يُشير غطاؤنا الثقافي، بحكم الشرط الزمني ذاته، إلى وجود سيرورة طويلة قادت الإنسان بشكل تصاعدي إلى التأنسن وبلورة حاضن اجتماعي ينمو داخله باعتباره كينونة جديدة تتحقق في التاريخ والحضارة استنادًا إلى قوانين هي من صلب الممارسة، أي ضمن سعي الإنسان الدائم إلى التطور وتجاوز ممكناته الذاتية. ولم تكن هذه السيرورة سوى “سميأة” للمدرَك الخارجي في أفق استيعابه داخل “أشكال رمزية” هي شرط وجوده وتجلّ من تجلياته. لقد تخلص من حسية صامتة لكي يستعيد نفسه كائنًا عاقلًا يدير انفعالاته استنادًا إلى مقتضيات الفكر لا الهوى وحده. فالإنسان جزء من الطبيعة في الظاهر فقط، أما في حقيقته فهو منتج من منتجات التمثيل الرمزي بكل واجهاته، إنه كائن منتج للمعاني ومستهلك لها.
وجوهر الثقافة هذا هو الذي يجعل البحث في جزئيات وتفاصيل المعيش اليومي بحثًا في الجوهر الحقيقي للإنسان ذاته. فما يقوله عن نفسه وما يحتمي به باعتباره واجهة دينية قد تجنبه “نار العقاب” أو تقيه “شر الأحكام الاجتماعية”، أو باعتباره واجهة تحدد عرقه أو أصله، ليست، في واقع الأمر، سوى قناع تختفي وراءه أشكال سلوكية شوهتها التقاطعات الكبيرة بين أحكام مسبقة ميزتها الثبات في الزمن، وبين إفرازات سلوك متطور في الثقافة. فكما أن اللغة هي كينونة الإنسان وامتداده في الآخر وفي التاريخ، فإن أشياءه وطقوسه هي الواجهة المادية لهذه الكينونة.
وبذلك كان موطن الإنسان في” الوجود” لا “داخله” (هايدغر)، بما يعني التخلص من “ظاهر مادي” والاحتماء بما يشكل الأبعاد الرمزية فيه. فهو منفتح على العالم، ولكنه لا يمكن أن يوجد إلا من خلال قدرته على استيعاب كل ممكنات هذا العالم ضمن محددات دلالية هي شرط أنسنته وشرط انفصاله عما يوجد خارجه؛ وبهذا الشرط وحده أصبح الإنسان حقيقة تاريخية لا واقعة عارضة من وقائع الطبيعة. لذلك كان الإدراك حدسًا أعمى لو لم يكن هناك توسط يتخذ من خلاله المدرَك بعدًا موضوعيًا هو الذي يجعله قابلًا للتداول خارج غطائه المادي.
ومن خلال هذه الذاكرة وحدها استطاع الإنسان الخروج من ذاته، لكي ينصهر داخل فضاء موضوعي هو السبيل إلى تهذيب الذاكرات الفردية وتعميمها، ومن خلال هذه الموضوعية استطاع أيضا الإمساك بالزمن “مُشْبَعًا” بانفعالات هي الدليل على وجوده، وهي الشكل الوحيد الذي يحضر من خلاله في التاريخ. وبذلك عُدت الدلالة، ضمن محددات الشرط الإنساني، “حركة جدلية تفك التناقض بين الإنسان الطبيعي والإنسان الثقافي” (بارث). يتعلق الأمر بلحظة فاصلة في الوجود كانت هي البوابة نحو التخلص من جوهر مادي واستيطان محددات دلالية مضافة.
والحاصل من هذا أن بؤرة ” الدلالة” في عوالم الإنسان موجودة في العُرف والاستعمال والتواضع، لا في مضمون العلامة ذاتها، فهاته ليست سوى مَمَر لا يمكن أن يصبح سالكًا إلا باستحضار سقف ثقافي/رمزي هو أصل الدلالات فيها والضامن لتداولها وإشاعتها بين الناس. وهي صيغة أخرى للقول إن معنى علامات اللسان ليس في جوهرها المفترض، بل مستمد من النسق الذي يحتضنها وينوع من أشكال حضورها. فنحن نبني السياقات ونحتمي بالمقامات لكي نُدبِّر أمر ما تراكم عندنا من مواقف وانفعالات وأفكار لا سبيل لها إلى الوجود خارج اللغة بممكناتها في الصوت والنحو والدلالة. فالعلامة لا تدل ولا تسمي، إنها تشير إلى شخص يفكر في محيطه، أو هي مصدر للخلاف، أو حاصل الاستعمال وحده.
وتلك خاصية من خاصيات المعاني، إنها منتشرة في كل “الوقائع”، فهي في اللغة والصورة والسجل الإيمائي والطقوس الاجتماعية، وهي في المأكل والملبس وطريقة استقبال الضيوف أيضًا. فحيثما ولّى الإنسان وجهه سيصطدم بما يوحي أو يستثير أو يستفز أو ينشر القلق في محيطه. وتلك هي حقيقته، كل ما يلمسه أو يجربه أو يحيط به يتحول إلى معنى، ذلك أن “وجود الإنسانية رهين بوجود تجارة للعلامات ” ( إيكو)، أي تعميم للمعاني. يتعلق الأمر في جميع حالات التمثيل هاته بمفهمة مكثفة تقود إلى صب كل معطيات الحياة داخل نسق أو أنساق رمزية. إن المحيط الخارجي أخرس، أما المعنى فناطق في الذات التي ترتب وتنظم وتخلق روابط جديدة بين عناصر لا رابط بينها، دليلًا على أن المعنى ليس في الطبيعة، بل في عين الذي يدرك ويحول مدركاته إلى مفاهيم من خلالها يدبر شؤونه، ما بدا منها وما ظلّ مستترًا إلى حين أو إلى الأبد.
وتلك صيغة أخرى للقول إن المعنى ليس في قلوبنا، وليس محايثًا للأشياء، إنه مودع في “ممارسة” اجتماعية هي ذاتها ما يشكل طبيعة وجودنا على الأرض باعتبارنا كائنات ” تُتاجر” في الرموز وتتداول أفكارها وانفعالاتها من خلالها. إنه ليس حقيقة، بل سبيل ممكن نحوها. فنحن في جميع حالات كينونتنا منتجات لغة لا شيء واضح خارج حدودها، بما فيها أكثر انفعالاتنا استعصاء على التحديد. فالمعنى هو ما يدل، إنه ممر نحو الفهم، ولكنه هو أيضا ما ينظم ويرتب ويصف ويصل ويفصل ويعزل أيضًا. لذلك لا وجود له في واقع الأمر إلا من خلال سلسلة طويلة من العلاقات فيها التضاد والتقابل والتناقض والتشابه أو التطابق.
إن الدلالة، على هذا الأساس، هي المصفاة التي يتسرب من خلالها الإدراك الحسي إلى الذهن لكي يستوطن المفاهيم المجردة. لذلك كان المعنى بداهة في حياة الإنسان لا توازيها سوى بداهة الرمزية التي تتحكم في طريقة تصريف سلوكه خارج واجهاته البرانية. وهو ما يعني أن دراسة المعنى، في اللسان وفي الوقائع والطقوس، لا تتم على مستوى العلاقات التعيينية القائمة بين الكلمة والشيء، أو الواقعة وما تحيل عليه، كما يعتقد في ذلك العامة من الناس، بل تتحقق على مستوى العلاقات التي تجمع بين الكلمات باعتبارها حدودًا داخل نسق مغلق هو ما يشكل اللسان، أرقى الأشكال الرمزية وأكثرها قدرة على التعبير عن كينونة الإنسان. فما هو أساسي في اللسان ليس قدرتَه على تعيين أشياء في العالم الخارجي، بل ممكناتِه في إعادة صياغة الوجود استنادا إلى ذات تتكلم وتُبصر وتعيد صياغة ما تدركه ضمن رموز من كل الطبائع.
وبذلك لن يكون اللسان مدونة، ولن يكون ظلًا لأشياء تسميها كلماته، إنه نسق من العلامات وظيفته الأساس هي إعادة بناء العالم ضمن حدود المجرد في الوجود. بل إنه كان وما يزال أداتَنا في توسيع ذاكرة هذا العالم ومدها بصور دالة على وجود طارئ في الحياة. فما لا يعني ولا يدل لا يمكن أن يصنف ضمن العالم الإنساني. فالذاكرة الوحيدة الممكنة للإنسان هي الذاكرة اللسانية، فهي أساس الإدراك وأساس الفصل بين الكائنات والأشياء. بل إن اللسان هو المؤول لكل الأنساق، بما يعني أنه الوسيط الأمثل بين الإنسان وعالمه. فلا سبيل “إلى معرفة حقائق الأشياء إلا بتوسط اللفظ”، كما يقول ابن حزم، أي بما يمكن أن يمنح هذه الأشياء موقعًا داخل جهاز رمزي هو الضمانة على تداولها خارج إكراهات منبتها الأصلي.
وقد ذهب بورس في تصوره للنشاط التدلالي ( السيميوز) إلى أقصى حد يمكن أن يصل إليه التجريد المفهومي حين سرب العلامة إلى الشيء ذاته. فالعلامة تنصهر في نهاية المطاف ضمن ممارسة يطلق عليها “العادة”، وهي ليست شيئًا آخر سوى فعل لا يمكن أن يدرك إلا من خلال انتقاله من النسخة إلى ما يشكل النموذج الذي يغذي السلوك المفرد ويمنحه معنى. فكل شيء يتم داخل نسيج التدلال : فالعلامة تولد وتنمو وتموت داخله. يتعلق الأمر بما يشبه “الهابوتوس الاجتماعي”، الذي يُعد نمطًا في الكينونة أو هو مجموع العادات والسلوكات التي يكتسبها فرد أو مجموعة من الأفراد أو جسم اجتماعي بأكمله، واستنادًا إليها يُفهم المتحقق من الممارسات ويُقاس حجم معناها، ففاعل الفعل ليس صاحبَه، كما يقول بورديو.
لذلك لم يكتف الإنسان بتسمية الأشياء والفصل بينها ضمن ما يستجيب لرغبة في بقاء لا امتداد له خارج محددات العيش الحافي، بل بحث فيها عما يشكل المتعة داخله. وتلك كانت سبيله نحو خلق الاستعارات والمجازات، وتصور عالم الأشياء من خلال حالات الترادف والتضاد وكل أشكال الترابطات الممكنة بين التسميات وحالات التفييء التي تمكننا من خلق “حقول” دلالية تترابط داخلها كلمات تجمع بينها قرابة في المعنى تفصل بين الحاضن والـمُحتَضن. وبذلك يكون الإنسان قد بلور استعمالات جديدة لوحدات كانت موجهة في الأصل لالتقاط “الحاجات” النفعية وحدها.
وقد كان بورس أيضًا سباقًا إلى تحديد التأويل باعتباره خاصية مركزية في اشتغال العلامة وفي وجود الإنسان، “فالعلامة شيء تفيد معرفتُه معرفةَ شيء آخر”، وهي الصيغة التي تتضمنها فكرة الإحالات التي لا يمكن أن تتوقف عند حد بعينه. فالكون ممتد إلى ما لا نهاية، ولا فاصل بين أشيائه وكائناته وظواهره. لذلك لا تشكل الإحالة الأولى سوى لحظة ضمن سيرورة تدليلية هي في المبدأ غير قابلة للتوقف عند حد بعينه. وهو ما يعني أن التعيين لا يشكل سوى ممر نحو التنويع من وجود الإنسان والتعرف على تجاربه استنادًا إلى معارف أو انفعالات سابقة أو تم استبطانها في غفلة من الرقيب الواعي. بعبارة أخرى، إن العلامة قد تحيل على الشيء ذاته، ولكنها تفعل ذلك دائمًا من خلال أنماط مختلفة من المعارف هي ما يشكل جزءًا من مضمون التلفظ وغاياته.
ومصدر هذا التنوع ليس في العلامة ذاتها، إنه في طبيعة الكائن وشكل حضوره في الكون. فالكينونة عنده يُعبر عنها من خلال طرق متنوعة كما يقول أرسطو. لذلك ” تفتح الرمزية تعددية المعنى على تعدد واجهات الكائن ” (ريكور). وهذا معناه أن واجهات الإنسان مدرجة في التعددية الدلالية للكلمات ذاتها. يتعلق الأمر بنمطين في قياس التعدد في المعنى وفي طريقة استيعابه للمدرك في الوجود والانفعال، “فالتزامنية تمسك به من خلال تنوعه، أما التطورية فتنظر إليه باعتباره تغيرا في المعاني” (ريكور). إبدالان متناقضان في الظاهر فقط، أما في الجوهر فإنهما يشيران إلى تراكم لا يتوقف: يتم الأول في الممارسة الفعلية للغة، حقيقة أو مجازًا، وفي الأفعال التي توازيها، أما الثاني فيتم في الزمنية الممتدة في ذاكرة التاريخ.
استنادًا إلى كل هذا لن يكون التأويل ممكنًا إلا عندما تتخلص اللغة من مرجعياتها المباشرة، لتنفتح على ممكنات الثقافة. حينها تمتد بين التمثيل المباشر والحالات التي يخلقها التباعد الثقافي، أو ما ينتج عن انفصال الواقعة عن شروط إنتاجها، هوة كبيرة على التأويل ردمها لكي يستعيد ما غيبته الزمنية أو شوش عليها تعدد المقامات. وفي هذه الحالة تصبح الوقائع دالّة ضمن ما يمكن أن يبنيه النص ومؤوله، أي ضمن فرضيات القراءة في المقام الأول.
إن الكلمات داخل النص تستوحي معانيها من سياقها الداخلي لا من إحالتها على عوالم خارجية. وفي هذه الحالة فقط تصبح الكلمات “كلمات لذاتها”، لا في علاقتها بمرجع مباشر، كما يقول ريكور. وهو ما يعني أن “الوجود لا يمكن أن يأتي إلى الكلام وإلى المعنى والتأمل إلا من خلال تدبر دائم لكل الدلالات التي تولد داخل حاضن ثقافي” (ريكور). وهذا معناه أن التعدد في الدلالات هو أصل الوجود، أما المعنى المباشر فلا يغطي سوى أكثر المناطق فقرًا في الإنسان.