يعتبر هذا النص من الكتابات المؤسسة لمنحى أنثربولوجي لم يكن معروفاً حتى بدايات هذا القرن. صحيح أن إرهاصاته الأولى نجدها بشكل واضح في الولايات المتحدة، باعتبار أن الفكر الأمريكي، بطابعه المغامر، أكثر تحرراً من العقلانية ومن الوضعية ومستتبعاتهما الفكرية والمنهجية من الفكر الفرنسي ونظيره الإنجليزي. بيدَ أن عالم الاجتماع والأنثربولوجي الفرنسي -دافيد لو بريتون- David le Breton (من مواليد 1953)، الذي عرفه العرب من خلال ترجمة كتابه سوسيولوجيا الجسد، وأيضاً من خلال ترجمتنا لكتابيه: تجربة الألم والصمت لغة المعنى والوجود، سوف يتنطع للتنظير لأنثربولوجيا الحواس انطلاقًا من منظور موسوعي تتقاطع فيه الأنثربولوجيا مع البيولوجيا مع الفلسفة والتاريخ.
الأمر يتعلق إذاً بمبحث جديد قد يتلاقى مع أنثربولوجيا الجسد، غير أنه يستقل عنها بمباحثه الدقيقة وبالتجارب العصيّة أحيانا على التقويم، المتصلة باللمس والبصر والشم والذوق والسمع… ومن هذا المنظور تكون أنثربولوجيا الحواس وأنثربولوجيا الجسد مَسعيين علميين جديدين يخرجان الأنثربولوجيا والعلوم الاجتماعية من القضايا الكبرى نحو الاهتمام بمسائل دقيقة ويومية وذاتية، تمنحنا في نهاية المطاف مدخلاً مباشراً لأنثربولوجيا ثقافية شاملة، تكون تركيباً بين هذه المباحث.
المترجم
الحواسّ تصنع العالم[1]
ليس لدى الإنسان من سبيلٍ آخر للوجود غير الإحساس بالعالم، وأن يظل عرضة لعمليات اختراقه ولتغيراته. العالمُ انبثاقٌ لجسم يخترقه، إذ أن ثمة حركة دائبة تتم بين الإحساس بالأشياء والإحساس بالذات. فقبل الفكر ثمة الحواس. والقول مع ديكارت: “أنا أفكر إذن أنا موجود”، يعني تجاهل الانغماس الحسي للإنسان في العالم. أما قولنا “أحس إذن أنا موجود” فهي طريقة أخرى للقول بأن الشرط الإنساني ليس كله روحانياً، وإنما هو قبل كل شيء جسدي. تفترض أنثربولوجيا الحواس الانصياع للانغماس في العالم، أي أن يكون المرء داخله لا أمامه، من غير أن ينفصل عن الحسّية التي تُغذّي الكتابة والتحليل. الجسد فورانٌ للمحسوس؛ وهو يندرج في حركة الأشياء ويمتزج بها بكامل حواسه. وبين بدن الإنسان وبدن العالم ليس ثمة من قطيعة، وإنما ثمة استمرارية حسية دائمة الحضور. والفرد لا يعي بذاته إلا من خلال فعل الإحساس، وهو يحس بوجوده بالأصداء الحسية والإدراكية التي لا تكفُّ عن اختراق كيانه.
البدايةُ السريعةُ للإحساس تكسِّر رتابة الشعور بالذات. والحواس عبارةٌ عن مادةٍ تَصْنع المعنى؛ وهي في وجودها على خلفية عالمٍ لا ينضب عن السّيلان، تشكّل تكتُّلاتٍ تمكِّن من جعل ذلك العالم معقولاً. قد نتوقَّف عند إحساسٍ يكون له معنى أكثر من الإحساسات الأخرى بحيث يفتح أسرار الذكرى أو الحاضر، غير أن الجمَّ الوفير من المحفِّزات تخترقنا في كل لحظة وتنزلق في مجْرى اللامبالاة. إن صوتاً أو نكْهةً أو وجهاً أو منظراً أو عطْراً أو تماسّاً جسدياً يفتح أمامنا الإحساس بالحاضر وينعش وعياً بالذات يكون غافياً طيلة اليوم، إلا إذا كان المرء منتبهاً باستمرار للمعطيات المحيطة به. العالم الذي نعيش فيه يوجد من خلال البدن الذي يسير نحو لقائه.
ليس الإدراك تساوُقاً مع الأشياء وإنما هو تأويل. وكل إنسان يسير في عالم حسي يرتبط بما بلورت به حكايتُه الشخصية تربيتَه الخاصة. الأشخاص المختلفون، وهم يعبرون الغابة نفسها، لا يكونون حسّاسين للمعْطيات نفسها؛ فثمة غابة الباحث عن الفطْريات، وغابة المتجوّل، وغابة الهارب، وغابة الهنْدي، وغابة القنّاص، وغابة حارس الغابة أو قنّاص الحيوانات المتوحشة braconnier، وغابة العشّاق والتائهين وعلماء الطيور، كما ثمة أيضا غابة الحيوانات أو الشجرة وغابة الليل والنهار. إنها ألْف غابة في الغابة نفسها، وألْف حقيقة للّغْز نفسه الذي ينفلت منا ولا يمنح نفسه لنا إلا في شكل شذَرات. ليس ثمة من حقيقة للغابة، وإنما ثمّة العديد من الإدراكات التي تخصّها تبعا لزاوية المقاربة والانتظارات والانتماء الاجتماعي والثقافي.
من إدراك المحسوس إلى أنثربولوجيا الحواس
عالِمُ الأنثربولوجيا هو مستكشفُ هذه الفُرْشات المختلفة للواقع التي تتشابك. وهو أيضاً في آخر المطاف، يقترح تأويله للغابة، غير أنه يجهَد في توسيع نظرته وحواسه، كي يفهم هذا التوْريق[2] الذي يهم الواقع. إنه خلافا للآخرين لا يتجاهل القول الخافت أو النِّصفي عن الواقع. بَيْد أن عمله يتمثل في استكشاف هذه الترسُّبات المختلفة. وهو يعْرف، مُستعيداً قول الشاعر الفرنسي- أندري بروتون-: إن العالم “غابة من المؤشّرات” يختفي فيها واقع يُغذّي وجودَه البحثُ عنه. العالِم الأنثربولوجي هو إنسان المتاهة الباحث عن مركز محتمل لها. والتجربة المحسوسة تعود أوَّلا للدلالات التي يُعاشُ بها العالم، لأن هذا الأخير لا يمنح نفسه في أشكالٍ أخرى. فما إن يعتبرُ الناسُ الأشياء واقعية حتى تغدو واقعية في نتائجها، كما يقول- و. تومسون-.
إن إدراكاتنا الحسية، المتشابكة مع دلالات معينة، ترسم الحدود الغامضة للمحيط الذي نعيش فيه، وهي تُعبّرُ عن مداه وعن نكهته. كما أن عالم الإنسان هو عالم البدَن، وبناءٌ تولَّد عن حسِّيته التي تُصفّيها شروطه الاجتماعية والثقافية وتاريخه الشخصي وانتباهه لوسطه. الجسد، المنتصب بين السماء والأرض، باعتباره فرشةَ هوية الإنسان، هو المصْفاة التي بها يتملّك ماهية العالم ويجعلها ماهيته بواسطة أنظمة رمزية يتقاسمها مع أفراد مجموعته[3]. الجسد هو الشرط الإنساني للعالم؛ وذلك المكان، ذو الدَّفْق المستمر للأشياء، يتوقّف في صورة دلالات دقيقة أو في شكل أجواء، ويتحول إلى صور وأصوات وروائح وأنسجة وألوان ومناظر…. الخ. الإنسان في الرابطة الاجتماعية يُشارك لا فقط بحصافةِ فكره وأقواله وأفعاله، ولكن أيضا بسلسلة من الحركات والإيماءات التي تساهم في التواصل، من خلال الانغماس في الطقوس العديدة التي تتخلَّل سيولة اليومي. إن كافة الأفعال التي تشكل نسيج الوجود، حتى التي لا تُدرَك منها، تُدخل الجسد في وجيهته[4] .
الجسد ليس شيئا مُصطنعاً أو قالباً يحوي إنساناً عليه أن يمارس وجوده بالرغم من هذا العائق. إنه على العكس من ذلك، فبما أن الجسد في علاقة عناقٍ دائمة مع العالم، فهو يرسم دروبه ويجعل استقباله مِضْيافاً. “وهكذا، حين نُجاوز الفكرة المسبقة للعالم الموضوعي، فإن ما نكتشف ليس عالماً باطناً بهيماً”[5]. إنه عالمٌ من الدلالات والقيم، عالمٌ من التواطؤ والتواصل بين الناس الحاضرين وبين وسطهم.
كل مجتمع يرسم لنفسه هكذا “تجربة حسية” خاصة[6]. فإزاء لانهائيةِ الأحاسيس الممكنة في كل لحظة، يحدِّد كل مجتمع طرائق خاصة في إقامة اختياراته، واضعاً بينها وبين العالم عمليّة غرْبلة للدلالات والقيم، وموفِّراً لكل واحد التوجهات التي تمكّنه من الوجود في العالم والتواصل مع محيطه. وهو أمرٌ لا يعني أن الاختلافات تمارس التميز بين الأفراد، حتى داخل مجموعة اجتماعية لها الوضع الاعتباري نفسه. إن الدلالات التي تتصل بالإدراكات موسومةٌ بالذاتية: فأن يجد المرء مثلاً أن القهوة حلوة أو أن ماءَ البحرِ بارد، أمرٌ يثير أحياناً نقاشاً يُبين أن الحساسيات لدى هؤلاء وأولئك ليست متناظرة تماماً وتتمتع باختلافات دقيقة، حتى لو كان الفاعلون ينتمون للثقافة نفسها.
التجربة الأنثربولوجية وتحرير الحواس
تقوم أنثربولوجيا الحواس على فكرة أن الإدراكات الحسية لا تتمثل فقط في المظهر الجسماني بل أولاً في توجُّهٍ ثقافي يترك هامشاً للحساسيّة الفردية. فالإدراكات الحسية تُشكّلُ مرآةً متعدّدةً من الدلالات عن العالم، وهي خاضعة للتربية وتتفعَّل تبعاً للتاريخ الشخصي. كما أنها تختلف في المجموعة البشرية نفسها من فردٍ لآخر، غير أنها تتفق تقريباً على الأساسي. ففي ما وراء الدلالات الشخصية المندرجة في الانتماء الاجتماعي تبرُز دلالات أكثر شمولاً، ومنطقُ إنْسيّةٍ (خواصٍّ أنثربولوجية) تجمع بين أناسٍ من مجتمعاتٍ مختلفة في حساسيتها تجاه العالم.
تُعتبر أنثربولوجيا الحواس أحدَ السُّبلِ المتعددة للأنثربولوجيا، وهي تطرح علائق الناس من مختلف المجتمعات الإنسانية مع مسألة النظر والإحساس واللمس والسمع والذوق[7]. وبالرغم من أن الخريطة ليست هي الأرض التي يعيش فيها الناس، فهي تمنحنا المعلومات المطلوبة عنهم، وتذكِّرنا بخطوط القوّة وتقدم لنا مرآةً تحثُّ القارئَ على النظر أفضل لما يقرِّبه من الآخر ويُبعده عنه، وهكذا تعلِّمه من منعطف لآخر كيف يعرف نفسه أفضل.
العالم ليس هو الديكور الذي تتمّ فيه الأفعال، وإنما الوسط الذي تمارس فيه بَداهتها، فنحن منغمسون في محيطٍ ليس سوى ما ندركه. الإدراكات الحسية هي أولا إسقاطٌ للدلالات على العالم. فهي دوماً كميةٌ موزونةٌ وعمليةٌ ترسم الحدود، وفكرٌ في الفعل عن السَّيل الحسي المستمر الذي ينغمس فيه الإنسان. والحواس ليست “نوافذ” على العالم، و”مرايا” منذورة لتسجيل الأشياء بتجاهلٍ تام للثقافات والحساسيات، إنها مصافٍ لا تحفظُ في غرْبالها إلا ما تعلّم المرء أن يضعه فيها أو ما يسعى إلى التعرف عليه بتعبئته لموارده الخاصة. الأشياء لا توجد في ذاتها، بل هي دوماً مسكونةٌ بنظرةٍ ما. لهذا فإن تشكيلةَ انتشارِ الحواس وحدودها أمرٌ ينتمي لخطاطة الرمزية الاجتماعية.
الإحساسُ بالعالم واختبارُه لا يعني أن يكون المرْء معه في علاقة صحيحة أو خاطئة، وإنما هو إدراكه بأسلوبه الخاص في قلب تجربةٍ ثقافيةٍ معينة. “الشيء لا يمكن أبداً عزله عن الشخص الذي يدركه، وهو لا يمكنه أن يكون فعلاً في ذاته لأن تمفصُلاته هي تمفصُلات وجودنا نفسه، وأن ذلك الشيء يُطرح مقابل نظرٍ ما أو في منتهى استكشافٍ حسي يمهَره بالطابع الإنساني. بهذا المقياس، يكون كل إدراكٍ تواصلاً أو توحُّداً لنا مع الغيْر، واستعادتَنا أو إنهاءَنا لمقْصَد غريب، أو بالعكس إنجازَنا خارج قدْراتنا الإدراكية كما لو كان الأمر نكاحاً لجسدنا مع العالم”[8]. تقوم الأنشطة الإدراكية في كل لحظة بفكّ شفرة العالم المحيط وتحوِّله إلى نسيج أليف ومنسجم، حتى لو فاجأنا أحياناً بلمساتٍ غيرِ متوقَّعة. الإنسان يرى ويسمع ويشمّ ويتذوق ويلمس ويحسّ بالحرارة المحيطة، ويدركُ الذّبيب الداخلي لجسده، وهو في الآنِ نفسه يحوّل العالم إلى مقياسٍ لتجربته، ويجعله قابلاً للإيصال للآخرين المنغمسين مثله في قلب نظام المرجعيات الاجتماعية والثقافية نفسها.
إن الاستعمالَ الرائج لمفهوم الرؤية للعالم، لتعيين نظام تصوّر (وها نحن أمام مجاز بصري مرة أخرى) أو نظام رمزي خاص بمجتمع ما، يترجم هيمنة البصر في مجتمعاتنا الغربية وتثمينه، بحيث لا وجود للعالم إلا مرئياً. كتب- و. أونغ- : “في الأساس، حين يفكر الإنسان التكنولوجي الحديث في العالم الفيزيائي، فهو يفكر في شيءٍ قابلٍ لأن يكون مرئياً أو خاضعاً للمقاييس والمواثيق البصرية. العالمُ بالنسبة لنا شيءٌ يمكن بشكل أساسي أن نصنع له صورة[9]. البصر يمارس سلطة على الحواس الأخرى في مجتمعاتنا الغربية، فهو المرجع الأول. لكن مجتمعات أخرى، عِوَضَ الحديث عن “رؤية للعالم” تتحدث عن “تذوق” العالم و”لمسه” و”سمْعه” أو “شمه”، وذلك لتعبير أناسها عن طريقتهم في التفكير أو الإحساس بعلاقتهم بالآخرين كما بالمحيط. كل ثقافةٍ تحدّد حقلاً معيناً لإمكان المرئي واللامرئي واللمسي واللاملموس، والشمّي وما لا رائحة له، كما للنكهة وما لا نكهة أو مذاق له، وللطاهر والنجس…. الخ. وهي بذلك ترسمُ عالماً حسياً خاصاً، والعوالمُ المحسوسة لا تتقاطع لأنها أيضا عوالم من الدلالات والقيم. كل مجتمع يبلور بذلك “نموذجاً حسياً”[10] مخصوصاً، طبعاً، بالانتماء لطبقة ولجماعة ما ولجيل معين ونوع معين، وبالأخص بالتاريخ الشخصي لكل فرد وحساسيته الشخصية. الولادة والحياة في العالم تعني اكتساب المرء لأسلوب في الرؤية واللمس والسمع والذوق والشم تكون مخصوصة بمجموعته التي ينتمي إليها. فالناس يسكنون عوالم حسية مختلفة.
يعتمدِ التقليد المسيحي أيضاً على مذهبِ الحواس الروحانية التي جاء بها أوريجين[11](راهنر Rahner، 1932. ترتبط الحواس الروحانية بالنفْس، وهي تندرج في ميتافيزيقا مفتوحة بإيمان عميق يؤدي بأعضاء روحانية إلى إدراك انطباع حضور الرب، الذي لا يمكن للحواس الدنيوية أن تدركه. الحواس الروحانية لا تسكن المؤمن باستمرار، فهي تتدخلُ أحياناً عبر لحظات حدْسٍ باهرة تمكّن من بلوغ واقع خارق مبْصوم بحضور الرب. إنها تشكل إحساساً للنفس قابلاً لاختراق عوالم لا علاقة لها بالبُعد الجسماني للحواس الأخرى. “ثمة بصرٌ لتأمل الأشياء غير الجسمانية، كما هو حال الملائكة الكروبيين والسيرافيين؛ وسمْعٌ قادر على تمييز أصوات لا تنطلق في الهواء؛ وذوقٌ للتلذّذ بالخبز الحي النازل من السماء لمنح الحياة للعالم” (أيوب، 6-33)، وكذا حسٌّ شمّ يدرك الوقائع التي دفعت القديس بّول إلى أن يؤمن برائحة طيبة للمسيح؛ ولمسٌ كان يملكه القديس يوحنا حين قال لنا بأنه لمس بيديه الكلمة الإلهية. كان سليمان يعرف مسبقا أننا نملك نوعين من الحواس: واحدٌ زائلٌ وقابلٌ للفساد، هو الإنساني؛ والثاني خالدٌ وروحاني وإلهي”[12].
لقد سعت العديد من الأبحاث، خاصة في الضفة الأخرى للأطلسي، إلى التقرّب بطريقةٍ دقيقةٍ ومنهجيةٍ من هذه الوفرة الحسية حتى نرى كيف يمنحها المجتمع معنىً خاصاً. ولائحة الأبحاث أو تلك التي تم تكريسها لجانب خاص من العلاقة الحسية مع العالم طويلة جداً. ويشير د. هاوس إلى إحدى توجهاتها قائلا: “إن أنثربولوجيا الحواس تسعى أولاً إلى تحديد كيف تختلف هيكلة التجربة الحسية من ثقافة إلى أخرى تبعاً للدلالة والأهمية النسبية التي تُمنح لكل حاسة من الحواس، وهي تسعى أيضا إلى رسم تأثير هذه التنويعات على أشكالِ التنظيم الاجتماعي، وتصوراتِ الأنا والكون، وتنظيمِ العواطف كما على مجالات أخرى من التعبير الجسدي”[13].
يقومُ الأنثربولوجي بتفكيك البداهة الاجتماعية لحواسه ذاتها، وينفتح على ثقافاتٍ حسيةٍ أخرى، وعلى طرائقَ أخرى في الإحساس بالعالم. وتجربة الإثنولوجي أو الرحالة تكونُ غالباً تجربةَ اغتراب حواسه، بحيث يواجه نكهاتٍ غير متوقعة وروائح وموسيقى وإيقاعاتٍ وأصواتٍ وتماسٍّ واستعمالات للنظر تخلخل عوائده السابقة، وتعلّمه كيف يحس بشكلٍ مغاير علاقته بالعالم والآخرين. فالقيم التي تُمنح للحواس ليست هي قيم مجتمعه. يقول-ب. سطولر- : “لقد اكتسحتْ إفريقيا في البداية حواّسي”. وهو يشير بذلك إلى ضرورة هذا الانزياح الحسي عن المركز قصد بلوغ الواقع الحيّ لطرائق العيش لدى قبائل الصونغاي الإفريقية: “لقد دخل الذوق والشمّ والسمع والبصر في إطارٍ نيجيريٍّ. والآن أنا أترك ما أبصر وما أسمع وما أشم وما أتذوّق، هنا بالنيجر، يخترقني اختراقا. فلقد علمني هذا القانون الأساس لإبستمولوجيا متواضعة أن قبائل الصونغاي تعتبر الذوق والسمع أهم من البصر، وهو الحاسة المفضّلة في الغرب”[14].
التجربة الأنثربولوجية طريقةٌ لاعتماد المألوفات الإدراكية للتمكّن من طرائق أخرى للمقاربة، والإحساس بتعدّد العوالم التي يعضّد بعضها البعض ويدعّمه. من ثم فهي تشكل مُنْعطفا لتعلّم النظر، وتمنح شكلا “لما لم يُرَ” (ماريون Marion، 1992، 51) وينتظر أن يُرى. وهي تجربة تبتكر بشكل جديد غير مشهود التذوّق والسمع واللمْس والإحساس. كما تكسرُ رتابةَ الفكرِ عن العالم، وتدعو إلى تشْذيبِ الخُطاطات القديمة للمعْقولية كي تفتح المرء نحو توْسيعٍ للبصر. وهي أيضا دعوة إلى ارتياد آفاق الحواس والمعنى، ذلك أن الإحساس لا يتمّ أبداً من غير تدخُّل الدلالات. إنها تذكيرٌ مُشرعٌ للعالم ولكل عمليةٍ مجتمعيةٍ تكون تحجيماً للحسّية الممكنة. الأنثربولوجيا تفجر تفجيرًا عاديةَ الأشياء. “من يختار المعرفة فقط، سيكون طبعاً رابحاً لوحْدة التركيب وبداهة العقل لوحده؛ غير أنه سيفقد واقعية الموضوع، وذلك بالانغلاق الرمزي للخطاب الذي يعيدُ ابتكارَ الموضوع حسب صورته الخاصة، بل حسب تمثله الخاص. بالمقابل من يرغب في أن يرى أو بالأحرى في أن ينْظر، سيفقد وحْدة عالمٍ مغلقٍ كي يجد نفسه في مُنفتح غير مُريح لعالمٍ سيظلّ طافياً وعُرضةً لكافة رياح المعنى”[15].
[1] العناوين الفرعية من وضعنا (المترجم).
[2] feuilletage
[3] دافيد لوبروطون، أنثربولوجيا الجسد والحداثة (وهو مترجم للغة الفرنسة)، 1990؛ Les Passions ordinaires, anthropologie des ، passions ، 2004.
[4] interface
[5] M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Gallimard, 1945, p. 71.
[6] W. Ong, Retrouver la parole, HMH, Paris, 1971, 11.
[7] إذا اتفقنا على وجود خمس حواس فقط، فإن بعض المجتمعات الإنسانية تشير إلى أقل أو أكثر من ذلك. يقول أرسطو: “لا وجود لحواس أخرى غير تلك التي درسنا” (1989، 1)، وهو أمر لا جدال فيه في الثقافة الغربية. لكن، ثمة حواس أخرى قابلة بالتأكيد لأن نتعرف عليها ، وهي غالبا تكون تابعة للمس: كالضغط، والحرارة (البارد والساخن)، والألم، والحركية kinesthésie، و الإحساس بالذات الذي يمنحنا المعلومات عن حركات الجسد في الفضاء proprioception وهو حاسة تمنح إحساسا بالذات يبعث على التوازن ومن ثم يسهل للفرد الاستعمال الملائم للفضاء. وكل هذه حواس متصلة باللمس في مجتمعاتنا، غير أنها تملك خصوصيتها.
[8] ميرلولونتي، المرجع السابق، ص. 370.
[9] أونغ، المرجع السابق
[10] C. Classen, The colors of angels. Cosmology, Gender and aesthetic imagination, Routledge, London, 1998.
[11] K. Rahner, « Le début d’une doctrine des cinq sens chez Origène », in Revue d’Ascétisme et de Mystique,T. 13, 1932.
[12] Ibid., p. 115.
[13] D. Howes, (éd.), The Varieties of sensory experience. A sourcebook In the anthropology of the sens, University of Toronto Press, Toronto, 1991, p. 4.
[14] P. Stoller, The taste of ethnographic things, The sens in anthropology, University of Pennyselvania Press, Philadelphia, 1989, p. 5.
[15] G. Didi-Hubermann, Devant l’image. Question posée aux fins d’une histoire de l’art, Minuitn Paris, 1990, 172.