كتبتْ جدتي«إبريل»، البالغة من العمر 92 عامًا، رسالة للصحيفة البريطانية »ذا تايم« في العام المنصرم، وقد جاء فيها ما يلي:
«أيها السادة، لمَ علينا أن نُعلن في صفحة الوفيات أن كل أحبابنا قد ماتوا «بسلام»؟ لمَ لا نكون أكثر صدقًا وواقعية؟ لمَ لا تكتبون أنهم قد ماتوا بِامْتِنان، بإكراه، بسرور، بحُلم، بلطف، بتريّث، بِتَلَهُّف، بِعَطْف، بتحدّ، بشراسة، بكياسة، بإبهام، بسعادة، بتبختر، بتفاؤل، أو بجسارة؟ هذه الكلمات -على الأقل- تحمل معنى أكثر من تلك الكلمة».
إبريل التي كانت تعمل ممثلة سابقًا وأصبحتْ مؤلفة كتب، ذات خصر رفيع وشعر داكن، والتي ظلّتْ حتى يومنا هذا متفائلة وبرّاقة، قد شهدتْ قدرًا كبيرًا من الوفيات؛ إذ نجتْ من الحرب العالمية الثانية في إنجلترا، شاعرةً بالذنب لأن اليهود مثلها قُتلوا في أوروبا. وفي الآونة الأخيرة، بدأ أصدقاؤها وأحبابها يفارقون الحياة. ومن بينهم جدّي الذي شاركتْه 62 عامًا من الزواج السعيد قبل وفاته عن عمر يناهز 87 عامًا.
واليوم، باقترابها من منتصف التسعينات من عمرها، صرّحتْ أنها تأمل أن تسافر إلى سويسرا عندما تكون مستعدة للموت أيضًا. وطلبتْ -بملامح صارمة ونظرة مرعوبة- ألّا تسافر قبل انتهائها من تأليف كتابها؛ لأنها تأبى أن تذهب بدون أن تعرف كيف تنهيه.
من المؤكد أن الموت هو اليقين الوحيد في هذه الحياة؛ فمثلما نُولَد، سنموت. ولكن المسألة تكون أكثر تعقيدًا حينما تتعلق بكيف تكون الخاتمة حسنة.
بالنسبة لجدتي إبريل، تتضمن الخاتمة الحسنة تحكمًا بنفسك ووضعك، كما تنطوي على صدقٍ مع النفس بخصوص معنى الموت. وأما بالنسبة لجدّي ستيفن؛ فالمَيْتَة الحسنة هي أن تظلّ واعيًا ومثقفًا مُطّلعًا حتى اللحظة الأخيرة (آخر ذكرى معي له أنه كان رجلاً، هرمًا ونحيلًا فجأة، ولكنه كان مُحتفِظًا بوميض مستمر في عينه حتى ذلك الحين، ضامًّا في حُجْره مجلدًا تاريخيًا عظيمًا). وكانت حسن الخاتمة أيضًا بالنسبة له تتمثّل في معرفة أنه سيتم التبرع بجسده للعلوم الطبية، حتى يتمكن الأطباء المتدربين الجدد -كما كان في زمانه- من التعلم باستخدام أطراف جسمه ودماغه وقلبه.
كتب المؤلف ميتش ألبوم في كتابه المتصدر «أيام الثلاثاء مع موري»: «تكمن الحقيقة في أنك بمجرد أن تتعلم كيف تموت، ستتعلم كيف تحيا». ومع هذا، تُعدُّ مثل هذه التصريحات تصريحات عاطفية وحالمة؛ إذ نادرًا ما يحدث الموت دون ألم حتى لمن يعيشون في سلام؛ لأنه في الأصل يرتبط بالجسد. وأما عن جدّي، فكان متهيأً للرحيل؛ إذ حظي بزواج طويل العمر، ومهنة مُجدية، وأربع أطفال، وجيوشٍ من الأحفاد. وكما أنه سافر حول العالم وأضاف القيم الكبيرة في مجاله في فن الطب النفسي، وتعلم أن يقدّر التفاصيل الصغيرة مثل أن يتجوّل في الريف الهادئ صباحًا.
وبرغم هذا كله، لم يعامله الموت بلطف، فعندما فارق الحياة أخيرًا محاطًا بأهله، صارع جسده للبقاء حتى النهاية؛ انتفضتْ أطرافه وارتعشتْ عيناه، وأعضاؤه أبتْ ألّا تستسلم. في حين أن الطبيب الرحوم كان من الممكن أن يخفف عنه وطأة الموت وأن يحقنه بإبرة مورفين مفاجئة، ولكن في عالم اليوم من القانون والدعاوي القضائية، هذه الخطوة ستكون مُستبعَدة حتمًا.
ثمّة سبب وراء تلقيب الموت بـ«حاصد الأرواح»؛ ذلك الهيكل العظمي الشبحي الذي يرتدي رداءً أسودًا ويحمل منجلًا.
بالنسبة للكثيرين –خصوصًا في هذا العصر العلماني- عندما يرى العديد من الناس أن الآخرة ليست سوى مجرد أسطورة خيالية، فهذا يعني أنه يعتريهم الخوف من عدم مواجهة أي شيء، الذي أطلق عليه فيليب لاركين:
«الفراغ التام للأبد، والزوال المؤكد الذي نمضي إليه وسنضيع فيه دائمًا».
وبالنسبة لغيرهم، إن السبب خلف هذا الخوف هو الشِّدَّة التي يعانون منها أثناء مرحلة الانتقال من الحياة إلى الموت، ويقول وودي آلن ساخرًا: «أنا لا أخشى الموت، ولكني لا أريد أن أكون حاضرًا عندما يحدث».
يمكن لأغلبنا –في الواقع- أن يفكر بآلاف الطرق التي تؤدي للموت الشنيع؛ على سبيل المثال، اصطدام طائرة، أو الحريق، أو الضرب المُبرح، أو الطعن، أو الخنق، أو السحق، أو التحطيم، أو الغرق.
في المقابل، إن ما يجعل الميتة حسنةً يثير جدلًا أكثر من الميتة الشنيعة: هل هو القتل الرحيم؛ القرار الذي تختار فيه زمن الوفاة ومكانها؟ هل هو الموت أثناء النوم؟ هل هو الموت في وقت إضافي يسمح لك لوداع أحبتك أو دفع ديونك أو الصلح لتحقيق السلام؟ أو الموت فجأة؟ هل تكمن الراحة فيما يحدث بسرعة ورحمة؟ كأن يتمتموا للتطمين في وفاة إحداهن: «لقد ماتت على الفور، لم تكن لتدرك ذلك أبدًا».
أو لعل الخاتمة الحسنة في الطريقة التي مات فيها أدولف فريدريك -ملك السويد في القرن 18؛ أن تموت وأنت تمارس أمرًا شغوفًا به؟ إذ يُزعم أنه أكل حتى الموت عام 1771م في وليمة كان يلتهمها تحتوي العديد من المأكولات منها سرطان البحر، والسمك المُدخّن، والكافيار، والشمبانيا، و14 وعاء من السيلما وتحلية من الحليب الساخن.
وكما تصدَّر إيان كوغنيتو -وهو فنان كوميدي بريطاني محترم يبلغ من العمر 60 عامًا- عناوين الصحف عندما تعرّض لأزمة قلبية، على إثرها توفي على خشبة المسرح أثناء دوره وأمام جمهور مرتبك. وقبل ذلك ببضع دقائق، قال مازحًا: «تخيلوا لو مُتُّ أمامكم هنا في هذا المكان». وقال أحد أصدقائه لهيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) إن هذه كانت الطريقة التي «كان يريد أن يرحل بها … إلا أنّه كان يريد المزيد من المال وأن يموت في مكان أكبر».
ثم أن هنالك أشخاص يتخلّون عن حياتهم من أجل قضية أكبر. كما قال نيتشه يومًا: «من لديه سبب للعيش، سيستحمل من أجله كل شيء تقريبًا». وربما المقولة ذاتها تنطبق على الموت أيضًا، مثل الساموراي الذين يمارسون الهاراكيري (طقوس انتحارية بنزع أحشاء الجسد) ليصونوا شرفهم، أو طيّارو الكاميكاز الياباني الذين يفجرون أنفسهم لمصلحة الشعب. وكما تحكي القصة أن يهود جبل مسعدة في فلسطين قتلوا أنفسهم؛ الأطفال أولًا، ثم النساء، وأخيرًا الرجال، حتى لا يخضعوا للحكم الروماني.
كما تعدُّ اللياقة وروح الدعابة عند مواجهة الموت ذات قيمة عالية. وقد قيل إن القديس لورانس (القديس الذي يشفع –على نحو مزعج، حين تعرف قصته- للطهاة) شُوِيَ حيًّا على نار، إذ قال لمنفذي الإعدام حينها: «انشوى هذا الجانب من جسمي، حان وقت أن تقلبوني».
على أية حال، يموت الأغلبية العظمى في العالم الغربي اليوم بسبب أمراض القلب أو السكتات الدماغية؛ إذ يبلغ عدد الوفيات في مجموع الحالتين 15.2 مليون في عام 2016م. ولن تكون ميتةُ أغلبنا ميتةً عنيفة في عصرنا هذا؛ عصر الرعاية الصحيّة المُطوَّلة، ولكنها ستكون ميتة بطيئة، فلا بد أن ينتقل معظمنا إلى «مملكة المرضى» -كما أسمتها سوزان سونتاغ- في مرحلة معيّنة، والعديد منا ستنتهي حياته فيها.
لقد أظهرتْ الدراسات أن التحكم بالألم من أجل تخفيفه يعدُّ أمرًا بالغ الأهمية عند الموت؛ باعتباره نوعًا من أنواع قوة اتخاذ القرار الذي يمكّنهم من اختيار المكان الذي يرغبون أن يكونوا فيه عند الإحساس بقرب الأجل، وتحديد الأشخاص الذين يرغبون أن يكونوا معهم في تلك اللحظة. وتوجد أيضًا -كما أشارتْ جدتي إبريل في رسالتها- نقطة الحرب على اللغة المتعلّقة بمسألة الموت. فما الذي يجعل الموت خاتمة حسنة؟
تتضح الإجابة جليًّا في الطريقة التي نتحدث بها عن السرطان حين نتكلم عن «شجاعة» المرضى بالسرطان، وأن هذا المرض غالبًا ما يُوصَف على أنه «صراع» أو «معركة»؛ إذ إن الناس يغطون الجوانب الأكثر قلقًا للمرض بمقولات تحفيزية مُستفزَّة.
ما زالت ثقافتنا تعامل الموت معاملة المحظورات، وهذا الأمر لا يخدمنا. فيمكننا أن نتحدث عن «المنتصرين» على السرطان وعن «ضحاياه»، وعن «أولئك الذين صارعوا المرض حتى النهاية» و«الذين لم يستسلموا أبدًا» ولكن نادرًا ما تُناقّش تلك الوقائع التي تشرح المعنى الحقيقي للموت؛ كحدوث آلاف التدهورات الجسدية والآلام الكَاسِحة والتشنجات مثل تلك التي عانى منها جدّي قبل وفاته.
وماذا عن المعاناة النفسية؟ ذكر بول كالانيثي -جرّاح الأعصاب الذي مات بسبب سرطان الرئة القاتل- في كتابه «حين تتحول الأنفاس هواءً» (When Breath Becomes Air) أنّه قرر أن يحظى وزوجته بطفل. وحين سألتْه: «ألا تعتقد أن توديع طفلك سيجعل موتك مؤلمًا أكثر؟»، فأجابها: «ألن يكون عظيمًا لو حدث ذلك؟»، ثم أضاف: «أعتقد أنا وزوجتي لوسي أن الحياة لا تكون بتجنّب المعاناة، بل بمواجهتها».
أستحضرُ حلقة واحدة من برنامج «الموت أفضل» (Better Off Dead) للصَّحَفيّ أندرو دينتون الذي قدّم حلقة صوتية حول موضوع القتل الرحيم. تلك الحلقة التي تحكي قصة ريموند غودبولد الممرض الأسترالي المتخصص في مجال الرعاية التلطيفية والذي كان يعاني من السرطان المَعِدِيّ المَريئِي المُميت. وإدراكًا منه بالفظائع الجسدية التي تنتظره، فقد أمّن مخدِّر النمبيتال القاتل وغير القانوني من أجل أن يتناوله عندما يحين الوقت.
مع هذا، كان عاجزًا عن إنهاء حياته، ففي كل يوم يستيقظ بقرب زوجته وأطفاله، كان يرغب بساعة إضافية ليقضيها مع عائلته وساعة أخرى ليراقب شروق الشمس، وساعة أخرى ليتحدث، وغيرها أخرى وأخرى إلى أن أصبح، في نهاية المطاف، مريضًا جدًّا للحدِّ الذي لا يُمكنه ابتلاع أي شيء. ومات بالطريقة التي لم يتمناها أبدًا؛ في المستشفى وعلى قيد الألم. فقد ساوم على «المَيْتَة الحسنة» من أجل أن يحظى بالمزيد من الوقت، ومن أجل يوم آخر فقط من الحياة.
New Philosopher: Issue #025: Death