فضيلة الاعتراف: الفينومينولوجيا والإيتيقا والدين في فكر ليفيناس وريكور
سكوت ديفيدسون - ترجمة: كريم محمد

يلفتُ كتابُ فضيلة الاعتراف لميشال صون الانتباه إلى مساحات مهمّة من التقاطع بين عمل إيمانويل ليفيناس وبول ريكور. تلقّى ريكور تمهيده الأوّليّ في الفينومينولوجيا من خلال كتاب ليفيناس حول هوسرل (عام ١٩٣٣)، ومن ثمّ غدا عمل ليفيناس الأصيل يلعبُ دوراً مهمّاً في تطوّر فكر ريكور الأخير. وتلقّى ليفيناس، بدوره، أستاذيّته الأولى من خلال ريكور. وعلى الرغم من أنّه نادراً ما يتمّ الاستشهاد بعمل ريكور من جانب ليفيناس، إلّا أنّ صون يقوم بعمل كشْفيّ جيّد لإيضاح أنّ ليفيناس كان على ألفةٍ ودرايةٍ بالفعل بأعمال ريكور وأخذها بعين الاحترام والتبجيل (ص١٧). إنّ هذا الكتاب، بطوله وعرضه، جدير بالرّوعة والملاحظة لوضوحه، ودقّته، وإحكامه.
والحال أنّ لكتاب فضيلة الاعتراف بناءً بسيطاً وصريحاً. فالفصل الأوّل، “موضعة مفهوم الاعتراف”، يموقع ليفيناس وريكور داخل سياق الوسط الفكريّ الفرنسيّ الذي شحذَ فكرهم الأصليّ. هذا الفصل مثالٌ جيّدٌ على ما يقوم به ميشال صون من عملٍ ممتاز. فهو، كمؤرّخ للأفكار، يقدّم لمحةً عامّة عن الاستقبال الفرنسيّ لهيغل، والذي قام به جان وال وألكسندر كوجيف في العشرينيّات والثلاثينيّات، ولاحقاً على يد ألكسندر كويري وجان هيبوليت. بيد أنّ صون لا يقلّل من تأثير هيغل على المفكّرين الاثنين. إنّه، بالأحرى، يشير إلى أنّ القراءة الفرنسيّة لفينومينولوجيا هيغل تؤثّر على الاستقبال الفرنسيّ لفينومينولوجيا هوسرل، ممّا أدّى بهما إلى النظر إليها باعتبارها ممرّاً للبُعد الملموس للتجربة الفعليّة والمُعاشة. وعلى الرغم من تأثيرهما الفلسفيّ المماثل (كما هو موثّق في الفصلين الثاني والرابع)، فإنّ كلّاً من ليفيناس وريكور ملهمان بتقاليد دينيّة جدّ مختلفة (كما هو موثّق في الفصلين الثالث والخامس).
أمّا الفصل الثاني، “إيمانويل ليفيناس: الاعتراف كمحض حِسّ”، فيرمي إلى ‘تسليط الضوء على مركزيّة مفهوم الاعتراف في فلسفة ليفيناس عن طريق موضعته في السياق الفكريّ لفرنسا اليوم، وبتتبّع تطوّر فهمه للمفهوم، وبإعادة بناء الاستعمالات والأبعاد المختلفة للمصطلح‘ (ص٢١). ولإنجاز هذه المهمّة، يتمرّن صون على نقد ليفيناس للفينومينولوجيا الهوسرليّة، وتصوّره لفكرة اللامتناهي (the Infinite)، وفهمه للصّلة بين الإيتيقا والسياسة. وفي حين أنّ هذه ثيمات مركزيّة بالفعل في فلسفة ليفيناس، إلّا أنّها من غير المعتاد أن تُربَط بمفهوم الاعتراف. كثيراً ما يستعملُ صون هذا المصطلح كما يستعمله المتخصّصون في ليفيناس (وليفيناس نفسه) حينما يتحدّثون عن المسؤوليّة الإيتيقيّة. تشملُ الأمثلةُ على ذلك وصفه لكتاب ليفيناس عن هوسرل بأنّه ‘نقدٌ لمعنى الاعتراف‘، على الرغم من أنّ تركيز هذا الكتاب منصبّ على معرفة طبيعة الكينونة وليس على الاعتراف. وينطبقُ الأمر نفسه على وصف صون لفكرة اللامتناهي من حيث الاعتراف الإيتيقيّ، رغم أنّ ليفيناس عادةً ما يربطُ هذه الفكرة بعلاقة أو بإيتيقا الوجه للوجه. ما تصبو إليه نقطتي ههنا ببساطة هي أنّ الفصول بحاجةٍ إلى أن تكون أكثر مجابهةً وتبرّر، بوضوح، الطريق الخاصّة لتقديم فلسفة ليفيناس.
يُشير الفصل الثالث، “إيمانويل ليفيناس: منظور يهوديّ للاعتراف”، إلى أنّ فينومينولوجيا الاعتراف عند ليفيناس “يمكن تأويلها بمصطلحات يهوديّة على نحو مُحدّد…‘ (ص٤١)، وبالتالي يمضي في موقعة فكرِه ‘في خضمّ الجدالات الثيولوجيّة في زمانه التي تتعلّق بالطبيعة والمهمّة المناسبة لعلمٍ اليهوديّة‘ (ص٤٣). يتتبّع صون هذا بالعودة إلى نقاشات القرن التاسع عشر المتعلّقة بعلم اليهوديّة. ففي حين أنّ هذه الحركة نزعت إلى فصل علم اليهوديّة عن المصادر الثريّة للتقليد الحاخاميّ، فإنّ ما يريد ليفيناس القيام به في كتاباته اليهوديّة هو إحياء التقليد الحاخاميّ كوسيلة لفهم الحاضر. بالنسبة إلى صون، فإنّ هذا ‘‘العلم الجديد باليهوديّة‘‘ يمكن إلحاقة بتصوّر ليفيناس للإيتيقيّ. ههنا، تغدو المصطلحات الأساسيّة لتوصيف ليفيناس للإيتيقيّ، مثل مصطلح الانطراح (passivity) والتغايُر واللاطوعيّة، مغطاةً تحت عباءة مفاهيم دينيّة مثل الاصطفاء والكريغما (kerygma) والنبوّة. وبهذه الطريقة، تصبح هذه المفاهيم ليست معبّرة فحسب عن سمة كونيّة للمسؤوليّة الإيتيقيّة، وإنّما أيضاً عن المنظور المميّز والخاصّ باليهوديّة.
ويُقدّم الفصل الرابع، “بول ريكور: الاعتراف كإرادة محضة وإمبريقيّة”، مناقشةً مفصّلة ومهمّة للغاية للاعتراف كثيمة في عمل ريكور المبكّر (ص٧٣-٨٢). يُضارع صون أولاً هذه الثيمة في اشتغال ريكور بياسبرز، وذلك من خلال مفهوم ياسبرز لـ‘الصّراع المُحبّ للوجو‘ (ص٧١). ويمضي صون مشيراً إلى أنّ ثيمة الاعتراف هي أيضاً حاضرةٌ في أعمال ريكور المبكرة مثل الطبيعة والحريّة والإنسان الخطّاء. وتتمثّل أهميّة هذا في تنبيه الباحثين إلى أنّ مضمار الاعتراف عند ريكور هو، في واقع الحال، عودةٌ إلى ثيمة موجودة في اشتغاله المبكرة، بدلاً من الاضطلاع بالمسألة على أنّها تطوّر جديد في فكره. غير أنّ المخيّب للآمال في هذا الفصل هو أنّ تعاطي صون مع اشتغال ريكور المبكّر ما تزال سطحيّة إلى حدّ ما، ولا تقدّم سوى لمحة عامّة لتصوّر ريكور للاعتراف (ص٨٤-٩٠). ونظراً لعنوان الكتاب، فهذا بالتحديد هو الحيّز الذي كان للقارئ أن يتوقّع أن يجد فيه المستوى الأعظم من التحليل النصّانيّ المُفصَّل ولتطوّر ‘العمل غير المكتمل‘ لدى ريكور. ومن ثمّ، يستهلّ الفصلُ استهلالاً حسناً، ولكنّه ينتهي بشعور بالنقص وعدم الاكتمال.
ويُقرّ الفصل الخامس، “منظور مسيحيّ للاعتراف”، بأنّ ريكور لا يعالج أبداً ثيمة الاعتراف في كتاباته الدينيّة (ص٩٦) ولا يستعمل أيضاً تلك الكتابات لتقديم تبصّراتٍ بشأن الاعتراف. ومن الصّعب، على إثر ذلك، أن نرى دور هذا الفصل المميّز داخل المشروع الكامل للكتاب. ومع ذلك، فإنّ الفصلَ يملك الكثير ليقدّمه كمسألة اهتمام عامّ. إنّه يموقع فكر ريكور في صلب بعض النقاشات الهامّة في الثيولوجيا المسيحيّة على نحو بصير وثاقبٍ سيفيد، بلا شكّ، أيّ امرئٍ لديه اهتمامٌ بفكر ريكور الدينيّ.
يختتمُ الفصل السادس بسلسلةٍ من الملاحظات حول ثيمة الاعتراف في سياق الفينومينولوجيا، والإيتيقا، والسياسة، والدين، على التوالي. وهذا الفصل، بصورة عامّة، مخيّب للآمال، نظراً إلى كلّ العمل الذي تم الاضطلاع به للتعاطي مع إشكاليّة الاعتراف. ففي حين أنّ هذا هو المكان الملائم لتقديم مقاربة نسقيّة (systematic) لمشكلة الاعتراف التي تتجاوز سواء ما يقدّمه ليفناس أو ريكور وتلقي ضوءاً جديداً على الوضع الراهن للنقاش، إلّا أنّ الفصل يتحول ليغدو عبارة عن تلخيص ومقارنة للأفكار الأساسيّة المُقدّمة في الفصول السابقة. ومنظّر الاعتراف الآخر الوحيد الذي تمّت الإشارةُ إليه هو أكسيل هونيث، وكان التعاطي مع هونيث ضعيفاً إلى حدّ ما (١٢٨-١٣٠). والحال أنّ هذا يُسفر عن فجوة كبرى في الكتاب بين موعوده وما قدّمه فيما يتعلّق بالاعتراف.
في حين أنّه لا يمكن إنكار أنّ هناك تقاطعاتٍ مهمّة بين ليفناس وريكور يمكن سبْرها حول الثيمات المُدرجَة العنوان الفرعيّ للكتاب (أي؛ الفينومينولوجيا والإيتيقا والدين)، إلّا أنّني لستُ مقتنعاً بأنّ هناك أهميّة متكافئة يمكن إيجادها في ثيمة الاعتراف. إنّ صِلةً كهذه تقوم على سبيلٍ غير معتادةٍ للغاية في قراءة ليفيناس. في الواقع، كثيراً ما يقوم صون باستدعاء هذا المصطلح في الموضع الذي يستعمله المتخصّصون في ليفيناس (وليفيناس نفسه) عندما يتحدثون عن الوجه أو المسؤوليّة الإيتيقيّة. يحتاج هذا التحوّل في الترمينولوجيا إلى تبرير، سيّما وأنّ المفهوم الهيغليّ للاعتراف المتبادل يبدو أنّه يقلّل ويقلّص من التغايُر الذي يميّز المسؤوليّة الإيتيقيّة بالمعنى الليفيناسيّ. اتباعاً لهيغل، للمرء أن يفهم، بصورة عاديّة، الاعتراف المتبادل كعلاقة قائمة على الحريّة والمسؤوليّة بين المرء والآخر، بيد أنّ إيتيقا ليفناس مميّزة تحديداً بحقيقة أنّها تدلّ على علاقة مع الآخر هي سابقة على مبادرتي وقائمة على تغايُرٍ بين نفسي والآخر. هذا ما يجعل مماهاة ليفيناس مع ثيمة الاعتراف أكثر إشكاليّةً بكثير مما قد اقترحه صون وأشار إليه.
قد تكون هناك مقاربة متناوبة للإقرار بهذا الاختلاف بمواءمة المفهوم الهيغليّ للاعتراف المتبادل مع السياسيّ عند ليفيناس، الذي هو مكانٌ للتغاير والحساب والمقارنة بين الآخرين. وإنّ القيام بهذا من شأنه أن يدلّ إلى أنّ منشأ الطلب بالاعتراف، كما يفسّره ليفيناس، يأتي من مسؤوليّة إيتيقيّة مطلقة مسبقة وإلى أنّ، من ثمّ، عمل الاعتراف السياسيّ ما يزالُ محدوداً بمعنى أنّه لا يمكنه أبداً أن يقوم بما يكفي لاستنفاد هذه المسؤوليّة الإيتيقيّة. ومن ثمّ، فإنّ مقاربةً كهذه قد تسفر عن نقاش أكثر حيويّةً مع تصوّر ريكور للاعتراف، نظراً لأنّ ريكور يبدو أكثر تفاؤلاً بشأن إمكانات الاعتراف.
خلاصة القول، يُقدّم كتاب فضيلة الاعتراف بشكل عامّ مقدمّة ممتازة لأيّ قارئ يقوم بالاقتراب من ليفيناس وريكور لأوّل مرة، كما لهؤلاء الذين هم بالفعل على دراية وألفةٍ بأعمالهم لكنّهم يسعون إلى فهمها بشكل أعمق. ومن المحتمل، مع ذلك، أن يخيّب أمل القراء الذين يأتون للكتاب بحثاً عن تبصّراتٍ أعمق في النقاش المعاصر حول ثيمة الاعتراف.
المصدر: Philosophy in Review XXXV (2015), no. 1