
لا بدّ وأنّ هذا وقتٌ غريب لتكون رجلُ/امرأة أعمالٍ ناجحًا للغاية. فمن ناحية، يعتبر سوق العمل في أفضل حالاته على الإطلاق، فالثروة الموجودة حاليًا في أعلى مستوياتها مطلقًا، والأرباح تسجل أعلى الأرقام القياسية، والإنتاجية والنمو في حالةٍ ممتازة. لكن من ناحيةٍ أخرى، فعدم المساواة في الدخل في ارتفاع، والاستقطاب السياسي يدمّر التجمّعات العائلية للجميع، ويبدو أن هنالك وباء فساد يتفشّى في جميع أنحاء العالم.
إذن، فبينما يزخر عالم الأعمال بالوفرة والحماسة؛ يوجد أيضًا نوعٌ غريب من الدفاعيّة التي تظهر أحيانًا من العدم. وقد لاحظتُ أنّ هذه الدفاعيّة تتخذُ دائمًا نفس الشكل، بغض النظر عن مصدرها، وتتمثّل في مقولة: «كلّ ما نفعله هو إعطاء الناس ما يريدون!»
فسواء كانت شركات النفط أو أصحاب الإعلانات المريبة أو موقع فيسبوك وهو يسرق بياناتك اللعينة، فإنّ كل شركة تخطو في بعض القذارة تكشط أحذيتها من خلال تذكير الجميع على نحوٍ محموم بأنّها تحاول فقط إعطاء الناس ما يريدون -سرعات تحميلٍ أعلى، وأجهزة تكييف مريحة أكثر، وكفاءة أفضل في استخدام الوقود، وماكينة أرخص لتقليم شعر الأنف- وكيف لهذا التصريح أن يكون خاطئًا؟
وهذا صحيح بالفعل؛ فالتقنية توفّر للناس ما يريدون على نحوٍ أسرع وأكثر كفاءة من ذي قبل. وعلى الرغم من أننا نحب جميعًا الهجوم على السادة؛ أصحاب الشركات لسقطاتهم الأخلاقية، فنحن ننسى في خضم ذلك أنّهم يحققون رغبات السوق فحسب؛ إنّهم يلبّون مطالبنا. وإذا تخلّصنا من الفيسبوك أو شركة بي بي BP النفطية أو أي شركة عملاقة تعتبرها لئيمةً وأنت تقرأ هذه الأسطر، فستظهر واحدة أخرى لتحلّ محلّها.
لذا، فالمشكلة قد لا تكون في مجموعةٍ من المديرين التنفيذين الجشعين الذين ينفضون رماد سيجارهم الفاخر ويربتون على قططٍ شرّيرة، بينما يضحكون بشكل هيستيري على مقدار المال الذي يكسبونه.
ربّما الأشياء التي نريدها سيئة.
أنا -مثلاً- أريد حقيبة عملاقة مليئة بحلوى المارشميلو في غرفة المعيشة. كما أريد شراء قصرٍ بقيمة ثمانية ملايين دولار، بواسطةِ اقتراض أموالٍ لا يمكنني سدادها أبدًا. وأريد -أيضًا- أن أسافر إلى شاطئٍ جديد كل أسبوع على مدار العام القادم، والعيش على شرائح لحم الواجيو Wagyu باهظة الثمن.
ما أريده فظيعٌ للغاية؛ ذلك لأنّ جزء الدماغ الخاص بالمشاعر Feeling Brain مسؤولٌ عمّا أريد، وهذا الجزء أشبه بشمبانزي لعين قد شرب لتوّه زجاجة من التكيلا ثم شرع في الاستمناء فيها.
لذلك أقول إنّ «إعطاء الناس ما يريدون» ما هو إلا عقبة بسيطة يسهل تجاوزها، من الناحية الأخلاقية. فإن التبرير المتمثل في «إعطاء الناس ما يريدون» لا يكون صالحًا إلا في حالة منحتهم ابتكارات، مثل كِليةٍ اصطناعيّة أو شيء يمنع سيّاراتهم من الاحتراق من تلقاء نفسها. أعطِ هؤلاء الناس ما يريدون. لكنّ إعطاءهم الكثير من الأشياء المُلهِية والمُضلّلة التي يريدونها يُعتبر لعبةً خطِرة. وهذا لأسبابٍ عديدة، أوّلها أنّ الناس يريدون الكثير من الأشياء الفظيعة. وثانيها يعود إلى سهولة التلاعب بالكثير من الأشخاص في جعلهم يريدون أشياء لا يرغبون بها في الحقيقة. أما ثالثها فيتمثّل في أنّ دفع الناس على تجنّب الألم من خلال المزيد من الإلهاءات يجعلنا جميعًا أضعف وأكثر هشاشة. ورابعًا، لا أريد لإعلاناتكم اللعينة عن شركات الشحن أن تلاحقني أينما ذهبت وأن تنقّب في حياتي اللعينة عن البيانات. انظر، لقد تحدّثت مع زوجتي ذات مرّة عن القيام برحلة إلى دولة البيرو، هذا لا يعني أن تُغرق هاتفي بصورٍ لمدينة ماتشو بيتشو على مدار الستة أسابيع التالية. وجدّيًا، توقّفوا عن الاستماع إلى محادثاتي اللعينة وبيع بياناتي لأي شخص، وكل شخص، سيدفع لكم أيّ مقدارٍ من المال.
على كل حال، أين كنت؟
الغريب أن مسوّقًا يافعًا ذكيًا من عشرينيات القرن الماضي يدعى «إدوارد بيرنيز» قد تنبّأ بحدوث كل هذا. الإعلانات المريبة وغزو الخصوصية وتخدير أعداد كبيرة من الناس للانصياع بسهولة للعبودية من خلال هذه الاستهلاكية الهوجاء؛ كان صاحبنا هذا عبقريًا. عدا أنّه كان مؤيدًا لهذا الأمر بالكامل، لذا فلنسمّهِ عبقريًّا شريرًا.
كانت أفكار «بيرنيز» السياسيّة مروّعة. كان مؤمنًا بما يمكننا أن نطلق عليه «الحِمْيَة الفاشيّة»: نفس الحكومة الاستبداديّة الشريرة لكن دون السعرات الحرارية غير الضرورية المصاحبة للإبادة الجماعيّة. اعتقد «بيرنيز» أن الجماهير خطيرة، وأنها يجب أن تخضع لسيطرة دولة مركزية قوية. لكنّه أدرك أيضًا أنّ الأنظمة الشموليّة الدمويّة لم تكن مثالية للغاية. وبالنسبة له، فقد قدّم علم التسويق الجديد وسيلةً تستطيع الحكومات من خلالها التأثير على مواطنيها واسترضائهم دون عبء الاضطرار إلى تشويههم وقطع أيديهم وأرجلهم من خِلاف.
(لا بدّ من أنّ صاحبنا كان مميزًا في الحفلات)
اعتقد «بيرنيز» أن الحرية لمعظم الناس كانت مستحيلة وخطيرة في آن. كان يدرك تمام الإدراك أن آخر شيء يتعين على المجتمع التسامح معه هو تولّي الجزء الخاص بالمشاعر من أدمغة الجميع لزمام الأمور. إن المجتمعات بحاجة إلى النظام والتسلسل الهرمي والسلطة، وكانت الحرية على النقيض التام من كل هذا الأشياء. لقد اعتبر التسويق أداة جديدة مذهلة يمكنها أن تمنح الناس الشعور بالحرّية، بينما في حقيقة الأمر كل ما تفعله أنّك تمنحهم بعض النكهات الأخرى لمعجون الأسنان للاختيار من بينها.
لحسن الحظ، فإن الحكومات الغربية لم تصل بها الوضاعة (في معظم الأحيان) لتتلاعب بمواطنيها بشكل مباشر من خلال الحملات الإعلانيّة. وبدلًا من ذلك، حدث العكس. لقد كان عالم الشركات بارعًا في منح الناس ما يريدون لدرجة أن هذه الشركات اكتسبت تدريجيًا المزيد من القوة السياسية. وقد حدث تمزيق للوائح والتشريعات وانتهى أمر الإشراف البيروقراطي، كما خضعت الخصوصية لعوامل التآكل. ولم حدث كل هذا؟ لا بدّ من أنّك قد فهمت بالفعل: لقد كانوا يقدّمون للناس ما يريدون!
ولكن، اللعنة، لنكن صريحين: إنّ «إعطاء الناس ما يريدون» لا يتعدّى كونه حرّيةً زائفة #FakeFreedom؛ لأنّ ما يريده معظمنا هو بعض الإلهاءات، وعندما نُمطر بالأمور الملهية، تحدث عدّة أمور.
أوّلها: هو أنّنا نصبح أكثر هشاشة. إذ إنّ عالمنا يتقلّص ليتوافق مع حجم قيمنا المتناقصة باستمرار، فنحن نصبح مهووسين بالراحة والسرور، وأي خسارة محتملة لهذا السرور تجعلنا نشعر بأن العالم يتهاوى وأنّ في هذا ظلمٌ كوني لنا. إنني أزعم أنَّ تضييق عالمنا المفاهيمي لا يحرّرنا، بل يفعل العكس تمامًا.
الأمر الثاني: الذي يحدث هو أنّنا نصبح عرضة لسلسةٍ من سلوكيّات الإدمان منخفضة المستوى؛ تفقّدٌ قهريّ لهواتفنا وبريدنا الإلكتروني وصفحتنا على إنستغرام، وإنهاءٌ قهريّ لمسلسلات لا تعجبنا على شبكة نتفلكس، ومشاركة مقالات مثيرة للحقن لم نقرأها، وقبول دعوات إلى حفلات ومناسبات لا نستمتع بها، والسفر، لا لأننا نريد ذلك، بل لكي نكون قادرين على قول إننا ذهبنا. ومرة أخرى؛ فالسلوك القهري الذي يهدف إلى تجربة المزيد من الأشياء لا يحرّرنا، بل يفعل العكس تمامًا.
الأمر الثالث: إنّ عدم القدرة على تحديد المشاعر السلبية، والبحث عنها، والتسامح معها، ضربٌ من ضروب التقييد. فإذا كنت تشعر بخير فقط عندما تكون الحياة لطيفة وسلسة وجميلة كفتاةٍ مثاليّة على غلاف مجلة، فاحزر ماذا؟ أنتَ لستَ حرًّا. بل على العكس من هذا تمامًا. أنت أسيرٌ للأشياء التي تنغمس فيها، وعبدٌ لتحاملك وعدم تسامحك، ويصيبك ضعفك العاطفي بالشلل. كما ستظل تشعر بحاجة دائمة إلى بعض الراحة الخارجية أو شيء من التقدير للذات، وهو أمر قد يأتي، وقد لا يأتي على الإطلاق.
ورابعًا: لأنّه اللعنة على ذلك؛ أنا في دوّامة: مفارقة الاختيار. فكلّما توفّرت لدينا المزيد من الخيارات (أي: كلما زادت «الحرية» التي نمتلكها) قلّ رضانا عن الشيء الذي يقع اختيارنا عليه. إذا كان على «جين» الاختيار من بين صندوقين من حبوب الإفطار، ويمكن لـ«مايك» الاختيار من بين عشرين صندوقًا، فإنّ مايك لا يتمتّع بحرّية أكبر من جين، بل لديه تنوّعٌ أكبر. وهناك فرق، فالتنوّع ليس حرية. إنّه مجرّد تباديل من بين نفس الهراء عديم المعنى. فلو أنه بدلاً من ذلك كان هنالك مسدس مصوّب نحو رأس جين ورجل يرتدي زِيًّا رسميًّا لوحدة «إس إس» النازية، ويقول بلكنةٍ بافاريّة سيئة للغاية: «كُلي الحبوب اللعينة!»، فعندئذ ستكون لدى جين حرية أقل من تلك التي يتمتع بها مايك. لكن اتصلوا بي عندما يحدث هذا.
وهذه مشكلة تمجيد الحرية على حساب الوعي الإنساني. إنّ وجود المزيد من الأشياء لا يجعلنا أكثر حرّية، بل يسجننا في قلق إزاء ما إذا كانت اختياراتنا أو أفعالنا صائبة. كما أنّ وجود المزيد من الأشياء يجعلنا أكثر عرضة لمعاملة أنفسنا، والآخرين، كوسائل لا غايات. إنّه يجعلنا أكثر اعتمادًا على الحلقات اللانهائية من الأمل.
إذا كانت ملاحقة السعادة تسحبنا جميعًا إلى الصبيانية مرة أخرى، فإن الحرّية المزيّفة تتآمر عندئذ لإبقائنا هناك؛ لأن الحرية لا تعني وجود المزيد من العلامات التجارية لحبوب الإفطار للاختيار من بينها، أو المزيد من العطلات الشاطئية لالتقاط صورٍ شخصية، أو المزيد من القنوات الفضائية لتغفو وأنت تشاهدها.
هذا تنوّع، وفي الفراغ، يكون التنوع عديمَ المعنى. إذا كان انعدام الثقة يحاصرك من كل اتجاه، وكان الشك يضع أمامك العراقيل، وكان التحامل يصيبك بالعجز، فلن تكون حرًّا حتى وإن كانت أمامك تنوّعات العالم أجمع.