مقالات

المعنى واللامعنى – جيل دولوز

ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي

ربما ليس ما يجمع المؤلفين الذين جرت العادة حديثًا على تسميتهم بالبنيويين سوى هذه النقطة المشتركة، بيد أنها هي النقطة الأساس: المعنى، ليس مطلقًا مظهراً، وإنما هو مفعول سطحي أو موقعي، متولد عن حركة الخانة الفارغة في سلاسل البنية (موقع الميّت، موقع الملك، مهمة عمياء، دال عائم، القيمة صفر، العلة الغائبة، الخ.). تخلّد البنيوية، وعيًا أو بدون وعي، ذكرى التقاءات تُغذيها النزعة الرواقية ويلهمها ل.كارول. البنية هي بحق آلة لتوليد المعنى اللاجسدي (سكيندابسوس). وعندما تُبيّن البنيوية بهذه الكيفية أن المعنى متولد عن اللامعنى وأنه زحزحته الدائمة، وأنه يتولد عن الموقع المتبادل لعناصر ليست «دالة» في حدّ ذاتها، فإننا لن نرى في ذلك أيّ تقريب مع ما سمّي فلسفة العبث: ليفيس كارول، أيْ نعم، لكن، لا لألبير كامو. ذلك أن اللامعنى عند فلسفة العبث، هو ما يقابل المعنى ويتعارض ضمن علاقة بسيطة معه، إلى حد أن العبث يتحدد دومًا كنقص في المعنى، كعوَز (ليس هناك ما يكفي من المعنى…). أما من وجهة نظر البنية، فإنّ هناك، على العكس من ذلك، فائضًا وإفراطًا في المعنى: وهو إفراط يتولد بفعل اللامعنى كنقص فيه هو ذاته. فمثلما يحدد ياكوبسون وحدة صوتية من درجة صفر لا تتوفر على أيّ قيمة صوتية معينة، لكنها تقابل غياب الوحدة الصوتية، وليس الوحدة ذاتها، فإن اللامعنى لا يتوفّر على أيّ دلالة معينة، إلا أنه يقابل غياب المعنى، وليس المعنى ذاته الذي يولده توليدًا مبالغًا فيه، من غير أن يدخل مع ما يولّده في العلاقة البسيطة للعزْل والفصْل التي نسعى عادة إلى اختزاله فيها [1]. اللامعنى هو، في الوقت ذاته، ما ليس له معنى، لكن، بما هو كذلك، فهو يقابل غياب المعنى بقيامه بعملية إضفاء المعنى. هذا ما ينبغي فهمه من اللا-معنى.

في نهاية الأمر، فإن أهمية البنيوية في الفلسفة، وفي الفكر عامة، تتجلى في كونها تزحزح الحدود. عندما أخذ مفهوم المعنى المشعل من الماهيات المنهارة، ظهر أن الحدود الفلسفية قد صارت قائمة، من جهة، بين من كانوا يربطون المعنى بتعالٍ جديد، وتحوُّل جديد للسماء، وبين من كانوا من جهة أخرى، يجدون المعنى في الإنسان والهوة الساحقة التي ترتبط به، وهذه الهوة عمق حديثُ عهدٍ بالحفر. لاهوتيون جدد يقدسون سماء مغيمة (سماء كونيكسبيرغ)، ومعتنقون جُدد لنزعة إنسانية تخرج من قعر الكهوف، احتلوا الخشبة باسم الإنسان كمستودع سرّ المعنى. كان من الصعب في بعض الأحيان التمييز بين هؤلاء. إلا أن ما يجعل التمييز اليوم مستحيلًا، هو، أولًا، المَلل الذي أصابنا من تكرار هذا الخطاب الذي لا ينتهي حيث يطرح السؤال عما إذا كان الحمار هو الذي يحمّل الإنسان، أو ما إذا كان الإنسان هو الذي يحمِّل الحمار ويتحمّل هو نفسه. وفيما بعد، خامَرَنا الانطباع بوجود معنى مضاد خالص يجرى على المعنى، إذ مهما كان الحال، سواء أكان الأمر يتعلق بالأعالي أم بالهوة الساحقة، فإن المعنى يُقدم كمبدأ وخزّان ومدّخر وأصل. عندما يؤخذ كمبدأ سامٍ، يقال إنه وقع طيّ النسيان وإنه تحجّب، وعندما يعتبر مبدأ قعريًا لا يمتّ إلى الأعالي بصلة، يقال إنه شُطّب وأزيح عن مكانه وشُوّه. لكن، سواء أكان مخفيًا بفعل التشطيب أو تحت الحجاب، فقد كنا نُدعى إلى استعادة المعنى وتقصِّيه، سواء عند إله ربما لم نكن نفهمه بما فيه الكفاية، أو عند إنسان لم نبحث في أعماقه بما يكفي. جميل إذاً أن نسمع اليوم الخبر السار: إن المعنى ليس قط مبدأ ولا أصلًا، وإنما هو منتوج. وليس علينا اكتشافه واستعادته وترميمه وإعادة استخدامه، وإنما ينبغي توليده بفعل آليات جديدة. فهو لا ينتمي إلى الأعالي، كما لا يغرق في الأعماق، وإنما هو مفعول سطوح، وهو لا ينفصل عن السطح مثلما أنه لا ينفصل عن بعده الخاص. لا يعني هذا أن المعنى ينقصه العمق أو يعوزه السموّ، وإنما بالأحرى أن السمو والعمق هما اللذان يعوزهما التسطح، يعوزهما المعنى، أو أنهما لا يمتلكانه إلا من جرّاء «مفعول» يفترض المعنى.(…). إذا ما كان هناك مؤلِّف لا يرى أهمية في سقوط النموذج الزاهد ما دام يعوض بالأعماق الكاذبة للبشر، وبالضغينة وتأنيب الضمير، فهو نيتشه بلا منازع: إنه يوجه أبحاثه بعيدًا عن كل هذا، في الكتابة الشذرية والشعر، اللذين يشكلان آلات لتوليد المعنى، وعبور السطوح بإقامة حركة فكرية فعلية. لن نبحث عند فرويد عن متقصٍّ للأعماق البشرية وعن المعنى الأصلي، وإنما عن الكاشف المذهل لآلية اللاشعور الذي بفعله يتولد المعنى، ويتولد دومًا انطلاقًا من اللامعنى.[2].

 

 

 


المصدر:

Gilles Deleuze, Logique du sens, « Onzième série : Du non-sens » Editions de Minuit, coll. « Critique », Paris, 1969, pp. 88-90.

[1] انظر بهذا الصدد ملاحظات ليفي ستروس حول «الوحدة الصوتية من درجة صفر» في «مقدمته لأعمال مارسيل موس»، ضمن كتاب:,p50 Mauss, Sociologie et anthropologie

[2] على صفحات تتناغم مع الأطروحات الأساسية للوي آلتوسير، يقترح ج.ب.أوزيي التمييز التالي: بين أولئك الذين يعتبرون أن علينا البحث عن المعنى في أصل ضائع «سواء أكان هذا الأصل إلهيًا أم بشريًا، أنتولوجيًا أم أنتربولوجيًا»، وبين من يرون أن الأصل هو لا-معنى، وأن المعنى يتولد كمفعول سطحي، إبيستمولوجي. عندما يطبق أوزيي هذا المعيار على فرويد وماركس، يرى أن مسألة التأويل لا تقتضي أبدًا الانتقال من «الفرعي» إلى «الأصلي»، وإنما تتطلب فهم آليات إنتاج المعنى ضمن سلسلتين: المعنى دومًا «مفعول ونتيجة». انظر ماهية المسيحية لفويرباخ، منشورات فرانسوا ماسبيرو، 1968، ص 15-19.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى