هناك أمثولة قديمة تتردد دائمًا عن جماعة من العميان أُدخِلوا على فيل للمرة الأولى؛ أحدهم تحسس الأنياب والآخر تحسس الذيل والثالث تحسس الخاصرة والرابع تحسس الخرطوم. وكل واحد منهم وصف فيلًا مُختلفًا بناءً على تجربته؛ وأفكارهم عمَّا يبدو الفيل عليه تختلف اختلافًا كبيرًا بسبب محدودية خبرتهم بالحيوان كاملًا.
هناك العديد من الصفات الفاضلة في الناس، هناك الصدق والطيبة والتواضع على سبيل المثال لا الحصر. وخلال التاريخ أكد بعض المفكرين وشددت بعض الثقافات والعقائد على بعض الفضائل دون بعض. ولكن الثقافات كافة تتفق أن هناك خير، والثقافات طرًّا تتفق عمومًا على الفضائل وإنْ سَمّتها بأسماء مختلفة أو وزنتها بميزان مختلف.
ماذا لو كان حالنا كحال الفيل، وكنا نصف الشيء نفسه حينما نتحدث عن الفضائل المُختلفة؟ وماذا لو كانت الفضائل الجوانب المتعددة لألماسة مقدودة قدًّا جميلًا: متساوية ومعتمدة على بعضها البعض؟ وإن كانت الفضائل هكذا فعلًا، فأي أثر لها على المجتمع؟
قدماء اليونان كان لهم أفكارهم في الفضائل، بعضها يبدو غريبًا لنا اليوم. على سبيل المثال، كان مظهرك قياسًا تُقاس به شخصيتك، والناس الجميلين يُعدَّون خيِّرين. وهناك فضائل يونانية قديمة أخرى نفهمها جيدًا اليوم: الشجاعة والعدالة كانتا فضيلتين مهمتين؛ الجندي تلزمه الشجاعة فوق كل شيء، والسياسي يلزمه استشعار الإنصاف.
وقد سار المجتمع اليوناني على هذا النحو؛ إذْ أصبح هناك خبراء في شأن الفضائل وصارت الفضائل تُدرَّس للشباب. ثم ظهر الفيلسوف سقراط. كان سقراط مُحاربًا قديمًا دميم الوجه صريحًا يسألُ أسئلةً مُحْرِجة. ما انفكّ سقرط يسأل نفس السؤال مِرارًا: ما الذي نعنيه حين نتحدث عن الفضائل؟ ولقد كان الفيلسوف مُلحًّا دؤؤبًا ما حمل السلطات الأثينية أخيرًا على إعدامه.
شخصية غامضة
إلى جانب يسوع الناصريّ، يُرَى تأثير سقراط عظيمًا في الأخلاق والروحانية والفكر الغربي. ومع ذلك فشخص سقراط غامض بشدة.
لم يُخلِّف الفيلسوف وراءه أي أثر مكتوب نعلم عنه، ولا توجد إلا القليل من المصادر المعاصرة له التي تتحدث عن وجوده. وسقراط ممزوج بأفكار هؤلاء كُتَّاب هذه المصادر وتحيزاتهم لدرجة أن بعض الكُتَّاب المتأخرين اقترح معاملة سقراط كشخصية خيالية.
ثمة عدد محدود من الحقائق التي يمكن أن تدعمها المصادر المختلفة: ما نعرفه أن الفيلسوف كان جنديًّا وأنه امتُدح لشجاعته في ميدان المعركة، وأنه معروف بالدمامة، وأنه أُعدم في سنٍّ متأخرة.
كذلك نعرف أنه بينما كان سقراط يطرح هذه الأسئلة المُحْرِجَة كان يتبعه جماعة من الشباب الأثرياء الذين يمنحونه دعمًا معنويًّا، وأحدهم كان أفلاطون. وبفضل أفلاطون نعرف ما نعرفه عن سقراط، ولكن بسبب أفلاطون أيضًا تخالجنا العديد من الشكوك.
هنالك ثلاثة مصادر رئيسة عن حياة سقراط: زينوفون المؤرِّخ، وأرستوفانوس الكاتب المسرحي، و-طبعًا- أفلاطون الفيلسوف. ويصعب تبيُّن سقراط الحقيقي من هذه الروايات، التي تختلف عن بعضها من جوانب شتى. وسقراط الموصوف عند زينوفون مختلف عن سقراط الموصوف عند أفلاطون.
ما قاله وكيف قاله هما مسألة معقوليَّة؛ فسقراط في محاورات أفلاطون الأولى معقول أنه سقراط الحقيقي أكثر من سقراط في محاورات أفلاطون المُتأخرة. إذ يُشتبه أن سقراط مُجرد شخصية في كتابات أفلاطون المُتأخرة، والمُتحدِّث باسم أفكار أفلاطون لا غير.
ولكن بما أن أفلاطون غامض بغموض سقراط، يصعب فصل القول في ذلك. والمشكلة أن أفلاطون كان فنانًا بقدر ما كان فيلسوفًا. وأعمال أفلاطون التي تتضمن سقراط كانت مُحاورات، كُتِبَت كما لو أنها مسرحية أو سيناريو فلم. ورغم أن المصادر الأخرى تُثبِت صحة بعض الظروف التي يصف أفلاطون سقراط فيها، إلا أنه من الصعب تحديد ماذا قال. وليس لنا سوى الكلمات التي وضعها أفلاطون في فمه.
الظهور في زمن أزمة
أصبح سقراط مشهورًا إبان أزمة في التاريخ الأثيني. فالدولة المدينة التي كانت تُعرَف يومًا ما بغناها وجبروتها في العالم المتحدث باليونانية قد هُزِمَت على يد سبراطة إثرَ حرب طويلة.
حُكِمت أثينا بعدها لبرهة قصيرة بما يسمى «الطُغاة الثلاثين»، وهم طغمة حاكمة وضعها السبارطيون المنتصرون عام ٤٠٤ ق.م.، وقد أُسقِطوا بانتفاضة عنيفة. عاد الاستقلال والديمقراطية إلى أثينا لكن هذه القوة العظمى العتيقة كانت في حالة تدهور لا رجعة فيه.
بين نهاية حكم الطغاة الثلاثين وموت سقراط في عام ٣٩٩ ق.م، بدا سقراط للسلطات مصدر إزعاج. ويصعب وصف ما الذي فعله سقراط سوى أنه «تَفَلْسَف». وقد أنكر الفيلسوف أن لديه ما يُعلِّمه ورفض أن يُدعى مُعلِّمًا. ولم يكن لديه نظريات أو شُرُوح تشبه تلك التي جاء بها الفلاسفة الذين كانوا قبله، ولكن كان لديه بعض المعتقدات الروحيَّة.
لقد قضى الفيلسوف القسم الأكبر من وقته في تحدِّي الناس أن يشرحوا معتقداتهم ونظرياتهم -التي يؤمن بها الغالبية- وأن يبحثوا فيها. وبهذا أغضب بعضًا من أقوى رجال أثينا.
مهمة إلهيَّة؟
يُرَى سقراط مثالًا للمُفكِّر العقلاني، الرجل الذي بلغ من الحكمة أنه مات لينالها. لكن سقراط صور نفسه على أنه نبيٌ في مهمة أخلاقيَّة.
قبل سقراط انشغل الفلاسفة غالبًا بتفسير العالم الطبيعي والوجود، وقدَّم فلاسفة كهرقليطس وفيثاغورس وزينون وبارمينيدس نظريات مُتباينة في تركيبة الكون وتحوُّله. أما سقراط فكان مشغولًا تمامًا بعلم الأخلاق، أو بالأحرى ماهية «الفضيلة». ومن شدة اختلاف سقراط عمن سبقه من الفلاسفة أنهم سُمُّوا «ما قبل سقراطيين». قد كان هذا الأثيني نذير تحوُّل عميق في الفلسفة ، فكل فيلسوف جاء بعده تقريبًا كان تحت تأثيره.
وسقراط نفسه رأى تأثيره تدخُّلًا إلهيًّا من الإله أبولو. عرافة دَلفي -حيث يقال إن أبولو يتكلم عبر كاهنة تدعى بيثيا- يُعتقد أنها أعلنت أنه لا يوجد رجلٌ أحكم من سقراط.
خلال الدفاع في المُحاكمة، قال سقراط: «حينما سمعت ما قلت بيثيا، قلت في نفسي: ما الذي يقوله الإله [أبولو]؟ إنه لغز، ماذا يعني؟ لست أعلم أنِّي حكيم بأيِّ شكل من الأشكال، كَبُرَ هذا أو صَغُر، فماذا كان يعني حين قال إني أحكم البشر طُرًّا؟ أكيد أنه لا يكذب، فهذا لا يليق به».
لأجل أن يتعرَّف سقراط ما الذي جعله حكيمًا، طفق يبحث عن أناس عُرِفوا بالحكمة، وجعل يتكلم مع أفراد من شتى المشارب: معلمون محترفون (يُعْرَفون بالسفسطائيين)، وحِرَفيون، وعلماء دين، وسياسيون.
وعن هذه المناقشات قال سقراط:
«بينما أُحادثه وصلت إلى الاستنتاج أن هذا الفرد الذي يبدو حكيمًا للكثير من الناس وخصوصًا لنفسه ليس في حقيقة الأمر كذلك. وعلى هذا حاولت أن أبرهن له أنه يظن نفسه حكيمًا وليس بذلك» (التشديد مني).
اكتشف سقراط أن ما جعله حكيمًا هو إقراره بأنه لا يعرف شيئًا فعلًا. بمعرفته أنه لا يعرف إلا النزر القليل، صار أحكم من الناس الذين يظنون أنهم يعرفون الكثير. وفي أثناء محاكمته نطق إعلانه الشهير، الذي يترجم غالبًا على هذا النحو: «أعرف أني لا أعرف شيئًا».
سقراط مشهور بطريقته الفريدة بالتحقيق. هذه الطريقة تسمى عند المتأخرين «التجاهُل السقراطي»، وتُعرف باسمها الإغريقي الاصطلاحي عند الفلاسفة «إلينخوس» (Elenchus).
فكرة الإلينخوس هي أنه في الحوار يمكن لمعلِّم أن يوصل التلميذ إلى استنتاج عبر خطٍّ من الأسئلة. وبعبارة أخرى، في داخل التلميذ توجد الحكمة فعلًا. لقد شبه سقراط نفسه بالقَابِلة (المهنة التي عملت بها والدته) في مقاربته للمعرفة. ومثلما تساعد القابلة المرأة على الولادة، يُساعد سقراط الناس الذين يُحادثهم على الوصول إلى استنتاجتهم الخاصة بهم في مسائل الفضيلة.
لكن قصة سقراط تتعقد بالبُعْد الروحي لمهمته وهو البُعْد الذي تتجاهله العديد من السير والتقويمات المكتوبة عن سقراط. لقد زعم الفيلسوف أن صوتًا يُرشِدُه منذ كان طفلًا، وقال لهيئة المحلفين في مُحاكمته:
«إله أو ‘ألوهية‘ تتدخل بي […] وهو شيء بدأ منذ طفولتي، صوت يأتيني، وحين يأتيني ينهاني عن فعل ما سأفعله ولكنه لا يشجعني على فعل شيء على الإطلاق».
شخصيات أفلاطون ترسم صورةً جلية لسلوك سقراط الغريب. كان الفيلسوف يقف لساعات في حالة شبه غيبوبة، ولا يبدو أنه يرتدي حذاءً وعندما كان جنديًّا كان يسير حافي القدمين على الثلج، كما يبدو أنه لا يبالي بشدة البرد وشدة الحر وكان يبقى على العطش والجوع أكثر مما يطيقه أي إنسان عادي.
ومساءلته المستمرة لمن يعدون خبراء لأي نوع من الفضيلة أو الامتياز، وما جلبه هذا من فقر مالي، يبدو مطابقًا لقدرته الشديدة على التحمُّل.
لقد وصف نفسه كـ«ذبابة» تلسع «فرس» المجتمع الأثيني. وبالفعل فهو يعترف أنه كان مصدر إزعاج، إلا أنه مصدر إزعاج ضروري؛ ليُذكِّر الدولة بواجباتها، يقول في محاكمته: «لا أحسب أن خيرًا أفضل حدث للدولة من خدمتي للإله».
أصل الفضيلة
حاول سقراط في مُساءلته أن يجد تعريفات شاملة للفضائل. لكن هناك قدر كبير من الأهمية في حوارات سقراط: فغايته لم تكن أخلاقية فحسب بل أيضًا إبستمولوجية (معنيةً بالمعرفة). وبعبارة أخرى، لم يكن ثمة تفريق كبير بين المعرفة والأخلاق كما يظن الناس. فالفضيلة والحكمة هما الشيء نفسه عند سقراط، بما أن الواحد لا يمكن أن يوجد بمعزل عن الآخر.
في محاورة فيدون، التي يروي أفلاطون فيها الساعات الأخيرة من حياة سقراط (ترويها شخصية فيدون)، نرى الفيلسوف المحكوم عليه يبرهن كيف أن الفضائل المتباينة تعتمد على بعضها البعض.
يستذكر فيدون أن سقراط لم يثر شفقة من قابلوه قبل موته. وفي الواقع كما يقول فيدون: «بدا لي الرجل محظوظًا، بسبب سلوكه وبسبب ما قاله، لقد قابل نهايته بشجاعة ونُبْل».
ناقش الفيلسوف المحكوم عليه شجاعته مع أتباعه الشباب. ما الذي جعله شجاعًا؟ لقد اعتقد سقراط بأن روحه خالدة، وأن الموت سيحرر روحه من ربقة جسده. وبما أن ألم الجسد ولذته تعترضان طريق إيجاد المعرفة الحقيقية، فالموت سيتيح للروح أن تزدهر.
يوضِّح سقراط أن أي فيلسوف جيد يفهم أن الجسد عائق أمام حكمة «الحقيقة». محدودية الجسد واحتياجاته تعرقلنا عن تحقيق المعرفة التي نريد تحقيقها «إذ إن الجسد يقدم لنا مليون مُشَتِّت». وعند سقراط أن الروح حين تتحرر من الجسد يمكن أن تنال حكمة تفوق ما قد يحلم به شخص بجسد.
إذن الفيلسوف غير مضطرب من حكم الإعدام. ويظهر من الرواية أنه ليس هناك خوف من الموت وأن الفيلسوف لا يشعر بالمرارة من مصيره. وسقراط يرى موته تتميمًا لمهمته في نيل الحكمة. ومن ثمَّ فشجاعة سقراط في وجه الموت متأتية من تحقيق الحكمة.
يقارن سقراط هذا مع الفكرة الشائعة عن «الشجاعة»، أن الناس يقبلون مخاوف أصغر لاجتناب مخاوف أكبر. مثال على ذلك جندي يموت بشجاعة في المعركة ليجنِّب نفسه عار الوقوع أسيرًا. في هذه الحالة الموت مُفضَّل -له قيمة أكبر عند الجندي- على الأسر. تبديل المصائر هذا يشبه صرف عملة من فضة بعملة من ذهب. يقول سقراط لأتباعه:
«لا أظن هذا النوع الصحيح من المبادلة لحيازة الفضيلة: مبادلة لذة بلذة، وألم بألم، وخوف بخوف، مبادلة الأصغر بالأكبر كما لو أنها مبادلة عملات. العملة الحقيقة الوحيدة -أُخمِّن- التي يجب مبادلة كل شيء للحصول عليها هي الحكمة».
للفضيلة وجوه عديدة، والشجاعة والحكمة وجهان من وجوهها، وكل واحد منها يحتاج إلى الآخر ويزيد قوة به. وعند سقراط أن الحكمة هي التي تؤدِّي «التطهير» الضروري للفضائل الأخرى. فالعدالة تحتاج الشجاعة لتزدهر، والشجاعة تتطلب التواضع، وهكذا. وما يجمع كل هذه الفضائل المعتمدة على بعضها اعتمادًا متبادلًا هو الحكمة.
تخيل مبادئ العدالة الأربعة الأساس كأضلاع مربع: الثبات والاحتشام والعدالة والحصافة، والحكمة تُشكِّل المربع نفسه. لربما ما يصفه سقراط ليس الحكمة باعتباره فضيلة من الفضائل وإنما نبعًا تنبع منه فضائلنا. الحكمة هي الفضيلة الكبرى، وبازديادها تزداد الفضائل.
عندما يُبذل كل شيء في سبيل الحكمة أو في وجودها -يزعم سقراط- سيكون هناك شجاعة حقيقة واعتدال حقيقي، وكل الفضائل ستكون حقيقية. والفضائل بلا حكمة -عند سقراط- كرسوم بلا حقيقة، يقول:
«أحاول أن أقنعكم، سواءً أكنتم صغارًا أم كبارًا، بألَّا تأبهوا لأجسادكم وأموالكم وأن تولوا اهتمامًا أكبر لأرواحكم ولجعلها على أحسن ما يكون».
لا يمكنك أن تبتاع الفضيلة أو امتياز الشخصية، ولكن أي أحد -غني أو فقير- يمكن أن يعيش بالفضيلة. ولقد افتقر سقراط بسبب مهمته. وهذا لا يعني أن المال بحد ذاته شر، لكن سقراط يعتقد أن المال يُستحسن إنفاقه في خدمة الفضيلة.
يجب علينا أن نجاهد من أجل الفضيلة، لا من أجل المال أو الجاه. والطريق إلى الفضيلة هو الحكمة. وبينما نتأمل ونفكِّر حكمتنا ستنمو، ومعها جميع الخصال التي نعدها في الفضائل. وما نفع المال أو السلطة ما لم تستخدمهما في الخير؟
عندما أدانت المحكمة سقراط عرضت عليه تخفيف الحكم إن هو كفَّ عن مُساءلته المستمرة. وما كان جوابه على هذا العرض؟ رفضه قائلًا: «حياة لا تفكير فيها لا تستحق أن تُعاش».