المُقدِّمة
تُعتبر مسألة الجمال ومستويات تذوّقه وآفاق تلقّيه من الإشكالات الضاربة في القدم التي حاول الفلاسفة والمفكرون والمناطقة والنقاد مقاربتها والخوض فيها والتنظير لها كلّ وفق مرجعياته ونظرته، وهو ما أنشأ ضربًا من التنوّع والاختلاف من ناحية، ومن ناحية أخرى أنشأ تطورًا في مفهوم الجمال وأسسه الفلسفية.
ويُعزى ذلك أساسًا لاتّساع آفاق النظر فيه وثراء الممكنات التي يُتيحها، وممكنات التأويل التي يمنحها، وليس أدلّ على ذلك من اتّساع التعريفات الدلاليّة لهُ اصطلاحيًّا وتباينها؛ بل واصطراعها في أحيان كثيرةٍ، ناهيك عن الجدل الذي ما زال قائمًا حول إشكالية تلقّيه وتذوّقهِ وفق أيِّ أسس، وبناءً على أيّ اعتبارات يتحقّق ذلك.
يُمثّلُ كتاب «التفضيل الجمالي: دراسة في سيكولوجيّة التذوّق الفنّي» لصاحبه شاكر عبد الحميد، محاولة جادّة منه في دراسة تاريخانيّة التذوّق الجمالي للفنِّ، عبر الحفر عميقًا في مصطلح الجمال وسياقاته الأسلوبيّة، وآليات التعاطي مع هذا العلم فلسفيًا وفنيًا وأدبيًّا، ولعلَّ ما يُحسبُ للكاتب الفصل الحادّ الذي أقامهُ بين التناول الفلسفي لعلم الجمال والتعامل السيكولوجي معه، مما عمّق النظرَ في حالات التفاعل والإدراك الباطني مع الجمال، وما يمنحهُ ذلك من نقاء النفس وتنقيتها مما يعتريها من خراب وأدران وتشوّهات، مركّزًا على حالات الانجذاب الخاصّة وتفضيل مواطن الجمال بعضها عن بعض. وقد فعل ذلك عبر تتبّع هذه الإشكالية وتقصيها كرونولوجيًا من العصر اليوناني القديم إلى غاية العصر الحديث؛ إذْ يُشير الكاتب إلى ذلك في مقدمة مؤلفه قائلًا «ويعــتبـــر الكــتاب الحالـــي مـحـاولـــــة مـتـواضـعـــــة للإلمام بـالجـهـــــود السيكولوجيــة المختلفة التــي حاولــت وصــف الجمــال أو حاولــت فهــــمـه وتفسيــره أو الاقتراب منه بطرائق متنوعة وخاصة في بعض تجلياته الفنية والبيئية»[1].
ويُعتبر المؤلّفُ شاكر عبد الحميد (1952)، أحد أبرز المشتغلين في التذوّق الفني وعلم النفس من خلال ما ألّفهُ وما نقله إلى العربيّة من كتب ودراسات على غرار «دراسات نفسية في التذوّق الفني»، و«الدراسات النفسيّة للأدب»، و«سيكولوجية فنون الأداء».
يتألّف الكتاب من مقدّمة وثلاثة عشر فصلًا وملحق صور شُفع بعضها بتعليقات وجيزة من الكاتب، خُصّص الفصل الأوّل للبحث في الجمال ومفاهيمه من خلال استعراض تعريفات الفلاسفة طورًا، وتعريفات رجال الدين المسيحيين طورًا آخر، ليُسلّط الضوء من خلال ذلك على الضغط الذي مارسته المؤسسة الدينية ممثّلة في الكنيسة على الفنّ الذي بات يُناقشُ في ضوء التصوّرات الدينيّة واُفرغ بذلك الجمال من كل قيمه الفلسفية السابقة. أمّا الفصل الثاني، ضبط فيه المؤلّفُ النظريات الفلسفية التي اهتمّت بالتفضيل الجمالي من خلال استعراض آراء بعض الفلاسفة والمفكرين حول الفنّ وجمالياته بدءًا بأفلاطون وأرسطو، مرورًا ببلوتينيوس وبونافانتورا، وصولًا إلى ديفيد هيوم، أبرز المتحدثين باسْم المدرسة الإمبيريقيّة البريطانيّة، وكانط.
الفصل الثالث: درس خلاله الكاتبُ العلاقة الجدليّة بين التحليل النفسي والتفضيل الجمالي، ملخّصًا التطورات المهمّة في نظريّة التحليل النفسي من حيث اهتمامها بالفنون، ويسلّطُ النظر خلالها على اهتمامات فرويد بالفنّ والفنّانين المعاصرين له، وعلاقة التذوّق بالإبداع. كما ركّز على أفكار إرنست كريس، ورؤيته للخبرة الجماليّة والعلاقة الوثيقة بين النشاط الجمالي والاستجابة الجماليّة.
الفصل الرابع: حلّل فيه نظرية الجشطلت والإدراك الجمالي، والجشطلت نظريّة نشأت في ألمانيا ويقول علماؤها بأن الظواهر النفسية – ومنها الإبداع الفني والإدراك الفني – يُمكن أن تكون قابلة للفهم فقط إذا نُظر إليها بوصفها كليات ذات شكل خاص.
الفصل الخامس: بحث في الجماليات التجريبية على اعتبار أنّ الظواهر الجمالية من أولى الظواهر التي تحدّث عنها علماء النفس التجريبيون ووضعوها في اعتبارهم، ويهتمّ خلال ذلك بأطروحات فخنر، أحد أبرز روّاد علم النفس التجريبي، ودانيال برلين، رائد الجماليات التجريبية الجديدة.
الفصل السادس: ركّز خلاله على الجماليات الإدراكية وما يفترضهُ أصحاب هذا المنحى من إمكانات إدراكية مرتبطة بإدراك المثير الجمالي.
الفصل السابع: عالج خلاله مسألة ارتقاء التفضيل الجمالي لدى الأطفال باعتبارها مسألة خاضعة للتطوّر والنمو باستمرار عبر العمر، متناولًا بعض مظاهر ارتقاء التفضيل الجمالي لدى الأطفال.
الفصل الثامن: درَس فيه العلاقة الإشكالية بين التفضيل الجمالي والفن التشكيلي، نظرًا للعلاقة الوثيقة بين الجمال والفنّ خاصة منه الفنون الجميلة.
الفصل التاسع: تناول فيه الصلة بين التفضيل الجمالي والموسيقى، وقد درس الكاتب في هذا الفصل الأذواق الموسيقيّة والتفضيل الجمالي للموسيقى على أساس النوع الاجتماعي، والطبقة، والعرق، والانتماء الإثني.
الفصل العاشر: تطرّق خلاله إلى التفضيل الجمالي والأدب، ويقصد به كافة أنواع الكتابة الأدبية من شِعر، سرد، ومسرح، مستعرضًا الاتجاهات التحليلية النفسية الخاصة بالأدب.
الفصل الحادي عشر: عنونه بجماليات التلقي وفنون الأداء، واكتفى فيه بالحديثِ عن المسرح والسينما باعتبارهما النوعين اللذين استأثرا باهتمامات الباحثين في مجال علم النفس أكثر من غيرهما من فنون الأداء.
الفصل الثاني عشر: ركّز فيه على الجماليات البيئية من خلال الانكباب على محاولات فهم التأثيرات الخاصة بالبيئة في التفكير، والوجدان، والسلوك بشرح أسبابها ودوافعها أي العوامل المؤثرة في التفضيل الجمالي للبيئات على غرار السِّن، والانتماء الطبقي، ونمط الشخصيّة. ثم ترجمة النتائج الخاصة بهذا الفهم إلى تصميمات بيئية جديـدة يـحـكـم عليها الناس بأنها مفضلة أو محبَّبة جماليًا بالنسبة لهم.
الفصل الثالث عشر: التفضيل الجمالي- رؤية المستقبل، حوصل فيه أهم الخلاصات السابقة في إطار تكاملي، مقدمًا بعض الاقتراحات التي تعزّز مستوى التذوق الجمالي وآفاق تلقّيه.
تقديم متن الكتاب
الفصل (1): الجمال ومفاهيمه
يُعالج الكاتب عبر هذا الفصل المعاني المتعدّة للجمال ومفاهيمه، متقصّيًا حيرة الفلاسفة القُدامى، والأدباء، والمفكرين والمناطقة، والفنانين الذين تباينت آراؤهم واختلفت تمثّلاتهم للجمال: أهو شيء ماديّ ملموس أم شعور معنوي محسوس، أو أمرٌ مثاليٌ مغرقٌ في الطوباوية مفارق لعالم الواقع. إنّ مفهوم الجمال وفق الكاتب عصيٌّ عن الضبط والتحديد يأبى التقولب ضمن جهاز مفاهيميّ واضح الحدود. لذلك تشظّت التعريفات المتعلّقة بهذا المصطلح وتعدّدت «بتعدّد المنطلقات الفلسفيّة والنقديّة والإبداعيّة والعلميّة والإنسانيّة له، تلك التي حاولت تفسيره، أو التي أحاطت بمظهره أو مخبره»[2].
يتتبّعُ المؤلّف في القسم الأوّل من هذا الفصل تطوّر مفهوم «الجمال»، وما شهده من نضج وتبلور، عبر أربع حقب زمنيّة:
1- العصر الكلاسيكي اليوناني: عبر البحث في ما قاله السوفسطائيون والفلاسفة الإغريق، الذين عقدوا وثيق الصلة بين الجمال والأخلاق مميّزين بين الفنون الجميلة والفنون النفعيّة بالتنصيص على كون الجمال مستقلٌّ عن الحقيقة والنفع، مُماهين بين الجمال والتناسب والانسجام والتآلف.
2- القرون الوسطى: استفاد مفكرو هذه الحِقبة من النظريات الإغريقية حول الجمال ووسّعوا دائرة النظر حولها بدمج قراءات الكتاب المقدّس مع مفاهيم الجمال الكلاسيكيّة و«كرست نظريات الجمال والفن تلك تصورًا حول الجمال باعتباره إشعاع الحقـيـقـة (أو شعاع الحق) Veritatis Splendor، ذلك الذي يشعّ من خلال الرمز الجمالي الفني أو الطبيعي ويعكس وجود الله»[3].
3- عصر النهضة الأوروبيّة: الذي انبعث خلاله علم الجمال نظامًا معرفيًا معياريًا يبحث في الجماليات.
4- القرن الثامن عشر: عندما استقام الجمال علمًا مستقلًا قائمًا بذاته، ونشأ الحديثُ حول الجمال الحسي، الإدراك الحسي، وأخذت تتوالى النظريات الجمالية والتعريفات الخاصة بالجمال من خلال الفلاسفة والرومنطيقيين والواقعيين والكلاسيكيين.
ثمّ ينتقل الكاتب إثر معالجة الاضطراب المصطلحي الذي يشوب مفهوم «الجمال»، إلى البحث في معاني «علم الجمال»، فيُعيد أصل الكلمةِ إلى أصول يونانية إغريقية وتعني في معناها الأصل الإدراك والإحساس، لذلك انعقدت كافّة التعريفات الخاصة بلفظ الجماليات وعلم الجمال حول الإدراك الحسي لمواطن الجمال والقبح في الأشياء والموجودات من حولنا أي في الطبيعة والفن. ليشهد هذا المصطلح تطوّرًا في الاستعمال الحديث من خلال اتّساع دوائر اهتمامه واشتغاله كطبيعة التجربة الجماليّة وأنماط التعبير الفنّي وسيكولوجيّة الفنّ. ويميّز الكاتب في الأثناء بين الجماليات الفلسفية والجماليات السيكولوجيّة مستندًا في ذلك إلى نظريّة بيردسلي التي اعتبرت «علم الجمال»، علمًا بينيًّا تتقاطع خلاله كافّة الحقول المعرفية كالفلسفة، وعلم النفس، والفنون، والنقد الفنّي.
ينطلقُ الكاتبُ خلال هذا الفصل من فكرة نمطيّة سائدة منذُ القدم مضمونها العلاقة الجدليّة بين الجمال والفنّ والتي اختزلت الجمال في الفنّ معتبرةً إياه مصدر كلّ إثارة وجمال وكافة الأحاسيس الجميلة، مبيّنًا قصور هذا الطرح ومحدوديته موضّحًا أنّ الجماليات أو علم الجمال لا يتعامل مع الجمال كنظريّة بل مع نظرية الفنِّ، مبديًا حيرته المعرفيّة من حصر دراسة الجماليات في مبحثي الفلسفة والفنّ دون سواهما، وإهمال باقي الحقول المعرفيّة الأخرى لهذا المبحث لا سيما الدراسات السيكولوجية/علم النفس، والتي تأخر الاهتمام بها إلى أواخر القرن العشرين عندما بدأ يتزايد الاهتمام بالجماليات والفنون داخل علم النفس.
يُحاول إثر ذلك مقاربة مفهوم الفنّ ومجالاته أي المنظومة الفنيّة وما تضُمّه من مجالات إبداعيّة، ويعالج في الأثناء الأطروحة المركزية التي ينطلق منها ويعمل على دحضها والتي تتلخّصُ في رأي شائع في الدّراسات النقديّة والفلسفيّة، يقولُ: «إنّ هدف الفنّان إنتاجُ شيء ما يتّسمُ بالجمالِ»، يحاول الكاتبُ تفنيد هذا التصوّرِ من خلال توظيف بعض الأعمال الفنيّة والأدبيّة التي أبدعت في تسريد أو تجسيد مظاهر القبح والفساد حجّة على صحّة طرحه وقصور الطرح المقابل.
إنّ ما نستخلصهُ من طرح الكاتب مراهنته على أساليب وكيفيات التعبير لا على جوهر العمل الفني في حدّ ذاته وهو ما يذكّرنا بتداول القدامى من نقاد العرب كالآمدي، وابن جعفر، وابن قتيبة، والتوحيدي وغيرهم، واختلافهم في قضية المبنى والمعنى أيّهما يُضفي على العمل شِعريته وأدبيته.
أمّا في ما يخُصُّ وظائف الفنِّ فلا يستبعد الكاتب أيَّ تصور من التصورات الكلاسيكيّة للفن ووظائفه بل يحاول الجمع بينها باعتبارها أنها تتقاطع في نقاط مركزية مهمة ولا يستبعدُ أيًّا منها الآخر، فالفنُّ تمثيلٌ وتعبيرٌ وإبداع في الوقت نفسه.
يتطرّقُ الكاتبُ إثر ذلك إلى مسألة التذوّق والتفضيل الجمالي، فيبحثُ في أصول نشأة مصطلح التذوّق الذي ظهر في إنجلترا خلال القرن 18، ويربطُ الكاتب عملية التذوّق بالإدراك بصنفيْه السمعي والبصري، طارحًا النظريات التي اهتمت بالمسألة معالجًا إياها بالنقد والتعديل كنظريّة سويف، وحنورة، وجون كوين. أمّا عن العوامل التي تلعبُ دورًا في التشكيل الخاص لعمليات التفضيل الجمالي لدى الأفراد فيضبطها الكاتبُ في ثلاثة عوامل هي:
- الخبرة الجماليّة التي يُعرّفها الكاتبُ «على أنها حالة معـيـنـة مـن الانـدمـاج مـع مثير أو موضوع جمالي»[4]، وتتأسّسُ هذه الخبرة على المتعة والتقمص والتي تعني اندماج المتلقي مع المادة المعروضة وشعوره أنه جزء من شخص أو موضوع في ذاك العمل والمسافة النفسيّة التي عرّفها بوالو «على أنها مسافة توجد بـيـنـنـا كذات وبين حالاتنا الوجدانية»[5]. وهي المسافة الفاصلة الواصلة بين المتلقي والمادة المعروضة التي تُثير الانفعالات أو الأفكار بداخلهِ.
- الألفة والتفضيل، ويقصد بها ما تألفه النفس والحواس وتأنسُ إليهِ من عناصر مألوفة.
- الأسلوب والتعبير، ويُقصد بالأسلوب «طريقة الفنان الخاصة فـي الـتـعـبـيـر عـن ذاتـه بـكـل مـا يتعلق بهذه الذات من أفكار وذكريات وانفعالات وخـيـالات ووجـهـات نـظـر حول الواقع والأمة والتاريخ والعالم»[6]
الفصل (2): نظريات فلسفيّة اهتمّت بالتفضيل الجمالي
ضبط المؤلّفُ في هذا الفصل أهمّ النظريات الفلسفية التي اهتمّت بالتفضيل الجمالي من خلال استعراض آراء بعض الفلاسفة والمفكرين حول الفنّ وجمالياته بدءًا بأفلاطون وأرسطو، وصولًا إلى ديفيد هيوم وكانط.
يُرجعُ الكاتبُ الاهتمام المنظّم بالفنّ والجمال إلى الفلاسفة اليونان (القرن الثالث قبل الميلاد)، على وجه التحديد أفلاطون الذي نظر إلى الفنِّ على أنّهُ تزييف للواقع، وأرسطو الّذي ألحّ على شرط الانسجام والتآلف في العمل الفنّي ليضمن جماليته ويحقّق أبعاده الفنيّة، ويقيم في الأثناء مقارنة بسيطة بين الفلسفتين الأفلاطونية والأرسطيّة أوّلا حول الفنّ ليخلصُ إلى أنّ الفرق بينهما يتلخّص في وظيفة الفنّ الذي اعتبره أفلاطون تضليلًا للمتلقّي وإبعاده عن الحقيقة، في حين اعتبر أرسطو أنّ له وظيفة تصحيحيّة لما يعتري الطبيعة من نقائص أو يشوبها من تشوّهات وأخرى تطهيرية تنقي النفس من الانفعالات السلبيّة المتطرّفة، وسبيلًا لبلوغ المعرفة.
يمرُّ الكاتب إثر ذلك إلى القرن الثاني ميلادي ليُسلّط الضوء على نظريات الأفلاطونية المحدثة[7]، ممثّلة في أحد أبرز أعلام هذه الحركة الفلسفية وهو أفلوطين، الذي آمن بالكليّة والوحدة أي وحدة الأجزاء داخل الكلّ. وقد ربط أفلوطين ربطًا وثيقًا بين ثنائيّة الخير والجمال متأثرًا بأفكار أفلاطون، الذي اعتبر الفنّ نأيًا عن كلِّ الاتجاهات الحسيّة والنزعات الواقعيّة. معتبرًا الله مصدر كلّ جمال، فالله هو مصدر الصورة الفنيّة ومبدع الجمال «فالجمال يشع منه والجـمـال يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في عمليات الفيض بعد الواحد. وما يصنعه الفنان هو محاكاة للجمال الإلهي والفن طريق وسط بين أشكال الجمال الطبيعية الغامضة نوعًا ما والتي تطمح إلى التـحـقـق والاكـتـمـال وبين الجمال ذاته الذي يستطيع العقل أن يعرفه من خلال صعوده إلى ما وراء الموضوع الجمالي ذاته»[8]. فالفنّ وفق أفلاطون مختلف كليّا عنه عند أرسطو الذي اشترط فيه مبدأ الانسجام والتناسق، بل هو علامة على الإعجاز الإلهي في خلقهِ، وعلى إثره واصل القديس أوغستين، ومن بعده توما الأكويني (القرن الثالث ميلادي)، في السياق ذاته عندما أقام صلة بين الجمال والحقيقة الروحيّة، معتبرًا أنّ كلّ ما تنتجه يدا الفنّان من أدب أو مسرح أو شِعر أو نحت هو توق منه للجمال. وعلى عكس أفلاطون يرى أوغستين أنّ مسألة إنتاج الفن وتلقيه من مهام الكنيسة وحدها على اعتبار أنّ الفنّ ملاذ الروح لتتطهّر وتترفّع عن ملذّات الدنيا وموضوعاتها الحسيّة.
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى «عصر النهضة»، الذي شهد اضمحلال وتراجع هيمنة سُلطة الكنيسة على الفنّ أمام نشأة الأفكار والنظريات النقديّة التي حاربت توظيف المقدّس في الفنّ وإخضاع هذا الأخير له، وعاضد ذلك إحياء العديد من الأفكار الأفلاطونيّة المرتبطة بالفنّ عن طريق الترجمة والبحث، وقد برز في هذا السياق شافتسبري (1671-1713)، أوّل من جعل من الجمال مسألة رئيسية في الفلسفة وعزّز أليات التذوق الجمالي؛ إذْ «فـتـح هـذا الـفـيـلـسـوف الطريق أمام الجمال كي يعود لتأكيد ذاته كقيمة مستقلة فالطبيعة جميلة في ذاتها والإنسان -كل إنسان- يمكنه أن يتذوّق الطبيعة من خلال حساسية خاصة بالحكم الجمالي الموجود لديه وتنعكس القوة الإبداعية للطبيعة في الطاقة الإبداعية لعقل الشاعر، كما أن جمال الطبيعة يعـاد تجـسـيـده فـي جمال الإبداع الفني»[9]. كما راجع جدليّة الجليل وخبرة الجلال «والجلال لديه ليس مجرد خبرة دينية أخلاقية بل خبرة جمالية أيضًا. وإحساس الإنسان بوضـعـه في الكون يعود إلى حكم خاص حول الجميل. وهذا الحكم يسير وفق تذوّق مباشر ينبغي تمييزه عن الحكم الأخلاقي، وعن حكم المنفعة المادي. وبتأكيد شافتسبري على نقاء الأحكام الأخلاقية، وانتفاء الغرض أو الهوى منها؛ فتح الطريق أمام كانط كي يكتشف أحد المبادئ الأساسية في كل فلسفات الفن والجمال»[10]. وقد وضعت نظريات هذا الفيلسوف ثمّ بعده ليبنتز، اللبنات الضرورية لظهور ما سيُسمّى لاحقًا علم الجمال.
يُبرّرُ الكاتبُ عدم الخوض في كافة النظريات الفلسفية التي اهتمّت بالجمال بضيق المجال، ويعدُ بالاهتمام بأربعِ تجارب فلسفيّة هي تجارب كل من: هيوم، كانط، هيجل وشوبنهور.
هيوم
يرى هيوم تعدّد الأذواق وتنوّعها وتفاوت مستوياتها بين الشعوب وحتى بين أفراد الشعب الواحد ممن عاشوا في مكان واحدٍ وخضعوا للأنظمة السياسية والاجتماعية والتعليمية نفسها. مُشيرًا إلى بعض حالات الإعجاب الجمالي والإجماع على الإعجاب أو كذلك النفور من بعض الأشكال التعبيرية، ويُفسّرُ هذه الظاهرة بأنّهُ «فيما بين هذا الاختـلاف في الأذواق والأهواء مبادئ معينة عامة للإعجاب أو الانـتـقـاد وأن الـعـين الـفـاحـصـة الواعية قد تتبع الدلائل الخاصة بهذه العوامل في تلك العمليات الخاصـة بالعقل»[11]. أمّا في ما يخُصُّ معايير الذوق فيُنبُّه هيوم، إلى ما ينطوي عليه الانسان من حالات ضعف وقوّة هي التي تمدّنا بمعيار حقيقي للذوق والعاطفة. أما مسألة بلوغ الجمال الكامل فرهين توافر قوّة الأعضاء الحسيّة مع إحدى الحالات الكليّة من وحدة عاطفة البشر.
أمّا في ما يخُصّ معيقات التذوّق الجمالي فيختزلها هيوم في الافتقار إلى الخيال المرهف، ويُشيرُ «إلى ضرورة أن يكون إدراكنا للجـمـال والـنـقـص مـتـسـمًـا بالدقة والسرعة مما يؤدي بنا بالضرورة إلى الوصول إلى حالة خاصة من الاكتمال في ذوقنا العقلي»[12].
لقد نظر هيوم إلى عملية التلقي والتذوّق الجمالي باعتبارها سلسلة من العمليات العقلية، وقليلون جدًا هم الذين يكونون مؤهلين لتقييم أي عمل فني لأنّ «أعضاء الحواس التفضيل الجمالي الداخلية نادرًا ما تكون بالغة الاكتمال لدى الجميع بحيث تسمح للمبـادئ العامة بأن تقوم بعملها الكامل وأن تنتج انفعالًا يتفق مع هذه المبادئ».[13] إضافة إلى افتقار الخبرة المناسبة ورهافة الذوق وغيره من العوامل الأخرى الخاصة.
كانط
قام كانط بقفزة نوعيّة وهامّة بالتحديد الخاص لعلم الجمال باعتباره المجال الخاص للخبرة الإنسانية … وقد ناقش مسألة التذوّق الفني والتقبّل الجمالي معتبرًا إياها «شيئًا عامًا وصادقًا بالضرورة بالنسبة لكل البشر فإن الأساس الخاص به لابد أن يكون متطابقًا لدى جميع البشر»[14] وفي نظرة كانط فإنّ «الشكل» هو الشيء الوحيد الذي يُمكن أن يكون عامًا ومشتركًا بين كافة البشر.
وقد نظر كانط للجمال على أنه رمز للخير، واعتبر أن الحكم التأملي لا يُستمدّ من الخارج بل ينتمي أكثر إلى مملكة الذات والوجدان والشعور. مميزًا بين أربع لحظات للحكم الجمالي هي: اللحظة الأولى، حكم الذوق وفقًا للكيف. اللحظة الثانية، الحكم على الجميل وفقًا للفنّ. اللحظة الثالثة، أحكام الذّوق في ضوء العلاقة الفرضيّة الخاصة التي توضع في الاعتبار. اللحظة الرابعة، الحكم على الجميل في ضوء الجهة الخاصة بالرضا أو الإشباع الخاص بالموضوع.
هيجل
نظر هيجل إلى الفنِّ «باعتباره محدودًا نتيـجـة لـلـطـبـيـعـة الحـسـيـة الخاصة بوسائطه. فهو في رأيه غير قادر على الـنـهـوض أو الـوصـول إلـى الإدراك الكامل للوعي الذاتي أو الروح»[15]، وعرّفه بكونه أحد الأشكال الكليّة للعقل، معتبرًا الفترة الكلاسيكيّة من تاريخ الفنّ هي ذروته. ولتحقّق الجمال في الفنّ يشترط هيجل اتحاد الفكرة بمظهرها الحسّي، ويرى للفنّ وظيفة طوباويّة مثاليّة ترتفع بالكائنات بعيدًا وتحلّق. ويُراهن هيجل كثيرًا على الجمهور الذي يعتبره متمم لمعنى العمل وما بطن من دلالاتهِ. «إن العمل الفني لا يـقـصـد مـنـه مجرد استثارة انفعال أو آخـر، لأنـه هـنـا لـن يـتـمـيـز عـن أشـكـال أخـرى مـن النشاط كالفصاحة، والتأليف التاريخي، والوعظ الديني. فالعمل الفني يكون عملًا فنيًاــ بقدر ما يكون جميلًا»[16]
شوبنهاور
تشبّع شوبنهاور كثيرًا بأفكار كانط، لكنّه عالج فكرة تمييز كانط بين الأشياء في ذاته «فكل ما يعرفه الإنسان ــ في رأي شوبنهاور ــ يكمن داخل وعيه هذا على الرغم مما قد يفترض من وجود ذات عارفـة وثـوابـت خـالـدة خـلـف هـذا التدفق للخبرة»[17].
يركّز شوبنهاور على تقديم تعريفات حول الجانب الجمالي الذي يرى أنّه ظاهرة من ظواهر الذّهن تعتمد على الخصائص المميزة للفرد الذي يُدركها، ويعتبره نتاج العبقرية والحكمة التي يجب أن يُصغي إليها المتلقي في الأعمال التي تبوح بها، فالاستمتاع الجمالي حينئذ عمل مشترك بين المنشئ والمُتلقي.
الفصل الثالث: نظريّة التحليل النفسي والتفضيل الجمالي
يتناول شاكر عبد الحميد في هذا الفصل، أحد أبرز المقاربات التي أثّرت في مجالات الفنون والجمال والتفضيل الجمالي، وتمخّضت عنها نتائج هامة على مستوى العرض النظري، ونقصدُ بها نظرية التحليل النفسي.
يسوقُ الكاتب نماذج وأمثلة حول بعض التجارب الفنية التي أسهمت نظريات التحليل النفسي في إرساء دعائمها وركائزها على غرار السريالية، مُشيرًا إلى أشكال التأثير والتأثر بين الفنون والتحليل النفسي؛ إذْ أثّر كلا الطرفين في الآخر تأثيرًا واضحًا. يحاول المؤلف في هذا الفصل أن يتقصّى أهمّ مراحل وتطوّرات نظريّة التحليل النفسي في تناولها للفنون والتلقي الجمالي وهي:
1- المرحلة الأولى: فرويد وعلاقة التذوّق بالإبداع
يحصرُ المؤلّفُ هذه المرحلة بين سنتي 1894 و1901، وما تخلّلها من مؤلّفات أصدرها فرويد حول الهستيريا وتفسير الأحلام، وقد لاحظ المؤلّفُ أنّ فرويد خلال هذه المرحلة لم يقم بالفصل بين عملتي الإنشاء والتلقّي؛ فقد نظر إليهما على أنهما أمران متناظران ومتماثلان، لاعتقاد منه أن متعة التلقي تضاهي وتماثل متعة الإبداع لاقترانهما بعملية التحرّر والانعتاق من القيود الخاصة بالكبت الشعوري.
انعكست خلال هذه الفترة نظريات التحليل النفسي لدى فرويد على فهمه وإدراكه لعلم الجمال الذي يعُدّهُ تخصُّصًا يُعنى بتحليل المتعة الجمالية التي تُفرزها النفس البشريّة لما تتيحه الخبرة الفنية من ممكنات لإشباع الرغبات التي أحبطها الواقع وإن رمزيًا خياليًّا، فالفنان إنسان يسمو عن الواقع ويبتعدُ عنه ويجد في الفنّ ملاذًا يُشبعُ فيه غرائزه التي تعوزه القدرات في الواقع على بلوغها وتحقيقها ومن خلال ما يحققه العمل الفني من وظائف تأثيريّة بالغة في المتلقّين تتحقّقُ بعض هذه الإشباعات للفنّانِ، والتي يُسمّيها فرويد عملية هروب مؤقتة من الواقع، وهي على قدر السواء عند المبدع والمتلقّي.
2- المرحلة الثانية: علم نفس الأنا
من أبرز أعلامها ومنظريها إرنست كريس، الذي قدّم رؤية مفصلة حول الخبرة الجمالية من خلال عملية دائرية تشتمل على ثلاث مراحل، هي: «التعرف على العمل الفني، ثم التوحد معه، ثم التوحد مع الطريقة التـي اُنتج من خلالها هذا العمل الفني. فلكي نمـارس الخـبـرة، ينبغي أن نقوم بتغيير أدوارنا؛ إذْ «إننا نبدأ هـذه الخـبـرة بـاعـتـبـارنـا جـزءًا مـن العالم الذي أبدعه الفنان ثم ننتهي ونحن مبدعون مشاركون لهذا الفنان فنحن نوحد أنفسنا معه»[18].
وقد راهن كريس على الدور الفاعل للمتلقي في إعادة صياغة العمل الفني معتبرًا أنّ المشترك بين الطرفين هو الخبرة الجماليّة وليس المحتوى الخاص بالعمل، لذلك قدّم ما يُصطلح عليه بجُهد الرّمز «إنه ذلك الجانب من الرمز الذي ينتج عن تكـثـيـف الـعـديـد مـن المصادر النفسية والخارجية داخل الفنان، والذي يُمكنه أن يحدث تأثيرات متعددة في المتلقي أيضًا»[19]. ويرى كريس، من شروط تحقّق المتعة الجماليّة، شرط المسافة النفسيّة، وشرط «النكوص في خدمة الأنا»، وهو تنشيط لوظائف الأنا، غايتهُ العودة إلى مستوى بدائي من ارتقاء الأنا ونموّهِ، «وهـو تنشيط يتطلب استرخاءً وتحرّرًا خاصًا مـن وظـائـف هـذه الأنـا، أي حـركـة معينة من مبدأ الواقع (الخاص بالأنا)، إلى مبدأ الّلذة (الخاص بالـ “هو”)»[20].
3- المرحلة الثالثة: نظريات العلاقة بالموضوع
كان أبرز المنظّرين لهذه المرحلة، مرجريت مالر، وميلاني كلاين. اهتمّ منظّروا هذا الاتجاه وعلى رأسهم البريطانيّة، ميلاني كلاين، بإعادة صياغة أفكار فرويد، حول الاندفاعات التي يتمّ التسامي بها وتحويلها إلى نشاط فنّي. فركّزت النظر على الجانب العدواني بدل الجنسي، والواقعي بدل الغريزي. وقد أثّرت أفكارها في العديد من المحللين النفسيين على غرار فيربـرين، الذي استفاض المؤلّف في تحليل تصوراته حول التفضيل الجمالي والنظام الفنّي الذي شبّهه باللعبة الانتقالية، وتحليله لبعض الأعمال الفنية كلوحات فيرمير، وبول كلي، وسلفادور دالي، وما تنطوي عليه من نزعات سادية، أو ميولات تدميرية، أو طاقات ليبيدية (جنسية).
الفصل الرابع: نظرية الجشطلت والإدراك الجمالي
يبدأ الكاتب في هذا الفصل بتقديم هذه النظرية والتعريف بالأباء المؤسسين لها ويبحث في أسسها التجريبية النظرية، وأهمّ أفكارها حول مسألة الجمال والتذوّق الفني العلاقة بين الإدراك والتعبير؛ حيثُ يعتبر أصحاب هذه النظريّة أن التعبير هو لغة الفنّ. ويُقصد بالتعبير الشكل أو البنية أو الأسلوب، كالحركات وتقاسيم الوجه في فن المسرح وفن السينما، وطريقة الإخراج الفني، كتوزيع الألوان واستغلال الفضاء في الأعمال التشكيلية، وأسلوب الكتابة في الأعمال الأدبيّة؛ إذْ عبر الشكل يبرز الدّفق التعبيري والشعوري الذي أراد المبدع تبليغه.
ثم استعرض المؤلف أفكار علماء الجشطلت وتحليلاتهم ودراساتهم لا سيما أرنهايم، حول الخبرة الجمالية ومستويات التلقي للعمل الفني وفن التصوير والنحت والحركة في السينما والإطار وخبرة المشاهدة.
الفصل الخامس: الجماليات التجريبيّة
تُعتبرُ الجماليات التجربية فرعًا من فروع علم النّفس التجريبي الذي يُعدُّ جوستاف فخنر مؤسّسه، والذي أرسى لاحقًا أهم الأسس النظريّة لفرع «الجماليات التجريبيّة»؛ حيث استفاد مما نظّر له السابقون كديفيد هيوم وغيره.
يُركّزُ مؤلّفُ الكتاب خلال هذا الفصل على الجماليات التجريبية في سياق تطوّرها، وما عرفه هذا الحقل المعرفي من تشعّبات ونُضج وتبلور، فيعمدُ إلى تبويبها صنفيْن:
صنف أوّل: الجماليات التجريبية القديمة
تبدأ هذه المرحلة مع منتصف القرن التاسع عشر، سنة 1876، تحديدًا، بظهور أولى محاولات فهم وتفكيك الظواهر الجمالية من منظور نفسي أسهم فيها علماء النفس التجريبيون وعلى رأسهم فخنر، الذي استنتج بعد عدّة تجارب وتمارين تطبيقية إجرائيّة درس خلالها عملية التفضيل الجمالي لدى رواد بعض المتاحف والمهتمين بالفنون بشكل عام، في كتابهِ «عناصر الجماليات»، وأهم أفكاره أن «الخبرة الحسيّة هي المصدر الأساسي للمعرفة»[21]، وهو ما حدا بدارسي الجماليات التجريبية إلى اهتمام متزايد بعلم الفيزيولوجيا/علم وظائف الأعضاء وهو ما سيُسفرُ لاحقًا عن نتائج مهمّة جدًّا.
يُركّزُ شاكر عبد الحميد النّظر على دراسات فخنر، وما تتّسمُ به فتبيّنَ لهُ تركيزهُ على الجمال الشكلي باعتباره أحد بواعث الشعور بالمتعة وتمييزه بين الجمال في معناه العام والجمال كما يرتبط بالذوق أو التذوّق، واعتباره –أي فخنر- أنَّ الإحساس بالجمال مرتبط بقيم ومثل عليا كالخير على نحو خاص، ولفهم هذا التصوّر وتشريحه يبحثُ المؤلف في الروافد والمدارس والأفكار التي أثّرت في صاحب هذه النظريّة أو تأثّر بها ويُشير إلى الفكرة الخاصة بـ «القطاع الذهبي»، أو ما يُعرف بالنسبة الذهبيّة أو التناسب بين الأشكال الهندسيّة أو المقياس الصوتي، والتي يرى العديد من المختصين أنّها الأكثر استمالة للمتلقي وإثارة للسرور لديه. وقد استأثرت هذه الفكرة بجانب هام وواسع من تفكير فخنر، وقادته إلى اعتبار هذه الفكرة فكرةً جوهريّة في الجماليات؛ بل وقد وسّع دائرة تجاربه ليكتشف وجود هذه الفكرة في عديد المجالات في العمارة القديمة كالأهرامات والمعابد الإغريقيّة والكنائس القبطيّة والكتب والوجه الإنساني.
صنفٌ ثانٍ: الجماليات التجريبيّة الجديدة
تبدأ هذه المرحلة منتصف القرن العشرين، تحديدًا سنة 1960، بظهور كتاب دانيال برلين، المُعنون بـ«الصراع والاستثارة وحب الاستطلاع»، والذي حاول تطوير نظرية فخنر، والبناء عليها بدعم تصوراته بـ«أسس سلوكيّة وبيولوجية أكثر صلابة: فعلى الجانب الخاص بالمثير الخارجي، قام برلين بتوسيع حدود المثيرات الخارجية، كي تشتمل فئات جديدة من متغيرات المعلومات الإدراكية، أمـا عـلـى الجـانـب الخـاص بالاستجابة؛ فوسّع برلين حدود الاستجابة، كي تشتمل أيضًا على المقاييس السيكوفسيولوجية غير اللفظية، إضافة إلى الأحكام الوجدانـيـة»[22].
وإثر تقديم النظريّة وشرحها يمرُّ الكاتب إلى تلخيص وإجمال أهمّ النتائج التي توصّل لها برلين:
- التمييز بين نوعين من السلوك: السلوك الاستكشافي النوعي، والسلوك الاستكشافي المتعدّد والمتنوّع.
- أهميّة المفهوم السيكوفسيولوجي المسمى استثارةً، وأهم عوامله ومثيراته.
- الخصائص المميزة للمثيرات الجمالية، وهي: الخصائص السيكوفسيولوجية للمثير الخارجي، والخصائص الإيكولوجيّة للمثير الخارجي، ومتغيّرات المقارنة.
ويخلصُ الكاتب ختام هذا القسم إلى قيام هذا المنحى من الجماليات –أي الجماليات التجريبية الجديدة- على ما يُصطلح عليه بخصائص المقارنة وتركيزه على القضايا الدافعيّة، ويختتم هذا الفصل باستعراض سريع لأهمّ الانتقادات التي وُجّهت لنظريّة «برلين»، من خلال ما ذكره كونكني، وفرنسيس.
الفصل السّادس: الجماليات الإدراكية
يُسلّط المؤلف النظر خلال هذا الفصل، على منحى آخر من مناحي الجماليات، وهو الجماليات الإدراكية، وفي شرحه لأسباب ظهور ونشوئية هذا الصنف من الجماليات يعرضُ الكاتب خمسة أسباب هي:
- الوعي المتزايد بالفشل النسبي للمدرسة السلوكية في الـتـعـامـل مـع العمليات الإدراكية المختلفة.
- الثورة الرقمية الهائلة.
- ظهور نظريات لغوية حديثة خاصة في ما يتعلق بالنحو التحويلي.
- ظهور أنساق جديدة تحاول أن تميّز بين الأنواع المختلفة للذاكرة.
- ظهور علم النفس الإدراكي.
ثمّ ينتقل إلى شرح مُصطلح المخططات الإدراكية التي تمثّل شرطًا رئيسيًا في عمليّة التذوّق الفني والتي تعني جملة الاستراتيجيات الإدراكية التي يقوم من خلالها الفرد بالتعامل مع المعطيات القادمة من محيطه الخارجي، عبر الحواس وردود الفعل الموجّهة نحو ذلك، مبرزًا أهميتها ودورها في إدراك الفنون وتذوّقها، مبرزًا أنّ المخطط العام للفنّ يضُمُّ مخططات فرعيّة أخرى تتشعّب وفق المدارس والتيارات الفنيّة والأساليب والفنانين.
ثمّ يعرضُ لأهمّ جهود السيكولوجيّين الذين أفادوا من هذه النظريّة على غرار برات، وداولنج، وبورسيل، في إشارات برقيّة مقتضبة، وفي السياق ذاته يشير إلى بعض الرافضين لمفهوم «المخطط الإدراكي»، ومن يتحفظون عليه ويضرب مثلًا على ذلك جيمس جيبسون.
يتدرّج الكاتب خلال هذا الفصل إلى أهم البحوث في مجال سيكولوجية الفن بعلاقتها بالرموز، فينطلق بداية بالإشارة إلى الحضور الشائع للرمز في الدراسات الفلسفية والجمالية والنفسية وما مثّله كتاب نيلسون جودمان «لغات الفن»، من نقلة نوعية في مضمار دراسة الرموز، ثمّ يستفيض في عرض أهمّ أفكار هذا الكتاب كاعتباره الأعمال الفنيّة أنساقًا ورموزًا، وموقفه من النشاط الجمالي الذي يعُدّه إبداعًا وإعادةً للإبداع، وتأكيده على ما يوجد من دوافع إدراكية (أو معرفية) داخل الفنّ ورفضه في مقابل ذلك فكرة أنّ الفنّ أكثر انفعاليّة وأقلّ «إدراكية» من العلم؛ ذلك لأن جزءًا كبيرًا من المتاعب والصعوبات في هذا المجال قد نجم عن تلك الثنائية الجائرة بين الإدراكي والانفعالي.
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى استعراض نظريّة فيتز التي تتأسس على فكرة محورية قوامها وجود نظامين إدراكيين خاصين بالتشفير، هما نظام التشفير التناظري، ونظام التشفير الرقمي، وتكمن مهمّة هذا الأخير في مـعـالجـة المعلومات، ويوضّح الكاتب أفكار أهم النقاد الذين أفاد منهم في بناء تصوراته حول الفنّ الحديث، وهي حسب ما يعتبرها نظرية سيكولوجية بيولوجية تقوم على ذلك التمييز الحاد بين نصفي المخ البشري وما يختصّ به كل نصف منهما.
يستوقف الكاتب مصطلح «الرمز التناظري»، الذي يعني في ما يعنيه أن يشبه الشيء الشيء الذي يرمز إليهِ بل أن يكونَ شديد التشابه معه عكس «الرمز الرقمي»، الذي لا يعدو أن يكون سوى رمزًا يختزل أحد أبعاد هوية شخص ما دون أن يمُتّ له بأي تشابهٍ، ويُعبّر فيتز، عن موقفه من هذين النظامين فنلحظ ميله للنظام الرمزي الرقمي الذي يعدّ حسب رأيه أكثر دقّة وأقلُّ غموضًا عكس النظام التناظري الذي يُعدُّ أقلّ دقّة وأكثر غموضًا. و«يشير فيتز إلى أنه من الأفضل أن ننظر إلى هذا التمييز بهذين النظامين الرمزيين على أنهما بمنزلة المتصل الكمي الذي يمتدّ مـن أحدهما إلى الآخر لا بوصفهما نوعين متميزيـن ومنفصلين مـن أنـظـمـة معالجة المعلومات»[23].
كما يستعرض الكاتب في الأثناء أهمّ ما عرفهُ هذان النظامان أي النظام الرمزي التناظري والنظام الرمزي الرقمي من تطوّر عبر التاريخ مبرزًا أهمّ المتغيّرات التي أسهمت في ذلك ويركّز النظر على الحركات الفنيّة الحديثة التي تأثرت تأثرًا واضحًا بالحركات الحديثة في العلم والتي تُعلي إعلاءً واضحًا من قيمة الرمز الرقمي باعتبارها ثقافة رقمية، وقد أفرز ذلك عديد الانعكاسات على الفنون المرئية والسمعية وغيرها، كفقدان الدلالات التقليدية للبعد الثالث، وظهور بعض المسرحيات من صنف المسرح الصامت.
وفي صدد تحقيق بعد تكاملي بين النظامين التناظري والرقمي يُشير فيتز، إلى إمكانية ذلك ولكن بشروط أهمّها:
- قيام الفن على أساس التكامل بين نصفي المخ.
- خضوع عمل أي فنان لضوابط إيديولوجية على أساسها يتحقق هذا التكامل.
الفصل السابع: ارتقاء التفضيل الجمالي لدى الأطفال
ينطلقُ الكاتب في هذا الفصل بتعريف لمفهوم الارتقاء ليُمهّد بذلك لدراسة مظاهر التفضيل الجمالي لدى الأطفال، مستعرضًا أهمّ الدراسات التي أولت هذا الموضوع عنايةً والتي تُعدّ دراسة فانتز، التي أجراها على الأطفال الرضع، أهمها على الإطلاق.
يتطرّق الكاتب إثر ذلك إلى ظاهرة حبّ الاستطلاع واللعب دارسًا أشكال الارتقاء في السلوك المعرفي/الإدراكي مبينًا طرق بروزه وتطوره والتي تبدأ مباشرة عقب الولادة بأسبوعين عندما يبدأ في الاستجابة للمثيرات القوية أكثر من الهادئة، ويشير في الأثناء إلى أهم المؤشرات التي تُبرهن عن الشخص المتميز بحبّ الاستطلاع من قبيل الاستجابة على نحو إيجابي للعناصر الجديدة أو الغامضة والسعي نحوها لاكتشافها، وإظهار الرغبة الملحّة في الاكتشاف والتعرّف، والسعي نحو خبرات ومعارف جديدة لاستكشافها والتعرف عليها حسيًا خاصة عبر اللمس يدفعه في ذلك «الجدة، الغرابة، التعقيد»، ويميّز الكاتب ههنا بين نوعين من الاستكشاف: خارجي وداخلي.
ينظر شاكر عبد الحميد إلى لعب الأطفال على أنّهُ سلوك استكشافي باعتبار أن الطفل يبحث عن كل جديد خلال ما يمارسه من ألعاب، هذا السلوك الذي سرعان ما ينتقل من اللعب متّجهًا نحو التفضيل الجمالي والإبداع، وذلك التطوّر قرين التطور العمري لدى الفرد.
يستعرضُ الكاتب أهم النظريات السيكولوجية التي اهتمت بمسألة ارتقاء التفضيل الجمالي عبر العمر وهي نظرية جاردنر، الذي اعتبر أنّ الارتقاء الجمالي يتحقّق عبر مراحل متتابعة حصرها في خمس مراحل، تمتدُّ الأولى من الفترة التي تعقبُ الولادة إلى عمر السنتين، وتعتبر مرحلة اكتشافٍ بصري للأشكال والألوان والأشخاص، وتُعدُّ هذه المرحلة في نظره مرحلة تأسيسيّة يكتسب خلالها الطفل أبجديات وأساسيات الإدراك عامة والإدراك الفني على وجه الخصوص. وتمسح الثانية الحيز العمري الفاصل بين سن الثانية والسابعة، وخلال هذه الفترة تنطلق عملية التذوق الفني للموسيقى والقصص والمسرحيات والأشرطة الكرتونيّة لكن دون قدرة على تبرير تفضيلهم أمرًا على آخر؛ فيكون ميل الطفل خاصة في هاته المرحلة إلى الأعمال الفنية الأكثر جاذبية من الناحية الظاهرية دون غيرها. في حين تشمل المرحلة الثالثة الفترة العمرية بين السابعة والتاسعة في هذه المرحلة يبدأ الطفل في إخضاع ما يشاهده من رسومات وأعمال إلى صرامة نقدية تتواءم وقدراته الإدراكية؛ فيُخضع ما يشاهده وما يتراءى له إلى معيار المماثلة/ المشابهة أي إلى أي حدّ يتطابق هذا العمل مع الأمر الذي يُحيلُ عليه ويُجسّده. أما المرحلة الرابعة فتمتدّ بين سن التاسعة والثالثة عشرة، وتتّسم هذه المرحلة بنمو إدراك الطفل ونفاذه إلى أبعاد ومرامي ما يشاهده أو يسمعه أو يقرأه ويولي اهتمامه أكثر إلى الجوانب المضمونية مُنصرفًا عن الجوانب الشكلية البسيطة المألوفة. أما المرحلة الخامسة فهي مرحلة المراهقة التي يجعلها جاردنر تمتدّ من الثالثة عشرة إلى العشرين؛ حيث يصير خلالها الفرد أكثر وعيًا بنسبية الأحكام الجماليّة وينشأ لديه ضرب من التمييز النقدي الذي سرعان ما يتطور من الأحكام المعيارية الخاصة إلى التقييم الصارم بطرح أسئلة وإشكالات تنمُّ عن فهم وإدراك عميقين.
ينتقل الكاتب إثر ذلك إلى تناول ثلاثة مجالات أساسيّة من مجال النشاط الفني، وهي الفن التشكيلي، والموسيقى، والأدب، في علاقتها بالتفضيل الجمالي لدى الأطفال.
ينطلق شاكر عبد الحميد من التجارب والدراسات العلمية التي اُجريت على الأطفال منذ الأيام الأولى بعد الولادة إلى مراحل الطفولة المتقدّمة، ليدرس تطور التفضيل الجمالي في الفن التشكيلي، فيرى بأن مسألة تفضيل الألوان تنطلق منذ أسبوعين بعد فترة الولادة وتستمر إلى سن الخمس أو ست سنوات عندما يتعلم الطفل أسماء تلك الألوان ويصير قادرًا على التمييز بينها، وقد استنتج الكاتبُ انطلاقًا من مخرجات الدراسات العلمية في هذا الموضوع أن ارتقاء التفضيل الجمالي للفن التشكيلي لدى الأطفال تمر بمراحل ثلاث: من سنّ الخامسة إلى السابعة وتقوم عملية التفضيل الجمالي في هذه المرحلة على اللون والموضوع، من سنّ السابعة إلى الحادية عشرة تقوم على أساس التمثيل الواقعي والتضاد وهارمونية الألوان ووضوح التمثيل أو نقائه، ثم ابتداءً من الثانية عشرة يظهر الاهتمام بالأسلوب والتكوين والأثر الوجداني المدرك.
أما بخصوص التفضيل الجمالي للموسيقى فيرى شاكر عبد الحميد أن عملية التذوق الموسيقي، تبدأ منذ الأشهر الأولى بعد الولادة بالتفات الرضيع نحو مصدر الصوت ثمّ وخلال السنتين الأوليين، يبدأ تفاعل الطفل مع الموسيقى بالاهتزاز وتحريك يديه ورجليه والتصفيق، ثم بين سن الرابعة والسادسة تبدأ عملية الترديد وإعادة الألحان الموسيقية واللعب الرمزي بالموسيقى (إحداث تغييرات في كلمة الأغنية مع الحفاظ على اللحن)، ثم التأثر بالموسيقى والاندماج معها. وقد تبيّن الكاتب من خلال ما اُجري من تجارب أن ذروة التفاعل مع الموسيقى والانغماس معها يتحقّق خلال فترة المراهقة.
وبالنسبة للتفضيل الجمالي والأدبِ يرى شاكر عبد الحميد أن هذا الارتقاء يتحقّق من خلال ارتقاء اللغة لدى الطفل، فتبدأ المرحلة الأولى بميل الطفل إلى كل ماهو فكاهي ومسلٍّ، ثم ينتقل إلى إعادة بعض الجمل وتكرارها كمحاولات إنتاج أولية وتنطلق عمليات الاستجابة الأولية مع القصّة والشِّعر بخبرات انفعالية، ويبدأ في إنشاء نصوصه الخاصة به.
الفصل الثامن
ينطلق الكاتب في هذا الفصل بتعريف التصوير مبيّنًا الفرق بينه وبين فنّ الرّسم، فالأوّل يتمّ بالخطّ أما الثاني فقوامه التلوين. مبرزًا ما شهده فنّ التصوير من تحوّلات وتطوّر وما كان يحكمه في كلّ مرحلة من معايير توجّهه نحو مناحٍ وتوجّهات بعينها. ويتطرّق إثر ذلك إلى أهمِّ الحركات المعاصرة في الفنون البصرية مُشيرًا إلى التحولات الهامة التي شهدها الفن والتذوق الجمالي للفن التشكيلي؛ إذ أصبحت الفنون بمختلف أصنافها تعبيرًا عن مشاغل الفنانين واهتماماتهم واستقلت تمامًا عن الكنيسة. إضافة إلى أن ظهور آلة التصوير أحدث نقلة نوعية هامة وبارزة في رسم البورتريه ناهيك عن تتالي ظهور المدارس الفنية المعاصرة التي جاءت مُبشّرة بميلاد أفكار ونظريات فنية جديدة. لينتقل إثر ذلك إلى دراسة العناصر المتحكمة في عملية التفضيل الجمالي للفن التشكيلي فيستعرضُ أبرز الدراسات السيكولوجية التي اُجريت على التفضيل الجمالي للألوان والأشكال البسيطة والمركّبة، ويناقشُ في الأثناء بعض سمات الشخصيّة في ذلك كميل الشخص البسيط لكل ماهو بسيط عادي وميل الشخص المركّب للأشكال المركّبة المعقّدة. إلى جانب العوامل الاجتماعيّة والثقافيّة وأثار الخبرة والتدريب في عملية التفضيل.
الفصل التاسع
يدرس الكاتب في هذا الفصل مسألة التفضيل الجمالي والموسيقى، يبدأ الكاتب هذا الفصل بتعريف الموسيقى ووظائفها، فيعتبرها لغة كسائر اللغات الحيّة الأخرى مشيرًا إلى أهمّ وظائفها ومكوّناتها وهي: الدرجة الصوتيّة أو طبقة الصوت وطابع الصوت والإيقاع.
ثم يمُرُّ إلى مسألة الأذواق الموسيقيّة فيُشير إلى تباينها وتنوعها من شخص إلى آخر حسب النوع الاجتماعي (ذكر/أنثى)، حيث يميل الذكور عادة إلى الموسيقى العنيفة والخشنة في حين تميل الإناث إلى الموسيقى الناعمة والرومانسية، وتلعب عملية التنشئة الاجتماعيّة دورًا هامًا في تكريس ذلك وترسيخه في ذهن الفرد، والعمر حيث يميل المراهقون إلى ضروب خاصة من الموسيقى ويختلف عنهم الشباب والكهول في ذلك، إضافة إلى الطبقة الاجتماعية والاقتصادية فلأبناء العامة موسيقاهم، ولأبناء الطبقة الأرستقراطية ألوانهم الموسيقية التي يجدون فيها أنفسهم إلى جانب العوامل العرقية والإثنية نضرب أمثلة على ذلك: موسيقى السود، وموسيقى الهنود.
الفصل العاشر
يتمحور هذا الفصل حول التفضيل الجمالي والأدب، ويشرع الكاتب خلال هذا الفصل في تعريف الأدب الذي يُعرفه بأنه كل ممارسة إبداعيّة من شِعر، سرد، ومسرح، ثم يُفصّل القول في كل جنس من أجناس الكتابة مُفيدًا في ذلك من النظريات الأجناسية التي قيدت كل ضرب من ضروب الكتابة بجملة من القيود والضوابط، مبرزًا ما بين هذه الأنماط الكتابية من فوارق أو صلات، ثمّ يستعرضُ إثر ذلك الصلات الممكنة بين علم النفس والأدب التي يحدّدها في ثلاث طرق: ما تعلّق بالأديب (الباث/المتلفّظ)، ما تعلّق بالخطاب (الملفوظ/ الرسالة)، ما تعلّق بالقارئ (المستقبل).
أما في الجزء الثالث من هذا الفصل، فيُشير الكاتبُ إلى أهم الجهود السيكولوجية المبذولة في مضمار العلاقة بين الأدب والتحليل النفسي وما لاحظه بعض الباحثين من تطور في العلاقات بين الأدب والتحليل النفسي، ثم يتطرّق إلى محاولة وضع حد فاصل بين البعدين الفني (ما تعلق بإنشائية العمل والمؤلّف)، والجمالي (ما تعلق بتلقي النص والمتلقي).
وفي سياق دراسته لمسألة التفضيل الجمالي يعرضُ الكاتب لإشكالية المنحى الموضوعي، والتفضيل الجمالي ويشير إلى المنحى الموضوعي لدراسة الأدب، الذي يتعامل مع الحقائق القابلة للملاحظة والقياس داخل النص الأدبي أو خارجه، إلا أن شاكر عبد الحميد لا يستسيغ هذا المنحى لما يراه في الأدب من رهافة وخفة تمنع استجابته لهذه القياسات وخاصة عندما يتعلق الأمر بالانفعالات والمشاعر كالحبّ والكراهية، ويحتج على ذلك بالتجربة التي قام بها ريتشارد مع بعض طلابه عندما قدّم لهم مجموعة من القصائد وطالبهم بتسجيل استجاباتهم. فتبيّنَ أنّ الانفعالات تتغير بتغير الفرد ولعل ذلك ما يفسر أن العديد من المتقبلين يتفاعلون مع القصائد الانفعالية الحماسية دون غيرها من الشِّعر العقلي التصويري، ولا يقتصر المؤلف على جهور ريتشارد دون غيره بل ينوّهُ بالجهود التالية لهُ كـبرات، وكامان.
الفصل الحادي عشر
يهتمّ المؤلف في هذا الفصل بفنون الأداء على غرار المسرح والسينما؛ فيُعرّف مصطلح الأداء وصنوفه ويقتصر على مجالي المسرح والسينما.
ينقسم هذا الفصل إلى عنصرين أساسيين:
أوّلًا جماليات التلقي في المسرح
يُشير المؤلّفُ إلى جوهر عملية التلقي لا يقوم على التوقعات والانفعالات بل تتطلب –عملية التلقي- مشاركة فعالة من المتلقي، وهذه المشاركة تظهر من خلال نظرية العاملين حول الفكاهة التي يقترحها جلين ويلسون، فـأثناء عرض المسرحية يتعاطف المشاهد مع الممثل سواءً أكانت سارّة أو مقلقة؛ ذلك أن الخبرة التي يشعر بها هي خبرة بديلة.
ثانيًا التفضيل الجمالي والسينما
يحاول المؤلف في هذا العُنصر مقاربة مصطلح السينما وأنواعه المختلفة وأهم مكوناته كاللقطة والمونتاج، مبرزًا أهم وظائف السينما من خلال الإجابة عن سؤال لماذا يتوجه الناس إلى السينما؟ ويعمق في الأثناء النظر حول مسألة تفضيل المتفرج أحد أنواع الأفلام عن الأخرى فيذكر أنّ هذا الأمر كان شائعًا منذ القدم عندما كان يتوجه الناس لمشاهدة حلبات المصارعة حيث كانت الحيوانات الضارية تفترس الإنسان، أو حضور عمليات تنفيذ حكم الإعدام في الساحات العامة، وتطور الأمر في العقود الأخيرة لتصير السينما وسيطًا مرئيًا يلتذّ الإنسان بمشاهد العنف والقتل التي تبثّها الأفلام مع المؤثرات البصرية والسمعية التي تُضفيها على مادة العمل، وقد فسّر الباحث ذلك إمّا بالنزعة السادية التي ينطوي عليها الكثيرون، أو دور هذه الأعمال السينمائيّة في تمكين الإنسان من مواجهة الخوف والسيطرة على مشاكل واقعه والتأقلم مع ما يحكمه من عنف، أو ببحث المشاهد عن الإثارة، أو دفعًا للملل.
الفصل الثاني عشر
يتمحور هذا الفصل حول الجماليات البيئيّة، ويُقصد بها الأماكن الطبيعيّة أو المنشآت المعماريّة وتمثل الجماليات البيئية أو علم الجمال البيئي حسب الكاتب حالة من التفاعل العلمي الخاص المتميز بين مجالين من مجالات البحث، هما: الجماليات التجريبية، وعلم النفس البيئي، حيث يستخدم هذان المجالان في مناهج البحث العلمي المناسبة للمساعدة في تفسير العلاقة بين المثيرات الطبيعية والاستجابات الإنسانية.
الخاتمة
يُعتبر كتاب «التفضيل الجمالي»، لصاحبه شاكر عبد الحميد، لبنة هامة من لبنات البحث في حقل علم الجمال، وهو ثمرة قراءات متأنية في مجال علم النفس بمختلف مدارسه وتياراته، وما يحسب لصاحب الكتاب توظيفه مقاربة طريفة وجادة ألا وهي مقاربة التحليل النفسي لمحاولة تشريح أسباب إقبال/ نفور المتلقي للعمل الفني مرئيًا أو مسموعًا أو حسيًا بعيدًا عن القراءات الكلاسيكية المستهلكة التي ظلت ترابط ضمن نفس دائرة النتائج.
لقد وُفّق شاكر عبد الحميد في تحقيب مراحل تطور مسألة التفضيل الجمالي للفنون كافة، كما نوّع في مدارس التحليل النفسي؛ فنلحظ توظيفه لعلم نفس الطفل، وعلم النفس السلوكي، والتجريبي. كما أنه ينهل من جلّ النظريات والأطاريح والأفكار، ويُحسن تطبيقها على شتى الفنون الجميلة، ما جعل من هذا الكتاب موسوعة حقيقية وعدّة للباحث لا غنى عنها.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير 1978، ص 9.
[2] المصدر نفسه، ص 14
[3] المصدر نفسهُ، ص 15
[4] المصدر نفسه، 35
[5] المصدر نفسه، ص 45
[6] المصدر نفسه، ص 58
[7] تكونت في القرن الثالث مبنية على تعاليم أفلاطون وتابعيه الأوائل. ويعد أفلوطين وأستاذه أمونيوس سكاس من المساهمين الأوائل في تلك الفلسفة.
[8] شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، ص 78
[9] المصدر نفسه، ص 80
[10] المصدر نفسه، ص 81
[11] المصدر نفسهُ، ص 84
[12] المصدر نفسه، ص 87
[13] المصدر نفسه، ص ص 89-90
[14] المصدر نفسه، ص 94
[15] المصدر نفسهُ، ص 107
[16] المصدر نفسه، ص 110
[17] المصدر نفسه، ص 114
[18] المصدر نفسه، ص 140
[19] المصدر نفسهُ، ص 141
[20] المصدر نفسه، ص 142
[21] المصدر نفسهُ، ص 184
[22] المصدر نفسه، ص 189 (مع تعديلات توضيحية).
[23] المصدر نفسهُ، ص 213