أنا أشير للقمر، والأحمق ينظر لشهادتي الوهمية – حسين إسماعيل
يناقش الكاتب الإشكاليات التي تحيط بثنائية الشهادات الحقيقية / الوهمية، من خلال معاينة الافتراضات المتضمنة في المفاهيم السائدة حول الشهادة والتعلم والكفاءة.. كما يلفت الانتباه إلى تعسف منظومات العمل، وإلى أن الشهادة قد تكون وسيلةً للإقصاء وليست مؤهَلًا وحسب!

أبدأ بالإجابة على السؤال المحتمل بذهنك: كلا، لا أحملُ شهادةً وهميةً ولا أعتزم الحصول على واحدة. والحقيقة أني كنتُ حتى فترةٍ قريبةٍ أعتبرها بمختلف أنواعها ضربًا من الاحتيال والنصب، وانتحالًا لما يُجاهد الكثير من الناس في سبيل نيله بمشروعيّة. بل اعتبرتها أيضًا إحدى علامات الكسل والتقاعس عما يُفترض على الفرد المرور به من أجل بلوغ المراتب العليا. لطالما مثّلت الشهادة بالنسبة لي وسيلة مصداقيّةٍ؛ فهي الحد المائز بين العالم والجاهل، بين الفاهم والساذج، وبين صاحب العزيمة وفاقدها.
أقولُ “حتى فترةٍ قريبةٍ” لأن نظرتي تجاهها تغيرت جذريًا. لم أعدْ أختزل الصراع بين ثنائيات العلم والجهل أو النشاط والكسل أو ما شابهها. ولم أعدْ أعتبرها أيضًا وسيلةً للخداع بقدر كونها حلًا لا مناص منه أحيانًا لمواجهة نظام تعسفيٍّ. ففي نظام محاصصةٍ يدّعي المفاضلة على أسس المؤهل والكفاءةِ مواريًا وراءها تكريسًا لأجندة الفصل الطبقيّ والعنصريّ بمختلف أنواعها، تبدو الشهادة الوهمية وسيلةً منطقيّةً للتحايل على ذلك النظام ودخول معمعة الصراعِ فيه. لكني أستبق نفسي بهذا الكلام. لأني أدرك ما يترتب على هذا الكلام أو ما قد ينتج عنه من سخطٍ واستنكارٍ، فأنا ملزمٌ بأخذ خطوةٍ للوراء وتوضيح بعض الإشكاليّات الرئيسية.
تتعلق إحدى الإشكاليّات بتعريف الشهادة الوهميّة بحد ذاته. في هذه المقالة، سأستخدم مصطلح الشهادة الوهمية للإشارة لأي شهادةٍ يتحصّل عليها الفرد عبر مؤسسةٍ تعليميةٍ غير معتمدةٍ دوليًا ودون الإتيان بمتطلبات إتمام تلك الشهادة. بعبارةٍ أخرى، هي شهادةٌ أو وثيقةٌ جوفاء تفتقر للحصيلتين المنهجية والمعرفية اللتين يُفترض أن حامل مسمّى الشهادةِ ملمٌّ بهما فعلًا. وبما أن الحصول على شهادةٍ وهميةٍ ممكن مقابل مبلغٍ ماديٍّ دون الخوض في معمعة مشاريع التخرج أو الأبحاث أو ما شابه، ليس من العجب أنها موصومةٌ بالخداع والاحتيال والتقاعس.
لكن الشهادةَ الوهمية ليست قائمةً بذاتها. يُقابلها بطبيعة الحال شهادةٌ حقيقيةٌ، شهادةٌ تمنحها مؤسسةٌ تعليميةٌ معتمدةٌ مقابل إتمام متطلباتٍ معينة. وعلى عكسِ الطرق الملتوية التي يتحصّل بها الفرد على الشهادةِ الوهمية، يُفني الفرد لياليه وأيامه في سبيل الحصول على الشهادة الحقيقيّة وتحقيق أحد أحلامه ربّما. فالشهادةُ ليست حقيقيّةً في كونها معتمدةً وحسب، بل في أنها تُمكّن الفرد من فهم إحدى زوايا العالم بشكلٍ أكبر، في أنّها تخضع الفردَ لأسسٍ منهجيّةٍ وعلميّةٍ متسقة، بل في أنها تؤهل حاملها لدخول سوقِ العمل وتطوير ذاته والمشاركةِ بإبداعاته كذلك.
فيما لا أقولُ إن وجود كل هذه الخصائص ضروريٌّ عند حملة الشهادات الحقيقية، من الصعب ادعاء أن مثل هذه التصورات عن الشهادة وحاملها غير شائعة. تبلغ التصوراتُ حدًّا يجعل المقابلة بين التعلم والتحضّر أو بين الشهادة والكفاءة أمرًا بديهيًّا. وجود أحد الأطراف يقتضي وجود الآخر. ولا شكّ أنك سمعت يومًا ما بأشياء من قبيل “متعلم ويسوي كذا!” ردًّا على تصرفٍ يستهجنه القائل، أو “مهندس وما تعرف هالشيء!” استنكارًا لجهل حامل شهادة هندسةٍ أمرًا ما.
أنطلق من هذه البديهيّات ومثيلاتها للتساؤل على شرعيّتها وشرعيّة ما يُبنى عليها. من خلال معاينة الافتراضات المتضمنة في المفاهيم السائدة حول الشهادة العلميّة بشكلٍ عام، يمكن تسليط الضوء على مفهوم الشهادةِ بحد ذاته بالإضافةِ للعلاقات المرسومة بينها والمفاهيم الأخرى كالتعلّم والكفاءة وغيرها. تنطلقُ هذه المقاربة من فرضيّة أن إخضاع البديهيات للمساءلة كفيلٌ بإماطة اللثام عن نسبية الأوهام الاجتماعية المتوارية خلف ثوابتها. بعبارةٍ أخرى، من شأن التساؤل عن ماهيّة تلك البديهيات والعلاقات بينها أن يكشف عن تاريخانيّة أسسها، أي ارتباط أُطُر المعاني ببنىً اجتماعيّة متغيرة جوهريًّا. نتيجةً لعملية إعادة الصياغة هذه، لن تبدأ الأسئلة من حدود العلاقات بين المفاهيم بقدر ما ستبدأ من المفاهيم نفسها ومن شرعيّة العلاقات المرسومة بينها.
ما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة لموضوع المقالة؟ يعني أولًا أن التساؤل سيبدأ من معنى الشهادة أو ما تمثله. لا يمكن بطبيعة الحال اختزال كل زوايا الموضوع ببضعة سطور، ولكن يمكن على الأقل تقديم لمحةٍ بسيطةٍ للافتراضات التي تنطلق منها المقالة.
كما ذكرتُ أعلاه، الشهادة وثيقةٌ تمنحها مؤسسةٌ تعليميةٌ معتمدةٌ لإثبات أن حاملها قد اجتاز متطلباتٍ معيّنة. يكمن الفارق الرئيسيّ بين الشهادتين الحقيقية والوهميّة في اعتماديّة المؤسسة التي تمنح الشهادة، مما يعني بالضرورة أن متطلبات إتمام الشهادة متوافقةٌ مع معايير مستقلة عن المؤسسة بحد ذاتها. أين الإشكال إذن؟ في الحاجة للشهادة.
باتت الشهادة ركنًا أساسيًّا من أركان سوق العمل لدرجة أنها مرادفةٌ اليوم للوظيفةِ بشكلٍ أو بآخر. أنا أحصل على الشهادة لكي أحصل على وظيفة، وبما أني أحمل شهادةً فمن المفترض أن أحصل على وظيفة. ليس من الصعب إدراكُ أن هذه الفكرة مقترنةٌ هي الأخرى بفكرة التأهيل؛ حامل الشهادةِ في مجالٍ ما “مؤهلٌ” لأن يعمل فيه. هذا يعني أيضًا أن حامل الشهادة يمتلك كفاءةً في مجاله، فلولا هذه الكفاءة المزعومة لما استطاع إتمام المتطلبات.
من الطبيعي وسط هذه التصورات أن يبدو الصراع بين حملة الشهادات الحقيقية والوهميّة صراعًا حول وجود التأهيل والكفاءة من عدمهما. يستميتُ حملة الشهادة الحقيقية -بمبررٍ منطقيٍّ طبعًا- في كشف زيف مؤهلات من يشغل وظائف هم أولى بها، فهم يمتلكون الكفاءة والمؤهل اللذين يفتقر لهما حملة الشهادة الوهميّة. لكن الأمر في الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك. صحيحٌ أن للشهادة عوائد كثيرة، لكن هل تمثّل بالفعل كل ما يقال إنها تمثله؟ هل يمكن المقابلة بينها والكفاءة دون أي اعتباراتٍ أخرى؟
ذكرتُ أن الشهادة الحقيقيّة تُشرعن اجتياز حاملها لمتطلبات معينة، ولكنها لا تعطينا أي انطباعٍ فعليٍّ عن الكيفية التي اجتازها بها. لا تقدم الشهادة وحدها أي إيحاءٍ عما إذا كان الفرد مؤهلًا أو كفؤًا فيما اجتازه. هذا يعني أن اللجوء إلى المعدّل لرفع بعض اللبس أمرٌ لا مناص منه، خصوصًا وأن المعدّل العالي عند الغالبية مرادفٌ للنبوغ والتفوق والكفاءة. لكن ذلك يجعلنا في الحقيقة نقع في معضلةٍ أخرى: هل ارتفاع المعدل ناتجٌ عن تفوق الفرد في مواد تخصصه أم عن قدرته على موازنته بمواد “سهلة”؟ وبالإضافة لذلك، كيف نعرف ما إذا كان الفرد قد تحصل على تلك الدرجات بنفسه أم أنه لجأ لوسائل تُسهّل عليه الحصول على الدرجات العالية؟
لا يمكن بالطبع إلغاء مثل هذه المعضلات من مفهوم الشهادة. بما أنها تُمثّل اجتياز حاملها لمتطلبات معينة فمن المنطقي أن التساؤل حول كيفية اجتياز تلك المتطلبات سؤالٌ مشروع. من المستحيل تناول مثل هذا السؤال دون التطرق لمسائل أخرى من قبيل العلاقة بين التفوق والذكاء أو الكفاءة والحصول على درجات عالية مثلًا، إذ أن كلًا منها يتطلب بحثًا خاصًّا فيما يتعلق بالافتراضات المتضمنة فيه.
وفوق كل ذلك، بفرض أننا توصلنا لاتفاقٍ مبدئيٍّ حول تلك المفاهيم، فمسألة التأهيل تُعيدنا لنقطة البداية. ليس من الضروري أن تكون الشهادة مؤهلًا لمسؤوليات وظيفةٍ ما. بعبارةٍ أخرى، قد لا تتعدى الشهادة كونها جزءًا من عملية تأهيلٍ تتدخل فيها عوامل أخرى كالخبرةِ والإلمام بلغات أخرى والقدرة على استخدام أجهزةٍ أو برامج معينة.
تُشكّل هذه الإشكاليات جزءًا بسيطًا مما يتعلق بدور الشهادة في عصرنا. بالرغم من وجودها، تُهمَّش هذه الإشكاليّات في سبيل التركيز على الأدوار الإيجابية للشهادة. في هذا السياق، تصبح الشهادةً وسيلةً للصعود على السلمين الاجتماعي والوظيفي، وسيلةً لتحسين جودة الحياة على مستوى الأفراد، ووسيلةً لفهم العالم بشكل أكبر.
لكن هذا الدور الإيجابي غير قائمٍ لوحده. للشهادةِ دورٌ سلبيٌّ أيضًا ؛ فهي تذكرةٌ لا بد منها للانخراط في بعض مجالات سوق العمل، أي أن هذه المجالات مغلقةٌ عمن لا يحمل الشهادة. هذا يعني أن الشهادة ليست مؤهلًا وحسب، بل وسيلةً للإقصاء أيضًا، وسيلةً لإبعاد شريحةٍ معينةٍ عن المنافسة على الموارد المحدودة المتاحة. ولا يعني هذا تمييزًا بين حملة البكالوريوس أو الماجستير أو غيرها بقدر ما يعني التمييز بين من حظي بفرصة ارتياد مؤسسةٍ تعليميةٍ ومن لم يحظ بها، بين من تهيّأت له ظروف الالتحاق بجامعةٍ ومن لم تتهيأ له.
وسط كل هذه التشابكات، تبدو الشهادة الوهميّة حلًا سهلًا لمواجهة النظام، وطريقًا مختصرًا لأجل دخول الصراع دون القلق بشأن كل المتطلبات التي تهيّء لدخوله، بل وسيلةً مثلى لتجاوز العقبات التي يضعها النظام في سبيل التدرج فيه. تبدو الشهادة أيضًا وسيلةً للنخر بنظامٍ يستميت في إغلاق الأبواب أمام الأقل حظًّا، إذ لا يمكن إغفال ما يجنيه الأفراد من تراكم الصدف السعيدة التي أقبلوا للحياة بوجودها.
يُمكن بالطبع تصوير الصراع على أنه صراعٌ بين أفرادٍ اجتهدوا وكافحوا لنيل الشهادة وأفراد كُسالى، أي أنه صراعٌ بين من أخذوا على عاتقهم نيل الشهادات العليا ومن قرروا سلوك طرق الراحة المختصرة. هاتان الصورتان مما أرستْ وسائل الإعلام العالميّة دعائمهما لأغراض آيديولوجية معيّنة، كجعل الفوارق الطبقيّة “طبيعيّة” إن صح التعبير. لكن الحقيقة مغايرةٌ لهذه التبسيطات الساذجة. يُقبل كلٌّ منا على الحياة وسط ظروفٍ لم يخترها بنفسه، وفي مواجهة تحدياتٍ لم تكن بالضرورة من صنعه. بل أننا جميعًا نبدأ اليوم الدراسي الأول ممتلكين رأسمال ثقافيٍّ خاصٍّ بنا، رأسمالٍ يدخل في تكوينه حصيلتنا اللغوية وإلمامنا بمبادئ المواد الدراسية وقدرتنا على اتباع نظامٍ معينٍ والتعبير عن أنفسنا داخله. كل هذه العوامل تتأثر بالعائلة التي ننشأ في كنفها، بما حظيت به تلك العائلة من فرصٍ قبل مجيئنا وهكذا دواليك. من السذاجة افتراض أننا نُقبل على سنين الدراسة سواسية، ومن السذاجة افتراض أن أداءنا الدراسي مرهونٌ بذكائنا أو جهدنا بمعزلٍ عن الظروف الاقتصادية/الاجتماعية التي يعيشها كلٌّ منا. من الظلمِ افتراض أن الجميعِ حظي بذات المميزات التي حظينا بها أثناء نشأتنا.
لا يعني كل ذلك أن الشهادات الوهمية بلا أخطارها طبعًا. من الحماقة مقارنة شهادةٍ وهميةٍ في مجالٍ يتعامل بشكل مباشر مع حياة الناس بشهادة في مجالٍ لا علاقة له بها من قريبٍ أو بعيد؛ أن أمتلك شهادة وهميةً في الأدب الإنجليزي لا يوازي خطر شهادةِ صيدلةٍ وهمية مثلًا. ومن الحماقة أيضًا افتراض أن كل حامل شهادةٍ غير مؤهلٍ أو أن حامل الشهادة الوهمية مؤهلٌ بالضرورة. وكما يلمح عنوان المقالة، من الحماقة أيضًا تحميل الشهادة (سواءً معتمدةً أو وهمية) أكثر مما تحتمل. وفوق كل ذلك، من الضروري ألا ننجر وراء التعميم المماهي لخصوصيّة كل حالةٍ ولتَفَرّد الظروف. ترويج دعاية النظام انتصارٌ لا لأغراضه وحسب، بل لهيكلته للمعاني كذلك.
والحقيقة أن الدافع الأساسي وراء كتابتي لهذه المقالة هو ما شاهدته في تويتر تحديدًا من حملات تهدف للنيل ممن أضافوا لسيرهم الذاتية شهادات وهمية بحجة أنهم غير أكفاء ولا مؤهلين للوظائف التي يشغلونها. وفيما بدا هذا الاتهام صحيحًا في أحيان كثيرة، جانب الصواب في أحيان كثيرةٍ أخرى. ما يحدد كفاءة أو تأهيل الفرد في وظيفته هي قدرته على أداء المهام المناطة به، قدرته على إنجاز ما هو مُتوقع منه في منصبه. فيما تُسهم الشهادة في تجهيزه لتلك المهام، لا يمكن اختزال الأهلية والكفاءة في وجودها وحسب، ومن الضروري تجاوز ثنائية الشهادات الحقيقية/الوهميّة لفهم الصراع والواقع بشكلٍ أفضل.