بعيدًا عن المادية المتوحشة للقرنين التاسع عشر والعشرين، تلك التي بلغت ذروتها في زمن الحرب العالمية الثانية، فطغت على الروح الإنسانية، وبدّدت المثل العليا لقيم الحق والعدل والجمال، عاش رجل القانون والفنان والمتصوف والموسيقي والشاعر الروسي فاسيلي كاندنسكي (1866- 1944)، الذي يعد من أوائل الفنانيين الأوروبيين، ممن ابتكروا عالمًا جديدًا قائمًا على التجريد؛ عالم روحي يتسامى عن الأشكال المادية، وتنأى مكوناته قدر المستطاع عن التمثيل المباشر للعالم الخارجي، فيخلق بذلك توجهًا أكثر عمقًا وروحانية يجمع بين العمل الفني والمتلقي على أرضية واحدة. يقول كاندنسكي في كتابه الروحانية في الفن “إن العلاقات في العمل الفني ليست بالضرورة علاقات في الشكل الخارجي، لكنها علاقات تقوم على التعاطف الداخلي للمعاني”.
يمكن اعتبار هذه العبارة مدخلًا مناسبًا لفهم فلسفة كاندنسكي في الرسم ، بوصفه واحدًا من أوائل الفنانين التجريديين في الغرب. حاول كاندنسكي من خلال فنه التعبير عن عالمه الداخلي، بغض النظر عن الاتجاهات الفنية المحيطة به. حيث كان التعبير عن الواقع الداخلي للشخص أمر حاسم في صنع الفنان من وجهة نظره، كما أن أي محاولة لتجاوز فردانية الفنان لموائمة الواقع ستعمل على تقويض الفن، وتلحق الضرر بالجانب الروحي للفنان الذي سيظل عالمه حبيسًا داخله دون أن يجد منفذَا للتعبير عنه. أما المدارس الفنية والاتجاهات النقدية فتأتي لاحقة على عملية الإبداع الفني، فالتنظير لا يسبق الممارسة.
اعتقد كاندنسكي أن التجريد التام يعبر عن المشاعر بطريقة أكثر عمقًا وإلهامًا، بينما النسخ المباشر من الطبيعة يتعارض مع تلك العملية، لذا حاول ابتكار لغة تصويرية تخلق تواصلًا بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي، متنقلًا بين مراحل مختلفة، يختبر من خلالها القدرات التعبيرية لكل مرحلة. بداية من اللوحات التمثيلية المبكرة إلى التجريب المسطح والأشكال الهندسية الحيوية، ثم التعبيرية التجريدية ومدرسة الباوهاوس بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
العلاقة بين الرسم والموسيقى في فلسفة كاندنسكي
إن المشاعر هي الهدف الأول لكل الفنون، هكذا حاول كاندنسكي التعامل مع اللون بشكل يشبه التعامل مع الموسيقى وتأثيرها على النفس البشرية. اعتبر اللون كما لو كان لوحة للمفاتيح والفنان هو اليد التي تعزف عليها، لإحداث الاهتزازات الموسيقية في النفس البشرية، إذ أن جرس اللون يلامس ما يتوافق معه في روح الإنسان وعقله الباطن وأفكاره التي يعتقدها حوله. حتى إذا بدأت العلاقة بين الشخص واللون عبر انطباع وقتي وسطحي، فإنه يختلف من متلق لآخر تبعًا لعلاقة كل فرد، تاريخيًا وثقافيًا واجتماعيًا، باللون. لكنه بالرغم من ذلك يقوم بتفنيد تأثيرات كل لون حسب تاريخه البشري الذي ربما لا يختلف من مكان لآخر ولا من ثقافة لأخرى.
كان هذا التوازي بين فني الرسم والموسيقى يعتمد من ناحية على قوانينهما الإبداعية الداخلية، ومن ناحية أخرى على آثارهما على الروح والشعور الإنساني. كتب كاندنسكي بعد حضوره حفل للموسيقي أرنولد شوينبرغ: “إن المصير والحياة المستقلة للأصوات الفردية في المؤلفات الموسيقية هو بالضبط ما أحاول أن أصل إليه في رسومي”.
الإيقاع في لوحات كاندنسكي
أراد كاندنسكي الاستفادة من تلك الفكرة المتعلقة بالموسيقى وتأثيرها على المشاعر للوصول إلى ما وراء المظهر، أو لتلك الحقائق التي تصل بالمظهر إلى نتيجته النهائية. كان العلماء يؤكدون أن الألوان والنغمات لها تأثيرات مشابهة ومباشرة، يمكن التحقق منها على كل فرد، لذلك بدأ كاندنسكي، وغيره من الفنانين، في محاولة استكشاف العالم الفني الواسع للإحساس باللون، الأمر الذي أدى إلى ظهور شكل جديد من أشكال التعبير الفني، التي تبحث عن التواصل النقي مع المشاهد، وتستند على ما أكدته قوانين الفيزياء الجديدة لإينشتاين، وأطروحات ماكسويل حول الطاقة الكهرومغناطيسية وأبحاث ماكس بلانك حول نظرية الكم. كل تلك النظريات والاكتشافات الفيزيائية الجديدة أكدت أن قوانين البناء الموسيقي تستند بالأساس على قوانين الحركة والديناميكية في الواقع، لذا اعتبرت الموسيقى فن متحرك، بينما اللوحة دائما كانت فن ثابت، من هنا حاول الفنانون التحول إلى لغة ومفردات الموسيقى الأكثر ديناميكية وحرية من العناصر الثابتة للرسم التقليدي.
حاول كاندنسكي الاستفادة من الإيقاع، الذي هو بمثابة المكون الرئيس للموسيقى. وقد رأى أنه يوجد بشكل فطري في الإنسان، كما يوجد في الحركة والكون بأسره. ويمكن للرسام تطبيقه داخل أعماله عن طريق معرفة تأثير كل لون؛ نفسيًا وبصريًا. عمل كاندنسكي على توليف العديد من الإيقاعات اللونية المختلفة، ليصف اللوحة بنفس الطريقة التي وصف بها شوبنهاور الموسيقى؛ لأن اللوحة التجريدية لا تحمل تماثلات مع الطبيعة، ما يجعلها تلمس المشاعر مباشرة بشكل مستقل عن العالم، ليصبح لكل لوحة إرادة ووجود مستقل بعيدًا عن المحاكاة المباشرة.
التأثيرات النفسية للألوان عند كاندنسكي
يؤكد كاندنسكي أن المرئيات والمشاهد البصرية بشكل عام لا يتوقف تأثيرها على العين فقط، لكنها توقظ خبرات باطنية في نفس كل شخص، لذلك حاول تتبع تاريخ ومفهوم كل لون لمعرفة تأثيره متأثرا بنظرية يوهانغ فولفانغ غوتة للألوان، ومتتبعًا نظريات العلاج بالألوان بطريقة الكروموتيراجي التي تستخدم الضوء الملون لعلاج الكثير من الأمراض العصبية، لأن اللون بذاته قوة كبيرة لها تأثيرها على الروح، والمقصود من تقسيم الألوان إلى باردة ودافئة هو ترجيح اللون في صفاته المادية.
ينظر كاندنسكي إلى اللون الأصفر بوصفه لونًا دنيويًا، يعجز دائمًا عن خلق معاني روحانية عظيمة، على النقيض من اللون الأزرق الذي يعبر عن المشاعر الرقيقة، وتزداد جاذبيته الباطنية كلما كان داكنًا، حتى يقترب من اللون الأسود فيعبر بقوة عن الحزن والشجن والوحدة.
يشبه كاندنسكي اللون الأزرق الباهت بموسيقى الناي، بينما يشبه الأزرق الداكن بصوت آلة التشيللو، أما إذا وصل إلى أعلى درجاته اقترب من صوت الأرغن الكنسي.
بالنظر إلى تأثيرات اللونين الأصفر والأزرق، يمكن أن نراقب اللون الأخضر الناتج عن مزجهما معًا، وكيف يوقف تأثير كل منهما على حدة، ليظهر اللون الأخضر أكثر الألوان تعبيرًا عن الطمأنينة والهدوء، لكنه في الوقت نفسه من أكثر الألوان الموحية بالرتابة والسأم والركود. يشبهه كاندنسكي بالنغمات الوسطى المحايدة لآلة الكمان، ويؤكد أن اللون الأخضر لا يعود للحركة مجددًا بعد السكون سوى عند اقترابه من الأزرق أو الأصفر.
يتحدث كاندنسكي عن اللون الأحمر بطريقة تشبه نرجسية اللون نفسه. حيث يعتبره لونًا ماديًا؛ معكوس الأزرق الداكن؛ لون الحديد المتوهج بالنار، ولون الانتصار والخيلاء والشعور بالقوة. ويشبهه كاندنسكي بصوت البوق. يمكن إضافة بعض العمق والروحانية إلى اللون الأحمر إذا تم مزجه بلون روحاني مثل اللون الأزرق، لكن في الوقت نفسه يحذر كاندنسكي من محاولات خلط اللون الأحمر باللون الأسود الذي يطفئ وهجه ويضعف قوته.
تبقى شخصية اللون الأحمر وقوته حاضرتان حتى حال خلطه باللون السماوي، لكنهما تصبحان أكثر هدوء. ويشبهه كاندنسكي بصوت آلة التشيللو في الطبقات الوسطى الحزينة، بينما عند خلط اللون الأحمر بلمسة من اللون الأصفر يتحول إلى البرتقالي و يشبه صوت لحن كمان قديم. أما اللون البنفسجي، وهو لون أحمر مخفف بقليل من اللون الأزرق، فهو يضفي نبلًا على مادية الأحمر، بدرجة تجعله أقرب إلى الشعور بالحزن والشجن والعزلة.
أما اللون الأبيض، فقد أنكر التأثيريون وجوده في الطبيعة، واعتبره كاندنسكي رمزًا لعالم بلا ألوان، فهو إيقاع الصمت، مثل لحظات الصمت بين النغمات الموسيقية، مساحات مشحونة بالترقب وانتظار صوت الموسيقى، الصمت السابق لصخب الميلاد. بينما اللون الأسود هو صمت من نوع آخر، صمت الموت والاحتراق والخوف والظلال. بمزج اللونين الأبيض والأسود معًا، يولد اللون الرمادي وهو لون خامد يجمع بين الصمتين المتضادين للأبيض والأسود.
تلك الألوان كانت بمثابة العالم الذي اختار كاندنسكي التعبير من خلاله. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا عبر تحريرها من الأشكال الطبيعية المتعارف عليها، ووضعها في أشكال موسيقية حرة لخلق عالم خيالي، يمكنه تحرير الفنان والمتلقي من الرؤى التقليدية للخطوط والألوان مع محاولة الوصول إلى جوهر اللون بالتوازي مع جوهر الذات،عبر السعي المستمر للبحث عن إمكانات وتأويلات جديدة لكل لون تبعًا لما يحيط به من سياقات مختلفة، وهربًا من الواقع المادي الذي يفرض سيطرته وقوانينه، ليتحول النظر إلى اللون إلى تجربة حسية وجمالية وصوفية، تظهر عوالم خفية من العقل والمشاعر، تساعد الشخص في الوصول إلى جوهر العالم النقي بشكل يشبه التحرر أو التخلي لدى المتصوفة. التجريد اللوني عند كاندنسكي يشبه تمامًا الدوران في الرقص الصوفي، تختفتي الموجودات المادية رويدًا رويدًا بكل تحميلاتها ليبقى فقط اللون والموسيقى وجوهر الحياة.
مؤلفات كاندنسكي البصرية
تعتبر مجموعة composition لكاندنسكي من أفصل أعماله التي يمكن الاعتماد عليها لفهم تطور أفكاره وفلسفته. وقد استلهم عنوانها من المؤلفات الموسيقية، ليظهر تطور العلاقة بين الرسم والموسيقى في مخيلته، وطريقة تطبيق تلك الأفكار بشكل عملي على اللوحات. رسمت اللوحات السبع الأولى بين 1909 و1913، بينما رسمت اللوحات الثلاث الأخيرة في أعوام 1923، 1936، 1939. فقدت اللوحات الثلاث الأولى أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم يتبق منها سوى مجموعة صور فوتوغرافية غير ملونة.
تأثر كاندنسكي في إنتاج التكوينات البصرية العشر بقصص الكتاب المقدس وسفر الرؤيا، وأراد أن يستحضر تلك الطاقة الروحية في اللوحات بشكل تجريدي بعيدًا عن التمثيلات المباشرة المتعارف عليها للقصص الديني.
تقع اللوحة في مساحة 159.5 سم* 250.5 سم، وتوجد حاليًا بمتحف ويستفلن بدولسدروف ألمانيا. يظهر في تلك اللوحة العديد من التأويلات، الخطوط السوداء واضحة بقوة في التكوين، وربما يظهر في الخلفية قلعة على قمة جبل، مع قوس قزح في أسفل يسار اللوحة. في الزاوية اليسرى أعلى اللوحة يظهر بشكل مجرد اثنين من جنود القوزاق مع رماحهم، ويبدو في اللوحة أن كاندنسكي لم يكن قد تخلص بشكل كامل من الإشارات والرموز التي تربط عالمه الشخصي بالعالم الواقعي، لكن محاولة تجريد الأشكال من مظهرها الأصلي واضحة، لذلك تتأرجح اللوحة بين الرمزية والتجريد الكامل.
يظهر التباين الكبير في الألوان داخل اللوحة، خاصة في كتلة اللون الأزرق في منتصف اللوحة، واللون الأصفر الذي يحيطها، كما يظهر تناقض بين تماهي الألوان وتداخلها مع الخطوط السوداء الحادة التي تقسم اللوحة إلى نصفين تقريبا والتي تمثل رماح للجنود المتمركزين في منتصف اللوحة، بقبعات حمراء صغيرة، وكفوف تلتف حول الرماح.
تقع اللوحة في مساحة 190سم* 275 سم، وتوجد ضمن مجموعة خاصة لواحد من مقتني اللوحات. يشير الحجم الكبير لهذه اللوحة إلى أهمية موقعها في التجربة الخاصة بكاندنسكي، وبالرغم من ذلك تفتقر اللوحة إلى الفضاء الذي يجمع العناصر، بالإضافة إلى أنها تبدو أقل في درجة عمقها من اللوحة التي تسبقها؛ لا تظهر فيها مقدمة أو خلفية، وإن كانت لا تخلو من بعض الإشارات إلى القوارب والجبال والأشجار، إضافة إلى مشهد القيامة وأيام البشر الأخيرة. الخط الأسود الأيقوني الذي يتخلل اللوحة من أعلى اليمين إلى المركز يمثل رئيس الملائكة جبرائيل حسب نقاد الفن في تلك المرحلة، الذين رأوا فيها ملائكة يهبون لنفخ الأبواق استعدادًا لمشهد البعث. لكن بشكل عام لا يمكن التيقن من موضوع اللوحة بشكل حاسم. وفي الواقع ليس الموضوع هو القوة الدافعة لتلك اللوحة، لكن الجمال المنبعث من تلك الخطوط القصيرة المتسارعة، ومن تباين اللونين الأزرق والأصفر بدرجاته المختلفة، مع الكتل الصغيرة المكثفة من الأحمر التي تكسر ثبات اللونين الأزرق والأصفر، وتضفي بعض التوهج خاصة بجوار الخطوط السوداء.
توجد اللوحة في متحف الأرميتاج بمدينة سان بطرسبرغ الروسية، تقع في مساحة 195سم* 300سم. استخدم كاندنسكي طرق مختلفة لمعالجة السطح فظهرت اللوحة بمزيج من المناطق الملساء والخشنة، ويبدو التناقض كبيرًا جدًا بين ضبابية الألوان وحدة الخطوط، الأمر الذي حافظ عليه كاندنسكي في الكثير من لوحاته، ويعتبر سمة أساسية لأعماله الفنية.
يعمل تكوين اللوحة على جذب العين، بشكل تلقائي نحو أعلى اليسار، ثم تتحول اللوحة بداية من الأعلى بشكل دائري لتصبح اللوحة أكثر جرأة والألوان أكثر تداخلا في الجزء العلوي يمين اللوحة، لتمثل اللوحة استعارة لدائرة الحياة الناعمة الدافئة في البداية، ثم نمو الإنسان تدريجيًا مواجهًا كافة المصاعب والصراعات التي تقذفها عليه الحياة، ليعود من جديد إلى نقطة البداية عبر الموت.
مهما كان المعنى الذي قصده كاندنسكي من اللوحة، تظل هذه الأخيرة قطعة فنية تظهر فيها بالفعل روح الموسيقى وخاصة القيثارة وأوتارها، مع تأويلات مختلفة يستكشفها المتفرج كلما أمعن النظر في اللوحة أكثر، لتبدو كأنها حيوات متداخلة، لكل شخص أن يختار منها ما يلامس أفكاره ومشاعره.
رسم كاندنسكي اللوحة السابعة من مجموعة التكوين أثناء إقامته بميونخ، بمساحة 200سم* 300 سم. توجد حاليًا في معرض تريتياكوف الحكومي بموسكو. اللوحة من اللوحات التي خطط لها كاندنسكي بدقة قبل عدة أشهر من البدء فيها. نفذ اللوحة النهائية في أربعة أيام، بعد أن رسم لها 30 تخطيط مبدئي باستخدام الألوان المائية والزيتية، حيث قام بتصوير كل جزء من اللوحة بعناية قبل أن ينقل كل التصميمات إلى اللوحة الأصلية.
يستدعي تصميم اللوحة شكل الدوامة التي تظهر على نحو بيضاوي يتقاطع مع الخطوط السوداء، مع حضور كبير لما يشبه أوتار الآلات الموسيقية، مع ظهور جديد للقوارب والمجاديف كما في اللوحات السابقة، بالإضافة إلى أشكال تشبه الطيور العالقة على فروع الاشجار بالقرب من مركز اللوحة. تشبه اللوحة إلى حد كبير التكوين السادس، ربما للتقارب الزمني بينهم. الديناميكية الشديدة في اللوحتين يبدو أنها كانت لازمة حتى يبدأ كاندنسكي في اللوحات التالية مرحلة جديدة من التجريد يعتمد فيها الأشكال الهندسية بشكل أكثر رسمية وثباتًا.
توجد اللوحة حاليًا بمتحف غوغنهايم بنيويورك. تقع في مساحة 140سم* 201سم، وتنتمي إلى التجريد الهندسي. تعتبر من أهم لوحات كاندنسكي المؤثرة في مسيرته بالكامل. كانت اللوحة بمثابة مفاجأة لجمهور ونقاد الفن حينها، بسبب الفارق الكبير بين التكوين الثامن والتكوين الذي يسبقه مباشرة، بفارق 10 سنوات.
كانت تلك الفترة الزمنية كافية لحدوث تطور جذري في طريقة تعبير كاندنسكي و فكرته عن جوهر التجريد، حيث يظهر الترتيب الهندسي للوحة، مع اختفاء كل الإشارات التي تربط اللوحة بالعالم الخارجي تمامًا، ليتحول كل شيء إلى أشكال هندسية وخطوط مستقيمة، مع انعدام التداخل والتباين الكبير في الألوان كما في التكوينات السابقة، لكن بقيت الخطوط السوداء المستقيمة والدوائر والمثلثات، لكن بأشكال أكثر وضوحا واتزانا.
رسمت هذه اللوحة أثناء انضمام كاندنسكي وتدريسه بمدرسة الباوهاوس، التي يبدو تأثيرها كبيرًا عليه، خاصة في التخلي التام عن العمق كأحد أبعاد اللوحة، والتقشف اللوني، والتوازن الديناميكي، مع صياغة لغة مجردة تماما تخلو من التفاصيل الصغيرة التي كانت تغرق الأعمال السابقة. لغة جمالية عالمية غير مرتبطة بالماضي تتسع لكل الاختلافات، كأن كاندنسكي أصبح في بداية طريق الصفاء الروحي الذي كان يبحث عنه.
جاءت تلك اللوحة بعد فترة طويلة نسبيًا من سابقتها، لذلك تبدو هي الاخرى مختلفة عن التكوين الثامن، كأنها مشروع فني جديد مستقل عن سابقيه. تقع اللوحة في مساحة 113.5 سم* 195 سم، وتعرض حاليًا بمركز جورج بومبيدو في باريس.
غالبًا ما يتم تصنيف التكوين التاسع ضمن أعمال المدرسة السريالية، بالرغم أن كاندنسكي نفسه نفى أي تأثير للسريالية على أعماله، لكن الألوان والأشكال الحيوية تقترب من الأشكال الحيوية الديناميكية التي اختص بها السرياليون من أمثال خوان ميرو.
رسم كاندنسكي مخططًا أوليًا واحدًا فقط لتلك اللوحة. وقد قال أنه كان قادرًا على رؤية اللوحة بشكل كامل في رأسه، ثم نفّذها على القماش مباشرة. تبدو اللوحة أكثر عاطفية من اللوحات السابقة نتيجة الخطوط الواسعة في الخلفية، بالإضافة إلى مركز اللوحة الذي يمنحنا إيحاءات تذكرنا بالجنين داخل الرحم، مع الخط الأسود البارز الذي يشبه القلب، ووجود رموز تشير إلى الزهور أو الطبيعة بألوان الأزرق والبرتقالي والأخضر؛ الألوان الرئيسة لمكونات الطبيعة. يعود ذلك إلى ارتباط كاندنسكي في تلك المرحلة من حياته بمدرسة الباوهاوس. وقد ظهر لدى كاندنسكي في تلك الفترة أيضًا اهتمامًا متناميًا، لأغراض تعليمية، بالكائنات المجهرية والحشرات وكان يحتفظ بالكثير من الصور المتعلقة بهم، إضافة إلى احتفاظه بالعديد من الكتب والموسوعات الهامة عن المخلوقات الصغيرة بالكون.
توجد لوحة التكوين العاشر بمتحف نوردراين بدوسلدروف، وتقع في مساحة 130 سم* 195 سم. السمة الرئيسة لهذا التكوين والتي تجعله يختلف عن كل التكوينات السابقة هي المحيط الأسود الثابت، مع الأشكال الملونة السابحة داخل ذلك البحر القاتم. يثير التركيب بألوانه وحركته نوع من أنواع الشجن والعزلة التي توحي بشكل ما إلى ما يشبه الفضاء الخارجي، كأن كاندنسكي كان يريد أن يختتم تكويناته ومشروعه الكبير برؤيته الخاصة للكون، وتفسيره الصوفي للفن، عن طريق تكوين يغلب عليه اللون الأسود الذي لم يكن يفضله، لكنه كان يمثل له النهاية قبل بداية مشروع فني جديد.