملت مفهوم السياسة الحيوية لأحترت فعلًا. فمثلًا، نشر الباحثون الإيطاليون قاموسًا للسياسة الحيوية، شارك فيه أكثر من ثلاثين باحثًا، و جاء في حوالي 400 صفحة.

5- اهتممتم كثيرًا بترجمة دروس فوكو، وعلى عكس السابقين الذين انحصر اهتمامهم على ترجمة الكتب أو لدرسه الافتتاحي الشهير «نظام الخطاب»، في عام 2003 صدر ترجمتكم الأولى للدروس، وكان الدرس المترجم هو «يجب الدفاع عن المجتمع» وهو درس ألقاه فوكو عام 1976 في الكوليج دو فرانس، وصدر مؤخرًا ترجمتكم للدرس الأخير المعنون بـ«شجاعة الحقيقة» الذي ألقاه فوكو قبيل وفاته بأسابيع؛ هنا نتساءل لماذا اهتممتم على نحو خاص بالدروس؟ وما هي الصعوبات المنهجية و الترجمانية لـترجمة الدروس مقارنة بـترجمة الكتب؟

الإجابة: رغم الإشادة التي حظيت بها أطروحتي من قبل لجنة المناقشة، ورغم الإقبال عليها  من قبل القراء.  فقد صدرت هذه السنة طبعتها الثالثة عن دار الروافد، بعنوان معدَّل قليلًا: «الخطاب بحث في بنيته و علاقته و مكانته في فلسفة فوكو»، إلَّا أنَّني مع ذلك لم أكن مقتنعًا بأنَّ ما قدَّمته يغطي مختلف جوانب هذ الفلسفة. هذا من جهة، وأمَّا من جهة ثانية فإنَّ أحد أعضاء لجنة المناقشة قد ركز في ملاحظاته على  ترجمتي لبعض مفاهيم فوكو التي اختلفت فيها مع الأستاذ سالم يفوت الذي ترجم كتاب: «أركيولوجيا المعرفة» باسم: «حفريات المعرفة». ولقد  نشرت دراسة مطولة حولها بيَّنت فيها بعض الأخطاء التي وقع فيها الأستاذ يفوت. وعلى كل حال، فإنَّ الكتاب يحتاج في تقديري إلى إعادة الترجمة، ولكن كما تعلم، إنّ إعادة ترجمة نصوص مترجمة تتطلَّب من الناحية العلمية، بيان ما كان لهذه الترجمات وما عليها، وهي عملية شاقة، و في الوقت نفسه فإنَّ دور النشر العربية نادرًا ما تقبل إعادة ترجمة نص مترجم، لذلك فضَّلت ترجمة دروسه، و بدأت بدرسه: «يجب الدفاع عن المجتمع»، الذي كان يستجيب في تقديري، لما كان يعرفه المجتمع الجزائري، ويسمى بـ«العشرية السوداء» أو «المأساة الوطنية»؛ وذلك لأنَّ موضوع تلك الدروس هو دور الحرب في السلطة.

ولقد وجدت في هذه الدروس، وفي غيرها من الدروس التي ترجمتها جوانب في فلسفة فوكو يمكنني أن أجملها في عبارة واحدة ألَا وهي: لا يمكننا فهم كتبه المنشورة وهو على قيد الحياة إذا لم نطلع على دروسه ليس فقط تلك التي قدَّمها في الكوليج دو فرانس ابتداء من عام 1971، وإنَّما قبل ذلك بكثير. يشهد على ذلك نشر: الخطاب والجنسانية، دروس جامعة كلارمون فيرو 1962، ونُشر عام 2018، والفينومينولوجيا وعلم النفس، دروس 1953-1954،  والمنشور  في السنة الماضية 2021 والمسألة الأنثروبولوجية، دروس 1954-1955، والمنشور هذه السنة 2022. وهو ما يعني أنَّ مدونة فوكو الفلسفية لم تكتمل بعد، وأن عملية نشرها ما تزال قائمة.

و أما من جهة الصعوبات، فإنَّني استطيع أنْ أجملها في ثلاث صعوبات: أولها، إنَّ الدروس أُلقيت شفويًا، ومن الصعب نقل النص الشفوي والحفاظ على حركته وحيويته وإيحاءاته. وثانيها، إنَّ مختلف دروسه تعالج مسائل تاريخية مألوفة نسبيًّا للمستمع الغربي، ولها صلة ببعض القضايا المطروحة في الحياة الفكرية الغربية المعاصرة؛ لأنَّنا لا يجب أنْ ننسى أنَّ فوكو كان حريصًا على أن تكون فلسفته نوعًا من التشخيص النقدي للحاضر و مسائله و أزماته ومعضلاته، في حين أنَّ نقلها إلى القارئ العربي يحتاج دائمًا إلى تذكيره بالسياق العام، وتقديم بعض التوضيحات اللازمة. وثالثها، هو إنَّ فوكو يميل دائمًا إلى نحت مصطلحات جديدة. و لا يخلو درس من دروسه من مصطلحات جديدة، مما يفرض على المترجم القيام بالعملية نفسها، وهو أمر غير متاح دائمًا في اللغة المترجم إليها.

 

6- يبدو أن لديكم همًا لتجهيز القارئ العربي بالعدة اللازمة لتلقي الأعمال الفلسفية وهو ما نراه ونعاينه بعملكم حول فوكو سواء كان الأمر بالشرح أو بالترجمة، ومثال ذلك أيضًا صدور ترجمتكم لمعجم ميشيل فوكو لجوديث ريفال، وهنالك الكثير من المعاجم المهمة لفلاسفة بعينهم مثل معجم هيدغر، أو معجم دريدا، ومعجم هيغل الذي ترجمه المرحوم إمام عبدالفتاح إمام، في رأيكم ما أهمية هذا النوع من المعاجم في تجويد وتقويم فهمنا للأعمال الفلسفية؟

الإجابة: إن الفلسفة، كما تعلم، فرع معرفي يعلم و يدرس في المدارس الثانوية والمؤسسات الجامعية، مثله مثل غيره من فروع المعارف الإنسانية التي تتطلب شروطًا معينة، وتحتاج إلى مواد أساسية، ومنها على وجه التحديد نصوص الفلاسفة، أو ما نسميه المصادر، والدراسات المتخصصة و الأساسية، وهو ما نسميه  المراجع، و الموسوعات و القواميس و المعاجم التي تمكننا من تحديد المصطلحات و المفاهيم و المقولات. وضمن هذا التصور، ترجمتُ القاموس الذي تفضلت بالإشارة إليه. و لكن يجب أن أشير قبل ذلك، إلى أنني في تدريسي الجامعي أتوقف كثيرًا عند المصطلحات، و أطروحتي  المنشورة تضمنت معجمًا بكل المصطلحات ذات العلاقة بالخطاب والتاريخ.  و لعل ما هو جدير بالملاحظة هو أنه إذا كان تعليم الفلسفة في البلدان الغربية يهتم بهذا الجانب، أقصد المعاجم والقواميس والموسوعات الفلسفة، بحيث يمكن القول إن الباحثين قد خصصوا لكل فيلسوف غربي في القديم والحديث معجمًا، فإنَّنا في العالم العربي ما نزال نواجه نقصًا كبيرًا في هذه العناصر الثلاثة، رغم ما يبذله الباحثون والمترجمون العرب من جهود. وليست ترجمتي لهذا المعجم، وبقية الدراسات التي خصصتها لفوكو، ولغيره من الفلاسفة، إلَّا محاولة للإسهام في هذا الجهد الأكاديمي الضروري. و لا يخفى عليك، إن الفلسفة في ثقافتنا العربية لها وقع خاص، وتلفها أحكام سلبية كثيرة، وتعاني من مواقف جاهزة، و منها الزعم بتعقد لغتها ومصطلحاتها و عباراتها، مقارنة بالفروع العلمية الأخرى. لذا، فإن المعاجم، ومنه معجم ميشيل فوكو، تُسهم في عملية التوضيح و التدقيق، خاصة وأنَّ مصطلحات الفلاسفة المعاصرين جديدة على القارئ العربي.

7- في أواخر عام 2005 كتبتم وتدبرتم ما صار يسمى منذ منتصف الستينات بالمنعطف أو المنعرج اللغوي، ما طبيعة هذا المنعطف؟ وكيف يختلف هذا المنعطف في السياق التحليلي عن السياق القاري؟

الإجابة: أشكرك على طرح هذا السؤال، لأنَّ بعض القراء والمعلقين، يكتفون بالإشارة إلى اختصاصي في فلسفة ميشيل فوكو، متناسين أو متجاهلين بقية أبحاثي وأعمالي سواء على مستوى التأليف أو الترجمة، ومنهم هذا الكتاب الذي يعد في نظري  إسهامًا أساسيًّا في مبحث فلسفة اللغة، وإضافة جديدة لبحثي في مسائل الخطاب.

إنَّ أول من استعمل عبارة (المنعطف اللغوي أو اللساني/ The Linguistic Turn) هو الفيلسوف الوضعي غوستاف برغمان، ثم بعد ذلك انتشرت هذه العبارة و ذاعت عندما استعملها الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، عنوانًا لمجموع النصوص التي جمعها و كتب لها مقدمة ونشرها في عام 1967. وتشير هذه العبارة إلى توجه الفلسفة في القرن العشرين نحو اللغة، بل أصبحت الفلسفة نفسها فلسفة لغوية. ولا يقتصر الأمر على الفلسفة التحليلية أو الأنجلوسكسونية كما هو شائع، وإنَّما أصاب كذلك الفلسفة الأوربية القارية بتياراتها المختلفة، وخاصة التيار التأويلي والتيار البنيوي. وعليه فإنَّ التحول نحو اللغة واتخاذها موضوعًا للفلسفة، لم يأخذ صيغة واحدة، كما يصوِّره أنصار الفلسفة التحليلية، ومنهم صاحب عبارة المنعطف اللغوي، و إنَّما أخذ في الحقيقة صوَّرًا متعدِّدة. و هو ما حاولت  تحليله ونقده في هذا الكتاب، وذلك من خلال دراسة المسألة اللغوية في تاريخ الفلسفة، وخاصة عند أفلاطون في محاورته: «قراتيل»، وأرسطو في كتابه: «الخطابة»، والفارابي في كتابه: «الحروف»، وابن رشد في شروحاته المختلفة، ثم في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وخاصة عند إرنست كاسيرر، وكارل بوبر، و بول ريكور، و تشومسكي وبورديو. و بَّينت أن ما يسمى بالمنعطف اللغوي، قد عرف تحوُّلًا أساسيًا بحيث انتقل من مستوى الفلسفة اللغوية إلى مستوى فلسفة اللغة التي لها مفاهيمها، وقضاياها، ونظرياتها، وبالطبع فلاسفتها، بحيث يمكننا القول إنّه انتقل من حالة الانغلاق حول اللغة إلى حالة الانفتاح أمام قضايا ومشكلات ومجالات الفلسفة المختلفة السياسية والاجتماعية و الفنية، وذلك كله ضمن منظور لغوي يعتمد على الطرح الوظيفي والتداولي. ومما لاشك فيه أنَّ المنعطف اللغوي في الفلسفة القارية يختلف عن المنعطف اللغوي في الفلسفة التحليلية الأنجلوسكسونية، وخاصة في بداياته في عشرينات القرن العشرين وإلى غاية منتصف القرن العشرين، بحيث كان يغلب على التيار التحليلي الجانب المنطقي، كما تجلى ذلك في الوضعية المنطقية.  وأما التيار القاري، فيتكون من توجهين كبيرين: الأول، تأويلي تعود جذوره الأولى إلى الإصلاح الديني والقانوني، وقاده فلاسفة أمثال شلايرماخر، ودلتاي، و أصّله مارتن هايدغر و غادامير و بول ريكور و غيرهم، و يعطي أهمية قصوى للمعنى. والثاني لساني تزعمته في البداية المدرسة البنيوية، ثم بعد ذلك، مختلف المدارس اللسانية التي جاءت بعدها، وعملت على تأسيس منظور علمي للغة باسم علوم اللسان. ولكن ما يجب الإشارة إليه، بل و التشديد عليه، هو أن هذا التمييز بين التقليدين الفلسفيين: التحليلي و القاري، لم يعد قائمًا، لأن الفلاسفة المعاصرين، تجاوزوا هذا الفصل، ولعل خير دليل على ذلك، ميشيل فوكو الذي قدم مقاربة في تحليل الخطاب تعتمد على نظرية الألعاب التي طورها فتجنشتاين في كتابه: «بحوث فلسفية»، وعمّقها لاحقا جون أوستين، و جون سيرل، باسم أفعال الكلام. و هنالك مراسلات بين فوكو و الفيلسوف الأمريكي جون سيرل في هذا الشأن. و القارئ لدرسه الأخير: «شجاعة الحقيقة»، يكتشف ذلك باسم تداولية الخطاب.

8- في هذا الصدد دكتور الزواوي، أود لو تخبرنا عن أبرز القراءات المعاصرة لميشيل فوكو في السياقين القاري والتحليلي؟ ولماذا ما زال فوكو مهمًا حتى الآن بالنسبة للفلسفة والعلوم الإنسانية؟

الإجابة: يمكن حصر أبرز هذه القراءات فيما قدمه الفيلسوفان الأمريكيان بول ربينوف، وأوبيير دريفوس في كتابهما الذي ترجم إلى العربية بعنوان: «ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية»، والفيلسوفان الإيطاليان جورجيو أغامبين و أنطونيو نقري في دراساتهما العديدة، و الفيلسوفان الألمانيان أكسيل هنيث وتوماس لميك حول السلطة، ومجموعة من الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، منهم جوديث ريفال، وفريديريك غرو، وغيوم لو بلو. ولقد حللت أعمال هؤلاء الفلاسفة وغيرهم في كتابي الصادر مؤخرًا، وعنوانه: «السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية».

وأما لماذا ما تزال فلسفة ميشيل فوكو لها أهمية في الفلسفة والعلوم الإنسانية و الاجتماعية، فإنَّ ما ذكرته لك بشأن اهتمام الفكر العربي بهذه الفلسفة ينسحب كذلك على هذين الميدانين، ومع ذلك أود أن أضيف أربعة أمور ميَّزت فلسفة فوكو: أولًا، التركيز على الممارسات والتجارب التاريخية، وهو ما يتفق وطبيعة العلوم الإنسانية. وثانيًّا، انفتاحها على القضايا التي طرحتها العلوم الإنسانية والاجتماعية، فكلنا يعلم أنَّه درس قضايا المهمشين اجتماعيًا، و منهم المجانين، والمرضى، و المنحرفين، و المجرمين، وكل هذه الجماعات تهتم بها العلوم الإنسانية والاجتماعية. وثالثًا، انفتاحها على مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية، وخاصة التاريخ، والاقتصاد، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا…إلخ. ورابعًا أخيرًا، وهو أنَّ فلسفة فوكو يغلب عليها التحليل مقارنة بالتركيب، والممارسة عن التنظير. وبتعبير آخر، فإنَّ فوكو لم يهتم بتقديم نظرية عامة بقدر اهتمامه بمعالجة قضايا جزئية، ومحددة، وهو ما يتفق و المنحى العام للعلوم الإنسانية والاجتماعية، ويطبع الفلسفة المعاصرة في مسارها العام، ولكن قبل هذا و ذاك، فإنَّ ما يجب التشديد عليه، هو أنَّ الدراسات الغربية حول فوكو تتسم أيضًا بطابعها النقدي الذي يعمل على الكشف عن حدود هذه الفلسفة، وهو ما أحاول إنجازه منذ أطروحتي عنه.

 

9- لعبارة «ما بعد الحداثة» سمعة سيئة عند الكثير، وتطرأ على أذهانهم غالبًا النسبوية بكل أشكالها، والنهايات بكافة أنواعها؛ مثل عبارة فوكو المستسهلة كثيرًا «موت الإنسان»، وبالإضافة إلى ذلك نجد أنهم يضعون فلاسفة متباينين للغاية تحت خانة واحدة (دريدا، ودولوز، وفوكو، وليوتار …) وأنهم يمثلون الما بعد (الحداثة)؛ وتوضحون في أعمالكم الكثيرة سطحية هذا الرأي، وأنَّ الأمور أكثر تعقيدًا؛ كيف السبيل برأيكم إلى التلقي النقدي للفلسفة وللأعمال الفلسفية دون تبسيط مخل أو كسل معرفي؟

الإجابة: لقد تناولت هذه المسألة في كتابي: «ما بعد الحداثة و التنوير، دراسة نقدية للأنطولوجيا التاريخية»، و بينت أن ما يوصف بما بعد الحداثة لا يخرج عن ذلك الصراع القائم بين القدماء والمحدثين في تاريخ الثقافة، وأنَّه صراع يطرح مسائل أساسية متعلقة بالتغير الذي لحق بالمجتمع والثقافة الغربية على وجه الخصوص، والثقافات و المجتمعات المعاصرة على وجه العموم، و ذلك لما للثقافة الغربية من أثر على بقية الثقافات العالمية منذ القرن الثامن عشر. و في تقديري، فإنَّ على مؤرِّخ الأفكار أن يطرح جملة من الأسئلة المنهجية الأساسية إذا أراد أن يعالج هذه المسألة معالجة موضوعية وجدية، ومنها على وجه التحديد: هل ما بعد الحداثة فكرة، أم تجربة ثقافية، أم وضعية اجتماعية واقتصادية؟ أم حقبة تاريخية لها بدايتها ونهايتها؟ أم أنَّها تمثل كل هذه المستويات مجتمعة؟ ثم ما طبيعة علاقتها بالحداثة و التنوير؟

في تقديري، إنَّ التحليل الأولي يكشف على أنَّه إذا ما اختلفنا في التحقيب، وتعيين الوضع الاجتماعي و الاقتصادي، فإنَّنا نقبل، بلا شك، بالقول إنَّ ما بعد الحداثة هي أولًا و قبل كل شيء فكرة جمالية وفلسفية ظهرت في أعمال فنية و فلسفية تعكس حالة الثقافة الغربية المعاصرة، و ما أصابها من تحول عقب الحرب العالمية الثانية. وأن هذه الفكرة لا يمكن فصلها أو قطعها عن الحداثة والتنوير، وبالتالي فهي تعبير ثقافي عن الحالة الراهنة وعلاقتها بماضيها المتمثل في الحداثة و التنوير. وإذا كانت ما بعد الحداثة في جانبها الفكري تمثل فلسفة الربع الأخير من القرن العشرين، فإنَّها قد طرحت قضية العقل والعلم والتاريخ والحرية طرحًا نقديًا جذريًا وجديدًا مقارنة بالحداثة والتنوير. وعليه فإنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما طبيعة هذا النقد الذي أجرته ما بعد الحداثة للحداثة و التنوير؟ بالطبع، إنَّ نقد ما بعد الحداثة للتنوير يكتسي مشروعيته من طبيعة التنوير ذاته باعتباره حركة نقدية. ولذا، فان القول بانتصار قيم التنوير في مرحلة،  وأفولها في مرحلة ما بعد الحداثة، هو قول تبسيطي للغاية؛ لأن تاريخ الفكر الغربي تحديدًا، يكشف على أن هاتين الحركتين متلازمتان في الوجود، مختلفتان في المظهر. و خير مثال على ذلك، هو الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار الذي أشاع هذا المصطلح، و ما تضمنه من نقد ورفض شامل و جذري لقيم التنوير، ودفع الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس إلى القيام بنقد شامل لهذه الحركة النقدية الما بعد الحداثية، والتي أطلق عليها اسم «المحافظون الجدد».

وفي تقديري، فإنَّ ما تسميه بـ«التبسيط، والكسل» هو ظاهرة ملازمة للثقافة المعاصرة، بسبب الإعلام المعمم، ومحاولة اللجوء إلى التصنيفات السهلة بهدف «الإقناع» و«التوجيه»؛ لأنَّ الصراع الثقافي ما هو إلَّا وجه من أوجه الصراع الاجتماعي المعقد. ولا يمكننا تجاوز هذه الحالة إلَّا بحركة نقدية تضع الأمور في نصابها، و مؤسسات علمية وأكاديمية مستقلة قادرة على إنجاز الأبحاث الدقيقة، والدراسات المعمقة. إنَّ هذه التصنيفات التي أشرت إليها، نقرؤها في الثقافة الغربية، ولكن الفارق الأساسي بينهم وبيننا، هو أن ثمة في الغرب باحثون وعلماء ومؤسسات علمية رصينة وصارمة، قادرة على الفصل بين ما هو صحيح وخاطئ، وبين ما هو حقيقي ووهمي، في حين أنَّنا نفتقد ذلك في ثقافتنا العربية المعاصرة، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالعلوم الإنسانية، والفلسفة تحديدًا.

 

10 – كتبتم رسالة تقديمية لقصة حي بن يقظان «الفلسفية»، وهي ربما تكون ابتكار فلسفي سبق بها ابن طفيل كيركيغارد، كيف من الممكن أن نقرأ هذا العمل بعيون معاصرة؟ وما أهمية العودة للتراث الفلسفي العربي بالنسبة لكم؟

الإجابة: أشكرك على هذا السؤال، و على الاهتمام الدقيق بأعمالي. حقًّا لقد كتبت مقدمة لهذا النص البديع، ضمن سيَّاق ثقافي جزائري خاص، كان عنوانه العام الانتقال من ثقافة الحزب الواحد والرأي الواحد إلى ثقافة الديمقراطية والتعددية، وذلك في بداية تسعينات القرن العشرين، حيث كانت مؤسسة الكتاب في وزارة الثقافة الجزائرية تعتزم نشر نصوص تراثية وعالمية تحت عنوان عام: الكتاب خير جليس. هذا من جهة، وأما من جهة ثانية، فإنَّه إذا كان صحيحا أنَّني مختص في الفلسفة المعاصرة، فإنَّ الذي يجب أن أشير إليه، و قد يبدو لك ذلك غريبا بعض الشيء،  هو أنَّني درَّست و ما أزال أدرِّس مقرَّرا عزيزا على قلبي وعقلي معًا، ألَا وهو مقرر الفلسفة الإسلامية في جامعة الكويت، سواء في مرحلة البكالوريوس أو الدراسات العليا.  ولقد نشرت بعض البحوث حول الفارابي والتوحيدي وابن رشد وابن خلدون. و عندما تسألني عن كيفية قراءة هذا العمل بعيون معاصرة، فإنَّني أجيبك بأنَّ ثمة قراءات تأويلية وأخرى بنيوية، وسيميائية  وغيرها من القراءات لهذا النص. و لو قدِّر لي أن أعيد قراءته من جديد لقرأته وفق مقتضيات تحليل الخطاب.

وأما ما تسميه «العودة إلى التراث العربي»، فإنَّه يبدو لي أنَّ في العبارة  بعض اللبس، وذلك لأنَّ التراث لم يفارقنا، أو بالأحرى لم نفارقه حتى نعود إليه، فهو فينا، وما يزال حاضرًا فينا بشكل واع أو غير واع. ولا أظن أنَّ الإعلان عن بعض القواعد المنهجية، أو إنجاز بعض التحليلات يكون كافيًا لإعلان القطيعة عنه، بقدر ما يعني امتلاك وعي به وبحدوده. حقًّا، لقد جعل الفكر العربي المعاصر من قضية التراث قضيةً محورية، وذلك في محاولة منه لفهم هذا التراث من جهة سواء أكان ذلك لمقتضيات علمية أم إيديولوجية، و لكن من جهة أخرى من أجل الالتفات عن موضوع الدين الذي يمثل التراث الحي و الحاضر فينا، وأما نصوص فلاسفة الإسلام أو الأدباء أو العلماء، فإنَّها لا تشكل مشكلة أو معضلة، بما أن التاريخ الفكري العالمي قد فصل في كثير من حقائقها، ولكن التراث الديني هو الذي أشكل على الفكر العربي المعاصر، و يحتاج إلى مناقشة عقلية ونقدية دقيقة.

11- في هذا السياق دكتور الزواوي، كيف نستطيع أن نتدبر إشكالية ما يصفه البعض بعدم وجود فيلسوف عربي معاصر، ومن هو الفيلسوف بالنسبة لكم؟ وكيف السبيل لإعادة حيوية فعل التفلسف في سياقنا العربي المعاصر؟

الإجابة: في الحقيقة وجود فيلسوف عربي معاصر من عدمه يتوقَّف على المعنى الذي نعطيه للفيلسوف، و على نوعية الاستعمال الذي نستعمله، والمقاصد التي نريد تحقيقها.  تعلم أنَّنا لا نتردَّد في إطلاق صفة الطبيب، والمهندس، والمحامي، والقاضي على أي شخص يحصل  على شهادته الجامعية في هذه الاختصاصات. كما أنَّنا لا نتردَّد في وصف شخص بأنَّه كاتب، أو روائي، أو شاعر، أو ناقد ما إن ينشر نصًا من نصوصه، إلَّا أنَّنا نتردَّد كثيرًا في إطلاق صفة الفيلسوف على حامل الشهادة الأكاديمية في الفلسفة، أو على ناشر لنص من النصوص الفلسفية. و في تقديري، فإنَّ  ذلك يعود إلى عنصرين: الأول، تاريخي مرتبط بالفلسفة وتقاليدها الأخلاقية، وذلك منذ فيثاغورثس. فهنالك حذر من قبل الباحثين و الأساتذة على إطلاق صفة الفيلسوف على المشتغلين في الفلسفة. ويمكنني أن أسمي هذا المعطى بالمعطى الأخلاقي. والثاني، هو أنَّ هذه التسمية أصبحت مقرونة في أذهان كثيرين بأسماء وصفات، وتستحضر بقوة كلما تعلق الأمر بالفكر العربي والإسلامي قديمه وحديثه، وذلك مقارنة بالفكر اليوناني القديم والفكر الغربي الحديث والمعاصر. والسبب في ذلك يعود في تقديري إلى نوع من القراءة التقليدية المسيطرة في ثقافتنا العربية، والتي تحتكم لعلاقة «التأثير والتأثر»، وما يتبعها من معايير متصلة بـ«الأصالة»، و«الإبداع»، في حين أنَّ مناهج القراءة المعاصرة قد تجاوزتها. ويمكنني أن أسمي هذا العنصر بالعنصر الثقافي والإيديولوجي. وعليه، فإنه إذا أخذنا بالقراءة التقليدية التي تحتكم إلى قانون النموذج الأصلي، فإنَّه لا وجود لفيلسوف عربي معاصر؛ لأنَّ الفيلسوف وفقًا لهذه القراءة يجب أن يكون مثل أفلاطون أو أرسطو قديمًا، أو مثل كانط وهيغل حديثًا، أو مثل برتراند رسل أو فتجنشتاين أو هايدغر أو دريدا أو هابرماس، أو  أي اسم من هذه الأسماء الكثيرة في الفلسفة المعاصرة، وأنَّ ما يجري في الفكر العربي مجرد تقليد لا أكثر و لا أقل. و لكن إذا أخذنا بمناهج القراءة الجديدة، فإنَّ الأمر مختلف، بحيث يمكننا القول إنَّ الفكر الفلسفي العربي المعاصر، قد عرف وما يزال يعرف إسهامات فلسفية لفلاسفة كثيرين، يقدمونها ضمن سياقهم الثقافي، ومرجعياتهم الفكرية، ومقارباتهم المنهجية التي يحاولون من خلالها معالجة المشكلات الفكرية والفلسفية المطروحة عليهم وعلى مجتمعاتهم العربية.

وأمَّا ما تسميه بإعادة الحيوية لفعل التفلسف، فإنَّه يتطلب في تقديري النظر في أمرين: الأول، قائم في واقعنا، وتشير إليه التجربة التعليمية في مختلف المجتمعات العربية، والتي تعززت في السنوات الأخيرة بتجارب تعليمية في الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.  ومما لاشك فيه، أن هذه التجربة التعليمية الغنية سواء على مستوى المدارس الثانوية أو الجامعية تحتاج إلى عملية تجديد ومتابعة للتطورات العلمية والفلسفية العالمية. الثاني، يتمثل في ضرورة مناقشة قضايانا الفكرية والثقافية بطرق عقلية ونقدية، والإسهام في معالجة المشكلات المطروحة علينا سواء تلك التي أشرت إليها باسم التراث، أو تلك التي نواجهها في واقعنا الآني والراهن. وهنا يجب أن أقول إنَّنا نحن المتفلسفة العرب، كما كان يقول قدماؤنا، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي،  في حاجة إلى بذل الجهد، وامتلاك قدر من الشجاعة في قول الحقيقة، مع ضرورة توفير قدر من حرية التعبير التي بدونها لا يمكن لهذا الفعل الفلسفي الذي يحتكم إلى العقل، أن يمتلك حيويته، و أن يقدِّم إسهاماته النقدية الضرورية لازدهار ثقافتنا، وتقدم مجتمعاتنا.

 

12- في عام 2012 صدر لكم كتاب عن دار الطليعة «الاعتراف: من أجل مفهوم جديد للعدل»، وبينتم أن الاعتراف ينتمي إلى الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، ما أهمية هذا المفهوم لديكم؟ وكيف من الممكن تبيئته في سياقنا العربي؟ وما هي الصلات الممكنة بين الضيافة والاعتراف؟

الإجابة: يمكنني القول إنَّ هذا الكتاب قد شكَّل تحولًا في كتاباتي الفلسفية، وحدَّد، بطريقة ما، وجهتي الفلسفية. فقبله كنت مهتمًا بفوكو ترجمة وتأليفًا، وبعده انتقلت إلى مسائل الفلسفة السياسية و الأخلاقية و الاجتماعية، وأحاول تقديم تحليلات نقدية لبعض المسائل المطروحة على فكرنا العربي المعاصر، ومنها قضية اللغة، واللغة العربية تحديدًا. وهذا  ما درسته  على سبيل المثال في كتابي: «اللغة و السُّلطة: أبحاث نقدية في تدبير الاختلاف و تحقيق الإنصاف». فإذا كنت قد انتصرت في كتابي: «الفلسفة و اللغة: نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة» إلى النظرة الوظيفية للغة عمومًا، وللتداولية خصوصًا؛ فإنَّني ناقشت في هذا الكتاب المسألة السياسة في اللغة على ضوء العدالة اللغوية التي تعني من بين ما تعني احترام التنوع والتعدد اللغوي.  ولم يكن يعنيني الانتصار للرأي القائل بالسُّلطة المطلقة للغة، ولا للرأي القائل بأن اللغة ليست إلَّا وسيلة نفعل بها ما نشاء، وإنَّما الذي كان يعنيني هو فحص المسائل من قريب، واستنتاج ما رأيت أنَّه موافق للمعطيات والأدلة و الحقائق العلمية، وموافق في الوقت نفسه، لفكرة العدالة اللغوية التي هي جزء من فكرة العدالة الرمزية مقارنة بالعدالة المادية، وهي التي ناقشت معالمها في كتابي: «الاعتراف: من أجل مفهوم جديد للعدل»، كما تفضلت بذلك.

 

13- أخيرًا دكتور الزواوي، على ماذا تعملون هذه الأيام، وإلى أين تشير بوصلتكم البحثية؟

الإجابة: لا أتبع بوصلة معينة، ولا أصدر عن مشروع جاهز، وإنَّما أقوم بأبحاث بحسب الأسئلة والقضايا المطروحة علي، ولكن ذلك لا يعني أنَّني لا أملك رؤية لما أريد إنجازه، وإنَّما يعني عدم اقتناعي بفكرة تطبيق منهج جاهز سلفًا، وبرنامج علمي محدد. ضمن هذا الطرح، فإنَّه قد صدر لي قبل أسابيع كتاب بعنوان: «السياسة الحيوية من منظور الفلسفة الاجتماعية»، كما أشرت إلى ذلك سابقًا، درست فيه مفهوم السياسة الحيوية عند بعض الفلاسفة المعاصرين، كما درست موضوع  الجسد، والمرض، والعزلة، والشعبوية، والعنصرية، والعدالة الصحية في النظام الدولي الجديد. وأعتبر هذا الكتاب بمثابة إسهام فلسفي في النقاش الدائر حول جائحة كورونا، وحول قضايا راهنة وحاضرة، وعلى رأسها مسألة العدالة الصحية التي هي جزء أساسي من العدالة التوزيعية. وأعكف حاليًا على تحرير وتعديل وتجويد مجموعة من البحوث حول الفلسفة الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر. كما أعمل على الانتهاء من كتاب: «قاموس الهوية» الذي يتضمن أهم مفاهيمها، ونصوصها، وأعلامها؛ وذلك لأنَّني أرى أنَّ أفضل طريقة لمعالجة هذا المفهوم المركزي في الفلسفة وفي فكرنا العربي المعاصر هو الطريقة الموسوعية، مع تقديم منظور نقدي يكشف عن  مستويات الهوية، وتاريخها، ومشكلاتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى