مقالات

التركيبية والضرورة (نقد للفلسفة المعاصرة) – خالد الحسن

ملخص المقالة:

  • تقدم هذه المقالة نقوداتٍ على فلسفة كانط، والفلسفة التحليلية، ومن أهمها وجود قضية تركيبية قبلية ضرورية، مستندة على مبدأ عدم التناقض، وكذلك نقودات على كانط وفريغه، بأن الهندسة ليست كلها تركيبية، بل يوجد منها تحليلية. بالإضافة إلى أن علم الحساب ليس كله تحليلياً، بل يوجد جزء بسيط منه تركيبي.
  • يرى كانط أي معرفة قبلية فهي ضرورية، فاعترض عليه كارناب في الأسس الفيزيائية، بأن الهندسة الرياضية هي قبلية؛ لذلك هي ضرورية، ولكن الهندسة الفيزيائية تركيبية ولكنها ليست ضرورية، فأقول بوجود قبليات تركيبية منها ما هو ضروري وما هو ممكن.
  • القضايا التركيبية عند كانط غير مستندة على مبدأ عدم التناقض؛ حتى وإن كانت ضرورية، بعكس القضايا التحليلية1.

 

نظرة تاريخية في القضايا التحليلية والتركيبية:

تعريف القضايا التحليلية والتركيبية اليوم عند التحليلين هو نفسه تقريباً عند كانط؛ لأن تعريف القضية التحليلية عند كانط هو “كل أ هو ب”، فجعل من (ب) جزءاً من مفهوم (أ)، والإشكال التاريخي -كما يراه البعض- ابتداءً من عند كانط ثم فريغه ثم كارناب وانتهاءً عند كريبكي، الذي رأى الخطأ ابتداءً أولاً من عند كانط، الذي قال: إن الخبرة -التجربة- لا تُعلِمنا في كون الشيء من الممكن أن يكون على غير حاله؛ بمعنى الحس والخبرة، ليستا كافيتين بذاتهما، في معرفة أن الشيء ضروري2، والصحيح هو أن الخلافات ليست من التعريفات بما هي القضية التحليلية أو التركيبية، بقدر كون الخلافات أصلها في المعرفة واللغة والمنطق؛ أي كيف نعرف وكيف نتحقق من معرفتنا؟ والتحرير اللغوي من معرفة معاني القضايا لكي نعطي عليها حُكماً سليماً، نلاحظ اتفاقاً كبيراً في التعريفات لحد ما، “كل أ هو ب”، (ب) جزء من معنى (أ)، “كل رجل أعزب فهو غير متزوج”، غير المتزوج جزء من معنى الأعزب، وهذه قضية تحليلية قبلية عند كانط والمدرسة التحليلية؛ لأنه عند حصول أي تناقض في التعريفات -استناداً على الخلاف المزعوم في التعريفات- فمن باب أولى أن يحصل خلاف حتى في صدق أو كذب القضايا، التي تم تمثيلها. والصحيح أننا نجد أنها مشتركة في نفس الحُكم، ولكن الخلاف في معرفة بعض هذه القضايا؛ كعلم الحساب عند فريغه ومدرسته، وأنه قضية تحليلية، بعكس كانط فهو عنده تركيبية، فالذي يميل بحصول هذه الإشكالات من الناحية التعريفية، هم بعض أساتذة الفلسفة، وهذا خطأ من جهتهم؛ لذلك المسألة تحتاج إلى إعادة نظرة ممن هو مختص بتاريخ الفلسفة؛ لتحرير الإشكال التاريخي المتعلق بالتعريفات ومنبعه، والصحيح أنه متعلق بالمعرفة وتطبيقاتها المنطقية وتحريراتها اللغوية من نفس القضايا، أما الذي سوف أعالجه في هذه المقالة، هو إعادة النظر في كل الأسس من جديد؛ كالأسس الرياضية، ومبدأ لغوي بديل، وإثباتات منطقية.

تأسيسات منطقية للمفاهيم التحليلية والتركيبية التي ما قبل التجربة:

التحليلية القبلية: لا تعطيك أي معرفة جديدة -تحصيل حاصل-، فالموضوع يساوي المحمول، أو عين المحمول؛ لأنها نفس المعنى، والتحقق من صدقها أو كذبها، فقط عن طريق معانيها.

مثال: “الرجل الأعزب هو غير متزوج” أو “2+2=4”

رمزياً: ض=ح

فعندما لا يساوي الموضوعُ المحمولَ يحصل التناقض، عن طريق ثبوت معنى الموضوع يساوي المحمول.

إثبات: (ض≠ح) ↔ ¬(ض=ح)

الرجل الأعزب لا يساوي المتزوج إذا وفقط إذا ليس الرجل الأعزب يساوي المتزوج.

بذلك يكون الأعزب معناه لا يساوي المتزوج، استناداً على نفي أن الرجل الأعزب يساوي المتزوج، فإن كان ض=ح إذن نقيضه يحيل للتناقض (¬ض≠ح)؛ أي الرجل غير الأعزب لا يساوي المتزوج، وهذا تناقض، فيثبت نقيض النقيض، الرجل الأعزب يساوي غير المتزوج، إذن الرجل الأعزب غير متزوج، قضية تحصيل حاصل؛ لذلك هي تحليلية.

وينطبق الحال على 2+2=4؛ لأنه في هذه الحال معنى 2+2 هو 4.

2+2=2+2 أو 4=4 فهي تحصيل حاصل، إثباتها عن طريق معانيها، ونقيضها تناقض 2+2=¬4 بما أنها تثبت هويتها ثم تنفيها.

(2+2) = ¬(2+2)، مثل الرجل الأعزب غير متزوج، ونقيضها يؤدي للتناقض الرجل الأعزب متزوج؛ كأننا نقول: الرجل الأعزب غير أعزب؛ لذلك يطرأ عليها التناقض عند حصول نقيض المعنى، خصوصاً عندما يكون الموضوع بالأصل مطابقاً للمحمول بالمعنى.

نرى أن هذا التعديلات على القضية التحليلية القبلية، ليست تعديلات جذرية، بل هي قريبة من الفكرة التي عند التحليليين، كما عند فريغه بأن القضايا التحليلية تعتمد على المرادفة، بما أنها مستندة على مبدأ عدم التناقض، ولكن يوجد خلاف، وهو أن القضية التحليلية تعتمد على معنى الموضوع مطابق لمعنى المحمول؛ كمثال الرجل الأعزب غير متزوج، ولكن يختلف الأمر في القضايا التحليلية البعدية -أي التي ما بعد التجربة-، يوجد مساواة الموضوع للمحمول في المعاني، ولكنها من ناحية وجودية؛ مثل مقولات الهوية: الذهب له العدد الذري 79، أو الماء هو أتش تو أو، فهذه القضايا تحليلية، ولكنها ليست تحصيل حاصل؛ لأنها تملك خصائص وجودية، ومعانيها مستمدة من جوهرها عن طريق معرفتنا البعدية، ولكن هل هذا صحيح؟ هذا ما سوف أناقشه في مقالة أخرى متعلقة بالمعرفة البعدية، أما هذه المقالة متعلقة بالمعرفة القبلية.

التركيبية القبلية: هي معرفة جديدة، المحمول زائد على الموضوع، فالتحقق من صدقها أو كذبها، يكون عن طريق معرفة معانيها بملاحظة العرض للشيء؛ أي عرض المحمول على الموضوع.

مثال: “الأربعة عدد زوجي” أو “المثلث مجموع زواياه 180 درجة”.

رمزياً: ض ع ح

يوجد علاقة ما بين الموضوع والمحمول، تربط الموضوع بالمحمول، فهذه العلاقة إما تكون ضرورية، فلا ينفك الموضوع عن المحمول؛ لأنه عند حصول الانفكاك يحصل التناقض، أو تكون ممكنة، وهنا يجوز حصول الانفكاك ما بين الموضوع والمحمول.

إثبات: (1) (ض ¬ح) ↔ ¬(ض ح)

(2) من (1): (ض ع ¬ح) ↔ ¬(ض ع ح)

(3) من (2): (ض ع ح) ← (ع ضرورية)

الأربعة ليست بعدد زوجي إذا وفقط إذا ليست الأربعة عدد زوجي، وهذا تناقض، ونقيضه صادقة، وهي بأن الأربعة عدد زوجي، و(ع) هي العلاقة بين الموضوع والمحمول، فعلاقة الأربعة بالعدد الزوجي ضرورية، وسلب الزوجية عن الأربعة، يؤدي إلى حصول التناقض؛ لذلك العلاقة ضرورية.

نعرف (ع) بأنها العلاقة المنطقية بين المعاني المستخدمة للموضوع والمحمول -أي في القضية-، فعندما يوجد ترابط بين المعاني؛ لكي أعطي حكماً بصددها، فهذه هي العلاقة ما بين الموضوع والمحمول المقصودة، ولاحقاً في المقالة سوف تتضح تطبيقاتها اللغوية.

العلاقة الممكنة في القضية التركيبية:

إثبات: (1) (ض ح) ∨ (ض ¬ح)

(2) من (1): (ض ع ح) ∨ (ض ع ¬ح)

(3): ((ض ع ح) ∨ (ض ع ¬ح)) ← (ع ممكنة)

(4) من (3): (ض ع ح) ← (ع ممكنة)

مثال:

المثلث مجموع زواياه 180 درجة، أو المثلث ليس مجموع زواياه 180 درجة، إذن من الممكن أن المثلث يكون مجموع زواياه 180 أو لا، فلا يوجد أي تناقض بين معنى الموضوع ومعنى المحمول، فالعلاقة بينهما ممكنة، ويجوز أن ينفك الترابط.

بديل نقدي لمبدأ التحقق عند الوضعية المنطقية:

معرفة القضايا وأحكامها لا يكون إلا بمعرفة المعاني المستخدمة، والحكم على صدقها من كذبها، عن طريق مبدأ مشهور، وهو مبدأ التحقق، فإما تكون القضية تحصيل حاصل أو قضية تجريبية، بذلك أستطيع أن أتحقق منها، وأن أعطي حُكماً، وغير ذلك سوف تكون القضية ميتافيزيقية لا معنى لها، فهذا مبدأ الوضعية المنطقية، ويوجد نظريات أخرى للحقيقة. لنسمي مبدأ التحقق بالتحرير البسيط، وأما طريقتي في التطبيق اللغوي -وهي صورة نقدية على مبدأ التحقق- لنسميها التحريرالماقبليّ-المابعديّ، أو التحرير العميق، وهي بمعرفة المعاني وإعطائها حُكماً، عن طريق انقسام المبدأ لما هو ما قبل التجربة، وآخر ما بعد التجربة، فالأول -أي ما قبل التجربة- تنقسم قضاياه إلى: معنى ذاتي ومعنى عرضي، والعرضي ينقسم إلى: ما هو ضروري أو ممكن، فالضروري هو ما يكون للموضوع علاقة ضرورية للمحمول فلا تنفك، أما الممكن فعلاقتها تجوز لها الانفكاك، فتكون القضية التحليلية مستندة على المعنى الذاتي، أما القضية التركيبية مستندة على العرضي.

وهذا الجواب يعالج الاعتراضات على مبدأ التحقق، بأن أي قضية إما تكون تحليلية أو تجريبية، فإن لم تكن إحداهما، إذن فالقضية بلا معنى. بذلك يكون مبدأ التحقق نفسه داخل في حيز اللامعنى. والصحيح بالتحرير السابق، سوف يكون المبدأ أصله من القضايا التركيبية القبلية، فيتبقى لنا التحرير البعدي أو التجريبي.

محصلة مبدأ التحقق اللغوي:

“الرجل الأعزب هو غير المتزوج”، فهي قضية تحليلية قبلية، فالمعنى الذاتي للرجل الأعزب هو غير المتزوج، إذن الموضوع عين المحمول إذا وفقط إذا معنى المحمول نفس معنى الموضوع؛ لذلك هي تحصيل حاصل، فلا تعطيك أي معرفة جديدة؛ لأن معانيها ذاتية فهي ضرورية.

“2 عدد زوجي”، فهي قضية تركيبية قبلية، فمعنى الذاتي للـ(2) لا يطابق المعنى الذاتي للعدد زوجي؛ لأنهُ معنى عرضي على (2). أما المعنى الذاتي للـ(2) فهو (1+1)، والمعنى العرضي للـ(2) هو (عدد زوجي)، إذن المحمول عارض للموضوع، إذا وفقط إذا معنى المحمول ليس نفس معنى الموضوع، ولكنه صفة له؛ أي معنى عرضي، فالمعرفة جديدة وزائدة على المعنى الذاتي، وبما أن “2 عدد زوجي” إذن فهي ضرورية.

التحرير العميق، يساعدنا في فهم المعاني المستخدمة في القضايا المطروحة، وتحرير المعنى الذاتي والمعنى العرضي؛ لمعرفة أيهما القضية التحليلية والتركيبية، عن طريق العرض الضروري والممكن، وتبقى إشكالية “اللامعنى” ورد القضايا الميتافيزيقية استناداً على مبدأ التحقق القديم؛ أي عند الوضعية المنطقية، ولكن بمبدئي الجديد، وهو التحقق اللغوي-المنطقي، نستطيع أن نحرر القضايا الميتافيزيقية استناداً على منطق الموجهات، وأما هذا الأخير، فسوف أفصِّل فيه نهاية المقالة.

عرض ضروري، وعرض ممكن:

“الأربعة عدد زوجي”، لا يمكن للمحمول أن ينفك عن الموضوع، فالزوجية ملازمة للأربعة، نقيضها مستحيل وهو (الأربعة ليس زوجياً)؛ أي فردياً، فهذا يُحيل إلى التناقض، فيظهر بأن الزوجية ضرورية للأربعة، مع أنها عرض؛ أي زائد على معنى الأربعة، فليست جزءاً منها، فإذن هي مركبة من شيء زائد وخارج عن ماهية الأربعة؛ لذلك هي قضية تركيبية قبلية، فالتركيبية، يمكن أن تكون معرفة زائدة، فنلاحظ الفرق بين الموضوع والمحمول في الواقع الخارجي، أو نلاحظها فقط من نفس الموضوع والمحمول، فعندما يحصل الفرق، وأن المعرفة زائدة ومركبة، تكون القضية بذلك تركيبية.

معنى (الأربعة): 1+1+1+1

معنى (زوجي): عدد يقبل القسمة على اثنين.

إذن معنى (الأربعة) ليس نفس معنى (عدد زوجي)، فمعنى عدد الزوجي زائد على معنى الأربعة، وهذا لا ينفي أن الأربعة تقبل القسمة على اثنين، بذلك ينتج عدداً صحيحاً، فالضرورة ليست مشترطة فقط على الهوية، فالهوية تشترط المساواة بالمعنى أو بالمفهوم.

إن كانت 4=4

إذن المعنى:

1+1+1+1=1+1+1+1

وإن كان العدد الزوجي = العدد الزوجي

إذن المعنى:

عدد يقبل القسمة على اثنين = عدد يقبل القسمة على اثنين.

بذلك عن طريق المعنى والمفهوم

1+1+1+1≠عدد يقبل القسمة على اثنين

لأن معنى الأربعة لا يساوي أو يطابق معنى العدد الزوجي، أو لأصبح أي عدد زوجي يساوي غيره من الأعداد الزوجية؛ مثل أن يصبح اثنين يساوي أربعة، 2=4، أو 4=8، أو غيره.

من هذا التطبيق يظهر بأن قضية “الأربعة عدد زوجي”، غير متعلقة بالتطابق بالمعاني الذاتية؛ أي الموضوع ليس هو عين المحمول، إذن فهي ليست قضية تحليلية، بل قضية تركيبية؛ لأن معنى العدد زوجي زائد على معنى الأربعة، مع ذلك فهي عرض ضروري؛ لأنه يستحيل أن تكون الأربعة عدد لا يقبل القسمة على اثنين؛ أي أن تكون الأربعة عدداً فردياً، فهذا يحيل للتناقض.

الضرورة التركيبية بنفس درجة الضرورة التحليلية، وتستندان على مبدأ عدم التناقض، الفرق أن التحليلية تحصيل حاصل، بما أنها متعلقة بالماهية والتركيبية ليست بتحصيل حاصل؛ لأن محمولها معرفة زائدة ومركبة على الموضوع؛ لذلك القضية التحليلية لا تعطينا أي معرفة جديدة، بعكس التركيبية، فهي تكشف لنا عن معرفة جديدة وزائدة، ولكي نعطي حُكماً صحيحاً، يجب أن نتحقق من هذه المعرفة الجديدة بالبحث والفحص، فهذا الاكتشاف يُصحِّح حكمنا للقضية.

علم الحساب ما بين التحليلية والتركيبية:

يقوم أصل النقد في التقليد التحليلي على كانط، بأن علم الحساب ليس تركيبياً بل تحليلي، مستندين على ذلك بأن أسس علم الحساب يمكن إرجاعها للمنطق، وبرهنتها، مما يؤدي إلى أن الناتج من عملية الجمع هو مجرد تحصيل حاصل، والسؤال هنا: هل كل علم الحساب تحليلي؟ وهل يمكن إسناد الضرورة التركيبية إلى مبدأ عدم التناقض خلافاً لكانط أم لا؟

مبرهنة لايبنيتز وفريغه3:

لايبنتز لا يرى أن 2+2=4 حقيقة واضحة بذاتها؛ لذلك يلزم من برهنتها، يبدأ بالتعريفات:

(1) 2 هو 1 و1

(2) 3 هو 2 و1

(3) 4 هو 3 و1

مُسلمة: إن تم استبدال يساوي عن يساوي فسوف تبقى المساواة.

البرهان: 2+2=2+1+1 (من التعريف (1))=3+1 (من التعريف(2))=4(من التعريف(3)).

إذن 2+2=4 (من المُسلمة)

رغم أننا لا نحتاج للبرهنة أكثر من مجرد تعريفها، ولكن لاحظ فريغه في المبرهنة السابقة وجود فجوة، وهي الحاجة إلى الأقواس لتصبح أدق.

2+2=2+(1+1)

(2+1)+1=3+1=4

والمفقود هنا، هي هذه القضية:

2+(1+1)=(1+2)+1

وهي حالة خاصة من:

أ+(ب+ج)=(أ+ب)+ج

يذهب فريغه إلى أنه يمكننا الاعتماد عليها كقانون نطبقه لبراهين مشابهة متعلقة بكل معادلات الجمع.

كما أنه يوجد مبرهنة أطول لبيانو، ولكن عندما ندقق في مضمون المبرهنة نجد أن إثباتاتها من تعاريفها، والنقيض يؤدي للتناقض، بذلك لا تعطيك أي معرفة جديدة، ومن هذا الأساس يذهب فريغه بأن علم الحساب قضية تحليلية، وهذا صحيح، ولكن هل يجعل من ذلك كل علم الحساب تحليلية؟

برهنة الأعداد الزوجية:

المبرهنة: إن كان العدد الصحيح ن فردياً فإذن ن+1 زوجي.

الإثبات: إن كانت ن فردية فمن التعريف ن=2م+1 لأحد الأعداد الصحيحة م.

إذن ن+1=2م+2=2(م+1)، مع الأخذ بالاعتبار أن م+1 هي جمع لعددين صحيحين، فينتج بذلك عدداً صحيحاً.

إذن ن+1 زوجية استناداً على تعريف الزوجية (العدد الذي يقبل القسمة على اثنين فينتج عدداً صحيحاً).

يوجد طرق أخرى للبرهنة، ولكن الذي نريده من هذا الإثبات أن بعض علم الحساب أو نظرية الأعداد قضايا تركيبية مستندة على مبدأ عدم التناقض، من خلال التعريفات السابقة، فنقيض ن+1 عدد فردي، فهذا يحيل للتناقض استناداً من نفس تعريف العدد الزوجي، الذي أثبتنا فيه أن ن+1 عدد زوجي، ولكن نلاحظ شيئاً هنا أن التعريفات نفسها زائدة على تعريف الأعداد، ن=2م+1، فهذا يثبت وجود معرفة زائدة، وعند أخذها بالاعتبار نستطيع أن نثبت عدداً صحيحاً ما في كونه عدداً زوجياً.

مبرهنة لايبنيتز وفريغه تستندان على التعريفات الذاتية؛ لكي تبرهنها من خلالها، بذلك تكون تحصيل حاصل، وأما في مبرهنة الأعداد الزوجية، تستند على تعريفات زائدة؛ أي عرضية على التعريف؛ مثل ن عدد فردي و ن+1 عدد زوجي، فيجب أن نثبت ن+1 عدد زوجي من خلال أن ن عدد فردي وهكذا، وتكتسب ضرورتها عند حصول علاقة غير منفكة بين الموضوع والمحمول.

ومن خلال معرفتنا أو خبراتنا الزائدة والجديدة، نستطيع أن نظهر بأساليب حديثة للبرهنة، كما هو الحال بوجود أساليب أخرى لبرهنة الأعداد الزوجية، ومن خلال هذا الاحتجاج، سوف نتساءل: لماذا يوجد بعض الحدسيات التي لم تبرهن بعد؟

والجواب سوف يكون: بسبب أن معرفتنا وخبراتنا تزداد، وهذا ما أدى إلى إثبات أحد الحدسيات التي لم تبرهن إلا بعد قرن من الزمان، وسوف نفصل فيها أكثر في المقالة.

علم الهندسة ما بين التحليلية والتركيبية:

عندما نرى نقد القضايا التركيبية القبلية في التقليد التحليلي، وأن علم الحساب قضية تحليلية، ومن خلال نقدي السابق الذي أُحاججُ فيه بأنه يوجد في علم الحساب أو نظرية الأعداد قضايا تركيبية، ناقداً بذلك التقليد التحليلي، ومثبتاً إسنادها إلى مبدأ عدم التناقض، وناقداً أيضاً كانط، يأتي السؤال: ماذا عن علم الهندسة؟ فالتقليد التحليلي يراها تركيبية بعدية، وبذلك ينتقدون كانط في عدم وجود أي قضية تركيبية قبلية. كارناب أحد رواد الوضعية المنطقية، جعل من الهندسة الفيزيقية أو التطبيقية المستندة على الفيزياء تركيبية بعدية، وأما الهندسة المستندة على الرياضيات فهي تحليلية قبلية، فهل هذا صحيح؟ فكما أننا أعدنا النظر في علم الحساب، فيجب علينا أيضاً أن نعيد النظر في أقوالهم في علم الهندسة، ونتجاوز الأخطاء التي وقع فيها كانط والفلسفة المعاصرة.

يرى فريغه بأن فصل كانط بين الأحكام التركيبية والتحليلية أمرٌ مهم، وهذا لا يضعف من قيمة عمله؛ حتى لو كانت الأحكام التركيبية القبلية موجودة فقط في علم الهندسة عنده؛ أي كانط، وأما في علم الحساب فهذا أمر ليس ذا أهمية كبيرة4.

يريد فريغه من ذلك، أنه لو كان علم الهندسة فقط من القضايا التركيبية القبلية، فهذا كافٍ في عدم تضعيف مشروعه في نقد العقل المحض، ولكن الصحيح أنها حتى من الزاوية الهندسية بها إشكالات؛ منها التي ذكرها كارناب، والتي سوف نذكرها ونوضحها عند النقد، بالإضافة كذلك جزء من الهندسة التركيبية القبلية هي ضرورية ومستندة على مبدأ عدم التناقض، لا الضرورة العادية الذاتية أو التي ليست مستندة على مبدأ عدم التناقض، كما عند كانط5، فيتطرق كارناب لعلم الهندسة عند كانط قائلًا:

“ويواصل كانط قوله: إن نظريات الهندسة، من ناحية أخرى، تخبرنا عن شيء ما في العالم؛ خذ على سبيل المثال النظرية التي تقرر أن مجموع زوايا المثلث تساوي 180 درجة، بالطبع يمكن أن تُشتَق منطقياً من بديهيات إقليدية، ومن ثم فإن معرفة صدقها يكون قبلياً، ولكن من الصحيح أيضاً، أننا لو رسمنا مثلثاً وقمنا بقياس زواياه، فإن مجموع هذه الزوايا تكون 180 درجة أيضاً، وإذا لم تكن كذلك فإن الفحص الدقيق للرسم الهندسي سوف يظهر لنا أن الخطوط لم تكن مستقيمة تماماً، أو ربما كانت المقاييس غير دقيقة تماماً، إذن فالنظريات الهندسية تتعدى مجرد كونها قضايا قبلية، وإنما هي تصف أيضاً البناء الفعلي للعالم، ومن ثم فهي تعد أيضاً قضايا تركيبية، ومع ذلك من الواضح أنها ليست تركيبية بالمعنى الذي نفهمه من القوانين العلمية؛ إذ إن القانون العلمي لا يتم تبريره إلا بالتجربة، فمن السهل أن نتخيل أن الغد قد يأتي بحادث يتعارض مع قانون علمي مفترض، ومن السهل أن نفترض أن الأرض تدور حول القمر لا العكس، ولا يمكن أبداً التأكيد على أن العلم سوف يتوقف عن التوصل إلى اكتشافات، تتطلب تعديلات جذرية لحقيقة افترضنا من قبل أنها ثابتة، ولكن الأمر ليس كذلك مع القوانين الهندسية؛ لأنه من غير المعقول التوصل إلى اكتشافات جديدة في الهندسة، تضطرنا إلى تعديل نظرية فيثاغورية صحيحة؛ فالهندسة الإقليدية يقينية حدساً، وهي مستقلة عن التجربة. لقد كان كانط مقتنعاً، أن الهندسة تعطينا النموذج الكامل لوحدة المعرفة التركيبية والقبلية”6.

فيضطر كارناب بذلك إلى تصحيح أخطاء كانط:

“واليوم يسهل علينا أن نكتشف مصدر الخطأ الذي وقع فيه كانط، إنه ببساطة الفشل في إدراك وجود نوعين أساسيين مختلفين من الهندسة: النوع الأول: هو الهندسة الرياضية، والأخر: الهندسة الفيزيائية. إن الهندسة الرياضية هي تلك الهندسة التي تنتمي إلى عالم الرياضيات البحتة، وهي بكلمات كانط تحليلية وقبلية، وليس في الإمكان أن نقول عنها: إنها أيضاً تركيبية؛ لأن النسق الاستنباطي ببساطة إنما يقوم على بديهيات معينة، هذه البديهيات لا تستمد يقينها من العالم الخارجي، وإنما هي صادقة في أي عالم ممكن، كما أنه يمكن البرهنة على هذا النسق بطرق عديدة مختلفة”7.

وأما النوع الثاني عند كارناب هو الهندسة الفيزيائية، فيقول:

“أما الهندسة الفيزيائية، من الناحية الأخرى، فهي بتطبيق الهندسة البحتة على العالم، وهنا تكتسب مصطلحات الهندسة الإقليدية معناها المعتاد، فالنقطة يقابلها موقع فعلي في المكان الفيزيائي”8.

فينتهي كارناب إلى نتيجة حاصلها:

“صحيح أن الهندسة الرياضية قبلية، وأن الهندسة الفيزيائية تركيبية، ولكن ليس ثمة هندسة أخرى تجمع بينهما، وإذا أردنا حقاً أن نقبل المذهب التجريبي، فلا مجال لمعرفة من أي نوع تجمع بين ما هو قبلي وما هو تركيبي؟”9.

إذن الهندسة الرياضية تحليلية قبلية، وأما الهندسة الفيزيائية فهي تركيبية بعدية، فالأولى ضرورية وأما الثانية فهي ممكنة، وسبب إرجاع كارناب الهندسة -وتحديداً الرياضية-؛ لكونها تحليلية قبلية؛ لأنه يراها ضرورية منطقياً؛ أي مستندة على مبدأ عدم التناقض، ولكن بإثباتنا السابق في القضية التركيبية المستندة على مبدأ عدم التناقض ينحل إشكال كارناب، ونتجنب التقسيم الغريب ما بين الهندسة الرياضية والهندسة الفيزيائية، والصحيح التقسيم يكون لنفس معنى القضية التحليلية والتركيبية، ولكن ما الخطأ الذي وقع فيه كانط وكارناب تحديداً؟ عندما جعل كانط علم الهندسة كلها تركيبية وقبلية، فهذا الذي جعل كارناب يجعل القبلي هو الضروري، وهذه هي الهندسة الرياضية، أما التركيبي البعدي فهو الممكن، وهذه هي الهندسة الفيزيائية، ولكن عندما نجعل ليس كل الضرورة المستندة على مبدأ عدم التناقض هي التحليلية فقط، ولا كلّ القبليات ضرورية، فيوجد منها ما هو ممكن، وبهذه الطريقة نستطيع أن نفرق بين ما هو تحليلي وتركيبي من المعاني، وبين ما هو ضروري وممكن، عن طريق العرض الضروري والعرض الممكن.

فعندما يجعل كارناب الهندسة الإقليدية واللاإقليدية ممكنة وبعدية؛ لأن لها تطبيقاتها في العالم الفعلي، ولكن قبل ذلك لم نكن نعرف، فلم نكتشفها، بذلك يرى كارناب أن كانط وغيره من الرياضيين وقعوا في الخطأ، وهذا الكلام يطرح تساؤلاً؛ وهو: لو أننا لم نكتشف الهندسة اللاإقليدية، فهل يجعل من ذلك الهندسة الإقليدية هندسة رياضية بحتة؟ رغم أن لها تطبيقاتها في الواقع، فالخطأ الذي وقع فيه كارناب، أنه لو وجدنا تطبيقاً لعلم الحساب أو لنظرية الأعداد في الواقع، فهذا لن يغير من كونها في الأصل قبلية وضرورية، مع أنه قال:

“ولكن من وجهة النظر الحديثة، يبدو أن الموقف يختلف تماماً، ولا ينبغي أن نلوم كانط على خطئه؛ لأن الهندسة اللاإقليدية في عصره لم تكن قد اكتشفت بعد، ولم يكن في إمكانه التفكير في هندسة بأية طريقة أخرى، والواقع أن الرياضيين أنفسهم، طوال القرن التاسع عشر كله، قد سلّموا تماماً بوجهة النظر الكانطية، باستثناء القليل من الأفراد الجسورين؛ أمثال: جاوس، وريمان، وهيلمهولتز”10.

فهذا يثبت بأن اكتشافهم لهذه الهندسة اللاإقليدية هو اكتشاف رياضي بحت، قبل أن يكون لها تطبيق فعلي في العالم، وهذا الأخير تم تطبيقه مع نسبية آينشتاين، وأن الضوء الذي يسير بخط مستقيم يمكن أن ينحني بفعل الجاذبية، كما أن الأشكال الهندسية تنحني، وهذا تطبيق لظهور الهندسة اللاإقليدية؛ أي على السطوح غير المستوية، فبغض النظر عن التطبيق الهندسي في العالم، فهذا لا يغير من الإثبات الهندسي الرياضي الذي يعود لما هو قبلي، كما هو الحال مع علم الحساب، وسبب حصول التطور الهندسي، واكتشافنا للهندسة غير إقليدية، هو بسبب تطور معارفنا وخبراتنا، وهذا يثبت أن المعرفة القبلية التركيبية عندما تتطور وتتسع، فتتطور إثباتاتنا، كما هو الحال مع الهندسة الإقليدية واللاإقليدية.

لنأخذ قضايا من قبيل “المثلث شكل له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا”، وقضية أخرى “المثلث مجموع زواياه 180 درجة”، فكيف نعرف أيهما تحليلية أو تركيبية؟ فلو عدنا للتعريف والإثباتات السابقة لما هو تحليلي وتركيبي، فالذي نحتاجه هو المعرفة اللغوية لتحرير المعاني: “شكل له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا”، يظهر بأنه معنى ذاتي، أو بلغة منطقية الموضوع يطابق المحمول، فالمثلث لكي يكون مثلثاً، يجب أن يكون شكلاً له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا، ولكن ماذا عن القضية الأخرى؟ صحيح أن المثلث مجموع زواياه 180 درجة، وصحيح أيضاً أن مجموع الزوايا من طبيعة المثلث، التي تتعلق بضرورتها أو إمكانها، ولكن حتى لو كانت من طبيعة المثلث أو طبيعة العدد، فهذا لا يجعل معانيها ذاتية للمثلث، فلكي يكون المعنى ذاتياً يجب من حصول المطابقة بين الموضوع والمحمول، أو أن مجموع الزوايا يميز ماهية المثلث، ولكن مجموع الزوايا 180 درجة لا يميز ماهية المثلث، فهو معنى عرضي زائد على معنى المثلث، وحتى لو كانت من طبيعة المثلث إما الضرورية لها أو الممكنة، هل المثلث مجموع زواياه 180 درجة؟، نعم، ولكن ليس كل المثلثات؛ بسبب وجود المثلث اللاإقليدي، فيكون مجموع زواياه أكبر أو أصغر من 180 درجة، عندما نعرف أنها معنى عرضي، نستطيع أن نحصرها في كونها علاقة المحمول بالموضوع أهي ضرورية أم ممكنة؟ بلا شك، إنها ليست ضرورية، فهي إذن ممكنة؛ بسبب وجود هندسة غير إقليدية، وسبب حصول الإشكال في ضروريات الهندسة الإقليدية -كما طرحه كارناب-؛ بسبب قصور معرفتنا، وهذا ما يثبت بأنها تركيبية؛ لأنها تعطيك معرفة جديدة، رغم أنها قبلية ومستندة على الرياضيات، والاكتشاف حصل قبل التطبيق الفعلي على العالم، بأنه يوجد هندسة لاإقليدية، ويبقى سؤالاً مهماً: ألا يجعل من الضروريات محل شك، خصوصاً التي من الجهة التركيبية؟ والجواب هو: كلا؛ لأنه عندما نعود للتحرير السابق، يسهل التفريق بين المعنى الذاتي والمعنى العرضي، فتبقى مسألة العلاقة الضرورية والممكنة؛ لمعرفة هذا العرض ضروري أم أنه ممكن، كمثال المثلث، فهل من طبيعته الضرورية أن مجموع زواياه 180 درجة، أم أنه من طبيعته الممكنة؟ وقوع الخطأ هو بسبب الظن، بأنه لا يوجد إلا نوعٌ واحدٌ من الهندسة، وهي الإقليدية، فحُكم على أن المثلث يجب أن يكون مجموع زواياه 180 درجة دائماً، ولكن بعد تطور معرفتنا الرياضية الهندسية، وظهور إثباتات توضح بوجود مثلث إقليدي ومثلث لاإقليدي، وأن الإقليدي هو الذي مجموع زواياه 180 درجة دائماً، عكس اللاإقليدي الذي يجوز فيه أن يكون أكبر أو أصغر من 180 درجة، فمنهجية التحقق اللغوي تساعدنا في فهم طبيعة هذه القضايا وتحرير معانيها المستخدمة من اللغة، فعندما يكون المعنى ذاتياً؛ أي الموضوع يطابق المحمول فهي تحليلية، وعندما يكون المعنى عرضياً، المحمول زائد على الموضوع، فيكون تركيبياً، وعندما تكون علاقة المحمول بالموضوع لا تنفك فهي ضرورية، أو العكس فهي ممكنة.

القضية “المثلث شكل له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا” هي قضية تحليلية قبلية وضرورية، أما قضية “المثلث مجموع زواياه 180 درجة”، فهذه قضية تركيبية قبلية ممكنة، والخطأ الذي وقع فيه كارناب، بما أنها ممكنة فهي بعدية، استناداً على الهندسة الفيزيائية، وبيَّنا سابقاً أنه في الأصل الاستناد للهندسة الرياضية، قبل تطبيقاتها الفيزيائية، وسبب حصول الخطأ في أنها ممكنة، ليس لأنها بعدية؛ أي يمكن تجربتها في الواقع فقط، ولكن لأن معرفتنا التركيبية في ازدياد، وهو الظن بأنه لا يوجد إلا هندسة واحدة، وهي الإقليدية فقط، وعندما تطورت معرفتنا تم تصحيح الأمر، وهذا لا يغير الضرورة الأصلية التي في الهندسة الإقليدية، والخطأ يظهر عندما يجعل كارناب الهندسة الرياضية هي التي ليس لها تطبيق في الواقع، ولكن لو ظهر لاحقاً تطبيق لها، فهل تتحول من الهندسة الرياضية إلى الهندسة الفيزيائية؟ كما هو الحال مع الهندسة الإقليدية واللاإقليدية؟ فهذا تحرير خاطئ؛ لأنه بالفعل الهندسة اللاإقليدية لم يكن لها تطبيق فيزيائي إلا عند ظهور نسبية آينشتاين، رغم أن الهندسة اللاإقليدية ظهرت قبل آينشتاين مع ريمان، ونرى هذا التذبذب عند كارناب، عندما قال:

“لقد تمكن آينشتاين من تقديم أوضح تمييز لهاتين الهندستين، وفي عبارات شديدة الإحكام، وذلك في ختام محاضرة له بعنوان “الهندسة والتجربة”، لقد كان آينشتاين يتحدث عن الرياضيات، ولكنه كان يعني بذلك الهندسة، وبالطريقتين اللتين يمكن فهمها، قال: “إن النظريات الرياضية التي تتحدث عن الواقع، غير يقينية”، وطبقاً للمصطلح الكانطي يعني هذا أنها حتى الآن تركيبية، وليست قبلية، ويستمر في قوله: “ولأنها لا تتحدث عن الواقع، فهي يقينية”، وطبقاً للمصطلح الكانطي أيضاً يعني هذا أنها حتى الآن قبلية وليست تركيبية”11.

فالخطأ الذي نلاحظه عند كارناب، كما هو الحال عند كانط:

“أفلتت الرياضيات معافاة إلى الآن؛ لأن هيوم اعتبر أن كل قضاياها هي قضايا تحليلية؛ أي أنها مشتقةً من تعيينٍ إلى آخر؛ بسبب الهوية، وبالتالي بسبب مبدأ التناقض (لكن هذا خطأ؛ لأنها كلها بخلاف ذلك تأليفية، ومع أن الهندسة -مثلاً- لا علاقة لها بوجود الأشياء، إنما بتعيينها قبلياً في عيان ممكن، كأنه بالتمام تعيين بمفهوم سببي من تعيين (أ) إلى آخر مختلف عنه كلياً (ب) على أنه ظل بالضرورة متصلًا بالأول)”12.

إن الضرورة المستندة على مبدأ عدم التناقض لا تكون إلا للقضايا التحليلية، وهذا ما جعل كارناب يقول: “إن الهندسة الرياضية فقط تحليلية”، وظهر بالنقد السابق خطأ هذا القول؛ لأن الهندسة من الممكن أن تكون تحليلية وتركيبية بما أن كلاهما معرفة قبلية. صحيح أن النظريات التي تستند على الواقع لا تجعلها يقينية؛ يريد بذلك البعديات، ولكن حديثنا عن الأصل لما هو قبلي، لا تطبيقاتها الواقعية، سواء وجدت أم لم توجد تطبيقات واقعية للنظريات الرياضية، فهذا لا يجعلها غير يقينية، كما أن كريبكي يرى بوجود بعديات يقينية. وسوف نناقش صحة مسألة البعديات في مقالة أخرى، بما أن حديثنا في هذه المقالة عن الأسس والقبليات.

الضرورة التركيبية المستندة على مبدأ عدم التناقض ومشكلة الهندسة الإقليدية:

هل بعد اكتشافنا للهندسة اللاإقليدية، سقطت الضرورة التي في الهندسة الإقليدية؟ هذا القول غير صحيح؛ لأن الضرورة المستندة على مبدأ عدم التناقض، سوف تكون ضرورية دائماً، ولكن أين وقع الخطأ والوهم في الهندسة الإقليدية؟ هو مجرد إشكال وقصور في فهمنا لطبيعة الهندسة؛ لأنها معرفة زائدة وجديدة، بعكس القضايا التحصيل حاصل، فهذه القضايا لا يحصل فيها هذا الإشكال؛ لأن المعاني ذاتية، ولكن تحصل في القضايا التركيبية؛ لأن المعاني عرضية، ويبقى السؤال: إن كانت سابقاً الهندسة الإقليدية ضرورية، فهل أصبحت الآن ممكنة؟ والجواب: إنها ما زالت ضرورية ومستندة على مبدأ عدم التناقض، كل ما في الأمر هو حصول زيادة في معارفنا وخبراتنا، مما أدى إلى تعديل القضية، المثلث الذي مجموع زواياه 180 درجة فهذا أمر ممكن، ولكن المثلث الإقليدي الذي مجموع زواياه 180 درجة فهذا أمر ضروري، وكلاهما من القضايا التركيبية، لو قلنا: “المثلث الإقليدي مجموع زواياه 180 درجة”، هنا حصرنا معنى المثلث، فأصبح الشكل الذي له ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا على سطح مستوٍ مجموع زواياه 180 درجة، فالمثلث الذي على سطح مستوٍ دائماً سوف يكون مجموع زواياه 180 درجة، ولا عبرة بالأخطاء الحسابية أو الرسمية التي تطرق لها كارناب، فحتى الإنسان يقع في الخطأ عند حساب معادلة ما، فلو قلنا 2+2=5، فهذا لا يجعل من أسس علم الحساب نفسها خاطئة وغير ضرورية، بل الخطأ مصدره الإنسان نفسه، ويتضح هذا الأمر بشكل واضح جداً مع القضايا التحصيل حاصل، بعكس التركيبية التي تعطيك معرفة جديدة، فتكون أقل وضوحاً، والعبرة دائماً بالبرهنة والإثباتات، ومع ذلك الضرورة المستندة على مبدأ عدم التناقض، تبقى ضروريتها، كما الحال في قضية “المثلث الإقليدي مجموع زواياه 180 درجة”، ويمكن أن نطبق هذا الأمر على كل الهندسة؛ كمثال: “الهرم جسم كثير السطوح وتحده مثلثات” (تعريف من معاجم اللغة)، فالشيء الذي له جسم كثير السطوح وتحده مثلثات لا يكون إلا الهرم، ولا يمنع البحث عن تعريف أدق وأبسط أو أوضح، فالعبرة هنا بالبرهنة والإثبات، بمطابقة الموضوع للمحمول؛ لكي يكون المعنى ذاتياً عن طريق التحقق اللغوي.

هل توجد قضايا قبلية تحليلية ممكنة؟

يحتج كريبكي بوجود قضايا قبلية ممكنة ولكنها تحليلية، فيقول:

“ما هي -بالتالي- المرتبة الإبستيمولوجية لعبارة “العصا ع طولها متر واحد عند ز صفر”، عند من قد ثبت النظام العشري بالإحالة إلى العصا ع؟ يبدو أن معرفته بها بالعبارة قبلية، فهو حين يستعمل العصا ع لتثبيت إحالة المفردة “متر واحد”، فإنه جراء هذا النوع من التعريف (وهو ليس تعريفاً مرادفاً أو اختصارياً)، سيعرف من تلقاء نفسه، ومن غير مزيد تحقيق، أن طول ع متر واحد، في المقابل أي من الناحية الميتافيزيقية، حتى لو استعملت ع معياراً للمتر، فإن مرتبة عبارة “ع طولها متر واحد” هي مرتبة العبارة الإمكانية، على فرض أن مفردة “متر واحد” هي مُعين صارم، في ظل ضغوط معينة؛ من مثل التبريد أو التسخين، لم يكن طول العصا ع ليكون متراً واحداً حتى عند ز صفر (وكذا الحال مع عبارات من قبيل “تغلي الماء عند درجة حرارة مئة مئوية عند سطح البحر”؛ أي إن مرتبتها الميتافيزيقية هي الإمكان)، بهذا المعنى -بالتالي- فثمة حقائق قبلية إمكانية، لكن لأغراضنا الراهنة، ما هو أهم من قبول هذا المثال كمصداق على القبلي الإمكاني، هو قدرته -أي المثال- على التمييز بين التعريفات التي تثبت إحالة ما، وتلك التي تعطي مرادفًا”13.

صحيح أن القضية “العصا ع طولها متر واحد”، تكون قبلية وممكنة، ولكن يستحيل أن تكون تحليلية، فالتقليد التحليلي والوضعية المنطقية بعد نقدهم لكانط، أصبحت عندهم أي قضية قبلية فهي تحليلية، وأما التركيبية فهي بعدية فقط؛ لذلك كريبكي لم يجد مجالاً للقضايا القبلية الممكنة إلا أن تكون تحليلية، وهنا يتضح لنا أين مكمن الخطأ عند الفلسفة المعاصرة؛ لأنه ما المانع من وجود قضايا تركيبية قبلية في الأسس الرياضية؛ كنظرية الأعداد أو الهندسة؟ حتى وإن كانت هذه القضايا قليلة، فلا يمنع من وجودها، فكما سلّم كريبكي بأنها لا تخضع للمرادفة؛ أي القضية القبلية الممكنة في مثاله، إذن لا يوجد مطابقة بين الموضوع والمحمول، فالمعنى هنا ليس ذاتياً، بل عرضياً، وهذا لا يكون إلا في القضايا التركيبية القبلية؛ لأنه يوجد علاقة ممكنة بين العصا ع وبين طولها متر واحد، كان من الممكن أن تكون إحالة العصا ع لطول آخر؛ لنقل مترين على سبيل المثال، ولكن حصول التبريد أو التسخين سوف يغير من طولها فعلاً عند ز صفر، وهذا يثبت أنها حقائق ممكنة، ولكن التحقق منها لا يكون إلا بعدياً لا قبلياً، بما أنها تخضع للتجربة الزائدة على المعاني والمفاهيم المستخدمة؛ مثل معرفة درجة الحرارة عند غليان الماء، فهذا أمر تجريبي. يظهر بأن لا يوجد قضايا قبلية ممكنة تحليلية؛ لأن القضايا التحليلية مجرد تحصيل حاصل، والإمكان يكون للتركيبية فقط، استناداً على الإثباتات السابقة، أما البعديات فالأمر يختلف، وتُناقش في محلها.

الحدسيات الرياضية التي لم تبرهن والمعرفة التركيبية:

منذ أكثر من 250 سنة تقريباً؛ أي من القرن الثامن عشر، هناك محاولة لحل لأحد الحدسيات المشهورة، وهي حدسية غولدباخ الضعيفة14، التي تقول بأن كل عدد فردي أكبر من 7 يمكن التعبير عنه بحاصل جمع ثلاث أعداد أولية فردية، ويوجد صورة أضعف من السابقة، وهي كل عدد فردي أكبر من 5، ويمكن التعبير عنه بحاصل جمع ثلاث أعداد أولية فردية.

لقد نشر الرياضي هارالد هيلفغوت، عدة أوراق في إثبات الحدسية الضعيفة151617، والتي تقبلها المجتمع الرياضي بشكل عام، فما علاقة كل ذلك بالمعرفة التركيبية؟ فلو تتبعنا محاججتي الفلسفية، فسوف نظهر بنتيجة مفادها أنه لو كانت هذه الحدسيات الرياضية يجب أن تثبت إما صدقها أو كذبها؛ بمعنى إن أي حدسية يمكننا برهنتها، ولكن الحاصل أن الحدسية الضعيفة أخذت أكثر من قرن، فالمفترض أن يمكن إسناد البراهين لمبدأ عدم التناقض، بذلك تكون تحصيل حاصل، وهذه هي القضية التحليلية التي لا تعطينا أي معرفة جديدة؛ لأن نتائجها من مقدماتها، ولكن هذا لا ينطبق على هذه الحدسيات، إذن ما هي المشكلة؟ مبرهنة غودل محصلتها تفيد بأنه يوجد في الرياضيات حدسيات لا يمكن أن نبرهن صدقها من كذبها، ولكن هذا الأمر غير صحيح، فالحدسية الضعيفة تم برهنتها بالفعل، يوجد بعض الحدسيات التي لم تبرهن بعد؛ كحدسية غولدباخ القوية التي تقول بأن كل عدد زوجي صحيح أكبر من 2 يمكن التعبير عنه بحاصل جمع عددين أوليين. ولكن عندما نعود لسياق محاججتي المنطقية والفلسفية، نجد أن الحدسيات أصلًا يمكن برهنتها، والسبب في عدم برهنتها إما بمدة طويلة أو لم تبرهن إلى اليوم؛ هو لأن المعرفة والخبرة الرياضية تزداد وتتطور، وهذا ما نجده في أوراق هارالد هيلفغوت، البرهنة وطرقها، وتداخل المجالات الرياضية، يثبت أن معارفنا وخبراتنا تزداد وتتطور، وهذه هي المعرفة التركيبية القبلية؛ لأننا لا نثبت فقط الموضوع الذي هو يطابق المحمول؛ كما في التحليلية القبلية، ولكن نحن نثبت المحمول الزائد على الموضوع، وهذه المعرفة الزائدة، فالذي نعرفه أنه يوجد علاقة، وعندما نستطيع برهنتها، فتكون بذلك ضرورية، بما أنها مستندة على مبدأ عدم التناقض، حتى لو أخذت الحدسية القوية مدةً أطول، فيمكن أن نبرهنها مستقبلاً عندما تزداد معرفتنا الرياضية، والبحث عن طريقة جديدة لإثباتها كما حصل مع الحدسية الضعيفة، وهذا يُجيب عن إشكالية مبرهنة غودل في الحدسيات، وتبقى إشكالاتها الأخرى المتعلقة بالأسس في النموذج الرياضي، وهذه مسألة في غاية الأهمية، تحتاج نقاشًا منفردًا، ولكن المعرفة التركيبية القبلية تفتح المجال في الأسس الرياضية، في برهنة الحدسيات المتعلقة بنظرية الأعداد عند حصول معرفة وخبرة كافية للإثبات؛ كما هو الحال مع علم الهندسة، حتى وإن ظهرت هندسة لاإقليدية، فهذا لا يغيّر من ضرورية الهندسة الإقليدية وأن المثلث الإقليدي مجموع زواياه 180 درجة، فالمعرفة التركيبية تساعدنا في التفريق بطبيعة المثلث، وأننا اكتشفنا أنواع أخرى وهي اللاإقليدية، بذلك الحدسيات يمكن برهنتها، فيجب أن تكون إما ضرورية الصدق أو ضرورية الكذب.

مبدأ عدم التناقض، الفرق بين التناقض الذاتي من نفس المعنى في القضية التحليلية والتناقض العرضي من المعنى العارض في القضية التركيبية:

التناقض العرضي هو الذي ينقض المعنى العرضي، عندما يكون معنى المحمول العرضي ينقض معنى الموضوع الذاتي؛ مثل أن “2 ليس بعدد زوجي”، فليس بعدد زوجي يؤدي إلى حصول التناقض من جهة عرضية لا من جهة ذاتية؛ مثل: “2=¬2” أو “2+2=¬4″؛ لأن “1+1=¬1+1” فهذا تناقض ذاتي مستند من نقض المعنى الذاتي للموضوع مع نقض المعنى الذاتي للمحمول، أما “1+1= ليس بعدد زوجي”، فهذا تناقض عرضي؛ لأنه مستند من نقض المعنى الذاتي للموضوع مع نقض المعنى العرضي للمحمول. عندما ينتقض المعنى العرضي للموضوع ألا وهو عدد زوجي، فعدد زوجي خاصية ضرورية للعدد 2، رغم كونها معنىً عارضاً عليها، ونعرف ذلك عن طريق العلاقة ما بين الموضوع والمحمول، فإن كانت علاقة الموضوع بالمحمول ضرورية، عن طريق معرفتنا المعنى العرضي للموضوع، هو نفس المحمول فيحصل الضرورة، والنقيض يحيل للتناقض.

لم يحصل تناقض في المعنى الذاتي للمثلث، عندما قلنا عن المثلث: مجموع زواياه 180 درجة، بما أنها ضرورية، ولكنه قصور في فهمنا لطبيعة المثلثات، بما أنها معرفة جديدة، بأنه ليس كل المثلثات مجموع زواياها 180 درجة، والصحيح أنها خاصية ضرورية للمثلث الأقليدي فقط، فالتناقض العرضي يختلف عن التناقض الذاتي، ولكن هل هما بنفس القوة؟ التناقض الذاتي ينقض التحصيل حاصل، والتناقض العرضي ينقض الخصائص الضرورية.

مبدأ عدم التناقض:

¬(أ ∧ ¬ أ)

فليس أن يكونا (أ) أو ليس (أ) معاً.

في التناقض الذاتي:

¬(ض=ح ∧ ¬ض=ح)

ليس أن يكونا (ض=ح) وليس (ض=ح) معاً.

في التناقض العرضي:

¬(ض ع ح ∧ ¬ض ع ح)

ليس أن يكونا (ض ع ح) وليس (ض ع ح) معاً.

الرجل الأعزب=المتزوج، قضية تحليلية كاذبة؛ لأنها متناقضة، والتناقض هنا مستند على المعنى الذاتي، أما المعنى العرضي 2 ليس بعدد زوجي أو 2 عدد فردي، فهذه قضية تركيبية كاذبة؛ لأنها متناقضة، والتناقض مستند على المعنى العرضي.

يرى لايبنتز بأن كل الحقائق يمكن برهنتها؛ لأن كل حقيقة لديها برهانها القبليّ -أي ما قبل التجربة- فهي مشتّقة عن طريق تصورنا للمعاني، ورغم صعوبة هذا الأمر؛ لأنه أحياناً ليس باستطاعتنا تحقيقها؛ أي برهنة كل حقيقة متاحة18.

هذا بسبب وجود بعض القضايا القبلية التي لم نبرهنها بعد أو التي لم نستطع برهنتها؛ كحدسية غولدباخ؛ لأن القضايا القبلية المستندة على مبدأ عدم التناقض ليست كلها تحليلية؛ أي التي لا تعطيك أي معرفة جديدة. إذن يوجد حقائق تعطيك معرفة جديدة وهي الحقائق التركيبية، ولا يحصل البرهنة إلا بعد تحققنا من هذه المعرفة الجديدة عن طريق معانيها، وعندما تكون مستندة على مبدأ عدم التناقض، فيمكن برهنتها.

الكليات والضروريات وإثباتاتها بالمنطق الصوري والرمزي:

الإثبات الصوري في القضايا التحليلية القبلية:

“كل رجل أعزب هو غير متزوج”

فهذه كلية موجبة معدولة، ونقيضها هي الجزئية السالبة المعدولة:

“ليس بعض الرجل الأعزب هو غير متزوج”

وعن طريق تناقضهما، يجب أن تكون إحداهما صادقة، فالجزئية السالبة كاذبة، إذن الكلية الموجبة صادقة.

الإثبات الرمزي في القضايا التحليلية القبلية:

∀(ض) (ض≠ح) ↔ ¬(ض=ح)

الإثبات الصوري في القضايا التركيبية القبلية:

“كل (2,4,6,8…ن+2) فهو عدد زوجي”

فهذه كلية موجبة، ونقيضها هي السالبة الجزئية:

“بعض (2,4,6,8…ن+2) ليس بعدد زوجي”

وعن طريق تناقضهما، يجب أن تكون إحداهما صادقة، فالسالبة الجزئية كاذبة، إذن الكلية الموجبة صادقة.

طريقة بديلة:

“كل عدد صحيح (ن2) فهو عدد زوجي”

نقيضها:

“بعض الأعداد الصحيحة (ن2) ليس بعدد زوجي”

الإثبات الرمزي في القضية التركيبية القبلية:

(1) ∀(ض) (ض ¬ح) ↔ ¬(ض ح)

(2) من (1): ∀(ض) (ض ع ¬ح) ↔ ¬(ض ع ح)

(3) من (2): ∀(ض) (ض ع ح) ← (ع ضرورية)

إثبات الرمزي في العلاقة الممكنة من القضايا التركيبية القبلية:

(1) E(ض) (ض ح) ∨ (ض ¬ح)

(2) من (1): E(ض) (ض ع ح) ∨ (ض ع ¬ح)

(3): E(ض) ((ض ع ح) ∨ (ض ع ¬ح)) ← (ع ممكنة)

(4) من (3): E(ض) (ض ع ح) ← (ع ممكنة)

مبدأ التحقق اللغوي-المنطقي والقضايا الميتافيزيقية:

القضايا التي سوف نذكرها مجرد تطبيق لمبدأ التحقق اللغوي، فهي ليست قبلية بل بعدية باستثناء “المربع الدائري”، فسوف نأخذ أمثلة متداولة في أدبيات الوضعية المنطقية؛ لتوظيف المبدأ السابق وفعاليته بشكل مختصر، أما التفاصيل المطولة بالمعرفة، والميتافيزيقيا، ونظامي المنطقي الخاص هو في أوراق قادمة.

“أبو نصر الفارابي عدد زوجي”

المعنى الذاتي لأبي نصر الفارابي هو شخص من فصيل البشر؛ أي إنسان، أو حيوان ناطق، والمعنى العرضي هو أحد صفاته؛ كمؤلف آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، أو الفيلسوف الملقب بالمعلم الثاني. والمعنى الذاتي للعدد الزوجي هو العدد الذي يقبل القسمة على اثنين.

فمعنى الموضوع لا يساوي معنى المحمول؛ إذن الحيوان العاقل لا يساوي عدداً يقبل القسمة على اثنين، ولا حتى المعنى العرضي يعرض على المعنى الذاتي، فمؤلف آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها لا يربطه بعلاقة منطقية؛ أي العدد الذي يقبل القسمة على اثنين، إذن القضية كاذبة وتحيل للتناقض، ولا يمكن ميتافيزيقياً في أحد العوالم الممكنة لأبي نصر الفارابي أن يكون عدداً زوجياً، فيظهر أن القضية متناقضة، ولكننا يمكن أن نحكم ونعرف معانيها.

“يوليس قيصر كائن طائر”

نفس التطبيق السابق، المعنى الذاتي هو إنسان أو من فصيل البشر، والمعنى العرضي قيصر الإمبراطورية الرومانية. والمعنى الذاتي للكائن الطائر هو ما يطير في الهواء وله جناحان أو من فصيل الطيور، فالمعاني الذاتية مختلفة، ولا حتى المعنى العرضي؛ أي المحمول يعرض على الموضوع، فهي قضية كاذبة، ولكن عند النظر، يظهر بأنه لا مانع من وجود -في أحد العوالم الممكنة- قيصر في الإمبراطورية الرومانية، ولكنه من فصيل الطيور، بلا شك سوف يكون أمراً غريباً، يصعب على الوضعية قبول شيء كهذا، مع أنه مستحيل معرفياً، ولكن باب الإمكان الميتافيزيقي متاح؛ لأنه لا يوجد تناقض صريح مثل القضية السابقة.

“الغول كائن بعين واحدة”

المعنى الذاتي للغول نوع أو من فصيل الشياطين، والمعنى العرضي كصفاته كائن يتشكل بأشكال مختلفة يضل الناس ويهلكهم، أو له عين واحدة. والمعنى الذاتي للعين الواحدة هي الجارحة التي يُبصر بها، ولكنها واحدة أو فردية. المعنى الذاتي للموضوع مختلف عن المحمول، ولكن المعنى العرضي يعرض على المعنى الذاتي للمحمول، فالغول كائن له عين واحدة، رغم أن القضية صادقة، ولكن لا يوجد كائن كهذا، فيبقى الامتناع المعرفي له، ولكن ينطبق عليه كما ينطبق على الكائن الطائر، بأنه أمر ممكن ميتافيزيقياً19.

“المربع الدائري غير موجود”

هذه من أشهر القضايا التي تحيل للتناقض، ولكن لنقل: إن المعنى الذاتي هو شكل له أربعة أضلاع وليس له أربعة أضلاع معاً، والمعنى العرضي أي أن لهما أقطاراً ومساحة، والمعنى الذاتي لغير موجود هو سلب تحقق الشيء أو انعدامه، بلا شك إن المعاني متناقضة، ولكن لم نعرف أنها متناقضة إلا بعد تحرير معانيها والحكم عليها، ولكن استطعنا أن نحكم على كل القضايا السابقة، ولكن هذه القضية المفترض بأنها صادقة؛ لأنه لا يوجد شيء كهذا، والقضية نفسها متناقضة، فالمفترض أننا لا نستطيع أن نعطي أي حكم، ولكن عند تحرير المعاني، ندرك التناقض، بذلك نستطيع أن نعطي حكماً على القضية، وهو إما صدقها أو كذبها، فالكذب أي ضروري الكذب، فهذا لدي يحيل للتناقض، ويوجد نوع أخر هو الكذب الممكن؛ أي عندما تكون القضية خاطئة.

قضية المربع الدائري حيرت عقول الفلاسفة المعاصرين، وكذلك القضية السابقة المتعلقة بالأسماء المتخيلة، كما أن الأمر يحتاج إلى تفصيل أكثر، ولكن نختصر التطبيقات على المبدأ اللغوي.

تظهر قدرتنا في الحُكم على كل القضايا السابقة، وحتى وإن كانت متناقضة، بعكس الوضعية المنطقية، فلا نستطيع أن نحكم على أكثر هذه القضايا، فنتوقف في الحُكم عليها، ولكن بمبدأ التحقق اللغوي، يمكننا أن نحرر المعاني التي في القضايا ونتحقق منها، ونحكم بصدقها أو كذبها، وهل هي ممكنة ميتافيزيقياً؟ وهل يوجد مفهوم للكذب يحيل للتناقض أي ضروري الكذب أم لا؟

 

 


1صول كريبكه، التسمية والضرورة (2017)، ص50

2John P. Burgess, Kripke (2013), p.4-7

3Gottlob Frege, The Foundations of Arithmetic (1980), p.7-8

4المصدر السابق، ص101-102

5إمانويل كنت، نقد العقل العملي (2008)، ص112

6رودلف كارناب، الأسس الفلسفية للفيزياء (1993)، ص188-189

7المصدر السابق، ص189

8المصدر السابق، ص190

9المصدر السابق، ص191

10المصدر السابق، ص189

11المصدر السابق، ص191-192

12إمانويل كنت، نقد العقل العملي (2008)، ص113

13صول كريبكه، التسمية والضرورة (2017)، ص139-140

14Davide Castelvecchi (2012). “Mathematicians come closer to solving Goldbach’s weak conjecture”. doi:10.1038/nature.2012.10636

15Helfgott, Harald A. (2012). “Minor arcs for Goldbach’s problem”. arXiv:1205.5252

16Helfgott, Harald A. (2013). “Major arcs for Goldbach’s theorem”. arXiv:1305.2897

17Helfgott, Harald A. (2015). “The ternary Goldbach problem”. arXiv:1501.05438

18Gottlob Frege, The Foundations of Arithmetic (1980), p.21

19ديفيد لويس يرى هذه القضايا الشخصية المتخيلة من قبيل الممكنات الميتافيزيقية؛ استناداً على نظريته في العوالم الممكنة، المسمى بالموجهات الواقعية، أما كريبكي يرى بأن الأسماء الخيالية لا يمكن أن نتثبت منها، وليست ممكنة؛ لأنها لو كانت ممكنة المفترض تحيل لأوصاف متعددة وممكنة، بذلك تنصب في حيز القضايا الشخصية الحقيقية، وهي التي نتثبت منها تاريخياً أو نكتشفها في عالمنا الواقعي، مذهبه في الأسماء الفارغة أو المتخيلة، يمكن أن يصفها بأنها غير موجودة -حتى في العوالم الممكنة-، بما أنها مجردات أو مفاهيم من اختراع المؤلف أو الكاتب نفسه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى